مدونة استكمال مصنفات الإمامين ابن حزم والوكاني

الثلاثاء، 22 مارس 2022

المحلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب المعاملة في الثمار كتاب المعاملة في الثمار (مسألة 1343 - 1346)/كتاب إحياء الموات كتاب إحياء الموات (مسألة 1347 - 1354) ثم كتاب المرفق كتاب المرفق (مسألة 1355 - 1361)/ كتاب الوكالة (مسألة 1362 - 1366)/كتاب المضاربة (مسألة 1367 - 1377)/ كتاب الإقرار (مسألة 1378 - 1382) /كتاب اللقطة والضالة والآبق وفيه مسألة واحدة وهي*1383 . .....





كتاب المعاملة في الثمار
المحلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب المعاملة في الثمار
كتاب المعاملة في الثمار (مسألة 1343 - 1346)


فهارس كتاب المعاملة في الثمار

1343 - مسألة: حكم المعاملة في الثمار
1344 - مسألة: لا يجوز أن يشترط على صاحب الأرض في
1345 - مسألة: وكل ما قلناه في
1346 - مسألة: لا يجوز أن يشترط في



===




كتاب المعاملة في الثمار

1343 - مسألة : المعاملة فيها سنة ، وهي أن يدفع المرء أشجاره أي شجر كان من نخل ، أو عنب ، أو تين ، أو ياسمين ، أو موز ، أو غير ذلك ، لا تحاش شيئا مما يقوم على ساق ويطعم سنة بعد سنة لمن يحفرها ويزبلها ويسقيها - إن كانت مما يسقى بسانية ، أو ناعورة ، أو ساقية ، ويؤبر النخل ، ويزبر الدوالي ، ويحرث ما احتاج إلى حرثه ويحفظه حتى يتم ويجمع ، أو ييبس إن كان مما ييبس ، أو يخرج دهنه إن كان مما يخرج دهنه ، أو حتى يحل بيعه إن كان مما يباع كذلك ، على سهم مسمى من ذلك الثمر ، أو مما تحمله الأصول كنصف أو ثلث ، أو ربع ، أو أكثر ، أو أقل ، كما قلنا في " المزارعة " سواء سواء . برهان ذلك - : ما ذكرناه هنالك من فعل رسول الله ﷺ بخيبر . وروينا من طريق أبي داود نا أحمد بن حنبل نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد نا أبي عن محمد بن إسحاق حدثني نافع مولى ابن عمر عن عبد الله بن عمر قال : قال عمر بن الخطاب للناس " أيها الناس إن رسول الله ﷺ كان عامل يهود خيبر على أننا نخرجهم إذا شئنا ، فمن كان له مال فليلحق به ، فإني مخرج يهود ، فأخرجهم " . قال أبو محمد : وبهذا يقول جمهور الناس ، إلا أننا روينا عن الحسن ، وإبراهيم كراهة ذلك - ولم يجزه أبو حنيفة ، ولا زفر . وأجازه ابن أبي ليلى ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والشافعي ، ومالك ، وأحمد ، وأبو سليمان ، وغيرهم . وأجازه مالك في كل شجر قائم الأصل إلا فيما يخلف ويجنى مرة بعد أخرى كالموز ، والقصب ، والبقول ، فلم يجز فيها ، ولا أجاز ذلك أيضا في البقول إلا في السقي خاصة . ولم يجزه الشافعي في أشهر قوليه ، إلا في النخل ، والعنب فقط - ومن أصحاب أبي سليمان من لم يجز ذلك ، إلا في النخل فقط . قال أبو محمد : من منع من ذلك إلا في النخل وحده ، أو في النخل والعنب ، أو في بعض دون بعض ، أو في سقي دون بعل ، فقد خالف الحديث عن النبي ﷺ كما ذكرنا قبل ودخلوا في الذين أنكروا على أبي حنيفة فلا معنى لقولهم . واحتج بعض المقلدين لأبي حنيفة بأن قالوا : لا تجوز الإجارة إلا بأجرة معلومة . قال أبو محمد : ليست المزارعة ولا إعطاء الشجر ببعض ما يخرج منها : إجارة ، والتسمية في الدين إنما هي لرسول الله ﷺ عن ربه تعالى قال تعالى : { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } . ويقال لهم : هلا أبطلتم بهذا الدليل بعينه المضاربة ، وقلتم : إنها إجارة بأجرة مجهولة ؟ فإن قالوا : إن المضاربة متفق عليها ؟ قلنا : ودفع الأرض بجزء مما يخرج منها ، ودفع الشجر مما يخرج منها : متفق عليه بيقين من فعل رسول الله ﷺ وعمل جميع أصحابه رضي الله عنهم ، ولا تحاش منهم أحدا ، فما غاب منهم عن خيبر إلا معذور بمرض أو ضعف أو ولاية تشغله ، ومع ذلك فكل من غاب بأحد هذه الوجوه فقد عرف أمر خيبر ، واتصل الأمر فيها عاما بعد عام إلى آخر خلافة عمر - فهذا هو الإجماع المتيقن المقطوع عليه ، لا ما يدعونه من الباطل والظن الكاذب في الإجماع على المضاربة التي لا تروى إلا عن ستة من الصحابة رضي الله عنهم ، فاعترضوا في أمر خيبر بأن قالوا : لا يخلو أهل خيبر من أن يكونوا عبيدا أو أحرارا ، فإن كانوا عبيدا فمعاملة المرء لعبده بمثل هذا جائز ، وإن كانوا أحرارا فيكون الذي أخذ منهم بمنزلة الجزية ؛ لأنه لم يأت في شيء من الأخبار أنه عليه السلام قد أخذ منهم جزية ولا زكاة . قال أبو محمد : وهذا مما جروا فيه على الكذب والبهت والتوقح البارد - : أما قولهم : لا يخلو أهل خيبر من أن يكونوا عبيدا ، فكيف انطلقت ألسنتهم بهذا ، وهم أول مخالف لهذا الحكم ؟ فلا يختلفون في أن أهل العنوة أحرار ، وأنه إن رأى الإمام إرقاقهم فلا بد فيهم من التخميس ، والبيع لقسمة أثمانهم . ثم كيف استجازوا أن يقولوا : لعلهم كانوا عبيدا وقد صح أن عمر أجلاهم بحضرة الصحابة رضي الله عنهم عن عهد رسول الله ﷺ بإخراج اليهود عن جزيرة العرب ؟ فكيف يمكن أن يستجيز عمر تفويت عبيد المسلمين ، وفيهم حظ لليتامى والأرامل ؟ إن من نسب هذا إلى عمر لضال مضل ، بل إلى رسول الله ﷺ . وقد صح أنه عليه السلام أراد إجلاءهم فرغبوا في إقرارهم فأقرهم على أن يخرجهم إذا شاء المسلمون ، وهو عليه السلام لا يجوز أن ينسب إليه تضييع رقيق المسلمين . ومن المحال أن يكونوا عبيدا له عليه السلام خاصة ؛ لأنه عليه السلام ليس له من المغنم إلا خمس الخمس وسهمه مع المسلمين وقد قال قوم : والصفي ، ولم يقل أحد من أهل الإسلام : إن جميع من ملك عنوة عبيد له عليه السلام . ثم لو أمكن أن يكون ما زعموا من الباطل - وكانوا له عبيدا - لكان قد أعتقهم بلا شك - : كما روينا من طريق البخاري نا إبراهيم بن الحارث نا يحيى بن أبي بكير نا زهير - هو ابن معاوية الجعفي - نا أبو إسحاق - هو السبيعي - عن عمرو بن الحارث [ ختن رسول الله ] وأخي أم المؤمنين جويرية بنت الحارث قال { ما ترك رسول الله ﷺ عند موته دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا إلا بغلته البيضاء ، وسلاحه ، وأرضا جعلها صدقة } . وقد قسم عليه السلام من أخذ عنوة بخيبر - : كما روينا من طريق مسلم نا زهير بن حرب نا إسماعيل ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس { أن رسول الله ﷺ غزا خيبر } فذكر الحديث وفيه { : قال : فأصبناها عنوة ، وجمع السبي فجاءه دحية فقال : يا رسول الله أعطني جارية من السبي ؟ قال : اذهب فخذ جارية ، فأخذ صفية بنت حيي } وذكر الحديث . قال أبو محمد : وكانت الأرض كلها عنوة ، وصالح أهل بعض الحصون على الأمان ، فنزلوا ذمة أحرارا - وقد صح من حديث عمر قوله كما قسم رسول الله ﷺ خيبر ، فصح أن الباقين بها أحرار . وأما قولهم : إن ذلك المأخوذ منهم كان مكان الجزية ، فكلام من لا يتقي الله تعالى ، وكيف يجوز أن يكون ذلك النصف مكان الجزية ؟ وإنما كان حقوق أرباب الضياع المقسومة عليهم الذي عومل اليهود على كفايتهم العمل ، والذين خطبهم عمر كما ذكرنا وأمرهم أن يلحقوا بأموالهم فلينظروا فيها إذا أراد إجلاء اليهود عنها . والآثار بهذا متواترة متظاهرة كالمال الذي حصل لعمر بها فجعله صدقة وكقول ابن عمر في سبب إجلاء اليهود : خرجنا إلى خيبر فتفرقنا في أموالنا وكان إعطاء أمهات المؤمنين بعض الأرض والماء ، وبعضهن الأوساق ، وأن بقايا أبناء المهاجرين إليها إلى اليوم على مواريثهم ، فظهر هذيان هؤلاء النوكى . والعجب أنهم قالوا : لو كان إجماعا لكفر أبو حنيفة ، وزفر فقلنا : عذرا بجهلهما كما يعذر من قرأ القرآن فأخطأ فيه وبدله وزاد ونقص وهو يظن أنه على صواب ، وأما من قامت الحجة عليه وتمادى معاندا لرسول الله ﷺ فهو كافر بلا شك . وشغب أصحاب الشافعي بأن قالوا : لما صحت المساقاة في النخل وجب أن يكون أيضا في العنب ؛ لأن كليهما فيه الزكاة ، ولا تجب الزكاة في شيء من الثمار غيرهما . قال أبو محمد : وهذا فاسد وقياس بارد ، ويقال لهم : لما كان ثمر النخل ذا نوى وجب أن يقاس عليه كل ذي نوى ، أو لما كان ثمر النخل حلوا وجب أن يقاس عليه كل حلو ، وإلا فما الذي جعل وجوب الزكاة حجة في إعطائها بسهم من ثمارها ؟ وقال أيضا : إن ثمر النخل ظاهر يحاط به وكذلك العنب ؟ وقال علي : وكذلك التين ، والفستق ، وغير ذلك . وأما منع المالكيين من ذلك في الموز والبقل - فدعوى بلا دليل . فإن قالوا : لفظ " المساقاة " يدل على السقي ؟ فقلنا : ومن سمى هذا العمل " مساقاة " حتى تجعلوا هذه اللفظة حجة ؟ ما علمناها عن رسول الله ﷺ ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، وإنما نقولها معكم مساعدة فقط - وبالله تعالى التوفيق . وقد كان بخيبر بلا شك بقل وكل ما ينبت في أرض العرب من الرمان ، والموز ، والقصب ، والبقول ، فعاملهم عليه السلام على نصف كل ما يخرج منها - وبالله تعالى التوفيق .

1344 - مسألة : ولا يجوز أن يشترط على صاحب الأرض في " المزارعة " " والمغارسة " " والمعاملة في ثمار الشجر " لا أجير ، ولا عبد ، ولا سانية ، ولا قادوس ، ولا حبل ، ولا دلو ، ولا عمل ، ولا زبل ، ولا شيء أصلا وكل ذلك على العامل لشرط رسول الله ﷺ عليهم أن يعملوها من أموالهم فوجب العمل كله على العامل ، فلو تطوع صاحب الأصل بكل ذلك أو ببعضه فهو حسن لقول الله تعالى : { ولا تنسوا الفضل بينكم } .

1345 - مسألة : وكل ما قلناه في " المزارعة " فهو كذلك ههنا لا تحاش شيئا من تلك المسائل ، فأغنى عن تكرارها - وبالله تعالى التوفيق .

1346 - مسألة : ولا يجوز أن يشترط في " المزارعة " وإعطاء الأصول بجزء مسمى مما يخرج منها مشاع في جميعها على العامل : بناء حائط ، ولا سد ثلمة ، ولا حفر بئر ولا تنقيتها ، ولا حفر عين ولا تنقيتها ، ولا حفر سانية ولا تنقيتها ، ولا حفر نهر ولا تنقيته ، ولا عمل صهريج ولا إصلاحه ، ولا بناء دار ولا إصلاحها ، ولا بناء بيت ولا إصلاحه ، ولا آلة سانية ، ولا خطارة ، ولا ناعورة ؛ لأن كل ذلك شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل - فإن تطوع بشيء من ذلك بغير شرط جاز ؛ لأن السنة إنما وردت بأن الشرط عليهم أن يعتملوها بأموالهم ، وبأنفسهم فقط - : وكل هذا ليس من عمل الأرض ، ولا من عمل الشجر في شيء . وأما آلة الحرث ، والحفر كلها وآلة السقي كلها ، وآلة التقليم ، وآلة التزبيل ، والدواب ، والأجراء فكل ذلك على العامل ولا بد ؛ لأنه لا يكون العمل الواجب عليهم إلا بذلك ، فهو عليهم . وبالله تعالى التوفيق . [ تم " كتاب المعاملة في الثمار " والحمد لله رب العالمين ] .

========

كتاب إحياء الموات والإقطاع، والحمى، والصيد يتوحش ومن ترك ماله بمضيعة، أو عطب ماله في البحر
المحلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب إحياء الموات
كتاب إحياء الموات (مسألة 1347 - 1354)

فهارس كتاب إحياء الموات

1347 - مسألة: كل أرض لا مالك لها، فهي لمن سبق إليها وأحياها
1348 - مسألة: والإحياء هو قلع ما فيها من عشب
1349 - مسألة: ومن خرج في أرضه معدن فضة، أو ذهب فهو له
1350 - مسألة: ومن ساق ساقية، أو حفر بئرا، أو عينا فله ما سقى
1351 - مسألة: الشرب من نهر غير متملك، فالحكم أن السقي للأعلى
1352 - مسألة: من غرس أشجارا فله ما أظلت أغصانها عند تمامها
1353 - مسألة: ومن ترك دابته بفلاة ضائعة فأخذها إنسان فقام عليها فصلحت فلصاحبها الأول
1354 - مسألة: لا يلزم من وجد متاعه إذا أخذه أن يؤدي إلى الذي وجده عنده ما أنفق عليه


============


كتاب إحياء الموات والإقطاع والحمى والصيد يتوحش

1347 - مسألة : كل أرض لا مالك لها ولا يعرف أنها عمرت في الإسلام فهي لمن سبق إليها وأحياها - سواء بإذن الإمام فعل ذلك أو بغير إذنه - لا إذن في ذلك للإمام ولا للأمير - ولو أنه بين الدور في الأمصار - ولا لأحد أن يحمي شيئا من الأرض عمن سبق إليها بعد رسول الله ﷺ . فلو أن الإمام أقطع إنسانا شيئا لم يضره ذلك ، ولم يكن له أن يحميه ممن سبق إليه ؛ فإن كان إحياؤه لذلك مضرا بأهل القرية ضررا ظاهرا لم يكن لأحد أن ينفرد به لا بإقطاع الإمام ولا بغيره ، كالملح الظاهر ، والماء الظاهر ، والمراح ورحبة السوق والطريق ، والمصلى ، ونحو ذلك . وأما ما ملك يوما ما بإحياء أو بغيره ثم دثر وأشغر حتى عاد كأول حاله فهو ملك لمن كان له ، لا يجوز لأحد تملكه بالإحياء أبدا ، فإن جهل أصحابه فالنظر فيه إلى الإمام ، ولا يملك إلا بإذنه . وقد اختلف الناس في هذا : فقال أبو حنيفة : لا تكون الأرض لمن أحياها إلا بإذن الإمام له في ذلك . وقال مالك : أما ما يتشاح الناس فيه مما يقرب من العمران فإنه لا يكون لأحد إلا بقطيعة الإمام ، وأما حمى ما كان في الصحاري وغير العمران فهو لمن أحياه فإن تركه يوما ما حتى عاد كما كان ، فقد صار أيضا لمن أحياه وسقط عنه ملكه وهكذا قال في الصيد يتملك ثم يتوحش فإنه لمن أخذه ، فإن كان في أذنه شنف أو نحو ذلك فالشنف الذي كان له والصيد لمن أخذه . وقال الحسن بن حي : ليس الموات إلا في أرض العرب فقط . وقال أبو يوسف : من أحيا الموات فهو له ، ولا معنى لإذن الإمام ، إلا أن حد الموات عنده ما إذا وقف المرء في أدنى المصر إليه ثم صاح لم يسمع فيه ، فما سمع فيه الصوت لا يكون إلا بإذن الإمام . وقال عبد الله بن الحسن ، ومحمد بن الحسن ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأبو سليمان وأصحابه : كقولنا . فأما من ذهب مذهب أبي حنيفة فاحتجوا بخبر من طريق عمرو بن واقد عن موسى بن يسار عن مكحول عن جنادة بن أبي أمية قال : نزلنا دابق وعلينا أبو عبيدة بن الجراح فقتل حبيب بن مسلمة قتيلا من الروم فأراد أبو عبيدة أن يخمس سلبه فقال له حبيب : إن رسول الله ﷺ جعل السلب للقاتل ؟ فقال له معاذ بن جبل : مه يا حبيب إني سمعت رسول الله ﷺ يقول : { إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه } وقالوا : لما كان الموات ليس أحد أولى به من أحد أشبه ما في بيت المال ، ما نعلم لهم شبهة غير هذا . قال علي : أما الأثر فموضوع ؛ لأنه من طريق عمرو بن واقد وهو متروك باتفاق من أهل العلم بالآثار - ثم هو حجة عليهم ؛ لأنهم أول من خالفه فأباحوا الصيد لمن أخذه بغير إذن الإمام ، فإن ادعوا إجماعا كذبوا لأن في التابعين من منع من الصيد في دار الحرب وجعله من المغنم - ولا يعارض بمثل هذا الأثر الكاذب حكم رسول الله ﷺ بالسلب للقاتل ، وبالأرض لمن أحياها . وأما تشبيههم ذلك بما في بيت المال فهو قياس والقياس كله باطل ؛ لأن ما في بيت المال أموال مملوكة ، أخذت بجزية أو بصدقة أو من بيت مال كان له رب فلم يعرفه - ولا يجوز أن يشبه ما لم يعرف أكان له رب أم لم يكن له رب بما يوقن أنه كان له رب . لو كان الأمر بالقياس حقا لكان قياس الأرض الموات التي لم يكن لها رب بالصيد والحطب أولى وأشبه ، ولكن لا النصوص يتبعون ، ولا القياس يحسنون . ثم لو صح هذا الخبر الموضوع لكان حجة لنا ؛ لأن النبي ﷺ قد قضى بالموات لمن أحياه ، وهو عليه السلام الإمام الذي لا إمامة لمن لم يأتم به ، وهو الذي قال فيه تعالى : { يوم ندعو كل أناس بإمامهم } فهو إمامنا نشهد الله تعالى على ذلك وجميع عباده ، لا إمام لنا دونه ، ونسأل الله أن لا يدعونا مع إمام غيره فمن اتخذ إماما دونه عليه السلام يغلب - حكمه على حكمه عليه السلام فسيرد ويعلم - ونحن إلى الله منه برآء . وأما قول مالك - فظاهر الفساد ؛ لأنه قسم تقسيما لا نعلمه عن أحد قبله ، ولا جاء به قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قياس . وأعجب شيء فيه أنه لم يجعل الموات القريب الذي لم يكن له قط مالك لمن أحياه ، وقد جعله الله تعالى على لسان رسوله ﷺ ثم جعل المال المتملك الذي حرمه الله تعالى في القرآن ، وعلى لسان رسوله ﷺ إذ يقول { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فجعلها ملكا لمن أخذها كالقول الذي ذكرنا عنه في الموات يعمر ثم يتشغر ، ومثل الصيد يتوحش ، وما وجب سقوط الملك بالتوعر والتوحش لا بقرآن ، ولا بسنة ، ولا برواية سقيمة ، ولا بقياس ، ولا برأي له وجه . وأيضا فلا يخلو ما قرب من العمران أو تشاح فيه الناس من أن يكون فيه ضرر على أهل القرية والمصر ، أو لا ضرر فيه عليهم ، فإن كان فيه ضرر فما للإمام أن يقطعه أحدا ، ولا أن يضر بهم ، وإن كان لا ضرر فيه عليهم ، فأي فرق بينه وبين البعيد عن العمران ؟ فصح أن لا معنى للإمام في ذلك أصلا : وكذلك تقسيم أبي يوسف ، والحسن بن حي ففاسد أيضا ؛ لأنه قول بلا برهان ، فهو ساقط . قال أبو محمد : وبرهان صحة قولنا ما رويناه من طريق أحمد بن شعيب النسائي نا يونس بن عبد الأعلى نا يحيى - هو ابن بكير - عن الليث - هو ابن سعد - عن عبيد الله بن أبي جعفر عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل - هو أبو الأسود - عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين عن رسول الله ﷺ أنه قال : { من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد فهو أحق بها } . ومن طريق البخاري نا يحيى بن بكير نا الليث عن عبيد الله بن أبي جعفر عن محمد بن عبد الرحمن بن عروة عن عائشة عن النبي ﷺ قال : { من عمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها } قال عروة : وقضى به عمر بن الخطاب . قال أبو محمد : هذا الخبر هو نص قولنا ، وهو المبطل لقول من لم يجعل ذلك إلا بإذن غير النبي ﷺ إما عموما وإما في مكان دون مكان ، ولقول من قال : من عمر أرضا قد عمرت ثم أشغرت فهي للذي عمرها آخرا قال الله تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } . فصح أن كل قضية قضاها رسول الله ﷺ وكل عطية أعطاها عليه السلام فليس لأحد يأتي بعده لا إمام ولا غيره أن يعترض فيها ولا أن يدخل فيها حكما - وقد اتصل - كما ترى - أن عمر قضى بذلك ؛ ولا يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم . ومن طريق أبي داود نا محمد بن المثنى نا عبد الوهاب - هو ابن عبد المجيد الثقفي - نا أيوب - هو السختياني - عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل عن النبي ﷺ قال : { من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق } . ومن طريق أحمد بن شعيب نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب أخبرني حيوة بن شريح عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة بن الزبير أنه قال : العرق الظالم هو الرجل يعمر الأرض الخربة وهي للناس قد عجزوا عنها فتركوها حتى خربت . ومن طريق أحمد بن شعيب نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب أخبرني حيوة بن شريح عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة بن الزبير أنه قال : العرق الظالم هو الرجل يعمر الأرض الخربة وهي للناس قد عجزوا عنها فتركوها حتى خربت . قال أبو محمد : فهذا عروة سمى هذه الصفة عرق ظالم ، وصدق عروة وهذا [ هو ] الذي أباحه المالكيون . وروينا من طريق أحمد بن شعيب نا محمد بن يحيى بن أيوب ، وعلي بن مسلم ، قال محمد بن يحيى : نا عبد الوهاب - هو ابن عبد المجيد الثقفي - نا أيوب - هو السختياني - وقال علي بن مسلم : نا عباد بن عباد المهلبي ، ثم اتفق أيوب ، وعباد كلاهما عن هشام بن عروة عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال : { من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر ، وما أكلت العوافي منها فهو له صدقة } . قال علي : لا معنى لأخذ رأي الإمام في الصدقة ، ولا ما فيه أجر ، ولو أراد المنع من ذلك لكان عاصيا لله تعالى . ومن طريق أبي داود نا أحمد بن عبدة الآملي نا عبد الله بن عثمان نا عبد الله بن المبارك أنا نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة عن عروة بن الزبير قال { أشهد أن رسول الله ﷺ قضى أن الأرض أرض الله ، والعباد عباد الله ، ومن أحيا مواتا فهو أحق به ؟ جاءنا بهذا عن النبي ﷺ الذين جاءوا بالصلوات عنه } . ومن طريق أبي داود السرح نا ابن وهب أخبرني يونس - هو ابن يزيد - عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي أن رسول الله ﷺ قال { : لا حمى إلا لله ولرسوله } . فصح أن ليس للإمام أن يحمي شيئا من الأرض عن أن تحيا . ومن طريق أبي داود نا أحمد بن سعيد الدارمي نا وهب بن جرير بن حازم عن أبيه عن ابن إسحاق عن يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه { أن رجلا غرس نخلا في أرض غيره فقضى رسول الله ﷺ لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها } . قال عروة : حدثني رجل من أصحاب رسول الله ﷺ وأكبر ظني أنه أبو سعيد الخدري ، فأنا رأيت الرجل يضرب في أصول النخل . قال أبو محمد : هذا هو الحق الذي لا يجوز غيره ، وعروة لا يخفى عليه من صحت صحبته ممن لم تصح ، وقد اعتمر من مكة إلى المدينة مع عمر بن الخطاب ، وأدركه فمن دونه ، لا قول مالك : إنه إن لم ينتفع بالشجر إن قلعت كان لغارسها قيمتها مقلوعة أحب أم كره ، وتركت لصاحب الأرض أحب أم كره ، وما يزالون يقضون للناس بأموال الناس المحرمة عليهم بغير برهان ، والمتعدي وإن ظلم فظلمه لا يحل أن يظلم فيؤخذ من ماله ما لم يوجب الله تعالى ولا رسوله ﷺ أخذه { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } ومن طريق أبي عبيد حدثني أحمد بن خالد الحمصي عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : كان عمر بن الخطاب يخطب على هذا المنبر يقول : يا أيها الناس من أحيا أرضا ميتة فهي له ، وجاء أيضا عن علي - فهذا بحضرة الصحابة علانية لا ينكره أحد منهم . ومن طريق أبي عبيد نا أحمد بن عثمان عن عبد الله بن المبارك عن حكيم بن زريق قال : قرأت كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أبي : من أحيا أرضا ميتة ببنيان أو حرث ما لم تكن من أموال قوم ابتاعوها أو أحيوا بعضا وتركوا بعضا فأجاز للقوم إحياءهم وأما ما كان مكشوفا فلجميع المسلمين يأخذون منه الماء أو الملح ، أو يريحون فيه دوابهم ، فلأنهم قد ملكوه فليس لأحد أن ينفرد به . وروينا من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن يحيى بن قيس المازني عن أبيه عن أبيض بن حمال - هو المازني - قال { استقطعت رسول الله ﷺ معدن الملح الذي بمأرب ؟ فأقطعنيه ، فقيل له : إنه بمنزلة الماء العد قال : فلا إذا . } قال أبو محمد : فإن قيل : فقد أقطع رسول الله ﷺ وأقطع أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، ومعاوية فما معنى إقطاعهم ؟ قلنا : أما رسول الله ﷺ فهو الذي له الحمى والإقطاع ، والذي لو ملك إنسانا رقبة حر لكان له عبدا - وأما من دونه عليه السلام فقد يفعلون ذلك قطعا للتشاح والتنازع ، ولا حجة في أحد دونه عليه السلام . قال أبو محمد : وليس المرعى متملكا ، بل من أحيا فيه فهو له ، ويقال لأهل الماشية : أعزبوا وأبعدوا في طلب المرعى ، وإنما التملك بالإحياء فقط - وبالله تعالى التوفيق - والرعي ليس إحياء ، ولو كان إحياء لملك المكان من رعاه ، وهذا باطل متيقن في اللغة وفي الشريعة . واحتج بعض المالكيين لقولهم في الصيد المتوحش بأسخف معارضة سمعت ، وهو أنه قال : الصيد إذا توحش بمنزلة من أخذ ماء من بئر متملكة في وعائه فانهرق الماء في البئر ، أيكون شريكا بذلك في الماء الذي في البئر ؟ قال أبو محمد : البئر وأخذ الماء منها لا يخلو أن تكون مباحة أو متملكة ، فإن كانت مباحة فله أن يأخذ منها أضعاف ما انهرق له إن شاء ، وله أن يترك إن شاء ، كما يترك الناس ما لا قيمة له عندهم من أموالهم ويبيحونه لمن أخذه ، كالنوى ، والتبن ، والزبل ، ونحو ذلك . ولو أن صاحب كل ذلك لم يطلقه ، ولا أباح أخذه لأحد ، لكان ذلك له ، ولما حل لأحد أخذه ، فلا يحل مال أحد - قل أو كثر - إلا بإباحته له ، أو حيث أباحته الديانة عن الله تعالى . وقد نص رسول الله ﷺ على أن { من اقتطع بيمينه حق مسلم أوجب الله له النار ولو كان قضيبا من أراك } ، فأيما أكثر عندهم - وهم أصحاب قياس بزعمهم - قضيب أراك ، أو أيل ، أو حمار وحش ، يساوي كل واحد منها مالا ، أو أرض تساوي الأموال ، وإن كانت البئر متملكة ، فلا يخلو آخذ الماء منها من أن يكون محتاجا إلى ما أخذ أو غير محتاج ، فإن كان محتاجا فله أن يأخذ منها مثل ما انهرق له - أو أكثر أو أضعافه - إذا احتاج إليه ، وإن كان غير محتاج لم يجز له أخذ شيء من مائها - لا ما قل ولا ما كثر - فظهر هذر هذا الجاهل وتخليطه .

1348 - مسألة : والإحياء هو قلع ما فيها من عشب ، أو شجر ، أو نبات ، بنية الإحياء ، لا بنية أخذ العشب والاحتطاب فقط ، أو جلب ماء إليها من نهر ، أو من عين ، أو حفر بئر فيها لسقيها منه ، أو حرثها ، أو غرسها ، أو تزبيلها ، أو ما يقوم مقام التزبيل من نقل تراب إليها ، أو رماد ، أو قلع حجارة ، أو جرد تراب ملح عن وجهها حتى يمكن بذلك حرثها ، أو غرسها ، أو أن يختط عليها بحظير للبناء - فهذا كله إحياء في لغة العرب التي بها خاطبنا الله تعالى على لسان نبيه ﷺ فيكون له بذلك ما أدرك الماء في فوره وكثرته في جميع جهات البئر ، أو العين ، أو النهر ، أو الساقية ، قد ملكه واستحقه ؛ لأنه أحياه ولا خلاف في ضرورة الحس واللغة أن الاحتطاب وأخذ العشب للرعي ليس إحياء وما تولى المرء من ذلك بأجرائه وأعوانه ، فهو له ، لا لهم لقول رسول الله ﷺ : { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } .

1349 - مسألة : ومن خرج في أرضه معدن فضة ، أو ذهب ، أو نحاس أو حديد ، أو رصاص ، أو قزدير ، أو زئبق ، أو ملح ، أو شب ، أو زرنيخ ، أو كحل ، أو ياقوت ، أو زمرد ، أو بجادي ، أو رهوبي ، أو بلور ، أو كذان ، أو أي شيء كان فهو له ، ويورث عنه ، وله بيعه ، ولا حق للإمام معه فيه ، ولا لغيره - وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان . وقال مالك : تصير الأرض للسلطان . قال أبو محمد : وهذا باطل لقول الله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } ولقول رسول الله ﷺ : { من أحيا أرضا ميتة فهي له ولعقبه } . ولقوله عليه السلام { من غصب شبرا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين } ولقوله عليه السلام : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام . } فليت شعري بأي وجه تخرج أرضه التي ملك بإرث ، أو التي أحيا عن يده من أجل وجود المعدن فيها ؟ وما علمنا لهذا القول متعلقا لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا من قول أحد قبله نعلمه ، ولا من قياس ، ولا من رأي سديد ، ونسأله عن مسجد ظهر فيه معدن ، أو لو ظهر معدن في المسجد الحرام ، أو في مسجد رسول الله ﷺ أو في مقبرة للمسلمين ؟ أيكون للإمام أخذ المسجد الحرام ، وأخذ مسجد رسول الله ﷺ والمقبرة فيمنع الناس من كل ذلك ويقطعها من أراد ؟ أف أف لهذا القول وما قاد إليه .

1350 - مسألة : ومن ساق ساقية ، أو حفر بئرا ، أو عينا فله ما سقى كما قدمنا . ولا يحفر أحد بحيث يضر بتلك العين ، أو بتلك البئر ، أو بتلك الساقية ، أو ذلك النهر ، أو بحيث يجلب شيئا من مائها عنها فقط ، لا حريم لذلك أصلا غير ما ذكرنا ؛ لأنه إذا ملك تلك الأرض فقد ملك ما فيها من الماء فلا يجوز أخذ ماله بغير حق . وروينا من طريق إسماعيل ابن علية عن رجل عن سعيد بن المسيب . ومن طريق محمد بن مسلم الطائفي عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله ﷺ قال : { حريم البئر المحدثة خمس وعشرون ذراعا ، وحريم البئر العادية خمسون ذراعا } . وعن سعيد بن المسيب ، ويحيى بن سعيد الأنصاري من قولهما مثل ذلك . وعن أبي هريرة ، والشعبي ، والحسن : حريم البئر أربعون ذراعا لأعطان الإبل ، والغنم . وعن ابن المسيب : حريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع . قال الزهري : سمعت الناس يقولون : حريم العين خمسمائة ذراع . وعن عكرمة : حريم ما بين العينين مائتا ذراع - وليس عند مالك في ذلك حد . وقال أبو حنيفة : حريم بئر العطن أربعون ذراعا ، وحريم بئر الناضح ستون ذراعا من كل جهة إلا أن يكون حبلهما أطول ، وحريم العين خمسمائة ذراع . ولا يعلم لأبي حنيفة سلفا في قول في بئر الناضح ، وقد خالف المرسل في هذا الحكم . وقال يحيى بن سعيد في قوله المذكور : هو السنة ، والمالكيون يحتجون في أصابع المرأة بقول سعيد بن المسيب : هي السنة - فهلا احتجوا ههنا بقول يحيى بن سعيد : هي السنة ؟

1351 - مسألة : وأما الشرب من نهر غير متملك ، فالحكم أن السقي للأعلى فالأعلى لاحق للأسفل حتى يستوفي الأعلى حاجته ، وحق ذلك أن يغطي وجه الأرض حتى لا تشربه ويرجع للجدار أو السياج ، ثم يطلقه ولا يمسكه أكثر ، وسواء كان الأعلى أحدث ملكا أو إحياء من الأسفل ، أو مساويا له ، أو أقدم منه ، ولا يتملك شرب نهر غير متملك أصلا ، ولا شرب سيل ، وتبطل الدول والقسمة فيها - وإن تقدمت - إلا أن يكون قوم حفروا ساقية وبنوها ، فلهم أن يقتسموا ماءها بقدر حصصهم فيها . برهان ذلك - : ما رويناه من طريق أبي داود نا أبو الوليد - هو الطيالسي - أنا الليث - هو ابن سعد - عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عبد الله بن الزبير قال { خاصم الزبير رجلا في شراج الحرة التي يسقون بها ، فقال الأنصاري للزبير : سرح الماء يمر ؟ فأبى عليه الزبير فقال رسول الله ﷺ للزبير : اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك ؟ فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله إن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله ﷺ ثم قال : اسق ثم احتبس الماء حتى يرجع إلى الجدر . }

1352 - مسألة : ومن غرس أشجارا فله ما أظلت أغصانها عند تمامها ، فإن انتثرت على أرض غيره أخذ بقطع ما انتثر منها على أرض غيره . روينا من طريق أبي داود نا محمود بن خالد أن محمد بن عثمان حدثهم قال : نا عبد العزيز بن محمد - هو الدراوردي - عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري قال : { اختصم إلى رسول الله ﷺ رجلان في حريم نخلة فأمر عليه السلام بجريدة من جريدها فذرعت فقضى بذلك } يعني بمبلغها . وأما انتثارها على أرض غيره فلقول رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فلا يحل لأحد الانتفاع بمال غيره إلا ما دامت نفسه له طيبة بذلك - وبالله تعالى التوفيق .

1353 - مسألة : ومن ترك دابته بفلاة ضائعة فأخذها إنسان فقام عليها فصلحت ، أو عطب في بحر أو نهر فرمى البحر متاعه فأخذه إنسان أو غاص عليه إنسان فأخذه ، فكل ذلك لصاحبه الأول ولا حق فيه لمن أخذ شيئا منه ، لقول رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } . وقد جاء في ذلك خلاف - : كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا منصور - هو ابن المعتمر - عن عبيد الله بن حميد الحميري قال : سمعت الشعبي يقول : من قامت عليه دابته فتركها فهي لمن أحياها : فقلت له : عمن يا أبا عمرو ؟ قال : إن شئت عددت لك كذا وكذا من أصحاب رسول الله ﷺ . ومن طريق سعيد بن منصور نا خالد - هو ابن عبد الله الطحان الواسطي - أنا مطرف - هو ابن طريف - عن الشعبي في رجل سيب دابته فأخذها رجل فأصلحها ؟ فقال الشعبي : هذا قد قضى فيه إن كان سيبها في كلأ ، وأمن ، وماء ، فصاحبها أحق بها ، وإن كان سيبها في مخافة أو مفازة فالذي أخذها أحق بها . ومن طريق ابن أبي شيبة نا أبو أسامة عن عثمان بن غياث قال : سئل الحسن عمن ترك دابته بأرض قفر فأخذها رجل فقام عليها حتى صلحت ؟ قال : هي لمن أحياها . قال : وسئل الحسن عن السفينة تغرق في البحر فيها متاع لقوم شتى ؟ فقال : ما ألقى البحر على ساحله ، ومن غاص على شيء فاستخرجه فهو له . قال أبو محمد : وهو قول الليث ولقد كان يلزم من شنع بقول الصاحب لا يعرف له مخالف أن يقول بقول الشعبي ، والحسن ؛ لأنه عن جماعة من الصحابة لا يعرف له مخالف منهم .

1354 - مسألة : ولا يلزم من وجد متاعه إذا أخذه أن يؤدي إلى الذي وجده عنده ما أنفق عليه ، لأنه لم يأمره بذلك ، فهو متطوع بما أنفق . وروينا من طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا داود بن أبي هند عن الشعبي أن رجلا أضل بعيرا له نضوا فأخذه رجل فأنفق عليه حتى صلح وسمن ، فوجده صاحبه عنده فخاصمه إلى عمر بن عبد العزيز ؟ فقضى له بالنفقة ورد الدابة إلى صاحبها - قال الشعبي : أما أنا فأقول : يأخذ ماله حيث وجده سمينا أو مهزولا ، ولا شيء عليه .

===========




كتاب المرفق
المحلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب المرفق
كتاب المرفق (مسألة 1355 - 1361)


فهارس كتاب المرفق

1355 - مسألة: لكل أحد أن يفتح ما شاء في حائطه من كوة أو باب
1356- مسألة: ليس لأحد أن يرسل ماء سقفه أو داره على أرض جاره أصلا
1357 - مسألة: لا يجوز لأحد أن يدخن على جاره
1358 - مسألة: لا يحل لأحد أن يمنع جاره من أن يدخل خشبا في جداره
1359 - مسألة: وكل من ملك ماء في نهر حفره فهو أحق بالماء
1360 - مسألة: وما غلب عليه الماء من نهر، أو نشع، أو سيل، فاستغار فهو لصاحبه
1361 - مسألة: لا تكون الأرض بالإحياء إلا لمسلم


===========




كتاب المرفق

1355 - مسألة : ولكل أحد أن يفتح ما شاء في حائطه من كوة أو باب ، أو أن يهدمه إن شاء في دار جاره ، أو في درب غير نافذ أو نافذ ، ويقال لجاره : ابن في حقك ما تستر به على نفسك ؟ إلا أنه يمنع من الاطلاع فقط . وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان . وقال مالك : يمنع من كل ذلك . قال أبو محمد : وهذا خطأ ؛ لأن كل ذي حق أولى بحقه . ولا يحل للجار أن ينتفع بحائط جاره إلا حيث جاء النص بذلك . ولا فرق بين أن يهدم حائطه فلا يكلف بنيانه ويقول لجاره : استر على نفسك إن شئت ، وبين أن يهدم هو حائط نفسه . ولا فرق بين السقف والاطلاع منه وبين قاع الدار والاطلاع منه - ولا فرق بين فتح كوة للضوء وبين فتحها هكذا وكلا الأمرين ، يمكن الاطلاع منه ، ولم يأت قط قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول صاحب يمنع المرء من أن يفتح في حقه وفي حائطه ما شاء . فإن احتجوا بالخبر { لا ضرر ولا ضرار } هذا خبر لا يصح ؛ لأنه إنما جاء مرسلا ، أو من طريق فيها زهير بن ثابت - وهو ضعيف - إلا أن معناه صحيح . ولا ضرر أعظم من أن يمنع المرء من التصرف في مال نفسه مراعاة لنفع غيره فهذا هو الضرر حقا . وأما الاطلاع فمنعه واجب - : لما روينا من طريق البخاري نا علي بن عبد الله بن المديني نا سفيان بن عيينة نا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال أبو القاسم ﷺ : { لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بعصا ففقأت عينه لم يكن عليك جناح } ورويناه أيضا من طريق أخرى { بحصاة } هو أصح .

1356 - مسألة : وليس لأحد أن يرسل ماء سقفه أو داره على أرض جاره أصلا ، فإن أذن له كان له الرجوع متى شاء لقول رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فإطلاقه ماء داره على أرض جاره تصرف منه في مال غيره - وهو عليه حرام - والإذن في ذلك إنما هو ما دام إذنا ؛ لأنه لم يملكه الرقبة ، والإذن في شيء ما اليوم غير ما لم يؤذن له فيه غدا بلا شك - وبالله التوفيق .

1357 - مسألة : ولا يجوز لأحد أن يدخن على جاره ؛ لأنه أذى ، وقد حرم الله تعالى أذى المسلم . ولكل أحد أن يعلي بنيانه ما شاء - وإن منع جاره الريح والشمس - لأنه لم يباشر منعه بغير ما أبيح له . ولكل أحد أن يبني في حقه ما شاء من حمام ، أو فرن ، أو رحى ، أو كمر أو غير ذلك ، إذ لم يأت نص بالمنع من شيء من ذلك .

1358 - مسألة : ولا يحل لأحد أن يمنع جاره من أن يدخل خشبا في جداره ويجبر على ذلك - أحب أم كره - إن لم يأذن له ، فإن أراد صاحب الحائط هدم حائطه كان له ذلك ، وعليه أن يقول لجاره : دعم خشبك أو انزعه فإني أهدم حائطي ، ويجبر صاحب الخشب على ذلك - : لما روينا من طريق مالك عن ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره } ثم يقول أبو هريرة : مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم فهذا قول أبي هريرة ولا يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم - وهو قول أصحابنا . وقال أبو حنيفة ، ومالك : ليس له أن يضع خشبه في جدار جاره . قال أبو محمد : وهذا خلاف مجرد للخبر وما نعلم لهم حجة أصلا ، إلا أن بعضهم ذكر قول رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } . قال علي : الذي قال هذا هو الذي قال ذلك ، وقوله كله حق وعن الله تعالى ، وكله واجب علينا السمع له والطاعة ، وليس بعضه معارضا لبعض قال الله تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } والذي قضى بالشفعة وإسقاط الملك بعد تمامه ، وإبطال الشراء بعد صحته وقضى بالعاقلة ، وأن يغرموا ما لم يجنوا ، وأباح أموالهم في ذلك - أحبوا أم كرهوا - هو الذي قضى بأن يغرز الجار خشبه في جدار جاره ، ونهى عن منعه من ذلك . ولو أنهم استعملوا هذا الحكم حيث أباحوا ثمر النخل ، وكراء الدار المغصوبة - : كل ذلك لمن اشتراه من الغاصب بالباطل لكان أولى بهم ، والواجب استعمال جميع السنن . فنقول : أموالنا حرام على غيرنا ، إلا حيث أباحها الذي حرمها . وقال بعضهم : قد روي هذا الخبر { خشبة } بالنصب على أنها واحدة ؟ فقلنا : فأنتم لا تجيزون له لا واحدة ولا أكثر من واحدة ، فأي راحة لكم في هذه الرواية ؟ وكل خشبة في العالم فهي خشبة ، وليس للجار منع جاره من أن يضعها في جداره ، فالحكم واحد في كلتا الروايتين - وبالله تعالى التوفيق .

1359 - مسألة : وكل من ملك ماء في نهر حفره ، أو ساقية حفرها ، أو عين استخرجها ، أو بئر استنبطها - فهو أحق بماء كل ذلك ما دام محتاجا إليه ، ولا يحل له منع الفضل ، بل يجبر على بذله لمن يحتاج إليه ، ولا يحل له أخذ عوض عنه ، لا ببيع ولا غيره - : لما روينا من طريق جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : { لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ } . ومن طريق أبي داود ، نا النفيلي نا داود بن عبد الرحمن العطار عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال عن إياس بن عبد قال { نهى رسول الله ﷺ عن بيع فضل الماء }

1360 - مسألة : وما غلب عليه الماء من نهر ، أو نشع ، أو سيل ، فاستغار فهو لصاحبه كما كان ، فإن انتقل عنه يوما ما - ولو بعد ألف عام - فهو له ولورثته ، وما رمى النهر من أحد عدوتيه إلى أخرى فهو باق بحسبه كما كان لمن كان له . وقال المالكيون : بخلاف ذلك - وهذا باطل لأن تبدل مجرى الماء لا يسقط ملكا عن مالكه ، ولا يحل مالا محرما لمن حرمه الله تعالى عليه ، وهذا حكم في الدين بلا برهان ، قال رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } .

1361 - مسألة : ولا تكون الأرض بالإحياء إلا لمسلم ، وأما الذمي فلا ، لقول الله تعالى : { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده } وقوله تعالى : { أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } ونحن أولئك لا الكفار ، فنحن الذين أورثنا الله تعالى الأرض - فله الحمد كثيرا .

=======

كتاب الوكالة المحلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب الوكالة كتاب الوكالة (مسألة 1362 - 1366) فهارس كتاب الوكالة 1362 - مسألة: حكم الوكالة 1363 - مسألة: لا تجوز وكالة على طلاق ولا على عتق ولا على تدبير 1364 - مسألة: لا يجوز للوكيل تعدي ما أمره به موكله 1365 - مسألة: فعل الوكيل لازم فيما أمر به الموكل 1366 - مسألة: تبطل الوكالة بالموت


كتاب الوكالة

1362 - مسألة : الوكالة جائزة في القيام على الأموال ، والتذكية ، وطلب الحقوق وإعطائها ، وأخذ القصاص في النفس فما دونها ، وتبليغ الإنكاح ، والبيع ، والشراء ، والإجارة ، والاستئجار - : كل ذلك من الحاضر ، والغائب سواء ، ومن المريض والصحيح سواء ، وطلب الحق كله واجب بغير توكيل ، إلا أن يبرئ صاحب الحق من حقه . برهان ذلك - : { بعثة رسول الله ﷺ الولاة لإقامة الحدود ، والحقوق على الناس ، ولأخذ الصدقات وتفريقها } . وقد كان بلال على نفقات رسول الله ﷺ وقد كان له نظار على أرضه بخيبر ، وفدك ؛ وقد روينا في " كتاب الأضاحي " من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر الجهني { عن رسول الله ﷺ أنه أعطاه غنما يقسمها بين أصحابه } . وذكرنا في " الحج " من طريق سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي قال : أمرني رسول الله ﷺ أن أقوم على بدنه وأن أقسم جلودها وجلالها ومن طريق أبي داود نا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد نا [ عمي - هو يعقوب بن إبراهيم ] نا أبي - هو إبراهيم بن سعد - عن محمد بن إسحاق عن أبي نعيم وهب بن كيسان : سمعت جابر بن عبد الله يقول : أردت الخروج إلى خيبر فقال لي رسول الله ﷺ : { إذا أتيت وكيلي بخيبر فخذ منه خمسة عشر وسقا فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته } . وفي هذا الخبر تصديق الرسول إذا علم الوالي بصدقه بغير بينة . ومن طريق مسلم نا سلمة بن شبيب نا الحسن بن أعين نا معقل عن أبي قزعة الباهلي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري فذكر حديث التمر ، وأن رسول الله ﷺ قال : { بيعوا تمرها واشتروا لنا من هذا } . ومن طريق أبي داود نا حجاج بن أبي يعقوب الثقفي حدثنا معلى بن منصور نا عبد الله بن المبارك حدثنا معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن أم حبيبة أم المؤمنين أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة فزوجها النجاشي النبي ﷺ وأمهرها عنه أربعة آلاف وبعث بها إلى رسول الله ﷺ مع شرحبيل بن حسنة - وهذا خبر منقول نقل الكافة . { وأمر عليه السلام بأخذ القود ، وبالرجم ، والجلد ، وبالقطع } . ومن طريق أبي داود نا عبيد الله بن عمر بن ميسرة نا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة ، ورافع بن خديج { أن محيصة بن مسعود ، وعبد الله بن سهل انطلقا إلى خيبر فتفرقا في النخل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل وابنا عمه حويصة ومحيصة إلى رسول الله ﷺ فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وهو أصغرهم فقال رسول الله ﷺ : الكبر الكبر أو قال : ليبدأ الأكبر ؟ فتكلما في أمر صاحبهما } . وقال أبو حنيفة : لا أقبل توكيل حاضر ، ولا من كان غائبا على أقل من مسيرة ثلاث ، إلا أن يكون الحاضر ، أو من ذكرنا مريضا ، إلا برضى الخصم - وهذا خلاف السنة وتحديد بلا برهان وقول لا نعلم أحدا قال قبله . وقال المالكيون : لا نتكلم في الحقوق إلا بتوكيل صاحبها - وهذا باطل لما ذكرنا - ولقول الله تعالى : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله } . وقوله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } فواجب بما ذكرنا إنكار الظلم ، وطلب الحق لحاضر وغائب ، ما لم يترك حقه الحاضر - سواء بتوكيل أو بغير توكيل . وطلب الحق قد وجب ، ولا يمنع من طلبه قول القائل : لعل صاحبه لا يريد طلبه ، ويقال له : قد أمر الله تعالى بطلبه ، فلا يسقط هذا اليقين ما يتوقعه بالظن .

1363 - مسألة : ولا تجوز وكالة على طلاق ، ولا على عتق ، ولا على تدبير ، ولا على رجعة ، ولا على إسلام ، ولا على توبة ، ولا على إقرار ، ولا على إنكار ، ولا على عقد الهبة ، ولا على العفو ، ولا على الإبراء ، ولا على عقد ضمان ، ولا على ردة ، ولا على قذف ، ولا على صلح ، ولا على إنكاح مطاق بغير تسمية المنكحة والناكح ؛ لأن كل ذلك إلزام حكم لم يلزم قط ، وحل عقد ثابت ، ونقل ملك بلفظ . فلا يجوز أن يتكلم أحد عن أحد إلا حيث أوجب ذلك نص ، ولا نص على جواز الوكالة في شيء من هذه الوجوه . والأصل أن لا يجوز قول أحد على غيره ، ولا حكمه على غيره لقول الله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } وكل ما ذكرنا كسب على غيره وحكم بالباطل يمضيه أحد على أحد - وبالله تعالى التوفيق .

1364 - مسألة : ولا يحل للوكيل تعدي ما أمره به موكله فإن فعل لم ينفذ فعله فإن فات ضمن لقول الله تعالى : { ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } ولقوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } فوجب من هذا أن من أمره موكله بأن يبتاع له شيئا بثمن مسمى ، أو يبيعه له بثمن مسمى ، فباعه أو ابتاعه بأكثر أو بأقل - ولو بفلس - فما زاد لم يلزم الموكل ، ولم يكن البيع له أصلا ، ولم ينفذ البيع ؛ لأنه لم يؤمر بذلك . فلو وكله على أن يبيع له أو يبتاع له ، فإن ابتاع له بما يساوي ، أو باع بذلك لزم ، وإلا فهو مردود - وكذلك من ابتاع لآخر ، أو باع له بغير أن يأمره لم يلزم في البيع أصلا ، ولا جاز للآخر إمضاؤه ؛ لأنه إمضاء باطل لا يجوز ، وكان الشراء لازما للوكيل - وما عدا هذا فقول بلا برهان ، وحكم بالباطل . واحتج قوم في إجازة ذلك بحديث عروة البارقي ، وحكيم بن حزام { أن رسول الله ﷺ أمر كل واحد منهما بأن يبتاع له شاة بدينار فابتاع شاتين فباع أحدهما بدينار وأتى به إلى النبي ﷺ وبالشاة } وهما خبران منقطعان لا يصحان .

1365 - مسألة : وفعل الوكيل نافذ فيما أمر به الموكل لازم للموكل ما لم يصح عنده أن موكله قد عزله ، فإذا صح ذلك عنده لم ينفذ حكمه من حينئذ ويفسخ ما فعل . وأما كل ما فعل مما أمره به الموكل من حين عزله إلى حين بلوغ الخبر إليه فهو نافذ طالت المدة بين ذلك أو قصرت . وهكذا القول في عزل الإمام للأمير ، وللوالي ، وللقاضي ، وفي عزل هؤلاء لمن جعل إليهم أن يولوه ولا فرق - لأنه عزله بغير أن يعلمه بعد أن ولاه وأطلقه على البيع ، وعلى الابتياع ، وعلى التذكية ، والقصاص ، والإنكاح لمسماة ومسمى - : خديعة وغش ، قال الله تعالى : { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم } وقال رسول الله ﷺ : { من غشنا فليس منا } فعزله له باطل إلا أن يقول ، أو يكتب إليه أو يوصي إليه : إذا بلغك رسولي فقد عزلتك - فهذا صحيح ؛ لأن له أن يتصرف في حقوق نفسه كما يشاء ، فإذا بلغه فقد صح عزله ، وليس للخصم أن يمنع من يخاصمه من عزل وكيله وتولية آخر ؛ لأن التوكيل في ذلك قد صح ، ولا برهان على أن للخصم منعه من عزل من شاء وتولية من شاء . فإن قيل : إن في ذلك ضررا على الخصم ؟ قلنا : لا ضرر عليه في ذلك أصلا ، بل الضرر كله هو المنع من تصرف المرء في طلب حقوقه بغير قرآن أوجب ذلك ، ولا سنة - وهذا هو الشرع الذي لم يأذن الله تعالى به .

1366 - مسألة : والوكالة تبطل بموت الموكل بلغ ذلك إلى الوكيل ، أو لم يبلغ بخلاف موت الإمام ، فإنه إن مات فالولاة كلهم نافذة أحكامهم حتى يعزلهم الإمام الوالي ، وذلك لقول الله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } والمال قد انتقل بموت الموكل إلى ورثته ، فلا يجوز في مالهم حكم من لم يوكلوه ، وليس كذلك الإمام ؛ لأن المسلمين لا بد لهم ممن يقوم بأمرهم ، { وقد قتل أمراء رسول الله ﷺ ورضي عنهم بمؤتة كلهم فتولى الأمر خالد بن الوليد من غير أن يؤمره رسول الله ﷺ حتى رجع بالمسلمين وصوب عليه السلام ذلك } وقد مات عليه السلام وولاته باليمن ، ومكة ، والبحرين ، وغيرها ، فنفذت أحكامهم قبل أن يبلغهم موته عليه السلام - ولم يختلف في ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم - وبالله تعالى التوفيق .

===========


كتاب المضاربة المحلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب المضاربة كتاب المضاربة (مسألة 1367 - 1377) فهارس كتاب المضاربة 1367- مسألة: القراض كان في الجاهلية وأقره الشرع 1368 - مسألة: القراض إنما هو بالدنانير والدراهم 1369 - مسألة: لا يجوز القراض إلى أجل مسمى 1370 - مسألة: لا يجوز القراض إلا بأن يسميا السهم الذي تقارضا عليه 1371 - مسألة: لا يحل للعامل أن يأكل من المال شيئا 1372 - مسألة: كل ربح ربحاه فلهما أن يتقاسماه 1373 - مسألة: لا ضمان على العامل فيما تلف من المال 1374 - مسألة: أيهما ترك العمل فله ذلك 1375 - مسألة: إذا تعدى العامل فربح 1376- مسألة: وأي واحد من المتضاربين مات بطل القراض 1377 - مسألة: حكم إذا اشترى العامل جارية من القراض فوطئها




كتاب المضاربة وهي القراض

1367 - مسألة : القراض كان في الجاهلية ، وكانت قريش أهل تجارة لا معاش لهم من غيرها وفيهم الشيخ الكبير الذي لا يطيق السفر ، والمرأة والصغير ، واليتيم ، فكانوا وذوو الشغل والمرض يعطون المال مضاربة لمن يتجر به بجزء مسمى من الربح فأقر رسول الله ﷺ ذلك في الإسلام وعمل به المسلمون عملا متيقنا لا خلاف فيه ، ولو وجد فيه خلاف ما التفت إليه ؛ لأنه نقل كافة بعد كافة إلى زمن رسول الله ﷺ وعلمه بذلك . { وقد خرج ﷺ في قراض بمال خديجة رضي الله عنها } .

1368 - مسألة : والقراض إنما هو بالدنانير والدراهم - ولا يجوز بغير ذلك ، إلا بأن يعطيه العرض فيأمره ببيعه بثمن محدود ، وبأن يأخذ الثمن فيعمل به قراضا ، لأن هذا مجمع عليه ، وما عداه مختلف فيه ولا نص بإيجابه ، ولا حكم لأحد في ماله إلا بما أباحه له النص . وممن منع من القراض بغير الدنانير ، والدراهم : الشافعي ، ومالك ، وأبو حنيفة ، وأبو سليمان ، وغيرهم .

1369 - مسألة : ولا يجوز القراض إلى أجل مسمى أصلا إلا ما جاء به نص ، أو إجماع . ولا يجوز أن يشترط عبدا يعمل معه ، أو أجيرا يعمل معه ، أو جزءا من الربح لفلان ؛ لأنه شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل . وأما المالكيون ، والشافعيون : فتناقضوا ههنا فقالوا في القراض كما قلنا ، وقالوا في " المساقاة " لا تجوز ألبتة إلا إلى أجل مسمى . وكذلك قالوا في " المزارعة " في الموضع الذي أجازوها فيه - ولا فرق بين شيء من ذلك مع خلافهم في " المزارعة " و " المساقاة " السنة الواردة في ذلك ، وتركوا القياس أيضا - وبالله تعالى التوفيق .

1370 - مسألة : ولا يجوز القراض إلا بأن يسميا السهم الذي يتقارضان عليه من الربح ، كسدس ، أو ربع ، أو ثلث ، أو نصف ، أو نحو ذلك ، ويبينا ما لكل واحد منهما من الربح ؛ لأنه إن لم يكن هكذا لم يكن قراضا ولا عرفا ما يعمل العامل عليه فهو باطل - وبالله تعالى التوفيق .

1371 - مسألة : ولا يحل للعامل أن يأكل من المال شيئا ولا أن يلبس منه شيئا ، لا في سفر ولا في حضر . روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن هشام بن حسان عن ابن سيرين قال : ما أكل المضارب فهو دين عليه . وصح عن إبراهيم ، والحسن : أن نفقته من جميع المال - قال إبراهيم : وكسوته كذلك قال ابن سيرين ليس كذلك . وقولنا ههنا هو قول الشافعي ، وأحمد ، وأبي سليمان . وقال أبو حنيفة ، ومالك : أما في الحضر فكما قلنا ، وأما في السفر فيأكل منه ويكتسي منه ويركب منه بالمعروف - إذا كان المال كثيرا - وإلا فلا ، إلا أن مالكا قال : له في الحضر أن يتغذى منه بالأفلس . وهذا تقسيم في غاية الفساد ؛ لأنه بلا دليل ، وليت شعري ما مقدار المال الكثير الذي أباحوا هذا فيه ؟ وما مقدار القليل الذي منعوه فيه ؟ وهذا كله باطل لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فلا يجوز اشتراطه - فإن لم يشترط فهو أكل مال بالباطل . ثم أيضا يعود المال إلى الجهالة فلا يدري ما يخرج منه ؟ ولا ما يبقى منه ؟ وقليل الحرام حرام - ولو أنه مقدار ذرة ، وكثير الحلال حلال - ولو أنه الدنيا وما فيها . فإن قالوا هو ساع في مصلحة المال ؟ قلنا : نعم ، فكان ماذا ؟ وإنما هو ساع لربح يرجوه ، فإنما يسعى في حظ نفسه .

1372 - مسألة : وكل ربح ربحاه فلهما أن يتقاسماه ، فإن لم يفعلا وتركا الأمر بحسبه ثم خسر في المال فلا ربح للعامل ، وأما إذا اقتسما الربح فقد ملك كل واحد منهما ما صار له ، فلا يسقط ملكه عنه ؛ لأنهما على هذا تعاملا ، وعلى أن يكون لكل واحد منهما حظ من الربح ، فإذا اقتسماه فهو عقدهما المتفق على جوازه ، فإن لم يقتسماه فقد تطوعا بترك حقهما وذلك مباح .

1373 - مسألة : ولا ضمان على العامل فيما تلف من المال - ولو تلف كله - ولا فيما خسر فيه ، ولا شيء له على رب المال ، إلا أن يتعدى أو يضيع فيضمن ، لقول رسول الله ﷺ { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } .

1374 - مسألة : وأيهما أراد ترك العمل فله ذلك ويجبر العامل على بيع السلع معجلا - خسر أو ربح - لأنه لا مدة في القراض ، فإذ ليس فيه مدة فلا يجوز أن يجبر الآبي منهما على التمادي في عمل لا يريده أحدهما في ماله ، ولا يريده الآخر في عمله ، ولا يجوز التأخير في ذلك ؛ لأنه لا يدري كم يكون التأخير ؟ وقد تسمو قيمة السلع ، وقد تنحط ، فإيجاب التأخير في ذلك خطأ ، ولا يلزم أحدا أن يبيح ماله لغيره ليموله به . والعجب ممن ألزم ههنا إجبار صاحب المال على الصبر حتى يكون للسلع سوق ليمول بذلك العامل من مال غيره ، وهو لا يرى إجباره على تدارك من يموت جوعا من ذوي رحمه ، أو غيرهم ، بما يقيم رمقه ، وهذا عكس الحقائق - وبالله تعالى التوفيق .

1375 - مسألة : وإن تعدى العامل فربح ، فإن كان اشترى في ذمته ووزن من مال القراض فحكمه حكم الغاصب - وقد صار ضامنا للمال إن تلف أو لما تلف منه بالتعدي ، ويكون الربح له ، لأن الشرى له . وإن كان اشترى بمال القراض نفسه فالشرى فاسد مفسوخ ، فإن لم يوجد صاحبه البائع منه فالربح للمساكين ؛ لأنه مال لا يعرف له صاحب . وهذا قول النخعي ، والشعبي ، وحماد بن أبي سليمان ، وابن شبرمة ، وأبي سليمان - وبالله تعالى التوفيق .

1376 - مسألة : وأيهما مات بطل القراض - : أما في موت صاحب المال فلأن المال قد صار للورثة ، وقد قال رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } . أما في موت العامل ، فلقول الله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } وعقد الذي له المال إنما كان مع الميت لا مع وارثه ، إلا أن عمل العامل بعد موت صاحب المال ليس تعديا ، وعمل الوارث بعد موت العامل إصلاح للمال . وقد قال الله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } فلا ضمان على العامل ، ولا على وارثه إن تلف المال بغير تعد ، ويكون الربح كله لصاحب المال ، أو لوارثه ، ويكون للعامل ههنا أو لورثته أجر مثل عمله فقط ، لقوله تعالى : { والحرمات قصاص } فحرمة عمله يجب له أن يقاص بمثلها ؛ لأنه محسن معين على بر - وبالله تعالى التوفيق .

1377 - مسألة : وإن اشترى العامل من مال القراض جارية فوطئها فهو زان عليه حد الزنا ؛ لأن أصل الملك لغيره ، وولده منها رقيق لصاحب المال . وكذلك ولد الماشية ، وممر الشجر ، وكرى الدور ؛ لأنه شيء حدث في ماله ، وإنما للعامل حظه من الربح فقط ، ولا يسمى ربحا إلا ما نما بالبيع فقط - وبالله تعالى التوفيق .

============


كتاب الإقرار المحلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب الإقرار كتاب الإقرار (مسألة 1378 - 1382) فهارس كتاب الإقرار 1378 - مسألة: فيمن أقر لآخر أو لله بحق في مال أو دم 1379 - مسألة: الاختلاف في حكم من أقر مرة في حد أو قتل 1380 - مسألة: حكم إقرار المريض في مرض موته 1381 - مسألة: حكم من قال هذا الشيء كان لفلان ووهبه لي 1382 - مسألة: حكم من قال لفلان عندي مائة دينار دين ولي عنده مائة قفيز





كتاب الإقرار

1378 - مسألة : من أقر لآخر ، أو لله تعالى بحق في مال ، أو دم ، أو بشرة - وكان المقر عاقلا بالغا غير مكره - وأقر إقرارا تاما ، ولم يصله بما يفسده - : فقد لزمه ، ولا رجوع له بعد ذلك ، فإن رجع لم ينتفع برجوعه وقد لزمه ما أقر به على نفسه من دم ، أو حد ، أو مال . فإن وصل الإقرار بما يفسده بطل كله ولم يلزمه شيء ، لا من مال ، ولا قود ، ولا حد - : مثل أن يقول : لفلان علي مائة دينار ، أو يقول : قذفت فلانا بالزنى ، أو يقول زنيت ، أو يقول : قتلت فلانا ، أو نحو ذلك - : فقد لزمه ، فإن رجع عن ذلك لم يلتفت . فإن قال : كان لفلان علي مائة دينار وقد قضيته إياها ، أو قال : قذفت فلانا وأنا في غير عقلي ، أو قتلت فلانا ؛ لأنه أراد قتلي ولم أقدر على دفعه عن نفسي ، أو قال : زنيت وأنا في غير عقلي ، أو نحو هذا ، فإن هذا كله يسقط ولا يلزمه شيء ، والحر ، والعبد ، والذكر ، والأنثى - ذات الزوج ، والبكر ذات الأب ، واليتيمة فيما ذكرنا سواء - وإنما هذا كله إذا لم تكن بينة فإذا كانت البينة فلا معنى للإنكار ، ولا للإقرار - : روينا من طريق مسلم نا هداب بن خالد نا همام - هو ابن يحيى - نا قتادة عن أنس : { أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين ، فسألوها من صنع هذا بك ؟ فلان ؟ فلان ؟ حتى ذكروا يهوديا فأومأت برأسها ، فأخذ اليهودي فأقر فأمر به رسول الله ﷺ أن يرض رأسه بالحجارة . } ومن طريق مسلم نا محمد بن رمح نا الليث - هو ابن سعد - عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني ، فذكر الحديث ، وفيه قول القائل : { إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته ، وإني أخبرت أن على ابني الرجم ، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة ؟ فقال رسول الله ﷺ : والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله : الوليدة والغنم رد ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، اغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ، فغدا عليها فاعترفت ، فأمر بها رسول الله ﷺ فرجمت } فقتل عليه السلام بالإقرار ورجم به ، ورد به المال ممن كان بيده إلى غيره . وأما إذا وصل به ما يفسده فلم يقر بشيء ، ولا يجوز أن يلزم بعض إقراره ولا يلزم سائره ؛ لأنه لم يوجب ذلك قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع . وقد تناقض ههنا المخالفون فقالوا : إن قال : له علي دينار إلا ربع دينار فهو كما قال - وإن قال : ابتعت منه داره بمائة دينار ، فأنكر الآخر البيع وقال : قد أقر لي بمائة دينار وادعى ابتياع داري ، فإنهم لا يقصون عليه بشيء أصلا - وهذا تناقض ظاهر . وقال مالك : من قال : أحسن الله جزاء فلان فإنه أسلفني مائتي دينار ، وأمهلني حتى أديتها كلها إليه ، فإنه لا يقضي لذلك الفلان عليه بشيء إن طلبه بهذا الإقرار . ولا يختلفون فيمن قال : قتلت رجلا مسلما الآن أمامكم ، أو قال : أخذت من هذا مائة دينار الآن بحضرتكم ، فإنه لا يقضي عليه بشيء - ولم يقولوا : إن أقر ، ثم ندم ، ولا أخذوا ببعض قول دون بعض ، وهذا تناقض ظاهر - : روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد بن ، أبي بكر الصديق أن رجلا استضاف ناسا من هذيل فأرسلوا جارية تحتطب فأعجبت الضيف فتبعها فأرادها فامتنعت ، فعاركها فانفلتت فرمته بحجر ففضت كبده فمات ، فأتت أهلها فأخبرتهم ، فأتوا عمر بن الخطاب فأخبروه ؟ فقال عمر : قتيل الله لا يودى والله أبدا ؟ ومن طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني ، وحميد ، ومطرف ، كلهم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : غزا رجل فخلف على امرأته رجل من يهود ، فمر به رجل من المسلمين عند صلاة الفجر وهو يقول : وأشعث غره الإسلام مني جلوت بعرسه ليل التمام أبيت على ترائبها ويمسي على جرداء لاحقة الحزام كأن مجامع الربلات منها قيام ينهضون إلى فئام فدخل عليه فضربه بسيفه حتى قتله فجاءت اليهود يطلبون دمه فجاء الرجل فأخبره بالأمر ، فأبطل عمر بن الخطاب دمه . ومن طريق محمد بن المثنى نا عبد الله بن إدريس الأودي نا عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي موسى الأشعري قال أتيت وأنا باليمن بامرأة فسألتها ؟ فقالت : ما تسأل عن امرأة حبلى ثيب من غير بعل ، أما والله ما خاللت خليلا ولا خادنت خدنا ، مذ أسلمت ، ولكني بينما أنا نائمة بفناء بيتي ، فوالله ما أيقظني إلا الرجل حين ركبني وألقى في بطني مثل الشهاب ؟ فقال : فكتبت فيها إلى عمر بن الخطاب فكتب إلي : أن وافني بها وبناس من قومها ؟ فوافيته بها في الموسم ، فسأل عنها قومها ؟ فأثنوا خيرا ، وسألها ؟ فأخبرته كما أخبرتني ، فقال عمر : شابة تهامية تنومت قد كان ذلك يفعل ، فمارها عمر وكساها ، وأوصى بها قومها خيرا - هذا خبر في غاية الصحة . ومن طريق حماد بن سلمة عن عامر بن أبي الحكم عن الحسن : أن رجلا رأى مع امرأته رجلا فقتله ، فارتفعوا إلى عثمان بن عفان فأبطل دمه . ومن طريق حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، قالا جميعا : إن رجلا أتى امرأة ليلا فجعلت تستصرخ فلم يصرخها أحد ، فلما رأت ذلك قالت : رويدك حتى أستعد وأتهيأ ، فأخذت فهرا فقامت خلف الباب ، فلما دخل ثلغت به رأسه فارتفعوا إلى الضحاك بن قيس ، فأبطل دمه . ومن طريق حماد بن سلمة أخبرنا أبو عقبة أن رجلا ادعى على رجل ألف درهم ولم تكن له بينة فاختصما إلى عبد الملك بن يعلى فقال : قد كانت له عندي ألف درهم فقضيته فقال : أصلحك الله قد أقر ؟ فقال له عبد الملك بن يعلى : إن شئت أخذت بقوله أجمع ، وإن شئت أبطلته أجمع - /126 L475 عبد الملك بن يعلى /126 من التابعين - ولي قضاء البصرة . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه قال : من أقر بشيء في يده فالقول قوله . ومن طريق حماد بن سلمة عن إياس بن معاوية قال : كل من كان في يده شيء فالقول فيه قوله - وقولنا فيما ذكرنا هو قول عثمان البتي ، وأبي سليمان ، وأحد قولي الشافعي . وأما - الرجوع عن الإقرار : فكلهم متفق على ما قلنا ، إلا في الرجوع عن الإقرار بما يوجب الحد ، فإن الحنفيين ، والمالكيين ، قالوا : إن رجع لم يكن عليه شيء - وهذا باطل ، والقوم أصحاب قياس بزعمهم ، فهلا قاسوا الإقرار بالحد على الإقرار بالحقوق سواء ؟ وأيضا - فإن الحد قد لزمه بإقراره ، فمن ادعى سقوطه برجوعه فقد ادعى ما لا برهان له به ؛ واحتجوا بشيئين : أحدهما : حديث ماعز . والثاني : أن قالوا : إن الحدود تدرأ بالشبهات . قال علي : أما حديث ماعز - فلا حجة لهم فيه أصلا ، لأنه ليس فيه : أن ماعزا رجع عن الإقرار ألبتة ، لا بنص ، ولا بدليل - ولا فيه : أن رسول الله ﷺ قال : إن رجع عن إقراره قبل رجوعه أيضا ألبتة ، فكيف يستحل مسلم أن يموه على أهل الغفلة بخبر ليس فيه شيء مما يزعم ؟ وإنما روي عن بعض الصحابة أنه قال : كنا نتحدث أن ماعزا ، والغامدية لو رجعا بعد اعترافهما ، أو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما - : هكذا رويناه من طريق أبي أحمد الزبيري عن بشير بن المهاجر عن ابن بريدة عن أبيه أنه قال هذا القول - وهذا ظن ، والظن لا يجوز القطع به ، وقول القائل : لو فعل فلان كذا لفعل رسول الله ﷺ أمرا كذا - : ليس بشيء ، إذ لم يفعل ذلك الفلان ، ولا غيره ذلك الفعل قط ولا فعله عليه السلام قط ، وقد قال جابر : أنا أعلم الناس بأمر ماعز إنما { قال رسول الله ﷺ : هلا تركتموه وجئتموني به } ؟ ليستثبت رسول الله ﷺ منه ، فأما لترك حد فلا - : هذا نص كلام جابر ، فهو أعلم بذلك ، ولم يرجع ماعز قط عن إقراره ، وإنما قال : ردوني إلى رسول الله ﷺ فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي ، وأخبروني أن رسول الله ﷺ غير قاتلي - هكذا روينا كل ما ذكرنا من طريق أبي داود نا عبيد الله بن عمر بن ميسرة نا يزيد بن زريع عن محمد بن إسحاق : أن عاصم بن عمر بن قتادة قال : حدثني حسن بن محمد بن علي بن أبي طالب : أن جابر بن عبد الله قال له : كل ما ذكرنا على نصه - فبطل تمويههم بحديث ماعز . وأما " ادرءوا الحدود بالشبهات " فما جاء عن النبي ﷺ قط من طريق فيها خير ، ولا نعلمه أيضا جاء عنه عليه السلام أيضا ، لا مسندا ، ولا مرسلا وإنما هو قول روي عن ابن مسعود ، وعمر ، فقط - ولو صح لكانوا أول مخالف له ؛ لأن الحنفيين ، والمالكيين لا نعلم أحدا أشد إقامة للحدود بالشبهات منهم . فالمالكيون يحدون في الزنى بالرجم والجلد بالحبل فقط - وهي منكرة - وقد تستكره وتوطأ بنكاح صحيح لم يشتهر ، أو وهي في غير عقلها ، ويقتلون بدعوى المريض : أن فلانا قتله ، وفلان منكر ولا بينة عليه . ويحدون في الخمر بالرائحة ، وقد تكون رائحة تفاح ، أو كمثرى شتوي . ويقطعون في السرقة من يقول : صاحب المنزل بعثني في هذا الشيء - وصاحب المنزل مقر له بذلك . ويحدون في القذف بالتعريض - وهذا كله هو إقامة - الحدود بالشبهات . وأما الحنفيون فإنهم يقطعون من دخل مع آخر في منزل إنسان للسرقة فلم يتول أخذ شيء ولا إخراجه ، وإنما سرق الذي دخل فيه فقط ، فيقطعونهما جميعا - في كثير لهم من مثل هذا قد تقصيناه في غير هذا المكان . فمن أعجب شأنا ممن يحتج بقول قائل دون رسول الله ﷺ ثم هو أول مخالف لما احتج به من ذلك ، وأما تسويتنا بين الحر ، والعبد ، والذكر ، والأنثى ذات الأب البكر ، وغير البكر ، واليتيمة ، وذات الزوج فلأن الدين واحد على الجميع ، والحكم واحد على الجميع ، إلا أن يأتي بالفرق بين شيء من ذلك : قرآن أو سنة - ولا قرآن ، ولا سنة ، ولا قياس ، ولا إجماع على الفرق بين شيء مما ذكرنا وبلا خلاف من أحد من أهل الأرض من المسلمين في أن الله تعالى خاطب كل من ذكرنا خطابا قصد به إلى كل واحد منهم في ذات نفسه بقوله تعالى : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } فكل من ذكرنا مأمور بالإقرار بالحق على نفسه ، ومن الباطل المتيقن أن يفترض عليهم ما لا يقبل منهم . وقد قال قوم : إقرار العبد بما يوجب الحد لا يلزم ؛ لأنه مال فإنما هو مقر في مال سيده ، والله تعالى يقول : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } قال علي : هو وإن كان مالا فهو إنسان تلزمه أحكام الديانة ، وهذه الآية حجتنا في ذلك ؛ لأنه كاسب على نفسه بإقراره . وقد وافقونا : لو أن أجيرا أقر على نفسه بحد للزمه ، وفي إقراره بذلك إبطال إجارته إن أقر بما يوجب قتلا أو قطعا وليس بذلك كاسبا على غيره وبالله تعالى التوفيق .

1379 - مسألة : وبإقراره مرة يلزم كل ما ذكرنا من حد ، أو قتل ، أو مال - وقال الحنفيون : لا يلزم الحد في الزنى إلا بإقرار أربع مرات . وقال أبو يوسف : لا يلزم في السرقة إلا بإقرار مرتين ، وأقاموا ذلك مقام الشهادة - وقال مالك ، والشافعي ، وأبو سليمان كقولنا واحتج الحنفيون بأن رسول الله ﷺ { رد ماعزا أربع مرات } . قال علي : قد صح هذا وجاء أنه رده أقل ، وروي أكثر - إنما رده عليه السلام لأنه اتهم عقله ، واتهمه أنه لا يدري ما الزنى ؟ هكذا في نص الحديث أنه قال : استنكهوه هل شرب خمرا ؟ أو كما قال عليه السلام ؟ { وأنه عليه السلام بعث إلى قومه يسألهم عن عقله } ؟ وأنه عليه السلام قال له : { أتدري ما الزنى ؟ لعلك غمزت أو قبلت } ؟ فإذ قد صح هذا كله ، ولم يأت قط في رواية صحيحة ، ولا سقيمة أنه عليه السلام قال : لا يحد حتى يقر أربع مرات ، فلا يجوز أن يزاد هذا الشرط فيما تقام به حدود الله تعالى ، والقوم أصحاب قياس بزعمهم ، فيلزمهم إذ أقاموا الإقرار مقام البينة في بعض المواضع أن يقيموه مقامها في كل موضع ، فلا يقضوا على أحد أقر بمال حتى يقر مرتين - وهم لا يفعلون هذا ، وقد { قتل رسول الله ﷺ اليهودي الذي قتل الجارية } بإقرار غير مردد ، والقتل أعظم الحدود وبالله تعالى التوفيق .

1380 - مسألة : وإقرار المريض في مرض موته ، وفي مرض أفاق منه لوارث ولغير وارث - نافذ من رأس المال كإقرار الصحيح ولا فرق . روينا من طريق عبد الرزاق نا بعض أصحابنا عن الليث بن سعد عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر قال : إذا أقر المريض في مرضه بدين لرجل فإنه جائز - فعم ابن عمر ولم يخص . ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن علية عن ليث عن طاوس قال : إذا أقر لوارث بدين جاز - يعني في المرض - . وبه إلى ابن علية عن عامر الأحول قال : سئل الحسن عنه ؟ فقال : أحملها إياه ولا أتحملها عنه . ومن طريق ابن أبي شيبة نا زيد بن الحباب نا حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء فيمن أقر لوارث بدين ، قال : جائز . ومن طريق ابن أبي شيبة نا عمر بن أيوب الموصلي عن جعفر - هو ابن برقان - عن ميمون هو ابن مهران - إذا أقر بدين في مرضه ، فأرى أن يجوز عليه ؛ لأنه لو أقر به - وهو صحيح - جاز وأصدق ما يكون عند موته - وهذا هو قول الشافعي ، وأبي سليمان ، وأصحابهما . وقالت طائفة : لا يجوز إقرار المريض أصلا ، كما روينا عن ابن أبي شيبة نا وكيع عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء قال : لا يجوز إقرار المريض بالدين ، وهو قول ياسين الزيات إلا أنه قال : هو من الثلث . وقسمت طائفة - : كما روينا عن شريح أنه كان يجيز اعتراف المريض عند موته بالدين لغير الوارث ، ولا يجيزه للوارث إلا ببينة - وهو قول إبراهيم ، وابن أذينة - صح ذلك عنهما . ورويناه أيضا عن الحكم ، والشعبي - وهو قول أبي حنيفة - إلا أن دين الصحة عنده مقدم على دين المرض . واتفقوا على أن إقرار الصحيح للوارث ولغير الوارث بالدين جائز من رأس المال - كان له ولد أو لم يكن - . وقال مالك ، وأبو حنيفة : إن أقر المريض لوارث فأفاق من مرضه فهو لازم له من رأس ماله . واختلف عن مالك في ذلك إن مات من ذلك المرض فرواية ابن القاسم عنه : أنه لا يجوز ذلك الإقرار - وروى أبو قرة عن مالك : لا يجوز إلا في الشيء اليسير الذي يرى أنه لا يؤثر به لتفاهته . وروي عن مالك أيضا : أنه إن أقر لوارث بإربه لم يجز إقراره له ، فإن أقر لوارث عاق جاز إقراره له كالأجنبي . وقال في إقراره لزوجته بدين أو مهر : فإنه إن كان له ولد من غيرها ولم يعرف له انقطاع إلى الزوجة ، ولا ميل إليها فإقراره لها جائز من رأس المال ، فإن عرف له ميل إليها - وكان بينه وبين ولده من غيرها تفاقم - لم يجز إقراره لها . قال : وليس سائر الورثة في ذلك كالزوجة ؛ لأنه لا يتهم في الزوجة إذا لم يكن له إليها ميل أن يصرف ماله عن ولده إليها ، قال : فإن ورثه بنون أو إخوة لم يجز إقراره لبعضهم دون بعض في مرضه ، فإن لم يترك إلا ابنة ، وعصبة ، فأقر لبعض العصبة جاز ذلك . وقال : ولا يجوز إقراره لصديقه الملاطف إذا ورثه أبواه أو عصبته ، فإن ورثه ولد أو ولد ولد : جاز إقراره له . قال أبو محمد : هذه أقوال مبنية - بلا خلاف - على الظنون الزائغة وعلى التهمة الفاسدة وقد قال رسول الله ﷺ : { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } . وقال الله تعالى : { إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } . وكل هذه الأقوال لا تحفظ عن أحد قبله . ولا يخلو إقرار المريض عندهم إذا اتهموه فيه من أن يكون عندهم هبة أو يكون وصية - : فإن كان هبة ، فالهبة عندهم لبعض الورثة دون بعض جائزة من رأس المال وما جاء قط فرق بين هبة مريض ولا هبة صحيح . وإن كان وصية : فوصية الصحيح ، والمريض ، سواء لا تجوز إلا من الثلث - فظهر أن تفريقهم فاسد . فإن ذكروا حديث عتق الستة الأعبد ، وإقراع النبي ﷺ بينهم ، فأعتق اثنين وأرق أربعة ، فليس هذا من الإقرار في شيء أصلا - والإقرار إنما هو إخبار بحق ذكره - وليس عطية أصلا ، ولا وصية - وحديث الستة الأعبد سنذكره إن شاء الله تعالى في " العتق " بإسناده مبينا وبالله تعالى التوفيق .

1381 - مسألة : ومن قال : هذا الشيء - لشيء في يده - كان لفلان ، ووهبه لي ، أو قال : باعه مني - : صدق ، ولم يقض عليه بشيء ، لما ذكرنا قبل ، ولأن الأموال ، والأملاك بلا شك منتقلة من يد إلى يد : هذا أمر نعلمه يقينا . فلو قضي عليه ببعض إقراره هنا دون سائره لوجب إخراج جميع أملاك الناس عن أيديهم ، أو أكثرها ؛ لأنك لا تشك في الدور ، والأرضين ، والثياب المجلوبة والعبيد ، والدواب : أنها كانت قبل من هي بيده لغيره بلا شك ، وإن أمكن في بعض ذلك أن ينتجه فإن الأم وأم الأم - بلا شك - كانت لغيره . وكذلك الزريعة مما بيده مما ينبت - فظهر فساد هذا القول جملة . فإن قامت بينة في شيء مما بيده مما أقر به ، أو مما لم يقر به : أنه كان لغيره قضى به لذلك الغير حينئذ ، ولم يصدق على انتقال ما قامت به البينة لإنسان بعينه ألبتة إلا ببينة - وهذا متفق عليه ، { وقد حكم رسول الله ﷺ وقضى بالبينة للمدعي }

1382 - مسألة : ومن قال : لفلان عندي مائة دينار دين ولي عنده مائة قفيز قمح ، أو قال : إلا مائة قفيز تمر ، أو نحو ذلك ، أو إلا جارية - ولا بينة عليه بشيء ولا له - قوم القمح الذي ادعاه ، فإن ساوى المائة الدينار التي أقر بها ، أو ساوى أكثر : فلا شيء عليه - وإن ساوى أقل : قضي بالفضل فقط للذي أقر له . برهان ذلك - : أنه لم يقر له قط إقرارا تاما ، بل وصله بما أبطل به أول كلامه ، فلم يثبت له قط على نفسه شيئا . ولو جاز أن يؤخذ ببعض كلامه دون بعض لوجب أن يقتل من قال : لا إله إلا الله ؛ لأن نصف كلامه إذا انفرد - : كفر صحيح - وهو قوله " لا إله " فيقال له : كفرت ، ثم ندمت - وهو قول فاسد جدا ولوجب أيضا أن يبطل الاستثناء كله بمثل هذا ؛ لأنه إبطال لما أثبته بأول كلامه قبل أن يستثني ما استثنى . وقد قال قوم : إنما يجوز الاستثناء من نوع ما قبله لا من نوع غيره قال أبو محمد : وهذا باطل لأن الله تعالى يقول : { إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم } . وقال تعالى : { فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس } فاستثنى إبليس من الملائكة وليس منهم ، بل من الجن الذين ينسلون ، والملائكة لا تنسل ، واستثنى تعالى : { من ظلم } من المرسلين ، وليسوا من أهل صفتهم ، وقال الشاعر : وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس وليس " اليعافير " و " العيس " من " الأنيس " وقد استثناهم الشاعر العربي الفصيح .

===========

كتاب اللقطة والضالة والآبق وفيه مسألة واحدة وهي*1383 - مسألة: أحكام اللقطة والضالة والآبق


كتاب اللقطة والضالة والآبق

1383 - مسألة : من وجد مالا في قرية - أو مدينة ، أو صحراء في أرض العجم ، أو أرض العرب العنوة أو الصلح مدفونا أو غير مدفون إلا أن عليه علامة أنه من ضرب مدة الإسلام - أو وجد مالا - قد سقط - أي مال كان - : فهو لقطة ، وفرض عليه أخذه ، وأن يشهد عليه عدلا واحدا فأكثر ، ثم يعرفه ولا يأتي بعلامته ، لكن تعريفه هو أن يقول في المجامع الذي يرجو وجود صاحبه فيها أو لا يرجو : من ضاع له مال فليخبر بعلامته ، فلا يزال كذلك سنة قمرية ، فإن جاء من يقيم عليه بينة ، أو من يصف عفاصه ويصدق في صفته ، ويصف وعاءه ويصدق فيه ، ويصف رباطه ويصدق فيه ، ويعرف عدده ويصدق فيه ، أو يعرف ما كان له من هذا . أما العدد ، والوعاء ، إن كان لا عفاص له ولا وكاء ، أو العدد إن كان منثورا في غير وعاء - : دفعها إليه - كانت له بينة أو لم تكن . ويجبر الواجد على دفعه إليه ولا ضمان عليه بعد ذلك . ولو جاء من يثبته ببينة فإن لم يأت أحد يصدق في صفته بما ذكرنا ولا بينة فهو عند تمام السنة مال من مال الواجد - غنيا كان أو فقيرا يفعل فيه ما شاء ، ويورث عنه ، إلا أنه متى قدم من يقيم فيه بينة أو يصف شيئا مما ذكرنا فيصدق ضمنه له - إن كان حيا ، أو ضمنه له الورثة - إن كان الواجد له ميتا . فإن كان ما وجد شيئا واحدا كدينار واحد ، أو درهم واحد ، أو لؤلؤة واحدة ، أو ثوب واحد ، أو أي شيء كان كذلك لا رباط له ، ولا وعاء ، ولا عفاص - : فهو للذي يجده من حين يجده ويعرفه أبدا طول حياته ، فإن جاء من يقيم عليه بينة قط : ضمنه له فقط - هو أو ورثته بعده - وإلا فهو له ، أو لورثته يفعل فيه ما شاء من بيع أو غيره ، وكذلك ورثته بعده ولا يرد ما أنفذوا فيه . فإن كان ذلك في حرم مكة حرسها الله تعالى ، أو في رفقة قوم ناهضين إلى العمرة أو الحج : عرف أبدا ، ولم يحل له تملكه ، بل يكون موقوفا - فإن يئس بيقين عن معرفة صاحبه فهو في جميع مصالح المسلمين . برهان ذلك - : ما رويناه من طريق مسلم نا إسحاق بن منصور نا عبيد الله بن موسى العبسي عن شيبان عن يحيى - هو ابن أبي كثير - أخبرني أبو سلمة - هو ابن عبد الرحمن بن عوف - أخبرني أبو هريرة قال { : خطب رسول الله ﷺ عام فتح مكة فقال : إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها نبيه والمؤمنين ، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، ألا وإنها أحلت لي ساعة من النهار ، ألا وإنها ساعتي هذه حرام ، لا يخبط شوكها ، ولا يعضد شجرها ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد } . قال أبو محمد : مكة هي الحرم كله فقط ، وهي ذات الحرمة المذكورة ، لا ما عدا الحرم بلا خلاف - . ورويناه أيضا عن ابن عباس عن النبي ﷺ أيضا . ومن طريق مسلم ني أبو الطاهر نا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي : أن رسول الله ﷺ { نهى عن لقطة الحاج } قال أبو محمد : الحج في اللغة هو القصد ، ومنه سميت المحجة محجة ، فالقاصد من بيته إلى الحج أو العمرة هو فاعل للقصد الذي هو الحج إلى أن يتم جميع أعمال حجه أو عمرته لقول رسول الله ﷺ : { دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة } فإذا تمت فليس حاجا ، لكنه كان حاجا ، وقد حج - وبالله تعالى التوفيق . وروينا هذا عن عمر بن الخطاب ، وابن المسيب . روينا من طريق الحجاج بن المنهال نا الأسود بن شيبان عن أبي نوفل - هو ابن أبي عقرب - عن أبيه أنه أصاب بدرة بالموسم على عهد عمر بن الخطاب فعرفها فلم يعرفها أحد فأتى بها عمر عند النفر وقال له : قد عرفتها فأغنها عني قال : ما أنا بفاعل قال : يا أمير المؤمنين فما تأمرني ؟ قال : أمسكها حتى توافي بها الموسم قابلا ففعل ، فعرفها فلم يعرفها أحد ، فأتى بها عمر فأخبره : أنه قد وافاه بها كما أمره ، وعرفها فلم يعرفها أحد ، وقال له : أغنها عني ؟ قال له عمر : ما أنا بفاعل ، ولكن إن شئت أخبرتك بالمخرج منها ، أو سبيلها : إن شئت تصدقت بها ، فإن جاء صاحبها خيرته ، فإن اختار المال رددت عليه المال ، وكان الأجر لك ، وإن اختار الأجر كان لك نيتك فهذا فعل عمر في لقطة الموسم . وفعل في لقطة غير الموسم ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية أن معاوية بن عبد الله بن بدر الجهني أخبره ، أن أباه عبد الله - قال إسماعيل : وقد سمعت أن له صحبة - أقبل من الشام فوجد صرة فيها ذهب مائة فأخذها ، فجاء بها إلى عمر بن الخطاب ؟ فقال له عمر : انشدها الآن على باب المسجد ثلاثة أيام ، ثم عرفها سنة ، فإن اعترفت ، وإلا فهي لك ، قال : فعلت فلم تعرف ، فقسمتها بين امرأتين لي . ومن طريق الحجاج بن المنهال نا أبو عوانة عن قتادة قال : كنت أطوف بالبيت فوطئت على ذهب ، أو فضة ، فلم آخذه ، فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب ؟ فقال : بئس ما صنعت ، كان ينبغي لك أن تأخذه تعرفه سنة ، فإن جاء صاحبه رددته إليه ، وإلا تصدقت به على ذي فاقة ممن لا تعول .

وقال في لقطة غير الحرم ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية : أن زيد بن الأخنس الخزاعي أخبره أنه قال لسعيد بن المسيب : وجدت لقطة أفأتصدق بها ؟ قال : لا تؤجر أنت ولا صاحبها ، قلت : أفأدفعها إلى الأمراء ؟ قال : إذا يأكلونها أكلا سريعا قلت : وكيف تأمرني ؟ قال : عرفها سنة ، فإن اعترفت وإلا فهي لك كمالك فهذا سعيد بن المسيب يقول : بإيجاب أخذ اللقطة ولا بد ، ويراها بعد الحول قد صارت من مال الملتقط ، إلا لقطة مكة . وقولنا في لقطة مكة هو قول عبد الرحمن بن مهدي ، وأبي عبيد ، نا بذلك أحمد بن محمد بن الجسور قال : نا محمد بن عيسى بن رفاعة نا علي بن عبد العزيز نا أبو عبيد عن عبد الرحمن بن مهدي بذلك - وعن أبي عبيد من قوله . وأما ما عدا لقطة الحرم ، والحاج ، فلما روينا من طريق أبي داود نا مسدد نا خالد - هو الحذاء - عن أبي العلاء - هو يزيد بن عبد الله بن الشخير - عن مطرف - هو ابن عبد الله بن الشخير - عن عياض بن حمار المجاشعي قال : قال رسول الله ﷺ { من أخذ لقطة فليشهد ذا عدل ، أو ذوي عدل ، ولا يكتم ، ولا يغيب ، فإن وجد صاحبها فليردها عليه ، وإلا فهو مال الله عز وجل يؤتيه من شاء } . ورويناه من طريق هشيم عن خالد الحذاء بإسناده فقال : { فليشهد ذوي عدل } . قال أبو محمد : وزاد مسدد كما ذكرنا وليس شكا ، ولا يجوز أن يحمل شيء مما روي عن النبي ﷺ على أنه شك إلا بيقين أنه شك ، وإلا فظاهره الإسناد . ومن طريق حماد عن ربيعة عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني أن رسول الله ﷺ { سئل عن اللقطة فقال : اعرف عفاصها وعدتها ووعاءها ، فإن جاء صاحبها فعرفها فادفعها إليه وإلا فهي لك } . ومن طريق مسلم حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح نا ابن وهب نا الضحاك بن عثمان عن أبي النضر - هو مولى عمر بن عبيد الله - عن بسر بن سعيد عن زيد بن خالد الجهني قال { سئل رسول الله ﷺ عن اللقطة ؟ فقال : عرفها سنة فإن لم تعترف فاعرف عفاصها ووكاءها ، ثم كملها فإن جاء صاحبها فأدها إليه } . ومن طريق حماد بن سلمة نا سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة أن أبي بن كعب قال له : أنه سأل النبي ﷺ عن اللقطة ؟ فقال له رسول الله ﷺ : { اعرف عددها ، ووكاءها ، ووعاءها ، ثم استمتع بها ، فإن جاء صاحبها فعرف عددها ووكاءها ووعاءها فأعطها إياه وإلا فهي لك } وأما الشيء الواحد الذي لا وكاء له ، ولا عفاص ، ولا وعاء فلأن رسول الله ﷺ إنما أمر بتعريف السنة فيما له عدد ، وعفاص ، ووكاء ، أو بعض هذه - فأما ما لا عفاص له ، ولا وعاء ، ولا وكاء ، ولا عدد : فهو خارج من هذا الخبر ، وحكمه في حديث عياض بن حمار : فحكمه أن ينشد ذلك أبدا لقوله عليه السلام { لا يكتم ولا يغيب } ولقوله عليه السلام { هو مال الله يؤتيه من يشاء } فقد آتاه الله واجده روينا من طريق أحمد بن شعيب نا محمد بن رافع نا حجين بن المثنى نا عبد العزيز - هو ابن أبي سلمة - الماجشون عن عبد الله بن الفضل عن سلمة بن كهيل قال : كان سويد بن غفلة ، وزيد بن صوحان وثالث معهما في سفر فوجد أحدهم - هو سويد بلا شك - سوطا فأخذه ، فقال له صاحباه : ألقه فقال : أستمتع به فإن جاء صاحبه أديته إليه خير من أن تأكله السباع - فلقي أبي بن كعب فذكر ذلك له فقال : أصبت وأخطآ - ففي هذا أن أبي بن كعب رأى وجوب أخذ اللقطة . قال أبو محمد : فيما ذكرنا اختلاف ، فمن ذلك أن قوما قالوا : لا تؤخذ اللقطة أصلا ، وقال آخرون : مباح أخذها وتركها مباح ، فأما من نهى عن أخذها فلما ذكرنا آنفا . وكما روينا عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن جعفر بن ربيعة أن الوليد بن سعد حدثه قال : كنت مع ابن عمر فرأيت دينارا فذهبت لآخذه فضرب ابن عمر يدي وقال : ما لك وله اتركه . ومن طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس لا ترفع اللقطة لست منها في شيء ، تركها خير من أخذها . ومن طريق سفيان الثوري عن إبراهيم بن عبد الأعلى سئل سعيد بن جبير عن الفاكهة توجد في الطريق ؟ قال : لا تؤكل إلا بإذن ربها . وعن الربيع بن خيثم أنه كره أخذ اللقطة . وعن شريح أنه مر بدرهم فتركه . وقال أبو حنيفة ، ومالك : كلا الأمرين مباح ، والأفضل أخذها . وقال الشافعي مرة : أخذها أفضل - ومرة قال : الورع تركها . قال أبو محمد : أما من أباح كلا الأمرين فما نعلم له حجة أصلا ، فإن حملوا أمره عليه السلام بأخذها على الندب ؟ قيل لهم : فاحملوا أمره بتعريفها على الندب ولا فرق . فإن قالوا : أموال الناس محرمة ؟ قلنا : وإضاعتها محرمة ولا فرق . وأما من منع من أخذها ؟ فإنهم احتجوا بقول رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فقلنا لهم : نعم ، وما أمرناه باستحلالها أصلا ، لكن أمرناه بالمفترض عليه من حفظها وترك إضاعتها المحرمة عليه ، ثم جعلناها له حيث جعلها له الذي حرم أموالنا علينا إلا بما أباحها لنا ، لا يجوز ترك شيء من أوامره ﷺ فهو أولى بنا من أنفسنا ، وقد كفر من وجد في نفسه حرجا مما قضى . واحتجوا أيضا بحديث المنذر بن جرير عن أبيه عن النبي ﷺ : { لا يأوي الضالة إلا ضال } وبحديث أبي مسلم الجرمي - أو الحرمي - عن الجارود عن النبي ﷺ قال : { ضالة المسلم حرق النار } . وهذان خبران لا يصحان ؛ لأن المنذر بن جرير ، وأبا مسلم الجرمي أو الحرمي - غير معروفين ، لكن { ضالة المسلم حرق النار } قد صح من طريق أخرى وهذا لفظ مجمل فسره سائر الآثار - وهو خبر رويناه من طريق حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أنه سأل رسول الله ﷺ عن ضوال الإبل ؟ فقال عليه السلام : { ضالة المسلم حرق النار } وهم أول مخالف ، فأمروا بأخذ ضوال الإبل ، ثم لو صحا لما كان لهم فيهما حجة ؛ لأن إيواء الضالة بخلاف ما أمر به النبي ﷺ حرق النار ، وضلال بلا شك ، وما أمرناه قط بإيوائها مطلقا ، لكن بتعريفها وضمانها في الأبد ، وقد جاء بهذا حديث أحسن من حديثهم : كما روينا من طريق ابن وهب حدثني عمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة عن أبي سالم الجيشاني عن زيد بن خالد الجهني عن رسول الله ﷺ [ أنه قال ] : { من أخذ لقطة فهو ضال ما لم يعرفها } .

ومنها مدة التعريف ، وقد روينا عن عمر رضي الله عنه التعريف ثلاثة أيام على باب المسجد ، ثم سنة - وبه يقول الليث بن سعد . ويحتج لهذا القول بما روينا من طريق أحمد بن شعيب نا يزيد بن محمد بن عبد الصمد نا علي بن عياش نا الليث - هو ابن سعد - حدثني من أرضى عن إسماعيل بن أمية عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن رجل من أصحاب رسول الله ﷺ عن النبي ﷺ أنه قال - وقد سئل عن الضالة - : { اعرف عفاصها ووكاءها ، ثم عرفها ثلاثة أيام على باب المسجد ، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه ، وإن لم يأت فعرفها سنة ، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها } . وهذا حديث هالك ؛ لأن الليث لم يسم من أخذ عنه وقد يرضى الفاضل من لا يرضى ، هذا سفيان الثوري يقول : لم أر أصدق من جابر الجعفي - وجابر مشهور بالكذب . ثم هو خطأ ؛ لأنه قال فيه : عن عبد الله بن يزيد وإنما هو عن يزيد لا عن عبد الله بن يزيد . ووجه آخر كما روينا من طريق حماد بن سلمة نا يحيى بن سعيد - هو الأنصاري - عن معاوية بن عبد الله بن بدر قال : وجد أبي في مبرك بعير مائة دينار فسأل عمر بن الخطاب عن ذلك ؟ فقال له : عرفها عاما ، فعرفها عاما فلم يجد لها عارفا ؟ فقال له عمر : عرفها ثلاثة أعوام ، فلم يجد لها عارفا ، فقال له عمر : هي لك . ويحتج لهذا بما رويناه من طريق أحمد بن شعيب نا محمد بن قدامة نا جرير عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة قال : قال لي أبي بن كعب : { التقطت صرة فيها مائة دينار فأتيت بها رسول الله ﷺ فقال : عرفها حولا فعرفتها حولا ، فقلت : يا رسول الله قد عرفتها حولا فقال : عرفها سنة أخرى فعرفتها سنة أخرى ثم قلت : يا رسول الله عرفتها سنة فقال : عرفها سنة أخرى فعرفتها سنة أخرى ثم أخبرته عليه السلام بذلك ، فقال : انتفع بها واعرف وكاءها وخرقتها واحص عددها فإن جاء صاحبها } قال جرير : لم أحفظ ما بعد هذا . وهكذا رويناه من طريق زيد بن أبي أنيسة ، وعبيد الله بن عمر الرقيين كلاهما عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ . قال أبو محمد : هذا حديث ظاهره صحة السند ، إلا أن سلمة بن كهيل أخطأ فيه بلا شك ؛ لأننا رويناه من طريق حماد بن سلمة عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ فقال فيه : فلم أجد لها عارفا عامين أو ثلاثة . وروينا من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عبد الله بن الفضل عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ فقال فيه : { عرفها عاما } قال : فعرفتها ، فلم تعترف ، فرجعت فقال : { عرفها عاما مرتين أو ثلاثا } فهذا شك من سلمة بن كهيل . ثم رويناه من طريق مسلم بن الحجاج قال : حدثني أبو بكر بن نافع نا غندر نا شعبة عن سلمة بن كهيل قال : سمعت سويد بن غفلة قال : لقيت أبي بن كعب فذكر . الحديث وأن رسول الله ﷺ قال له : { عرفها حولا ، فعرفتها فلم أجد من يعرفها ، ثم أتيته فقال : عرفها حولا ، فلم أجد من يعرفها ثم أتيته فقال : عرفها حولا فلم أجد من يعرفها } ، وذكر باقي الحديث : قال شعبة : فلقيته بعد ذلك بمكة فقال : لا أدري ثلاثة أحوال أو حول واحد فهذا تصريح من سلمة بن كهيل بالشك ، والشريعة لا تؤخذ بالشك . ورويناه أيضا من طريق مسلم حدثني عبد الرحمن بن بشر العبدي نا بهز - هو ابن أسد - نا شعبة نا سلمة بن كهيل قال : سمعت سويد بن غفلة فاقتص الحديث - قال شعبة : فسمعته بعد عشر سنين يقول : عرفها عاما واحدا . فصح أن سلمة بن كهيل تثبت واستذكر ، فثبت على عام واحد ، بعد أن شك ، فصح أنه وهم ثم استذكر ، فشك ثم استذكر فتيقن ، وثبت وجوب تعريف العام وبطل تعريف ما زاد - والحمد لله رب العالمين . قال أبو محمد : وههنا أثران آخران - أحدهما : رويناه من طريق عبد الرزاق عن أبي بكر - هو ابن أبي ميسرة - عن شريك بن عبد الله عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري { أن عليا جاء إلى رسول الله ﷺ بدينار وجده في السوق فقال النبي ﷺ عرفه ثلاثا ففعل فلم يجد أحدا يعترفه فقال له النبي ﷺ : كله فذكر الحديث كله - وفي آخره فجعل أجل الدينار وشبهه ثلاثة أيام } لهذا الحديث قال أبو محمد : لا ندري من كلام من هذه الزيادة ، وهذا خبر سوء لأنه من طريق ابن أبي سبرة وهو مشهور بوضع الحديث والكذب ، عن شريك وهو مدلس يدلس المنكرات عن الضعفاء إلى الثقات . وروي من طريق إسرائيل عن عمر بن عبد الله بن يعلى عن جدته حكيمة عن أبيها أن رسول الله ﷺ قال : { من التقط لقطة يسيرة درهما أو حبلا أو شبه ذلك فليعرفه ثلاثة أيام ، فإن كان فوق ذلك فليعرفه ستة أيام } وهذا لا شيء : إسرائيل ضعيف ، وعمر بن عبد الله مجهول ، وحكيمة عن أبيها أنكر وأنكر ، ظلمات بعضها فوق بعض . قال أبو محمد : روينا عن مالك ، والشافعي ، وأبي سليمان ، والأوزاعي تعريف اللقطة سنة - وهو القول الظاهر عن أبي حنيفة ، وقد روي عنه خلافه . وروي عن عمر بن الخطاب أيضا : تعريف اللقطة ثلاثة أشهر . وروي أيضا عنه من طريق شريك عن أبي يعقوب العبدي عن أبي شيخ العبدي عن زيد بن صوحان العبدي أن عمر أمر أن يعرف قلادة التقطها أربعة أشهر ، فإن جاء من يعرفها وإلا وضعها في بيت المال - فهذه عن عمر رضي الله عنه خمسة أقوال . وروى أبو نعيم عن سفيان الثوري من التقط درهما فإنه يعرفه أربعة أيام وقال الحسن بن حي ، وأبو حنيفة في رواية هشام بن عبيد الله الرازي عن محمد بن الحسن عنه : أن ما بلغ عشرة دراهم فصاعدا فإنه يعرف سنة . واختلفا فيما كان أقل فقال الحسن بن حي : يعرف ثلاثة أيام . وقال أبو حنيفة : يعرف على قدر ما يرى الملتقط - وهذه آراء فاسدة كما ترى ، ومنها : دفع اللقطة إلى من عرف العفاص ، والوكاء ، والعدد ، والوعاء فقال مالك ، وأبو سليمان كما قلنا . وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا يدفعها إليه بذلك ، فإن فعل ضمنها ؛ لأنه قد يسمع صاحبها يصفها فيعرف صفتها فيأتي بها - . واحتجوا في ذلك بأن رسول الله ﷺ أوجب البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ، ونهى عن أن يعطى أحد بدعواه . وقال عليه السلام : { شاهداك أو يمينه ليس لك غير ذلك } . قال أبو محمد : هذا كله حق ، والذي قاله هو الذي أمر بأن تعطى اللقطة من عرف العفاص ، والوكاء ، والعدد ، والوعاء ، وليس كلامه متعارضا ، ولا حكمه متناقضا ، ولا يحل ضرب بعضه ببعض ، ولا ترك بعضه وأخذ بعض ، فكله حق ، وكله وحي من عند الله عز وجل ، وهم مجمعون معنا على أن المدعى عليه إن أقر قضي عليه بغير بينة ، فقد جعلوا للمدعي شيئا غير الشاهدين أو يمين المدعى عليه . فإن قالوا : قد صح الحكم بالإقرار ؟ قلنا : وقد صح دفع اللقطة بأن يصف المدعي وكاءها ، وعددها ، وعفاصها ووعاءها ، ولا فرق ، وليس كل الأحكام توجد في خبر واحد ، ولا تؤخذ من خبر واحد ، ولكن تضم السنن بعضها إلى بعض ويؤخذ بها كلها ، ولو أن الحنفيين اعترضوا أنفسهم بهذه الاعتراضات في قبولهم امرأة واحدة في عيوب النساء ، والولادة ، ولو عارضوا أنفسهم بهذا في حكمهم للزوجين يختلفان في متاع البيت أن ما أشبه أن يكون للرجال كان للرجل مع يمينه ، وما أشبه أن يكون للنساء كان للمرأة بيمينها بغير بينة ، ولا يحكمون بذلك في الأخت والأخ يختلفان في متاع البيت الذي هما فيه ، ولو عارضوا أنفسهم بهذا الاعتراض في قولهم : إن من ادعى لقيطا هو وغيره فأتى بعلامات في جسده قضي له به ، ولا يقضون بذلك فيمن ادعى مع آخر عبدا فأتى أحدهما بعلامات في جسده ؟ وفي قولهم : لو أن مستأجر الدار تداعى مع صاحب الدار في جذوع موضوعة في الدار وأحد مصراعين في الدار : أن تلك الجذوع إن كانت تشبه الجذوع التي في البناء والمصراع القائم كان كل ذلك لصاحب الدار بلا بينة - وسائر تلك التخاليط التي لا تعقل ، ثم لا يبالون بمعارضة أوامر رسول الله ﷺ بآرائهم الفاسدة . وأما الشافعي فإنه قضى في القتيل يوجد في محلة أقوام أعداء له أن المدعين بقتله عليه يحلفون خمسين يمينا ثم يقضى لهم بالدية فأعطاهم بدعواهم . فإن قالوا : إن السنة جاءت بهذا ؟ قلنا لهم : والسنة جاءت بدفع اللقطة إلى من عرف عفاصها ، ووكاءها ، وعددها ، ووعاءها - ولا فرق . وقالوا : قد قال رسول الله ﷺ { فإن جاء صاحبها فأدها إليه } قلنا : نعم ، وصاحبها هو الذي أمر عليه السلام بدفعها إليه إذا وصف ما ذكرنا . وأما قولهم : قد يسمعها متحيل ؟ فيقال لهم : وقد تكذب الشهود ولا فرق . وقالوا : قد قال أبو داود السجستاني : هذه الزيادة - فإن عرف عفاصها ووكاءها ، وعددها ، فادفعها إليه - : غير محفوظة . قال أبو محمد : وهذا لا شيء ، ولا يجوز أن يقال فيما رواه الثقات مسندا : هذا غير محفوظ - ولا يعجز أحد عن هذه الدعوى فيما شاء من السنن الثوابت . وقد أخذ الحنفيون بزيادة جاءت في حديث حماد بن سلمة في الزكاة - وهي ساقطة غير محفوظة - ولو صح إسنادها ما قلنا فيه : غير محفوظ . وأخذوا بخبر الاستسعاء ، وقد قال من هو أجل من أبي داود : وليس الاستسعاء محفوظا وإنما هو من كلام ابن أبي عروبة . وأخذوا بالخبر { من ملك ذا رحم محرمة فهو حر } وجمهور أصحاب الحديث يقولون : إنه غير محفوظ . وأخذ الشافعي في زكاة الفطر باللفظة التي ذكرها من لا يعتد به { ممن تعولون } وهي بلا شك ساقطة غير محفوظة - ولو صحت من طريق الإسناد ما استحللنا أن نقول فيها : غير محفوظة . ثم نقول : أخطأ أبو داود في قوله : هي غير محفوظة - بل هي محفوظة ؛ لأنها لو لم يروها إلا حماد بن سلمة وحده لكفى ، لثقته وإمامته - وكيف وقد وافقه عليها سفيان الثوري عن ربيعة عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني عن النبي ﷺ . وسفيان أيضا عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ فبطل قول من قال : هي غير محفوظة ، بل هي مشهورة محفوظة .

--------------

الاثنين، 21 مارس 2022

المحلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب المزارعة والمغارسة (مسألة 1328 - 1329) وتابعه من(مسألة 1330 - 1342)/ الاتي في الصفحة التالية بمشيئة الله كتاب المعاملة في الثمار

كتاب المزارعة والمغارسة

المحلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب المزارعة والمغارسة (مسألة 1328 - 1329) وتابعه من(مسألة 1330 - 1342)

فهارس كتاب المزارعة والمغارسة
1328 - مسألة: الإكثار من الزرع والغرس حسن وأجر
1329 - مسألة: لا يجوز كراء الأرض بشيء أصلا لا بدنانير، ولا بدراهم
1330 - مسألة: والتبن في المزارعة بين صاحب الأرض وبين العامل
1331 - مسألة: في تطوع صاحب الأرض بأن يسلف العامل بذرا بغير شرط جاز
1332 - مسألة: فإن اتفقا تطوعا على شيء يزرع في الأرض فحسن
1333 - مسألة: ولا يحل عقد المزارعة إلى أجل مسمى
1334 - مسألة: وأيهما شاء ترك العمل فله ذلك
1335 - مسألة: إذا أراد صاحب الأرض إخراج العامل بعد أن زرع
1336 - مسألة: إن أراد أحدهما ترك العمل وقد حرث، وقلب
1337 - مسألة: إذا كان العامل هو المريد للخروج فله ذلك
1338 - مسألة: من أصاب منهما ما تجب فيه الزكاة فعليه الزكاة
1339 - مسألة: إذا وقعت المعاملة فاسدة
المغارسة
1340 - مسألة: فيمن دفع أرضا له بيضاء إلى إنسان ليغرسها له
1341 - مسألة: فيمن أراد العامل الخروج قبل أن ينتفع فيما غرس بشيء
1342 - مسألة: من عقد مزارعة ثم انتقل ملك الأرض إلى غير المعاقد

==


قلت المدون بداية : كتاب المزارعة والمغارسة

1328 - مسألة : الإكثار من الزرع والغرس حسن وأجر ، ما لم يشغل ذلك عن الجهاد - وسواء كان كل ذلك في أرض العرب ، أو الأرض التي أسلم أهلها عليها ، أو أرض الصلح ، أو أرض العنوة المقسومة على أهلها أو الموقوفة بطيب الأنفس لمصالح المسلمين - : روينا من طريق البخاري نا قتيبة بن سعيد نا أبو عوانة عن قتادة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ﷺ { ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طائر أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة } . ورويناه أيضا من طريق الليث أنه سمع أبا الزبير أنه سمع جابرا عن النبي ﷺ بمثله - فعم عليه السلام ولم يخص . وكره مالك الزرع في أرض العرب - وهذا خطأ ، وتفريق بلا دليل - واحتج لهذا بعض مقلديه بما رويناه من طريق البخاري نا عبد الله بن يوسف نا عبد الله بن سالم الحمصي نا محمد بن زياد الألهاني { عن أبي أمامة الباهلي : أنه رأى سكة وشيئا من آلة الحرث فقال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : لا يدخل هذا بيت قوم إلا دخله الذل } . قال أبو محمد : لم تزل الأنصار كلهم ، وكل من قسم له النبي ﷺ أرضا من فتوح بني قريظة ، ومن أقطعه أرضا من المهاجرين يزرعون ويغرسون بحضرته ﷺ وكذلك كل من أسلم من أهل البحرين ، وعمان ، واليمن ، والطائف ، فما حض عليه السلام قط على تركه . وهذا الخبر عموم كما ترى لم يخص به غير أهل بلاد العرب من أهل بلاد العرب ، وكلامه عليه السلام لا يتناقض . فصح أن الزرع المذموم الذي يدخل الله تعالى على أهله الذل هو ما تشوغل به عن الجهاد ، وهو غير الزرع الذي يؤجر صاحبه ، وكل ذلك حسنه ومذمومه سواء - كان في أرض العرب أو في أرض العجم - إذ السنن في ذلك على عمومها . واحتجوا أيضا بما روينا من طريق أسد بن موسى عن محمد بن راشد عن مكحول : أن المسلمين زرعوا بالشام ، فبلغ عمر بن الخطاب ، فأمر بإحراقه وقد ابيض ، فأحرق ، وأن معاوية تولى حرقه . ومن طريق أسد بن موسى عن شرحبيل بن عبد الرحمن المرادي : أن عمر بن الخطاب قال لقيس بن عبد يغوث المرادي : لا آذن لك بالزرع إلا أن تقر بالذل ، وأمحو اسمك من العطاء - وأن عمر كتب إلى أهل الشام من زرع واتبع أذناب البقر ورضي بذلك جعلت عليه الجزية . قال أبو محمد : هذا مرسل ، وأسد ضعيف ، ويعيذ الله أمير المؤمنين من أن يحرق زروع المسلمين ويفسد أموالهم ، ومن أن يضرب الجزية على المسلمين ، والعجب ممن يحتج بهذا ، وهو أول مخالف له

1329 - مسألة : لا يجوز كراء الأرض بشيء أصلا لا بدنانير ، ولا بدراهم ، ولا بعرض ، ولا بطعام مسمى ، ولا بشيء أصلا . ولا يحل في زرع الأرض إلا أحد ثلاثة أوجه - : إما أن يزرعها المرء بآلته وأعوانه وبذره وحيوانه . وإما أن يبيح لغيره زرعها ولا يأخذ منه شيئا ، فإن اشتركا في الآلة والحيوان ، والبذر ، والأعوان دون أن يأخذ منه للأرض كراء فحسن . وإما أن يعطي أرضه لمن يزرعها ببذره وحيوانه وأعوانه وآلته بجزء ويكون لصاحب الأرض مما يخرج الله تعالى منها مسمى ، إما نصف ، وإما ثلث ، أو ربع ، أو نحو ذلك أكثر أو أقل ، ولا يشترط على صاحب الأرض ألبتة شيء من كل ذلك ، ويكون الباقي للزارع قل ما أصاب أو كثر فإن لم يصب شيئا فلا شيء له ، ولا شيء عليه ، فهذه الوجوه جائزة ، فمن أبى فليمسك أرضه . برهان ذلك - : أننا قد روينا عن الأوزاعي عن عطاء عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال : { من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها فإن أبى فليمسك أرضه } . ومن طريق رافع بن خديج عن عمه ظهير بن رافع عن رسول الله ﷺ مثله . ومن طريق رافع عن عم له بدري عن النبي ﷺ مثله . ومن طريق البخاري نا سليمان بن حرب نا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما { أنه كان يكري مزارعه قال : فذهب إلى رافع بن خديج وذهبت معه فسأله فقال رافع : نهى رسول الله ﷺ عن كراء الأرض } . ومن طريق مسلم نا محمد بن حاتم نا معلى بن منصور الرازي نا خالد - وهو الحذاء - نا الشيباني - هو أبو إسحاق - عن بكير بن الأخنس عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال : { نهى رسول الله ﷺ أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ } . ومن طريق مسلم نا أبو توبة - هو الربيع بن نافع - نا معاوية - هو ابن سلام - عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : { من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه ، فإن أبى فليمسك أرضه } . ومن طريق ابن وهب نا مالك بن أنس عن داود بن الحصين أن أبا سفيان مولى ابن أبي أحمد أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول { نهى رسول الله ﷺ عن المزابنة والمحاقلة قال : والمحاقلة كراء الأرض } . ومن طريق حماد بن سلمة نا عمرو بن دينار قال : سمعت عبد الله بن عمر بن الخطاب يقول { نهى رسول الله ﷺ عن كراء الأرض } . فهؤلاء شيخان بدريان ، ورافع بن خديج ، وجابر ، وأبو سعيد ، وأبو هريرة ، وابن عمر كلهم يروي عن النبي عليه السلام النهي عن كراء الأرض جملة ، وأنه ليس إلا أن يزرعها صاحبها أو يمنحها غيره أو يمسك أرضه فقط ، فهو نقل تواتر موجب للعلم المتيقن فأخذ بهذا طائفة من السلف . كما روينا من طريق ابن وهب أخبرني عمرو - هو ابن الحارث - أن بكيرا - هو ابن الأشج - حدثه قال : حدثني نافع مولى ابن عمر أنه سمع ابن عمر يقول : كنا نكري أرضنا ، ثم تركنا ذلك حين سمعنا حديث رافع بن خديج . ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع عن عكرمة بن عمار عن عطاء عن جابر أنه كره كراء الأرض . ومن طريق أبي داود السجستاني قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني قلت : أحدثكم عبد الله بن المبارك عن سعيد أبي شجاع حدثني عيسى بن سهل بن رافع قال : إني يتيم في حجر جدي رافع بن خديج ، وحججت معه ، فجاءه أخي عمران بن سهل قال : أكرينا أرضنا فلانة بمائتي درهم ؟ فقال : دعه فإن { النبي ﷺ نهى عن كراء الأرض } وعن عمي رافع نحوه . ومن التابعين - : كما رويناه من طريق ابن أبي شيبة نا وكيع نا سفيان عن منصور عن مجاهد قال : لا يصلح من الزرع إلا أرض تملك رقبتها ، أو أرض يمنحكها رجل . وعن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بن منصور عن مجاهد أنه كره إجارة الأرض . وبه إلى وكيع عن يزيد بن إبراهيم ، وإسماعيل بن مسلم عن الحسن : أنه كره كراء الأرض . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان يكره كراء الأرض البيضاء . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري أن عكرمة مولى ابن عباس قال : لا يصلح كراء الأرض . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا عمرو بن علي نا أبو عاصم نا عثمان بن مرة قال : سألت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن كراء الأرض ؟ فقال رافع بن خديج : { نهى رسول الله ﷺ عن كراء الأرض } . قال أبو محمد : فأفتى من استفتاه بالنهي عن كراء الأرض . ومن طريق ابن الجهم نا إبراهيم الحربي نا خلاد بن أسلم نا النضر بن شميل عن هشام بن حسان قال : كان محمد بن سيرين يكره كراء الأرض بالذهب والفضة . وبه إلى إبراهيم الحربي نا داود بن رشيد نا الوليد بن مسلم نا الأوزاعي قال : كان عطاء ، ومكحول ، ومجاهد ، والحسن البصري يقولون : لا تصلح الأرض البيضاء بالدراهم ولا بالدنانير ولا معاملة إلا أن يزرع الرجل أرضه أو يمنحها . ومن طريق شعبة نا أبو إسحاق السبيعي عن الشعبي عن مسروق أنه كان يكره الزرع . قال الشعبي : فذلك الذي منعني ولقد كنت من أكثر أهل السواد ضيعة - وهذا يقتضي - ولا بد - ضرورة أنهما كانا يكرهان إجارة الأرض جملة . فهؤلاء : عطاء ، ومجاهد ، ومسروق ، والشعبي ، وطاوس ، والحسن ، وابن سيرين والقاسم بن محمد ، كلهم ، لا يرى كراء الأرض أصلا لا بدنانير ولا بدراهم ، ولا بغير ذلك . فصح النهي عن كراء الأرض جملة ، ثم وجدنا قد صح ما رويناه من طريق البخاري نا إبراهيم بن المنذر نا أنس بن عياض عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه أخبره { أن رسول الله ﷺ عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر } . ومن طريق البخاري نا موسى بن إسماعيل نا جويرية - هو ابن أسماء - عن نافع عن عبد الله بن عمر قال : { أعطى النبي ﷺ خيبر اليهود على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها } . ومن طريق مسلم نا ابن رمح نا الليث - هو ابن سعد - عن محمد بن عبد الرحمن عن نافع عن ابن عمر { عن النبي ﷺ أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم ولرسول الله ﷺ نصف ثمرها } . ومن طريق مسلم حدثني محمد بن رافع نا عبد الرزاق نا ابن جريج حدثني موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال : { لما ظهر رسول الله ﷺ على خيبر أراد إخراج اليهود عنها ، فسألوه عليه السلام أن يقرهم بها على أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمر ؟ فقال لهم رسول الله ﷺ : نقركم بها على ذلك ما شئنا فقروا بها حتى أجلاهم عمر } . ففي هذا أن آخر فعل رسول الله ﷺ إلى أن مات كان إعطاء الأرض بنصف ما يخرج منها من الزرع ومن الثمر ومن الشجر ، وعلى هذا مضى أبو بكر ، وعمر ج، وجميع الصحابة رضي الله عنهم معهم ، فوجب استثناء الأرض ببعض ما يخرج منها من جملة ما صح النهي عنه من أن تكرى الأرض أو يؤخذ لها أجر أو حظ ، وكان هذا العمل المتأخر ناسخا للنهي المتقدم عن إعطاء الأرض ببعض ما يخرج منها ؛ لأن النهي عن ذلك قد صح ، فلولا أنه قد صح لقلنا : ليس نسخا ، لكنه استثناء من جملة النهي ، ولولا أنه قد صح أن رسول الله ﷺ مات على هذا العمل لما قطعنا بالنسخ ، لكن ثبت أنه آخر عمله عليه السلام . فصح أنه نسخ صحيح متيقن لا شك فيه ، وبقي النهي عن الإجارة جملة بحسبه ، إذ لم يأت شيء ينسخه ولا يخصصه ألبتة إلا بالكذب البحت ، أو الظن الساقط الذي لا يحل استعماله في الدين . فإن قيل : إنما صح عن النبي ﷺ النهي عن أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ ، وعن أن تكرى بثلث أو بربع ، وصح أنه أعطاه بالنصف فأجيزوا إعطاءها بالنصف خاصة وامنعوا من إعطائها بأقل أو أكثر ؟ قلنا : لا يجوز هذا ؛ لأنه إذا أباح عليه السلام إعطاءها بالنصف لهم والنصف للمسلمين وله عليه السلام ، فبضرورة الحس ، والمشاهدة يدري كل أحد أن الثلث ، والربع ، وما دون ذلك ، وفوق ذلك من الأجزاء مما دون النصف داخل في النصف ، فقد أعطاها عليه السلام بالربع وزيادة وبالثلث وزيادة ، فصح أن كل ذلك مباح بلا شك - وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : وممن أجاز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما يخرج منها - : روينا من طريق ابن أبي شيبة نا ابن زائدة عن حجاج عن أبي جعفر محمد بن علي قال : { عامل رسول الله ﷺ أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي } . وروينا من طريق البخاري قال : عامل عمر بن الخطاب الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الحارث بن حصيرة حدثني صخر بن الوليد عن عمرو بن صليع أن رجلا قال لعلي بن أبي طالب : أخذت أرضا بالنصف أكري أنهارها وأصلحها وأعمرها ؟ قال علي : لا بأس بها . قال عبد الرزاق : كراء الأنهار هو حفرها . ومن طريق حماد بن سلمة عن خالد الحذاء أنه سمع طاوسا يقول : قدم علينا معاذ بن جبل فأعطى الأرض على الثلث والربع ، فنحن نعملها إلى اليوم . قال أبو محمد : مات رسول الله ﷺ ومعاذ باليمن على هذا العمل . ومن طريق عبد الرزاق قال سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن مجاهد قال : كان ابن عمر يعطي أرضه بالثلث ، وهذا عنه في غاية الصحة . وقد ذكرنا عنه رجوعه عن إباحة كراء الأرض . ومن طريق الحجاج بن المنهال نا أبو عوانة عن كليب بن وائل قال : سألت ابن عمر ؟ فقلت : أرض تقبلتها ليس فيها نهر جار ولا نبات عشر سنين بأربعة آلاف درهم كل سنة كريت أنهارها ، وعمرت فيها قراها ، وأنفقت فيها نفقة كثيرة ، وزرعتها لم ترد علي رأس مالي زرعتها من العام المقبل فأضعف ؟ قال ابن عمر : لا يصلح لك إلا رأس مالك . ومن طريق ابن أبي شيبة نا يحيى بن أبي زائدة ، وأبو الأحوص ، كلاهما عن كليب بن وائل قلت لابن عمر : رجل له أرض ، وماء ، ليس له بذر ، ولا بقر ، فأعطاني أرضه بالنصف ، فزرعتها ببذري وبقري ، ثم قاسمته ؟ قال : حسن . ومن طريق سعيد بن منصور نا أبو الأحوص ، وعبيد الله بن إياد بن لقيط كلاهما عن كليب بن وائل مثله أيضا - فهذان إسنادان في غاية الصحة - عن ابن عمر أنه سأله كليب بن وائل عن كراء الأرض بالدراهم ؟ فلم يجزه ولا أجاز ما أصاب فيها زيادة على قدر ما أنفق ، وسأله عن أخذها بالنصف مما يخرج فيها ، لا يجعل صاحبها فيها لا بذرا ولا عملا ويكون العمل كله على العامل والبذر ؟ فأجازه - وهذا هو نفس قولنا - ولله الحمد . ومن طريق سفيان ، وأبي عوانة وأبي الأحوص وغيرهم كلهم عن إبراهيم بن مهاجر عن موسى بن طلحة بن عبيد الله أنه شاهد جاريه سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن مسعود يعطيان أرضهما على الثلث . ومن طريق حماد بن سلمة عن الحجاج بن أرطاة عن عثمان بن عبد الله بن موهب عن موسى بن طلحة : أن خباب بن الأرت ، وحذيفة بن اليمان ، وابن مسعود كانوا يعطون أرضهم البياض على الثلث والربع . فهؤلاء أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وسعد ، وابن مسعود ، وخباب ، وحذيفة ، ومعاذ بحضرة جميع الصحابة . ومن التابعين - : من طريق عبد الرزاق نا معمر أخبرني من سأل القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن الأرض تعطى بالثلث ، والربع ؟ فقال : لا بأس به . وقد ذكرنا قبل نهيه عن كراء الأرض وهذا نص قولنا . ومن طريق ابن أبي شيبة نا الفضيل بن عياض عن هشام - هو ابن حسان - عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وابن سيرين : أنهما كانا لا يريان بأسا أن يعطي أرضه على أن يعطيه الثلث ، أو الربع ، والعشر ، ولا يكون عليه من النفقة شيء . ومن طريق أحمد بن شعيب النسائي نا محمد بن عبد الله بن المبارك نا زكريا بن عدي نا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار قال : كان طاوس يكره أن يؤاجر أرضه بالذهب والفضة ، ولا يرى بالثلث والربع بأسا وهذا نص قولنا . ومن طريق حماد بن سلمة عن قتادة : أن سعيد بن المسيب ، وابن سيرين كانا لا يريان بأسا بالإجارة على الثلث والربع - يعني في الأرض - . وقد ذكرنا نهي ابن سيرين عن كراء الأرض فقوله هو قولنا . ومن طريق حماد بن سلمة عن حميد عن إياس بن معاوية أن عمر بن عبد العزيز كتب : أن أعطوا الأرض على الربع ، والثلث ، والخمس ، إلى العشر ، ولا تدعوا الأرض خرابا . ورويناه أيضا من طريق ابن أبي شيبة قال : نا حفص بن غياث ، وعبد الوهاب الثقفي قال حفص : عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، وقال عبد الوهاب : عن خالد الحذاء ثم اتفق يحيى ، وخالد على أن عمر بن عبد العزيز أمر بإعطاء الأرض بالثلث ، والربع . ومن طريق وكيع نا شريك عن عبد الله بن عيسى قال : كان لعبد الرحمن بن أبي ليلى أرض بالفوارة فكان يدفعها بالثلث ، والربع فيرسلني فأقاسمهم . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر سألت الزهري عن إعطاء الأرض بالثلث ، والربع ؟ فقال : لا بأس بذلك . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري أخبرني قيس بن مسلم عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال : ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا وهم يعطون أرضهم بالثلث والربع . ومن طريق عبد الرزاق نا وكيع أخبرني عمرو بن عثمان بن موهب قال : سمعت أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين يقول : آل أبي بكر ، وآل عمر ، وآل علي يدفعون أرضهم بالثلث ، أو الربع . ومن طريق ابن أبي شيبة نا الفضل بن دكين عن بكير بن عامر عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد قال : كنت أزارع بالثلث والربع وأحمله إلى علقمة ، والأسود ، فلو رأيا به بأسا لنهياني عنه .

وروينا ذلك أيضا عن عبد الرحمن بن يزيد ، وموسى بن طلحة بن عبيد الله - وهو قول ابن أبي ليلى ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وابن المنذر . واختلف فيها عن الليث ، وأجازها أحمد ، وإسحاق إلا أنهما قالا : إن البذر يكون من عند صاحب الأرض وإنما على العامل البقر ، والآلة ، والعمل - وأجازها بعض أصحاب الحديث ، ولم يبال من جعل البذر منهما . قال أبو محمد : في اشتراط النبي ﷺ على أهل خيبر أن يعملوها بأموالهم : بيان أن البذر والنفقة كلها على العامل ، ولا يجوز أن يشترط شيء من ذلك على صاحب الأرض ؛ لأن كل ذلك شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ، فإن تطوع صاحب الأرض بأن يقرض العامل البذر ، أو بعضه أو ما يبتاع به البقر ، أو الآلة ، أو ما يتسع فيه من غير شرط في العقد فهو جائز ؛ لأنه فعل خير ، والقرض أجر وبر - وبالله تعالى التوفيق . واتفق أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، وأبو سليمان على جواز كراء الأرض ، واختلفوا فيه أيضا ، وفي المزارعة فأجاز كل من ذكرنا - حاشا مالكا وحده - كراء الأرض بالذهب ، والفضة ، وبالطعام المسمى كيله في الذمة - ما لم يشترط أن يكون مما تخرجه تلك الأرض - وبالعروض كلها . وقال مالك بمثل ذلك ، إلا أنه لم يجز كراء الأرض بشيء مما يخرج منها ، ولا بشيء من الطعام ، وإن لم يخرج منها : كالعسل ، والملح ، والمري ، ونحو ذلك ، وأجاز كراءها بالخشب والحطب وإن كانا يخرجان منها - وهذا تقسيم لا نعرفه عن أحد قبله ، وتناقض ظاهر - وما نعلم لقوله هذا متعلقا ، لا من قرآن ، ولا من سنة صحيحة ، ولا رواية سقيمة ، ولا من قول متقدم ، ولا قياس ، ولا رأي له وجه - يعني استثناءه العسل ، والملح ، وإجازته الخشب ، والحطب . ومنع أبو حنيفة وزفر إعطاء الأرض بجزء مسمى مما يزرع فيها بوجه من الوجوه - وقال مالك : لا يجوز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما تخرج الأرض ، إلا أن تكون أرض وشجر ، فيكون مقدار البياض من الأرض ثلث مقدار الجميع ، ويكون السواد مقدار الثلثين من الجميع ، فيجوز حينئذ أن تعطى بالثلث والربع والنصف على ما يعطى به ذلك السواد . وقال الشافعي : لا يجوز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما تخرج إلا أن يكون في خلال الشجر لا يمكن سقيها ولا عملها إلا بعمل الشجر وحفرها وسقيها ، فيجوز حينئذ إعطاؤها بثلث ، أو ربع أو نصف على ما تعطى به الشجر . وقال أبو بكر بن داود : لا يجوز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما يخرج منها إلا أن تعطى هي والشجر في صفقة واحدة فيجوز ذلك حينئذ . قال أبو محمد : حجة جميعهم في المنع من ذلك { نهي رسول الله ﷺ عن إعطاء الأرض بالنصف ، والثلث ، والربع } ؟ قال علي : ولسنا نخارجهم الآن في ألفاظ ذلك الحديث بل يقول : نعم ، قد صح عن النبي ﷺ أنه نهى عن أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ ، قال : { من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها ، فإن أبى فليمسك أرضه } وهذا نهي عن إعطائها بجزء مما يخرج منها ، لكن فعله عليه السلام في خيبر هو الناسخ على ما بينا قبل . فأما أبو حنيفة فخالف الناسخ وأخذ بالمنسوخ . وأما مالك ، والشافعي ، وأبو سليمان : فحيرهم فعل النبي ﷺ في أرض خيبر فأخرجوه على ما ذكرنا عنهم وكل تلك الوجوه تحكم . ويقال لمن قلد مالكا : من أين لكم تحديد البياض بالثلث ؟ ولم يأت قط في شيء من الأخبار تحديد ثلث ، ولا دليل عليه ، ومثل هذا في الدين لا يجوز . ويقال لهم : ماذا تريدون بالثلث ؟ أثلث المساحة أو ثلث الغلة أم ثلث القيمة ؟ فإلى أي وجه مالوا من هذه الوجوه قيل لهم : ومن أين خصصتم هذا الوجه دون غيره ؟ والغلة قد تقل وتكثر ، والقيمة كذلك وأما المساحة فقد تكون مساحة قليلة أعظم غلة أو أكثر قيمة من أضعافها . وأيضا : فإن خيبر لم تكن حائطا واحدا ، ولا محشرا واحدا ، ولا قرية واحدة ، ولا حصنا واحدا ، بل كانت حصونا كثيرة باقية إلى اليوم لم تتبدل منها الوطيح ، والسلالم ، وناعم ، والقموص ، والكتيبة ، والشق ، والنطاة ، وغيرها - وما الظن ببلد أخذ فيه القسمة مائتا فارس وأضعافهم من الرجال فتمولوا منها وصاروا أصحاب ضياع فمن أين لمالك تحديد الثلث ؟ وقد كان فيها بياض لا سواد فيه ، وسواد لا بياض فيه ، وبياض سواد ، فما جاء قط في شيء من الآثار تخصيص ما خصه . فإن قال : قد جاء عن النبي ﷺ الثلث ، والثلث كثير . قلنا : نعم ، وأنتم جعلتم في هذه المسألة الثلث قليلا بخلاف الأثر - ثم يقال لهم وللشافعي : من أين لكم أن رسول الله ﷺ إنما أعطى أرض خيبر بنصف ما يخرج منها ؛ لأنها كانت تبعا للسواد ؟ وهل يعلم هذا أحد إلا من أخبره رسول الله ﷺ بذلك عن نفسه ، وإلا فهو غفلة ممن قاله وقطع بالظن ؟ وأما بعد التنبيه عليه فما هو إلا الكذب البحت عليه ﷺ . وإنما الحق الواضح فهو أنه عليه السلام أعطى أرضها بنصف ما يخرج منها من زرع وأعطى نخلها وثمارها كذلك ، فنحن نقول : هذا سنة ، وحق أبدا ، ولا نزيد ، ونعلم أنه ناسخ لما تقدمه مما لا يمكن الجمع بينهما بظاهرهما . وكذلك أيضا يقال لمن قال بقول أبي بكر بن داود سواء بسواء ، والعجب أن بعضهم قال : المخابرة مشتقة من خيبر ، فدل أنها بعد خيبر . قال أبو محمد : ولو علم هذا القائل قبيح ما أتى به لاستغفر الله تعالى منه ، ولتقنع حياء منه ، أما علم الجاهل أن خيبر كان هذا اسمها قبل مولد رسول الله ﷺ وأن المخابرة كانت تسمى بهذا الاسم كذلك ، وأن إعطاء رسول الله ﷺ خيبر بنصف ما يخرج منها من زرع أو ثمر كان إلى يوم موته عليه السلام ، واتصل كذلك بعد موته عليه السلام ؟ فكيف يسوغ لذي عقل أو دين أن يقول : إن نهيه عليه السلام عن المخابرة كان بعد ذلك ؟ أترى عهده عليه السلام أتانا من الآخرة بعد موته عليه السلام بالنهي عنها ؟ أما هذا من السخف ، والتلوث ، والعار ممن ينسب إلى العلم ، ويأتي بمثل هذا الجنون ؟ فصح يقينا كالشمس أن النهي عن المخابرة وعن إعطاء الأرض بما يخرج منها كان قبل أمر خيبر بلا شك - وبالله تعالى التوفيق . واحتج المجيزون للكراء بحديث ثابت بن الضحاك { أن رسول الله ﷺ نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة وقال : لا بأس بها } . وبالخبر الذي رويناه من طريق مسلم نا إسحاق - هو ابن راهويه - نا عيسى بن يونس نا الأوزاعي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن حدثني حنظلة بن قيس الزرقي قال : سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة ؟ فقال : لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله ﷺ على الماذيانات ، وأقبال الجداول وأشياء من الزرع ، فيهلك هذا ويسلم هذا ويسلم هذا ويهلك هذا فلم يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك زجر عنه فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به ، وهذان خبران صحيحان . وبما روينا من طريق البخاري : نا علي بن عبد الله - هو ابن المديني - نا سفيان - هو ابن عيينة قال عمرو - هو ابن دينار - : قلت لطاوس : لو تركت المخابرة فإن النبي ﷺ نهى عنها فما يزعمون ؟ فقال لي طاوس : إن أعلمهم - يعني ابن عباس - أخبرني أن النبي ﷺ لم ينه عنها ، ولكن قال : { لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خرجا معلوما } وهذا أيضا خبر صحيح . وبخبر رويناه من طريق ابن أبي شيبة نا ابن علية عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبي عبيدة بن عمار بن ياسر عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن الوليد بن أبي الوليد عن عروة بن الزبير قال : قال زيد بن ثابت : يغفر الله لرافع بن خديج ، أنا والله أعلم بالحديث منه ، { إنما أتاه رجلان قد اقتتلا فقال رسول الله ﷺ : إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع } . قال علي : فقلنا لهم : أما حديث زيد فلا يصح ، ولكنا نسامحكم فيه فنقول : هبكم أنه قد صح فإن رافعا لا يثبت عليه الوهم بمثل هذا ، بل نقول : صدق زيد ، وصدق رافع ، وكلاهما أهل الصدق والثقة ، وإذ حفظ زيد في ذلك الوقت ما لم يسمعه رافع فقد سمع رافع أيضا مرة أخرى ما لم يسمعه زيد ، وليس زيد بأولى بالتصديق من رافع ، ولا رافع أولى بالتصديق من زيد ، بل كلاهما صادق . وقد روى النهي عن الكراء جملة للأرض : جابر ، وأبو هريرة ، وأبو سعيد ، وابن عمر ، وفيهم من هو أجل من زيد . ثم نقول لهم : إن غلبتم هذا الخبر على حديث النهي عن الكراء فغلبوه على النهي عن المخابرة ، ولا فرق . وهكذا القول في حديث ابن عباس ؛ لأنه يقول : لم ينه عنه النبي ﷺ ويقول جابر ، وأبو هريرة ، وأبو سعيد ، وابن عمر : نهى عنه رسول الله ﷺ فكل صادق ، وكل إنما أخبر بما عنده . وابن عباس لم يسمع النهي ، وهؤلاء سمعوه ، فمن أثبت أولى ممن نفى ، ومن قال : إنه علم أولى ممن قال : لا أعلم . وأما خبر حنظلة بن قيس عن رافع ، فالذي فيه إنما هو من كلام رافع - يعني قوله - : وأما شيء مضمون فلا ؟ وقد اختلف عن رافع في ذلك كما أوردنا قبل ، وروى عنه سليمان بن يسار النهي عن كرائها بطعام مسمى فلم أجزتموه ؟ ورواية حنظلة عن رافع شديدة الاضطراب وعلى كل حال فالزائد علما أولى . وقد روى عمران بن سهل بن رافع ، وابن عمر ، ونافع ، وسليمان بن يسار ، وأبو النجاشي وغيرهم : النهي عن كري الأرض جملة عن رافع بن خديج خلاف ما روى عنه حنظلة ، وكلهم أوثق من حنظلة فالزائد أولى . وأما حديث أمر بالمؤاجرة فنعم ، هو صحيح ، وقد صح نهيه ﷺ وخبر الإباحة موافق لمعهود الأصل ، وخبر النهي زائد ، فالزائد أولى ، ونحن على يقين من أنه ﷺ حين نهى عن الكراء فقد حرم ما كان مباحا من ذلك بلا شك ، ولا يحل أن يترك اليقين للظن ، ومن ادعى أن الإباحة التي قد تيقنا بطلانها قد عادت فهو مبطل وعليه الدليل ، ولا يجوز ترك اليقين بالدعوى الكاذبة ، وليس إلا تغليب النهي ، فبطل الكراء جملة ، والمخابرة جملة ، أو تغليب الإباحة ، فيثبت الكراء جملة ، والمخابرة جملة ، كما يقول أبو يوسف ، ومحمد ، وغيرهما . وأما التحكم في تغليب النهي في جهة ، وتغليب الإباحة في أخرى بلا برهان فتحكم الصبيان ، وقول لا يحل في الدين - وبالله تعالى التوفيق . وأما قول مالك : فإن مقلديه احتجوا له بحديث عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن رافع بن أسيد بن ظهير عن أبيه قال : { نهى رسول الله ﷺ عن كراء الأرض ؟ قلنا : يا رسول الله إذا نكريها بشيء من الحب ؟ قال : لا ، قال : نكريها بالتبن ؟ فقال : لا : قال : وكنا نكريها على الربيع الساقي ؟ قال : لا ، ازرعها ، أو امنحها أخاك } . وبحديث مجاهد ، قال رافع : { نهانا رسول الله ﷺ أن نتقبل الأرض ببعض خرجها } . وبما رويناه من طريق عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار أن رافع بن خديج قال : إن بعض عمومته أتاهم فقال : قال رسول الله ﷺ : { من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكاريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى } . وبما رويناه من طريق أحمد بن شعيب نا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم نا عمي قال : نا أبي عن محمد بن عكرمة عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص قال : { كان أصحاب المزارع يكرون مزارعهم في زمان رسول الله ﷺ مما يكون على السواقي من الزرع فجاءوا رسول الله ﷺ يختصمون ، فنهاهم رسول الله ﷺ أن يكروا بذلك وقال : أكروا بالذهب ، والفضة } . ورويناه أيضا من طريق عبد الملك بن حبيب عن ابن الماجشون عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص قال : { أرخص رسول الله ﷺ في كراء الأرض بالذهب ، والورق } . ومن طريق سفيان بن عيينة نا يحيى بن سعيد الأنصاري نا حنظلة بن قيس الزرقي أنه سمع رافع بن خديج يقول : { كنا نقول للذي نخابره : لك هذه القطعة ولنا هذه القطعة نزرعها فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا رسول الله ﷺ عن ذلك ، فأما بورق فلم ينه } . ومن طريق ابن أبي شيبة نا أبو الأحوص عن طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج عن رسول الله ﷺ قال : { إنما يزرع ثلاثة : رجل له أرض فهو يزرعها أو رجل منح أرضا فهو يزرعها أو رجل استكرى أرضا بذهب أو فضة } . قال أبو محمد : أما الحديث الأول - فسنده ليس بالنير ، ثم لو صح لكان حجة لنا عليهم لا حجة لهم ؛ لأن الذي فيه عن النبي ﷺ فهو النهي عن كراء الأرض جملة ، والمنع من غير زريعتها من قبل صاحبها ، أو من قبل من منحها ، وهذا خلاف قولهم . وأما حديث مجاهد عن رافع - فلا خلاف في أنه لم يسمعه من رافع ، ثم لو صح لكان فيه النهي عن كراء الأرض ببعض ما يخرج منها ، وهو خلاف لقولهم من قبل أنهم يمنعون من كرائها بالعسل ، والملح ، وليسا مما يخرجان منها ، ويجيزون كراءها بالحطب ، والخشب ، وهما من بعض ما يخرج منها ، فقد خالفوه من وجهين فزادوا فيه ما ليس فيه وأخرجوا منه ما فيه وأيضا - فإن الذهب ، والفضة من بعض ما يخرج من الأرض ، وهم يجيزون الكراء بهما ، وبالرصاص والنحاس - وكل ذلك خارج منها . فإن قالوا : إنما منع النبي عليه السلام من كرائها بما يخرج من تلك الأرض بعينها ؟ قلنا : هاتوا دليلكم على هذا التخصيص ، وإلا فلفظ الخبر على عمومه ، فسقط قولهم جملة في هذا الخبر . ثم أيضا - فنحن نقول بما فيه ثم نستثني منه ما صح نسخه بيقين من إعطائنا الأرض بجزء مما يخرج منها مسمى ، ونمنع من غير ذلك فهو حجة لنا لا لهم . وأما خبر سليمان بن يسار : فعليهم لا لهم ؛ لأن فيه أن يزرعها أو يزرعها فقط . وهكذا روينا من طريق أحمد بن شعيب أخبرني زياد بن أيوب نا ابن علية نا أيوب - هو السختياني - عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج أن رجلا من عمومته قال لهم : { نهى رسول الله ﷺ أن نحاقل بالأرض أو نكريها بالثلث والربع والطعام مسمى ، وأمر رب الأرض أن يزرعها ، أو يزرعها ، وكره كراءها ، وما سوى ذلك } . وأما خبر حنظلة عن رافع - : فقد ذكرنا أنه من قول رافع - يعني قوله : فأما بورق فلم ينه - وقد صح عن رافع ما ذكرنا أنه من قول رافع قبل من نهيه ﷺ عن ذلك حتى أبطل كراء أرض بني أبيه بالدراهم وهذه الرواية أولى لوجوه - : أحدها - أنها مسندة إلى رسول الله ﷺ وتلك موقوفة على رافع . والثاني - أن هذه غير مضطرب فيها ، وتلك مضطرب فيها على رافع . وثالثها - أن الذين رووا عموم النهي عن رافع : ابن عمر ، وعثمان ، وعمران ، وعيسى ابنا سهل بن رافع ، وسليمان بن يسار ، وأبو النجاشي ، وكلهم أوثق من حنظلة بن قيس - فسقط تعلقهم بهذا الخبر . وأما خبر سعد بن أبي وقاص فأحد طريقيه عن عبد الملك بن حبيب الأندلسي - وهو هالك - عن عبد الملك بن الماجشون وهو ضعيف . والأخرى - من طريق محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة وهو مجهول لا يدرى من هو - فسقط التعليق به . وأما خبر طارق عن سعيد عن رافع فإن ابن أبي شيبة رواه كما أوردنا عن أبي الأحوص فوهم فيه ، لأننا رويناه من طريق قتيبة بن سعيد ، والفضل بن دكين ، وسعيد بن منصور ، كلهم عن أبي الأحوص عن طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج قال { نهى رسول الله ﷺ عن المحاقلة والمزابنة ، وقال : إنما يزرع ثلاثة : رجل له أرض فهو يزرعها ، أو رجل منح أرضا فهو يزرع ما منح ، أو رجل استكرى أرضا بذهب أو فضة } فكان هذا الكلام مخزولا عن كلام رسول الله ﷺ فظن ابن أبي شيبة أنه من جملة كلام رسول الله ﷺ فخزله وأبقى السند . وقد جاء هذا الخبر عن طارق من طريق من هو أحفظ من أبي الأحوص مبينا أنه من كلام سعيد بن المسيب - : كما روينا من طريق أحمد بن شعيب أخبرني محمد بن علي نا محمد نا سفيان عن طارق قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول لا يصلح من الزرع غير ثلاث ، أرض تملك رقبتها ، أو منحة ، أو أرض بيضاء تستأجرها بذهب أو فضة . قال علي : وأيضا - فلو صح أنه من كلام النبي ﷺ لكانوا مخالفين له لأن فيه النهي عن كراء الأرض إلا بذهب ، أو فضة ، وأنتم تبيحونها بكل عرض في العالم حاشا الطعام ، أو ما أنبتت الأرض فقد خالفتموها كلها . فإن ادعوا ههنا إجماعا من القائلين بكراء الأرض بالذهب والفضة ، على أن ما عدا الذهب والفضة كالذهب والفضة - فما يبعد عنهم التجاسر والهجوم على مثل هذا : أكذبهم ما رويناه من طريق سعيد بن منصور نا أبو الأحوص عن عبد الكريم الجزري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لا تكرى الأرض البيضاء إلا بالذهب والورق - وهذا إسناد صحيح جيد . فإن قالوا : قسنا على الذهب والفضة ما عداهما ؟ قلنا : فقيسوا إعطاءها بالثلث والربع على المضاربة . فإن قالوا : قد صح النهي عن ذلك ؟ قلنا : فقد صح النهي عن أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ ، ونص عليه السلام على أن ليس له إلا أن يزرعها صاحبها أو يمنحها أو يمسك أرضه فقط . فظهر فساد هذا القول جملة ، وأنهم لم يتعلقوا بشيء أصلا ، واعلموا أنه لم يصح كراء الأرض بذهب أو فضة عن أحد من الصحابة إلا عن سعد وابن عباس - وصح عن رافع بن خديج ، وابن عمر ، ثم صح رجوع ابن عمر عنه ، وصح عن رافع المنع منه أيضا . قال أبو محمد : فلم يبق إلا تغليب الإباحة في كرائها بكل عرض وكل شيء مضمون من طعام أو غيره ، والثلث والربع كما قال سعد بن أبي وقاص وأبو يوسف ؛ ومحمد بن الحسن ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وغيرهم . أو تغليب المنع جملة ، كما فعل رافع بن خديج ، وعطاء ، ومكحول ، ومجاهد ، والحسن البصري ، وغيرهم . أو أن يغلب النهي حيث لم يوقن أنه نسخ ويؤخذ بالناسخ إذا تيقن ، كما فعل ابن عمر ، وطاوس ، والقاسم بن محمد ، ومحمد بن سيرين ، وغيرهم . فنظرنا في ذلك فوجدنا من غلب الإباحة قد أخطأ ، لأن معهود الأصل في ذلك هو الإباحة على ما روى رافع وغيره { أن النبي ﷺ قدم عليهم وهم يكرون مزارعهم } وقد كانت المزارع بلا شك تكرى قبل رسول الله ﷺ وبعد مبعثه ، هذا أمر لا يمكن أن يشك فيه ذو عقل ، ثم صح من طريق جابر ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، ورافع ، وظهير البدري وآخر من البدريين ، وابن عمر { نهى رسول الله ﷺ عن كراء الأرض جملة } فبطلت الإباحة بيقين لا شك فيه . فمن ادعى أن المنسوخ قد رجع ، وأن يقين النسخ قد بطل ، فهو كاذب مكذب ، قائل ما لا علم له به ، وهذا حرام بنص القرآن إلا أن يأتي على ذلك ببرهان ، ولا سبيل له إلى وجوده أبدا ، إلا في إعطائها بجزء [ مسمى ] مما يخرج منها ، فإنه قد صح أن رسول الله ﷺ فعل ذلك بخيبر بعد النهي بأعوام ، وأنه بقي على ذلك إلى أن مات عليه السلام . فصح أن النهي عن ذلك منسوخ بيقين ، وأن النهي عما عدا ذلك باق بيقين ، وقال تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } فمن المحال أن ينسخ حكم قد بطل ونسخ ثم لا يبين الله تعالى علينا أنه قد بطل ، وأن المنسوخ قد عاد ، وإلا فكأن الدين غير مبين - وهذا باطل - وبالله تعالى التوفيق . فارتفع الإشكال والحمد لله كثيرا 

================================

1330 - مسألة : والتبن في المزارعة بين صاحب الأرض وبين العامل على ما تعاملا عليه ، لأنه مما أخرج الله تعالى منها .

1331 - مسألة : فإن تطوع صاحب الأرض بأن يسلف العامل بذرا أو دراهم أو يعينه بغير شرط جاز ؛ لأنه فعل خير وتعاون على بر وتقوى ، فإن كان شيء من ذلك عن شرط في نفس العقد بطل العقد وفسخ ؛ لأنه شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وعقد رسول الله ﷺ مع الذين دفع إليهم خيبر إنما كان كما أوردنا قبل أن يعملوها بأموالهم - وبالله تعالى التوفيق .

1332 - مسألة : فإن اتفقا تطوعا على شيء يزرع في الأرض فحسن ، وإن لم يذكرا شيئا فحسن ، لأن رسول الله ﷺ لم يذكر لهم شيئا من ذلك ولا نهى عن ذكره ، فهو مباح ، ولا بد من أن يزرع فيها شيء ما فلا بد من ذكره ، إلا أنه إن شرط شيء من ذلك في العقد ، فهو شرط فاسد وعقد فاسد ؛ لأنه ليس في كتاب الله تعالى ، فهو باطل إلا أن يشترط صاحب الأرض أن لا يزرع فيها ما يضر بأرضه أو شجره - إن كان له فيها شجر - فهذا واجب ولا بد ، لأن خلافه فساد وإهلاك للحرث . قال الله تعالى : { إن الله لا يحب المفسدين } . وقال تعالى : { ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } . فإهلاك الحرث بغير الحق لا يحل - وبالله تعالى نتأيد ، فهذا شرط في كتاب الله تعالى ، فهو صحيح لازم .

1333 - مسألة : ولا يحل عقد المزارعة إلى أجل مسمى ، لكن هكذا مطلقا ، لأن هكذا عقده رسول الله ﷺ وعلى هذا مضى جميع الصحابة رضي الله عنهم . وكذلك أخرجهم عمر رضي الله عنه إذ شاء في آخر خلافته ، فكان اشتراط مدة في ذلك شرطا ليس في كتاب الله تعالى - فهو باطل - وخلاف لعمله عليه السلام ، وقد قال عليه السلام : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } ؛ وقد قال مخالفون بذلك في المضاربة .

1334 - مسألة : وأيهما شاء ترك العمل فله ذلك لما ذكرنا ، وأيهما مات بطلت المعاملة ؛ لأن الله تعالى يقول : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } . فإن أقر وارث صاحب الأرض العامل ورضي العامل ، فهما على ما تراضيا عليه - وكذلك إن أقر صاحب الأرض ورثة العامل برضاهم فذلك جائز على ما جرى عليه أمر رسول الله ﷺ ومن بعده من الصحابة رضي الله عنهم بلا خلاف من أحد منهم في ذلك - وبالله تعالى التوفيق .

1335 - مسألة : وإذا أراد صاحب الأرض إخراج العامل بعد أن زرع أو أراد العامل الخروج بعد أن زرع بموت أحدهما ، أو في حياتهما فذلك جائز ، وعلى العامل خدمة الزرع كله ولا بد ، وعلى ورثته حتى يبلغ مبلغ الانتفاع به من كليهما ؛ لأنهما على ذلك تعاقدا العقد الصحيح فهو لازم لأنه عمل به رسول الله ﷺ فهو في كتاب الله تعالى ، فهو صحيح لازم ، وعقد يلزم الوفاء به - وبالله تعالى التوفيق . وما عداه إضاعة للمال ، وإفساد للحرث ، وقد صح النهي عنه .

1336 - مسألة : فإن أراد أحدهما ترك العمل وقد حرث ، وقلب ، وزبل ، ولم يزرع فذلك جائز ، ويكلف صاحب الأرض للعامل أجر مثله فيما عمل ، وقيمة زبله إن لم يجد له زبلا مثله ، إن أراد صاحب الأرض إخراجه ، لأنه لم تتم بينهما المزارعة التي يكون كل ما ذكرنا ملغى بتمامها ، وقال تعالى : { والحرمات قصاص } فعمله حرمة ، فلا بد له من أن يقتص بمثلها ، والزبل ماله فلا يحمل إلا بطيب نفسه - وبالله تعالى التوفيق .

1337 - مسألة : فلو كان العامل هو المريد للخروج فله ذلك ولا شيء له فيما عمل ، وإن أمكنه أخذ زبله بعينه أخذه ، وإلا فلا شيء له ؛ لأنه مختار للخروج ولم يتعد عليه صاحب الأرض في شيء ، ولا منعه حقا له فهو مخير بين إتمام عمله وتمام شرطه والخروج باختياره ، ولا شيء له ؛ لأنه لم يتعد عليه بغير طيب نفسه في شيء - وبالله تعالى التوفيق .

1338 - مسألة : ومن أصاب منهما ما تجب فيه الزكاة فعليه الزكاة ، ومن قصر نصيبه عن ما فيه الزكاة فلا زكاة عليه . ولا يحل اشتراط الزكاة من أحدهما على الآخر ، لقول الله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } ولكل أحد حكمه . واشتراط إسقاط الزكاة عن نفسه ووضعها على غيره شرط للشيطان ومخالفة لله تعالى فلا يحل أصلا - وبالله تعالى التوفيق . وقد كانا قادرين على الوصول إلى ما يريدان من ذلك بغير هذا الشرط الملعون ، وذلك بأن يكونا يتعاقدان على أن لأحدهما أربعة أعشار الزرع أو أربعة أخماس الثلث ، أو نحو هذا فيصح العقد .

1339 - مسألة : وإذا وقعت المعاملة فاسدة ، رد إلى مزارعه مثل تلك الأرض فيما زرع فيها سواء كان أكثر مما تعاقد أو أقل . برهان ذلك - : أنه لا يحل في الأرض أخذ أجر ولا حظ إلا المزارعة بجزء مشاع مسمى بما يخرج الله تعالى منها ، فإذ ذلك كذلك فهو حق الأرض فلا تجوز إباحة الأرض وما أخرجت للعامل بغير طيب نفس صاحب الأرض ، لقول الله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } ولا يجوز إباحة بذر العامل وعمله لصاحب الأرض بغير طيب نفسه ذلك أيضا ، فيردان إلى مثل حق كل واحد منهما مما أخرج الله تعالى منها ، لقول الله تعالى : { والحرمات قصاص } . فالأرض - حرمة محرمة من مال صاحبها ، وبشرته ، فله ومن حقه أن يقتص بمثل حق مثلها مما أباحه الله تعالى في المعاملة فيها - وبذر الزارع وعمله حرمة محرمة من ماله ، وبشرته ، فله ومن حقه أن يقتص بمثل حق مثل ذلك مما أباحه الله تعالى في المعاملة ، فوجب ما قلنا ولا بد - وبالله تعالى التوفيق .

1340 - مسألة : من دفع أرضا له بيضاء إلى إنسان ليغرسها له لم يجز ذلك إلا بأحد وجهين - : إما بأن تكون النقول أو الأوتاد أو النوى أو القضبان لصاحب الأرض فقط ، فيستأجر العامل لغرسها وخدمتها والقيام عليها مدة مسماة ولا بد بشيء مسمى ، أو بقطعة من تلك الأرض مسماة محوزة ، أو منسوبة القدر مشاعة في جميعها ، فيستحق العامل بعمله في كل ما يمضي من تلك المدة ما يقابلها مما استؤجر به ، فهذه إجارة كسائر الإجارات . وإما بأن يقوم العامل بكل ما ذكرنا وبغرسه وبخدمه وله من ذلك كله ما تعاملا عليه من نصف أو ثلث أو ربع أو جزء مسمى كذلك ، ولا حق له في الأرض أصلا - فهذا جائز حسن ، إلا أنه لا يجوز إلا مطلقا لا إلى مدة أصلا - وحكمه في كل ما ذكرنا قبل حكم المزارعة سواء سواء في كل شيء لا تحش منها شيئا .

1341 - مسألة : فإن أراد العامل الخروج قبل أن ينتفع فيما غرس بشيء ، وقبل أن تنمى له فله ذلك ، ويأخذ كل ما غرس . وكذلك إن أخرجه صاحب الأرض ؛ لأنه لم ينتفع بشيء ، فإن لم يخرج حتى انتفع ونما ما غرس فليس له إلا ما تعاقدا عليه ؛ لأنه قد انتفع بالأرض فعليه حقها ، وحقها هو ما تعاقدا عليه . برهان ذلك - : هو ما ذكرناه في أول كلامنا في " المزارعة " من إعطاء رسول الله ﷺ خيبر اليهود على أن يعملوها بأنفسهم وأموالهم ولهم نصف ما يخرج منها من زرع أو ثمر ونصف ما يخرج منها ، هكذا مطلقا . وكذلك روينا من طريق حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال { أعطى رسول الله ﷺ خيبر لليهود على أن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشيء } . وهذا عموم لكل ما خرج منها بعمله من شجر أو زرع أو ثمر ، وكل ذلك داخل تحت العمل بأنفسهم وأموالهم ولا فرق بين غرس أو زرع أو عمارة شجر - وبالله تعالى التوفيق وبالضرورة يدري كل ذي تمييز أن خيبر وفيها نحو ألفي عامل ويصاب فيها نحو ثمانين ألف وسق تمر وبقيت بأيديهم أزيد من خمسة عشر عاما : أربعة أعوام من حياة النبي ﷺ وعامين ونصف عام مدة أبي بكر ، وعشرة أعوام من خلافة عمر رضي الله عنهما حتى أجلاهم في آخر عام من خلافته ، فلا بد أن فيهم من غرس فيما بيده من الأرض فكان بينهم وبين أصحاب الأصول من المسلمين بلا شك . وقال مالك : المغارسة : هو أن يعطى الأرض البيضاء ليغرسها من ماله ما رأى حتى يبلغ شبابا ما ، ثم له ما تعاقدا من رقبة الأرض ، ومن رقاب ما غرس . قال أبو محمد : وهذا لا يجوز أصلا ؛ لأنه إجارة مجهولة لا يدرى في كم يبلغ ذلك الشباب ، ولعلها لا تبلغه ، ولا يدرى ما غرس ولا عدده ، وأعجب شيء قوله " حتى يبلغ شبابا ما " والغروس تختلف في ذلك اختلافا شديدا متباينا ، لا ينضبط ألبتة ، فقد يشب بعض ما غرس ويبطل البعض ، ويتأخر شباب البعض ، فهذا أمر لا ينحصر أبدا فيما يغرس ، ولعله لا يغرس له إلا شجرة واحدة أو اثنتين ، فيكلف لذلك استحقاق نصف أرض عظيمة فهو بيع غرر بثمن مجهول ، وبيع وإجارة معا ، وأكل مال بالباطل ، وإجارة مجهولة ، وشرط ليس في كتاب الله تعالى ، فهو باطل قد جمع هذا القول كل بلاء ، وما نعلم أحدا قاله قبله ، ولا لهذا القول حجة لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا من رواية سقيمة ، ولا من قول صاحب ، ولا تابع نعلمه ، ولا من قياس ، ولا من رأي له وجه ، وما كان هكذا لم يجز القول به - وبالله تعالى التوفيق .

1342 - مسألة : ومن عقد مزارعة أو معاملة في شجر أو مغارسة ، فزرع العامل وعمل في الشجر وغرس ، ثم انتقل ملك الأرض أو الشجر إلى غير المعاقد بميراث أو بهبة أو بصدقة أو بإصداق أو ببيع - : فأما الزرع : ظهر أو لم يظهر فهو كله للزارع والذي كانت الأرض له على شرطهما ، وللذي انتقل ملك الأرض إليه أخذهما بقطعه أو قلعه في أول إمكان الانتفاع به ، لا قبل ذلك ؛ لأنه لم يزرع إلا بحق ، والزرع بلا خلاف هو غير الأرض التي انتقل ملكها إلى غير مالكها الأول . وأما المعاملة في الشجر ببعض ما يخرج منها ، فهو ما لم يخرج غير متملك لأحد ، فإذا خرج فهو لمن الشجر له ، فإن أراد إبقاء العامل على معاملته فله ذلك ، وإن أراد تجديد معاملة فلهما ذلك ، وإن أراد إخراجه فله ذلك وللعامل على الذي كان الملك له أجرة مثل عمله ؛ لأنه عمل في ملكه بأمره . وأما الغرس : فللذي انتقل الملك إليه إقراره على تلك المعاملة ، أو أن يتفقا على تجديد أخرى ، فإن أراد إخراجه فله ذلك ، وللغارس قلع حصته مما غرس ، كما لو أخرجه الذي كان عامله أولا ، على ما ذكرنا قبل - وبالله تعالى التوفيق . وأما إذا انتقل الملك بعد ظهور الثمرة ، فالثمرة بين العامل وبين الذي كان الملك له على شرطهما ، لا شيء فيها للذي انتقل الملك إليه . وبالله تعالى التوفيق .

 [ تم " كتاب المزارعة ، والمغارسة " والحمد لله رب العالمين ]

 

 يليه ان شاء الله كتاب المعاملة في الثمار الاتي في الصفحة التالية بمشيئة الله كتاب المعاملة في الثمار


مكتبات الكتاب الاسلامي

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أ...