مدونة استكمال مصنفات الإمامين ابن حزم والوكاني

الاثنين، 21 مارس 2022

كتاب القرض وهو الدين {من {1191 - مسألة: الي 1208} معه كتاب الرهن{من رقم (مسألة 1209 - 1214) الي رقم (مسألة 1222 - 1226) } بمشيئة الله الواحد

 فهرست مقتضب واخر مفصل
كتاب القرض وهو الدين
كتاب القرض وهو الدين
كتاب القرض (مسألة 1191 - 1208)
فهارس كتاب القرض وهو الدين
1191 - مسألة: القرض فعل خير
1192 - مسألة: القرض جائز في كل ما يحل تملكه وتمليكه بهبة
1193 - مسألة: لا يحل أن يشترط ردا أكثر مما أخذ
1194 - مسألة: إن تطوع عند قضاء ما عليه بأن يعطي أكثر مما أخذ
1195 - مسألة: إن قضاه من غير نوع ما استقرض لم يحل أصلا لا بشرط، ولا بغير شرط
1196 - مسألة: من استقرض شيئا فقد ملكه
1197 - مسألة: إن كان الدين حالا كان للذي أقرض أن يأخذ به المستقرض
1198 - مسألة: إن طالبه صاحب الدين بدينه والشيء المستقرض حاضر عند المستقرض
لم يجز أن يجبر المستقرض على شيء من ماله
1199 - مسألة: إن كان القرض إلى أجل، ففرض عليهما أن يكتباه وأن يشهدا عليه
1200 - مسألة: من لقي غريمه في بلد بعيد أو قريب وكان الدين حالا
أو قد بلغ أجله فله مطالبته
1201- مسألة: إن أراد الذي عليه الدين المؤجل أن يعجله قبل أجله بما قل
أو كثر لم يجبر الذي له الحق على قبوله
1202 - مسألة: القرض جائز في الجواري، والعبيد، والدواب، والدور، والأرضين
1203 - مسألة: كل ما يمكن وزنه أو كيله أو عدده أو زرعه لم يجز أن يقرض جزافا
1204 - مسألة: كل ما اقترض من ذلك معلوم العدد أو الزرع أو الكيل أو الوزن
1205 - مسألة: لا يجوز تعجيل بعض الدين المؤجل على أن يبرئه من الباقي
1206 - مسألة: من كان له دين حال أو مؤجل فحل فرغب إليه الذي عليه الحق في
أن ينظره أيضا إلى أجل مسمى ففعل
1207 - مسألة: كل من مات وله ديون على الناس مؤجلة، أو للناس عليه ديون مؤجلة فكل ذلك سواء
1208 - مسألة: هدية الذي عليه الدين إلى الذي له عليه الدين حلال وكذلك ضيافته إياه
ما لم يكن شيء من ذلك عن شرط. فإن كان شيء عن شرط فهو حرام

========

أول كتاب القرض وهو الدين

1191 - مسألة: القرض فعل خير، وهو أن تعطي إنسانا شيئا بعينه من مالك تدفعه إليه ليرد عليك مثله إما حالا في ذمته وأما إلى أجل مسمى هذا مجمع عليه وقال الله تعالى: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه}.

1192 - مسألة: والقرض جائز في كل ما يحل تملكه وتمليكه بهبة أو غيرها سواء جاز بيعة أو لم يجز لأن القرض هو غير البيع، لأن البيع لا يجوز إلا بثمن، ويجوز بغير نوع ما بعت. ولا يجوز في القرض إلا رد مثل ما اقترض لا من سوى نوعه أصلا

1193 - مسألة: ولا يحل أن يشترط ردا أكثر مما أخذ، ولا أقل، وهو ربا مفسوخ، ولا يحل اشتراط رد أفضل مما أخذ، ولا أدنى وهو ربا، ولا يجوز اشتراط نوع غير النوع الذي أخذ، ولا اشتراط أن يقضيه في موضع كذا، ولا اشتراط ضامن. برهان ذلك: قول رسول الله ﷺ: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق.

ولا خلاف في بطلان هذه الشروط التي ذكرنا في القرض. وبالله تعالى التأييد.

1194 - مسألة: فإن تطوع عند قضاء ما عليه بأن يعطي أكثر مما أخذ، أو أقل مما أخذ، أو أجود مما أخذ، أو أدنى مما أخذ، فكل ذلك حسن مستحب. ومعطي أكثر مما اقترض وأجود مما اقترض مأجور. والذي يقبل أدنى مما أعطى، أو أقل مما أعطى مأجور. وسواء كان ذلك عادة أو لم يكن، ما لم يكن عن شرط، وكذلك إن قضاه في بلد آخر، ولا فرق: فهو حسن ما لم يكن عن شرط:

روينا من طريق البخاري، وموسى بن معاوية، قال البخاري:، حدثنا خلاد، وقال موسى:، حدثنا وكيع، ثم اتفق خلاد، ووكيع، قالا:، حدثنا مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال: كان لي على رسول الله ﷺ دين فقضاني وزادني.

ومن طريق وكيع عن علي بن صالح بن حي عن سلمة بن كهيل عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: استقرض رسول الله ﷺ سنا فأعطاه سنا فوق سنه وقال: خياركم محاسنكم قضاء وهو قول السلف.

روينا من طريق سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبيه قال: قضاني الحسن بن علي بن أبي طالب وزادني نحوا من ثمانين درهما.

ومن طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبيه قال: تقاضيت الحسن بن علي دينا لي عليه فوجدته قد خرج من الحمام فقضاني ولم يزنه، فوزنته فوجدته قد زادني على حقي سبعين درهما.

ومن طريق مالك قال: بلغني أن رجلا قال لأبن عمر: إني أسلفت رجلا سلفا واشترطت أفضل مما أسلفته ; فقال ابن عمر: ذلك الربا، ثم ذكر كلاما وفيه: أن ابن عمر قال له: أرى أن تشق صكك فإن أعطاك مثل الذي أسلفته قبلته، وإن أعطاك دون ما أسلفته فأخذته أجرت، وإن أفضل مما أسلفته طيبة به نفسه، فذلك شكر شكره لك وهو أجر ما أنظرته.

ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا هشام الدستوائي عن القاسم بن أبي بزة عن عطاء بن يعقوب قال: اقترض مني ابن عمر ألف درهم فقضاني أجود من دراهمي، وقال لي: ما كان فيها من فضل فهو نائل مني لك أتقبله قلت: نعم، ولا يعرف لهذين مخالف من الصحابة رضي الله عنهم إلا رواية، عن ابن مسعود أنه كره ذلك.

ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج عن عطاء قال: كان ابن الزبير يستسلف من التجار أموالهم ثم يكتب لهم إلى العمال، فذكرت ذلك لأبن عباس فقال: لا بأس به وحكى شعبة: أنه سأل الحكم بن عتيبة، وحماد بن أبي سليمان عمن اقترض دراهم فرد عليه خيرا منها فقالا جميعا: إذا كان ليس من نيته فلا بأس وصح عن قتادة عن الحسن البصري، وسعيد بن المسيب، قالا جميعا: لا بأس أن تقرض دراهم بيضا وتأخذ سودا، أو تقرض سودا وتأخذ بيضا.

ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا قطري بن عبد الله عن الأشعث الحمراني قال: سألت الحسن فقلت: يا أبا سعيد لي جارات ولهن عطاء فيقترضن مني ونيتي في فضل دراهم العطاء على دراهمي قال: لا بأس به.

ومن طريق معمر عن أيوب، عن ابن سيرين إذا أسلفت طعاما فأعطاكه بأرض أخرى، فإن كان عن شرط فهو مكروه، وإن كان على وجه المعروف فلا بأس به. وهو كله قول أبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان. وأجاز مالك: أن يرد أفضل ما لم يكن عن عادة، ولم يجز أن يرد أكثر وهذا خطأ، لأنه خلاف فعل رسول الله ﷺ الذي أوردنا.

وأما فرقه بين العادة وغيرها: فخطأ، لأنه إن جاز مرة جاز ألف مرة، ولا فرق، وإن كان خيرا في المرة الواحدة فالإكثار من الخير خير ; وإن كان شرا فالشر لا يجوز لا مرة، ولا مرارا وبالله تعالى التوفيق. ولا نعلم أحدا قبله فرق بين العادة في ذلك وبين المرة الواحدة.

وأما منعه من رد أكثر: فقد رويناه عن الشعبي، والزهري. والعجب كله من إجازته الزيادة حيث هي الربا المكشوف المحرم، إذ يجيز مبادلة دينار ناقص بدينار زائد عليه في وزنه بمشارطة في حين المبادلة، وكذلك في الدرهم الناقص بالدرهم الزائد عليه في وزنه وقد صح عن النبي ﷺ: الدرهم بالدرهم فضل ما بينهما ربا ثم يمنع من الزيادة غير المشترطة في قضاء القرض وقد فعله رسول الله ﷺ وحض عليه وحسبنا الله ونعم الوكيل.

1195 - مسألة: فإن قضاه من غير نوع ما استقرض لم يحل أصلا لا بشرط، ولا بغير شرط مثل: أن يكون أقرضه ذهبا فيرد عليه فضة، أو غير ذلك، وهكذا في كل شيء، يقول الله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} وهو إذا رد غير ما كان عليه فقد أخذ غير حقه، ومن أخذ غير حقه فقد أكل المال بالباطل.

فإن قالوا: إنما هو من باب البيع كأنه باع منه ما كان له عنده بما أخذ منه

قلنا: هذا حرام لا يحل، لأنه ليس له عنده شيء بعينه، ولا يحل البيع إلا في شيء بعينه وهو بيع ما ليس عندك، وبيع ما لم يقبض. وكل هذا قد صح النهي عنه على ما نذكر في البيوع إن شاء الله تعالى، وهو فيما يقع فيه الربا ربا محض على ما نذكر في " أبواب الربا " إن شاء الله تعالى. فإن احتجوا بخبر ابن عمر في ذلك فهو خبر لا يصح على ما نذكر في البيوع إن شاء الله تعالى ; لأنه من رواية سماك بن حرب ثم لو صح لكانوا مخالفين له على ما نذكر هنالك إن شاء الله تعالى.

1196 - مسألة: ومن استقرض شيئا فقد ملكه، وله بيعه إن شاء، وهبته، والتصرف فيه، كسائر ملكه وهذا لا خلاف فيه وبه جاءت النصوص.

1197 - مسألة: فإن كان الدين حالا كان للذي أقرض أن يأخذ به المستقرض متى أحب إن شاء إثر إقراضه إياه، وإن شاء أنظره به إلى انقضاء حياته.

وقال مالك: ليس له مطالبته إياه به إلا بعد مدة ينتفع فيها المستقرض بما استقرض وهذا خطأ، لأنه دعوى بلا برهان.

وأيضا فإنه أوجب هاهنا أجلا مجهول المقدار لم يوجبه الله تعالى قط ثم هو الموجب له لا يحد مقداره، فأي دليل أدل على فساد هذا القول من أن يكون قائله يوجب فيه مقدارا ما لا يدري هو، ولا غيره ما هو وقد أمر رسول الله ﷺ أن يعطى كل ذي حق حقه، فمن منع من هذا فقد خالف أمره عليه السلام.

1198 - مسألة: فإن طالبه صاحب الدين بدينه والشيء المستقرض حاضر عند المستقرض لم يجز أن يجبر المستقرض على شيء من ماله إذ لم يوجب ذلك أن يرد الذي أخذ بعينه، ولا بد، لكن يجبر على رد مثله إما ذلك الشيء وأما غيره مثله من نوعه لأنه قد ملك الذي استقرض وصار كسائر ماله، ولا فرق. ولا يجوز أن يجبر على إخراج شيء بعينه من ماله، إذ لم يوجب عليه قرآن، ولا سنة، فإن لم يوجد له غيره قضي عليه حينئذ برده، لأنه مأمور بتعجيل إنصاف غريمه، فتأخيره بذلك وهو قادر على الإنصاف ظلم. وقد قال عليه السلام: مطل الغني ظلم وهذا غني فمطله ظلم.

1199 - مسألة: فإن كان القرض إلى أجل، ففرض عليهما أن يكتباه وأن يشهدا عليه عدلين فصاعدا أو رجلا وامرأتين، عدولا فصاعدا. فإن كان ذلك في سفر ولم يجدا كاتبا فإن شاء الذي له الدين أن يرتهن به رهنا فله ذلك، وإن شاء أن يرتهن فله ذلك، وليس يلزمه شيء من ذلك الدين الحال لا في السفر، ولا في الحضر. برهان ذلك: قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} إلى قوله: {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله} إلى قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} إلى قوله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته} وليس في أمر الله تعالى إلا الطاعة. ومن قال: إنه ندب، فقد قال: الباطل، ولا يجوز أن يقول الله تعالى: {فاكتبوه} فيقول قائل: لا أكتب إن شئت. ويقول الله تعالى: {واستشهدوا} فيقول قائل: لا أشهد، ولا يجوز نقل أوامر الله تعالى عن الوجوب إلى الندب إلا بنص آخر، أو بضرورة جس. وكل هذا قول أبي سليمان، وجميع أصحابنا، وطائفة من السلف، ونتقصى ذلك في " كتاب البيوع " إن شاء الله تعالى.

1200 - مسألة: ومن لقي غريمه في بلد بعيد أو قريب وكان الدين حالا أو قد بلغ أجله فله مطالبته، وأخذه بحقه، ويجبره الحاكم على إنصافه عرضا كان الدين، أو طعاما، أو حيوانا، أو دنانير، أو دراهم كل ذلك سواء، ولا يحل أن يجبر صاحب الحق على أن لا ينتصف إلا في الموضع الذي تداينا فيه. برهان ذلك: قول رسول الله ﷺ: مطل الغني ظلم. وأمره عليه السلام أن يعطي كل ذي حق حقه.

ومن ادعى أنه لا يجوز أن يجبر على إنصافه إلا حيث تداينا فقد قال الباطل لأنه قول لا دليل عليه لا من قرآن، ولا سنة، ولا رواية سقيمة، ولا قول صاحب، ولا قياس، ولا رأي سديد، ثم يقال له: إن كان التداين بالأندلس، ثم لقيه بصين الصين ساكنا هنالك، أو كلاهما، أترى حقه قد سقط أو يكلف الذي عليه الحق هو وصاحب الحق النهوض إلى الأندلس لينصفه هنالك من مدين. ثم لو طردوا قولهم للزمهم أن لا يجيزوا الإنصاف إلا في البقعة التي كانا فيها بأبدانهما حين التداين، وهم لا يقولون هذا، فنحن نزيدهم من الأرض شبرا شبرا حتى نبلغهم إلى أقصى العالم. ولو حقق كل ذي قول قوله، وحاسب نفسه بأن لا يقول في الدين إلا ما جاء به قرآن أو سنة ; لقل الخطأ، ولكان أسلم لكل قائل. وما توفيقنا إلا بالله العظيم.

1201- مسألة: وإن أراد الذي عليه الدين المؤجل أن يعجله قبل أجله بما قل أو كثر لم يجبر الذي له الحق على قبوله أصلا وكذلك لو أراد الذي له الحق أن يتعجل قبض دينه قبل أجله بما قل أو كثر لم يجز أن يجبر الذي عليه الحق على أدائه -: سواء في كل ذلك الدنانير والدراهم، والطعام كله، والعروض كلها، والحيوان. فلو تراضيا على تعجيل الدين أو بعضه قبل حلول أجله، أو على تأخيره بعد حلول أجله، أو بعضه: جاز كل ذلك -.

وهو قول أبي سليمان، وأصحابنا. وقال المالكيون: إن كان مما لا مؤنة في حمله ونقله أجبر الذي له الحق على قبضه، وإن كان مما فيه مؤنة في حمله ونقله لم يجبر على قبوله قبل محله. قال أبو محمد: وهذا قول في غاية الفساد -: أول ذلك: أنه قول بلا برهان، لا من قرآن، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قول صاحب لا مخالف له، ولا قياس، ولا رأي سديد. والثاني: أن شرط الأجل قد صح بالقرآن والسنة، فلا يجوز إبطال ما صححه الله تعالى. والثالث: أنهم أبطلوا هذا الشرط الصحيح الذي أثبته الله تعالى في كتابه. وأجازوا الشروط الفاسدة التي أبدلها الله تعالى في كتابه، كمن اشترط لامرأته أن كل امرأة يتزوجها عليها فهي طالق، وكل سرية يتخذها عليها فهي حرة، وأن لا يرحلها عن دارها، فإن فعل فأمرها بيدها واحتجوا هاهنا برواية مكذوبة وهي " المسلمون عند شروطهم " فهلا احتجوا بها إذ هي عندهم صحيحة في إنفاذ شرط التأجيل المسمى بالدين، فتأملوا هذه الأمور تروا العجب والرابع: أنهم احتجوا في هذا بعمر، وعثمان، فيما روي عنهما في القضاء بقبول تعليم الكتابة قبل أجلها، وقد أخطئوا في هذا من وجوه.

أولها: أنه لا حجة فيمن دون رسول الله ﷺ. والثاني أنه إنما جاء ذلك عن عمر، وعثمان، في الكتابة خاصة، فقاسوا عليها سائر الديون، وهم مقرون بأن حكم الكتابة مخالف لحكم الديون في جواز الحمالة وغير ذلك. والثالث: أنه قد خالف عمر، وعثمان في ذلك أنس فلم ير تعجيل الكتابة قبل أجلها. والرابع: أنهم خالفوا عمر، وعثمان، في مئين من القضايا. منها - إجبار عمر سادات العبيد على كتابتهم بالضرب إذا طلب العبيد ذلك، وغير هذا كثير، فمن الباطل أن يكون قولهما حجة في موضع غير حجة في آخر. والخامس: أنهم قد خالفوا عمر، وعثمان، في هذه القضية نفسها، لأنه جاء عنهما وضع الكتابة في بيت المال، ثم يعطي السيد في كل نجم حقه ; فظهر فساد هذا القول - وبالله تعالى التوفيق. وقد موه بعضهم بالخبر الثابت عن رسول الله ﷺ: {ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك} قال أبو محمد: وهذا تحريف منهم للكلم عن مواضعه، لأن هذا الخبر إنما هو في العطاء المبتدأ الذي نهينا عن السؤال فيه - عن غير ضرورة أو بغير سلطان - ولا في الحقوق الواجبة الواجب السؤال عنها وطلبها أو الإبراء منها لله تعالى. قال أبو محمد: وليت شعري أي فرق بين إرادة الذي عليه الحق تعجيل ما عليه قبل أجله مع إباية الذي له الحق من ذلك وبين إرادة الذي له الحق تعجيل ما له قبل أجله مع إباية الذي عليه الحق من ذلك ؟ إذ أوجبوا الواحد ومنعوا الآخر. فإن قالوا: إن الذي عليه الحق يريد أن يبرأ مما عليه ؟ قلنا لهم: والذي له الحق يريد أن يبرئ الذي عليه الحق مما عليه. فإن قالوا: ليس يريد ذلك الذي عليه الحق إلا إلى أجله ؟ قلنا لهم: ولا يريد ذلك الذي له الحق إلا إلى أجله.

1202 - مسألة: والقرض جائز في الجواري، والعبيد، والدواب، والدور، والأرضين، وغير ذلك لعموم قوله تعالى: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى} فعم تعالى ولم يخص فلا يجوز التخصيص في ذلك بالرأي الفاسد بغير قرآن، ولا سنة.

وقولنا في هذا هو قول المزني، وأبي سليمان، ومحمد بن جرير، وأصحابنا. ومنع من ذلك أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، في الجواري خاصة، وما نعلم لهم حجة أصلا، لا من قرآن، ولا من سنة، ولا من رواية سقيمة، ولا من قول صاحب، ولا من إجماع، ولا من قياس، ولا من رأي سديد، إلا أن بعضهم قال: لا يجوز ذلك، لأنه يطؤها، ثم يردها إليه فيكون فرجا معارا.

قال أبو محمد: أما قولهم: يطؤها ثم يردها عليه، فهم يوجبون هذا نفسه في التي يجد بها عيبا فإن ادعوا إجماعا.

قلنا: كذبتم، قد صح عن علي وشريح: المنع من الرد بالعيب بعد الوطء ثم لو صح لهم أنه إجماع للزمهم لأنهم أصحاب قياس أن يقيسوا ما اختلف فيه على ما يزعمون أنه اتفق عليه فهذا أصلهم في القياس، فأنى بدا لهم عنه.

ثم نقول لهم: فإذا وطئها ثم ردها فكان ماذا وطئها بحق بنص القرآن قال تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} ثم إن ردها ردها بحق، لأنه أدى ما عليه فانتقلت من حق إلى حق.

وأما قولهم: إنه فرج معار: فكذب وباطل، لأن العارية لا يزول عنها ملك المعير، فحرام على غيره وطؤها، لأنه ملك يمين غيره.

وأما المستقرضة فهي ملك يمين المستقرض فهي له حلال، وهو مخير بين أن يردها، أو يمسكها أو يرد غيرها، وليست العارية كذلك. وقالوا: هو بشيع شنيع

قلنا: لا شنعة، ولا بشاعة في الحلال، وأنتم لا تستبشعون مثله من أن يكون إنسان يبيع جارية من غيره فيطؤها، ثم يبتاعها الذي باعها فيستبرئها بحيضة، ثم يطؤها، ثم يبتاعها الذي باعها منه وهكذا أبدا. ومن أن يكون إنسان يتزوج امرأة فيطؤها ثم يطلقها، فتعتد خمسة وأربعين يوما وهي مصدقة عنده، ثم يتزوجها جاره فيطؤها ثم يطلقها، فتعتد كذلك، ثم يتزوجها الأول فيطؤها ثم يطلقها وهكذا أبدا. فأي فرق بين هذا وبين ما منعوا منه من قرض الجواري إنما الشنيع البشيع الفظيع مما يقولونه: من أن رجالا تكون بينهم أمة يطؤها كل واحد منهم، فلا يرون في ذلك حدا ويلحقون الولد بهذا الوطء الحرام الخبيث. ومن أن يطأ الوالد أم ولد ابنه فلا يرون عليه حدا ويلحقون الولد في هذا الوطء الفاحش، لا سيما الحنفيين الذين يقولون: من عشق امرأة جاره فرشا شاهدين فشهدا له بأن زوجها طلقها، وأنها اعتدت، وأنها تزوجت هذا وهي منكرة وزوجها منكر والله تعالى يعلم أنهما كاذبان، فقضى القاضي بذلك فإنه يطؤها حلالا طيبا فهذه هي الشناعة المضاهية لخلاف الإسلام وبالله تعالى التوفيق.

1203 - مسألة: وكل ما يمكن وزنه أو كيله أو عدده أو زرعه لم يجز أن يقرض جزافا، لأنه لا يدري مقدار ما يلزمه أن يرده، فيكون أكل مال بالباطل.


1204 - مسألة: وكل ما اقترض من ذلك معلوم العدد أو الزرع أو الكيل أو الوزن، فإن رده جزافا فكان ظاهرا متيقنا أنه أقل مما اقترض فرضي ذلك المقرض، أو كان ظاهرا متيقنا أنه أكثر مما اقترض وطابت نفس المقترض، وكل ذلك جائز حسن، لما قدمنا. فإن لم يدر أهو مثل ما اقترض أم أقل أم أكثر لم يجز له، لأنه لا يجوز مال أحد إلا بطيب نفس منه ورضاه، ولا يكون الرضا وطيب النفس إلا على معلوم، ولا بد، على مجهول وبالله تعالى التوفيق.


1205 - مسألة: ولا يجوز تعجيل بعض الدين المؤجل على أن يبرئه من الباقي، فإن وقع رد وصرف إلى الغريم ما أعطى، لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى، وقد قال رسول الله ﷺ: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل فلو عجل الذي عليه الحق بعض ما عليه بغير شرط ثم رغب إلى صاحب الحق أن يضع عنه الباقي أو بعضه، فأجابه إلى ذلك أو وضعه عنه أو بعضه بغير رغبة فكل ذلك جائز حسن وكلاهما مأجور لأنه ليس هاهنا شرط أصلا لكن أحدهما سارع إلى الخير في أداء بعض ما عليه فهو محسن والآخر سارع إلى الإبراء من حقه فهو محسن. قال الله عز وجل: {وافعلوا الخير}. وهذا كله خير وبالله تعالى التوفيق.


1206 - مسألة: ومن كان له دين حال أو مؤجل فحل فرغب إليه الذي عليه الحق في أن ينظره أيضا إلى أجل مسمى ففعل، أو أنظره كذلك بغير رغبة وأشهد أو لم يشهد لم يلزمه من ذلك شيء والدين حال يأخذه به متى شاء وهو قول الشافعي وهو أيضا قول زفر، وأبي سليمان، وأصحابنا.

وكذلك لو أن امرأ عليه دين مؤجل فأشهد على نفسه: أنه قد أسقط الأجل وجعله حالا، فإنه لا يلزمه ذلك، والدين إلى أجله كما كان. برهان ذلك: أن كل ما ذكرنا فإنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وليس شيء من هذا من العقود التي افترض الله تعالى الوفاء بها، لأن العقود المأمور بالوفاء بها منصوصة الأسماء في القرآن.

ولا خلاف في أن كل العقود لا يلزم الوفاء بها كمن عقد: أن يكفر أو أن يزني. وكل عقد صح مؤجلا بالقرآن أو السنة، فلا يجوز البتة إبطال التأجيل إلا بنص آخر. وكل عقد صح حالا بالقرآن أو السنة، فلا يجوز ألبتة إبطال الحلول إلا بنص آخر، ولا سبيل إلى نص في ذلك وبالله تعالى التوفيق.

فإن قيل: قد قلتم: إنه إن عجل له ما عليه قبل الأجل إن ذلك لازم له لا رجوع فيه

قلنا نعم، لأنه قد خرج من حقه وصيره إلى غيره ووهبه، فهذا جائز، إذ قد أمضاه، وأما ما لم يمضه فإنما هو وعد، وقد قدمنا أن الوعد لا يلزم إنجازه فرضا وبالله تعالى التوفيق.

وقال مالك: يلزمه التأجيل وقال أبو حنيفة: إن أجله في قرض لم يلزمه وكان له الرجوع، ويأخذه حالا، فإن أجله في غصب غصبه إياه أو في سائر الحقوق ما عدا القرض لزمه التأجيل.

وهو قول محمد بن الحسن، وأبي يوسف، وروي عن أبي يوسف: أنه إن استهلك له مما يكال أو يوزن ثم أجله به فله أن يرجع في ذلك، ولا يلزمه التأجيل، فإن استهلك له شاة أو ثوبا فأجله في قيمتهما لزمه التأجيل.

قال أبو محمد: فهل سمع بأسخف من هذه الفروق.

واحتج بعضهم بأن قال: إن التأجيل في أصل القرض لا يصح فما زاد هذا المحتج على خلاف الله تعالى في قوله: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى} قال أبو محمد: وإنما الحجة ما ذكرنا وبالله تعالى نتأيد.

1207 - مسألة: وكل من مات وله ديون على الناس مؤجلة، أو للناس عليه ديون مؤجلة فكل ذلك سواء، وقد بطلت الآجال كلها، وصار كل ما عليه من دين حالا، وكل ما له من دين حالا سواء في ذلك كله القرض، والبيع، وغير ذلك وقال مالك: أما الديون التي عليه مؤجلة فقد حلت، وأما التي له على الناس فإلى أجلها.

قال أبو محمد: وهذا فرق فاسد بلا برهان، لا من قرآن، ولا سنة، ولا إجماع، ولا رواية سقيمة، ولا قياس، ولا قول صاحب، ولا رأي له وجه. برهان قولنا: هو قول الله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} وقول رسول الله ﷺ: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام.

وقال تعالى في حكمه في المواريث فذكر فرائض المواريث.

وقال عز وجل: {من بعد وصية يوصي بها أو دين}، فصح أن بموت الإنسان بطل حكمه عن ماله وانتقل إلى ملك الغرماء، والموصى لهم، ووجوه الوصايا، والورثة، وعقد الغرماء في تأجيل ما عليهم، أو تأجيل ما على الميت إنما كان بلا شك بينهم وبين المتوفى إذ كان حيا، وقد انتقل الآن المال عن ملكه إلى ملك غيره، فلا يجوز كسب الميت عليهم فيما قد سقط ملكه عنه. ولا يحل للغرماء شيء من مال الورثة والموصى لهم والوصية بغير طيب أنفسهم، فبطل حكم التأجيل في ذلك، ووجب للورثة وللوصية أخذ حقوقهم.

وكذلك لا يحل للورثة إمساك مال غريم ميتهم إلا بطيب نفسه، لأن عقده إنما كان مع المتوفى إذ كان حيا فلا يلزمه أن يبقى ماله بأيدي ورثة لم يعاملهم قط. ولا يحل لهم إمساك مال الذي له الحق عنه، والله تعالى لم يجعل لهم حقا، ولا للوصية إلا بعد إنصاف أصحاب الديون وبالله تعالى التوفيق.

روينا من طريق أبي عبيد، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، هو ابن علية عن ليث عن الشعبي، والنخعي، قالا جميعا: من كان له دين إلى أجل فإذا مات فقد حل وبه إلى أبي عبيد عن معاذ بن معاذ العنبري عن أشعث عن الحسن البصري: أنه كان يرى الدين حالا إذا مات وعليه دين.

ومن طريق محمد بن المثنى حدثني عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم قال: إذا مات الميت فقد حل دينه وهذا عموم لما عليه ولما له.

1208 - مسألة: وهدية الذي عليه الدين إلى الذي له عليه الدين حلال وكذلك ضيافته إياه ما لم يكن شيء من ذلك عن شرط. فإن كان شيء عن شرط فهو حرام: لما روينا من طريق الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح العدوي أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته: يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة وكان عليه السلام يأكل الهدية وقال عليه السلام: لو أهدي إلي ذراع لقبلت. رويناه من طريق شعبة عن الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ فهذا عموم لم يخص عليه السلام من ذلك غريما من غيره.

وقالت طائفة: لا يجوز قبول هديته، ولا النزول عنده، ولا أكل طعامه صح، عن ابن عباس إذا أسلفت رجلا سلفا فلا تقبل منه هدية قراع، ولا عارية ركوب دابة وأنه استفتاه رجل فقال له: أقرضت سماكا خمسين درهما وكان يبعث إلي من سمكه فقال له ابن عباس: حاسبه، فإن كان فضلا فرد عليه، وإن كان كفافا فقاصصه. وصح عن عبد الله بن سلام، أنه قال: إذا كان لك على رجل مال فأهدى لك حملة من تبن فلا تقبلها فإنها ربا، اردد عليه هديته أو أثبه. وصح، عن ابن عمر أنه سأله سائل فقال له: أقرضت رجلا فأهدى لي هدية فقال: أثبه أو احسبها له مما عليه أو ارددها عليه. وعن علقمة نحو هذا. واحتجوا فقالوا: هو سلف جر منفعة وصح النهي عن هذا، عن ابن سيرين، وقتادة، والنخعي

قال أبو محمد: أما هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم فلا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ وقد خالفوا ابن عمر، وابن عباس في مئين من القضايا، وقد جاء خلافهم عن غيرهم:

روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن يونس بن عبيد، وخالد الحذاء، كلاهما عن محمد بن سيرين أن أبي بن كعب تسلف من عمر بن الخطاب عشرة آلاف فبعث إليه أبي من ثمره وكانت تبكر، وكان من أطيب ثمر أهل المدينة، فردها عليه عمر فقال له: أبي بن كعب: لا حاجة لي بما منعك طيب ثمرتي، فقبلها عمر، وقال: إنما الربا على من أراد أن يربي وينسئ.

وبه إلى سفيان عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي، وذكر نهى علقمة عن أكل المرء عند من له عليه دين فقال إبراهيم: إلا أن يكون معروفا كان يتعاطيانه.

قال أبو محمد: قول عمر بن الخطاب هو الحق لقول النبي ﷺ: إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى. ولو كانت هدية الغريم والضيافة منه حراما أو مكروها لما أغفل الله تعالى بيانه على لسان رسوله ﷺ: وما كان ربك نسيا فإذا لم ينه تعالى عن ذلك فهو حلال محض، وإلا ما كان عن شرط بينهما.

وأما قولهم إنه سلف جر منفعة، فكان ماذا أين وجدوا النهي عن سلف جر منفعة فليعلموا الآن أنه ليس في العالم سلف إلا وهو يجر منفعة وذلك انتفاع المسلف بتضمين ماله، فيكون مضمونا تلف أو لم يتلف مع شكر المستقرض إياه، وانتفاع المستقرض بمال غيره مدة ما، فعلى قولهم كل سلف فهو حرام، وفي هذا ما فيه وبالله تعالى التوفيق. وتم " كتاب القرض " والحمد لله وصلى الله على محمد وآله. 

يليه كتاب الرهن بمشيئة الله الواحد 

===========

كتاب الرهن 






كتاب الرهن
محلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب الرهن
كتاب الرهن (مسألة 1209 - 1214) | كتاب الرهن (مسألة 1215 - 1221) | كتاب الرهن (مسألة 1222 - 1226)
فهارس كتاب الرهن
1209 - مسألة: لا يجوز اشتراط الرهن إلا في البيع إلى أجل مسمى في السفر

1210 - مسألة: لا يجوز الرهن إلا مقبوضا في نفس العقد

1211 - مسألة: رهن المرء حصته من شيء مشاع مما ينقسم

1212 - مسألة: صفة القبض في الرهن وغيره

1213 - مسألة: الرهن جائز في كل ما يجوز بيعه

1214 - مسألة: منافع الرهن كلها لا تحاش منها شيئا لصاحبه الراهن

1215 - مسألة: إن مات الرهن، أو تلف، أو أبق، أو فسد

1216 - مسألة: إن مات الراهن أو المرتهن بطل الرهن

1217 - مسألة: من ارتهن شيئا فخاف فساده

1218 - مسألة: لا يجوز بيع سلعة على أن تكون رهنا عن ثمنها

1219 - مسألة: لا يكون حكم الرهن إلا لما ارتهن في نفس عقد التداين

1220 - مسألة: من تداين فرهن في العقد رهنا صحيحا، ثم بعد ذلك تداينا

أيضا وجعلا ذلك الرهن رهنا عن هذا الدين الثاني، فالعقد الثاني باطل مردود

1221 - مسألة: من رهن رهنا صحيحا ثم أنصف من بعض دينه أقله أو أكثره

1222 - مسألة: لا يحل لأحد أن يرهن مال غيره عن نفسه

1223 - مسألة: إذا استحق الرهن، أو بعضه

1224 - مسألة: إذا رهن جماعة رهنا هو لهم عند واحد

1225 - مسألة: لا حق للمرتهن في شيء من رقبة الرهن

1226 - مسألة: رهن الدنانير والدراهم جائز طبعت أو لم تطبع

==========================





كتاب الرهن

1209 - مسألة: لا يجوز اشتراط الرهن إلا في البيع إلى أجل مسمى في السفر، أو في السلم إلى أجل مسمى في السفر خاصة، أو في القرض إلى أجل مسمى في السفر خاصة، مع عدم الكاتب في كلا الوجهين. برهان ذلك: أن اشتراط الرهن شرط وقد قال رسول الله ﷺ: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له. وقال عز وجل: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} إلى قوله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} فهاهنا يجوز اشتراط الرهن حيث أجازه الله تعالى. والدين إلى أجل مسمى لا يعدو أن يكون بيعا، أو سلما، أو قرضا. فهذه الوجوه يجوز فيها اشتراط التأجيل لورود النصوص بوجوبه في السلم، وجوازه في القرض، والبيع، ولا يجوز فيما عدا ذلك أصلا ; لأنه لم يأت في شيء من المعاملات سوى ما ذكرنا نص بجواز اشتراط التأجيل، فهو شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل. وصح عن مجاهد أنه لا يجوز الرهن إلا في السفر.

وأما الحضر: فلما رويناه من طريق البخاري، حدثنا مسدد، حدثنا عبد الواحد حدثه الأعمش، حدثنا إبراهيم، حدثنا الأسود عن عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، أن النبي ﷺ اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعه.

ومن طريق محمد بن المثنى حدثني عثمان بن عمر، حدثنا هشام بن حسان عن عكرمة، عن ابن عباس قال: والله لقد مات رسول الله ﷺ وإن درعه لمرهونة عند رجل من اليهود بعشرين صاعا من شعير أخذها طعاما لأهله فإن قيل: قد روى أنس أن النبي ﷺ أخذ شعيرا من يهودي بالمدينة ورهنه درعه، وليس فيه ذكر أجل. قلنا: ولا فيه اشتراط الرهن، ونحن لا نمنع من الرهن بغير أن يشترط في العقد، لأنه تطوع من الراهن حينئذ، والتطوع بما لم ينه عنه حسن. فإن ذكر حديث أبي رافع في بعثة النبي ﷺ إياه إلى يهودي ليسلفه طعاما لضيف نزل به فأبى إلا برهن فرهنه درعه. فهذا خبر انفرد به موسى بن عبيد الربذي وهو ضعيف ضعفه القطان، وابن معين، والبخاري، وابن المديني وقال أحمد بن حنبل: لا تحل الرواية عنه.

1210 - مسألة: ولا يجوز الرهن إلا مقبوضا في نفس العقد لقول الله تعالى: {فرهان مقبوضة}.

وقال قوم: إن شرطه أن يجعل الرهن عند ثقة فهو جائز وهو قول إبراهيم النخعي، والشعبي، وعطاء.

وبه يقول أبو حنيفة: ومالك، والشافعي. وقال آخرون: لا يجوز هذا وليس هو قبضا:

كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر، وسفيان الثوري قال معمر: عن قتادة. وقال سفيان: عن أشعث عن الحكم ثم اتفق قتادة، والحكم على أن الرهن إذا كان على يدي عدل فليس مقبوضا. قال سفيان:

وهو قول ابن أبي ليلى.

وبه يقول أبو سليمان، وأصحابنا. وصح أيضا عن الحارث العكلي من طريق هشيم عن المغيرة عنه.

قال أبو محمد: إنما ذكر الله تعالى القبض في الرهن مع ذكره المتداينين في السفر إلى أجل عند عدم الكاتب وإنما أقبض رسول الله ﷺ الدرع الذي له الدين فهو القبض الصحيح.

وأما قبض غير صاحب الدين فلم يأت به نص، ولا إجماع، واشتراط أن يقبضه فلان لا صاحب الدين: شرط ليس في كتاب الله تعالى، فهو باطل.

1211 - مسألة: ورهن المرء حصته من شيء مشاع مما ينقسم، أو لا ينقسم عند الشريك فيه وعند غيره جائز، لأن الله تعالى قال: {فرهان مقبوضة} ولم يخص تعالى مشاعا من مقسوم وما كان ربك نسيا وهو قول عثمان البتي, وابن أبي ليلى، ومالك، وعبيد الله بن الحسن، وسوار بن عبد الله، والشافعي، وأبي ثور, وأبي سليمان، وغيرهم.

وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يجوز رهن المشاع كان مما ينقسم أو مما لا ينقسم لا عند الشريك فيه، ولا عند غيره. وأجازوا أن يرهن اثنان أرضا مشاعة بينهما عند إنسان واحد، ومنعوا من أن يرهن المرء أرضه عند اثنين داينهما دينا واحدا في صفقة واحدة. وهذا تخليط ناهيك به: أول ذلك أنه قول لا نعلم أحدا قاله قبلهم.

والثاني: أنه قول بلا دليل والثالث: أنهم تناقضوا فيه كما ذكرنا.

وأيضا : فإنهم لا يختلفون في أن بيع المشاع جائز فيما ينقسم، وما لا ينقسم من الشريك وغيره. ومنع أبو حنيفة من إجازة المشاع فيما ينقسم وما لا ينقسم إلا من الشريك فيه وحده، فأجازه له. وهذه تخاليط ومناقضات لا خفاء بها وما نعلم لهم شيئا موهوا به إلا أنهم قالوا: لا يصح القبض في المشاع. ومن قولهم: إن البيع لا يتم إلا بالقبض، وقد أجازوا البيع في المشاع، فالقبض عندهم ممكن في المشاع حيث اشتهوا، وهو البيع، والقبض عندهم غير ممكن في المشاع حيث لم يشتهوا، وهو الرهن وحسبنا الله ونعم الوكيل. ويقال لهم: كما يقبض في البيع كذلك يقبض في الرهن، ولا فرق.

1212 - مسألة : وصفة القبض في الرهن وغيره: هو أن يطلق يده عليه، فما كان مما ينقل نقله إلى نفسه، وما كان مما لا ينقل كالدور، والأرضين أطلقت يده على ضبطه، كما يفعل في البيع، وما كان مشاعا كان قبضه له كقبض صاحبه لحصته منه مع شريكه، ولا فرق ولو كان القبض لا يصح في المشاع لكان الشريكان فيه غير قابضين له، ولو كانا غير قابضين له لكان مهملا لا يد لأحد عليه، وهذا أمر يكذبه الدين، والعيان: أما الدين: فتصرفهما فيه تصرف ذي الملك في ملكه وأما العيان: فكونه عند كل واحد مدة يتفقان فيها، أو عند من يتفقان على كونه عنده وبالله تعالى التوفيق.

1213 - مسألة: والرهن جائز في كل ما يجوز بيعه. ولا يجوز فيما لا يجوز بيعه: كالحر، وأم الولد، والسنور، والكلب، والماء، لأنه وثيقة للمرتهن لينتصف إن مطل، ولا يمكن الأنتصاف للغريم إلا مما يجوز بيعه وبالله تعالى نتأيد.

1214 - مسألة: ومنافع الرهن كلها لا تحاش منها شيئا لصاحبه الراهن له كما كانت قبل الرهن، ولا فرق حاشا ركوب الدابة المرهونة، وحاشا لبن الحيوان المرهون، فإنه لصاحب الرهن كما ذكرنا إلا أن يضيعهما فلا ينفق عليهما. وينفق على كل ذلك المرتهن فيكون له حينئذ: ركوب الدابة، ولبن الحيوان، بما أنفق لا يحاسب به من دينه كثر ذلك أم قل. برهان ذلك: قول الله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} وقول رسول الله ﷺ: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام وحكم عليه السلام بأنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه وملك الشيء المرتهن باق لراهنه بيقين وبإجماع لا خلاف فيه، فإذ هو كذلك، فحق الرهن الذي حدث فيه للمرتهن، ولم ينقل ملك الراهن عن الشيء المرهون لا يوجب حدوث حكم في منعه ما للمرء أن ينتفع به من ماله بغير نص بذلك، فله الوطء، والأستخدام، والمؤاجرة، والخياطة، وأكل الثمرة الحادثة، والولد الحادث، والزرع، والعمارة، والأصواف الحادثة، والسكنى، وسائر ما للمرء في ملكه، إلا كون الرهن في يد المرتهن فقط، بحق القبض الذي جاء به القرآن، ولا مزيد.

وأما الركوب، والأحتلاب خاصة، لمن أنفق على المركوب، والمحلوب: فلما روينا من طريق البخاري، حدثنا محمد بن مقاتل أنا عبد الله بن المبارك أنا زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب: النفقة والنص قد ورد بتحريم الأموال على غير من له فيها حق، فالرهن بلا شك حرام على كل من عدا الراهن، وللمرتهن فيه حق الأرتهان، فدخل به في هذا العموم وخرج منه من عداه بالنص الآخر.

قال أبو محمد: ومن خالفنا في هذا فإنه يخالف القرآن، والسنن، والمعقول: أما القرآن، والسنن فمنعه صاحب الحق من منافع ماله والله تعالى يقول: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} فقد أطلقه الله تعالى على وطء أمته، ولم يخص غير مرهونة من مرهونة وما كان ربك نسيا وقال تعالى: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}

وأما خلاف المعقول: فإننا نسأل من خالفنا هاهنا عن الدار المرهونة أتؤاجر ويصلح ما هي فيها، أم تهمل وتضيع ويخرج المستأجر لها عنها وعن الأرض المرهونة، أتحرث وتزرع، أم تهمل وتضاع وعن الحيوان المرهون أينفق عليه ويستغل، أم يضيع حتى يهلك وعن الأشجار المرهونة لمن تكون غلتها فإن قالوا: إن كل ذلك يضيع: خالفوا الإجماع، وقيل لهم: قد نهى رسول الله ﷺ عن إضاعة المال.

وإن قالوا: لا يضيع.

قلنا: فالمنافع المذكورة من الإجارة واللبن، والولد، والصوف، والثمرة لمن تكون

فإن قالوا: تكون داخلا في الرهن.

قلنا لهم: ومن أين لكم إدخال مال من ماله في رهن لم يتعاقدا قط أن يكون داخلا فيه ومن أمر بهذا فلا سمع له، ولا طاعة، ولا نعمى عين، لأنه خلاف قول النبي ﷺ: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام وهذا تحريم ماله عليه وإباحته لغيره وهذا باطل متيقن.

وإن قالوا: بل هو لصاحب الملك .

قلنا: نعم، وهذا قولنا ولله الحمد وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه من قوله مثل قولنا: وهو، أنه قال: صاحب الرهن يركبه، وصاحب الدر يحلبه، وعليهما النفقة و، أنه قال: الرهن مركوب، ومحلوب بعلفه.

ومن طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي: فيمن ارتهن شاة ذات لبن قال: يشرب المرتهن من لبنها بقدر ثمن علفها، فإن استفضل من اللبن بعد ثمن العلف فهو ربا.

قال أبو محمد: هذه الزيادة من إبراهيم لا نقول بها، وعموم قول النبي ﷺ أحب إلينا من تفسير أبي عمران رحمه الله برأيه. ولا مخالف لأبي هريرة هاهنا من الصحابة نعلمه.

وقال الشافعي: جميع منافع الرهن للراهن كما كانت. وقال أبو ثور بذلك وبقولنا في الركوب، والحلب، إلا أنه زاد الأستخدام، ولا نقول بهذا لأنه لم يأت به النص، والقياس لا يستحل به المحرم من أموال الناس وما كان ربك نسيا وقال إسحاق، وأحمد بن حنبل: لا ينتفع الراهن من الرهن إلا بالدر وهذا قول بلا برهان.

وأما مالك فإنه قال: لا بأس أن يشترط المرتهن منفعة الرهن إلى أجل في الدور، والأرضين، وكره ذلك في الحيوان، والثياب والعروض وهذا قول لا برهان على صحته، وتقسيم فاسد، وشرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، وقول لا نعلم أحدا قاله قبله، ومناقضة. وأتى بعضهم بغريبة وهو، أنه قال: هو في العروض سلف جر منفعة فقيل له: وهو في العقار كذلك، ولا فرق وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنهم منعوا من مؤاجرة الرهن، ومن أن ينتفع به الراهن والمرتهن ثم تناقضوا من قرب فأباحوا للراهن أن يستعيره من المرتهن، وأن يعيره إياه المرتهن، ولم يروه بذلك خارجا من الرهن وهذا قول في غاية الفساد لتعريه من البرهان، ولأننا لا نعلم أحدا قال به قبله. واعترض بعضهم بأن قال: فإذا كانت المنافع للراهن كما كانت فأي فائدة للرهن. قلنا: أعظم الفائدة: أما في الآخرة، فالعمل بما أمر الله تعالى به والأجر، وأما في الدنيا، فلأن الراهن إن مطل بالإنصاف بيع الرهن وتعجل المرتهن الأنتصاف من حقه، فأي فائدة تريدون أكثر من هذه الفائدة ونقول لهم: أنتم توافقوننا على أنه لا يحل القمح بالقمح إلا مثلا بمثل، فأي فائدة في هذا وكذلك الذهب بالذهب، والفضة بالفضة وهذه اعتراضات بسوء الظن بصاحبها وليس إلا الأئتمار لله ولرسوله ﷺ. قال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}

وقال عز وجل: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} واعترض بعض من لا يتقي الله تعالى على حديث النبي ﷺ الذي أوردنا قبل من قوله عليه السلام: الرهن محلوب ومركوب فقال: هذا خبر رواه هشيم عن زكريا عن الشعبي عن أبي هريرة وذكر رسول الله ﷺ قال: إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب بنفقتها وتركب قال هذا الجاهل المقدم: فإذ المراد بذلك المرتهن فهو منسوخ بتحريم الربا وبالنهي عن سلف جر منفعة.

قال أبو محمد: وهذا كلام في غاية الفساد والجرأة، أول ذلك: إن هذا خبر ليس مسندا، لأنه ليس فيه بيان بأن هذا اللفظ من كلام رسول الله ﷺ وأيضا: فإن فيه لفظا مختلفا لا يفهم أصلا، وهو قوله: ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقتها وتركب، وحاشا الله أن يكون هذا من كلام رسول الله ﷺ المأمور بالبيان لنا، وهذه الرواية إنما هي من طريق إسماعيل بن سالم الصائغ مولى بني هاشم عن هشيم، فالتخليط من قبله، لا من قبل هشيم فمن فوقه، لأن حديث هشيم هذا رويناه من طريق سعيد بن منصور الذي هو أحفظ الناس لحديث هشيم وأضبطهم له فقال:، حدثنا هشيم عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة يرفع الحديث فيما زعم، قال: قال رسول الله ﷺ: الرهن يركب ويعلف، ولبن الدر إذا كان مرهونا يشرب وعلى الذي يشربه النفقة والعلف.

وأما قول هذا الجاهل: فإذ ذلك على المرتهن فهو منسوخ بالنهي عن الربا وبالنهي عن سلف جر منفعة: فقد كذب، وأفك، وما للربا هاهنا مدخل أصلا ولو أنهم اتقوا الربا لما أقدموا عليه جهارا إذ أباحوا التمرتين بالأربع تمرات، وإن كانت الأربع أكبر جسما، وأثقل وزنا. وإذ أباح بعضهم درهما فيه درهم ونصف بدرهم فيه درهم غير ثمن. وإذ أباحوا كلهم ألف درهم حاضرة بمائة دينار غائبة في الذمة. فهذا هو الربا حقا لا انتفاع الراهن بماله، ولا انتفاع المرتهن بالدر، والركوب المباحين له بالنص من أجل نفقته على المركوب والمحلوب. وقالوا أيضا: قد صح عن الشعبي أنه كره أن ينتفع الراهن من رهنه بشيء قالوا: وهو راوي الحديث، فلم يتركه إلا لفضل علم عنده.

قال أبو محمد: وهذا من أسخف ما يأتون به، ولقد كنا نظن أن في بلادهم بعض العذر لهم، إذ يحتجون بترك الصاحب لما روي حتى أتونا بترك السنة من أجل ترك الشعبي لها. وقد أوردنا أخذ أبي هريرة بما روي من ذلك، فلئن مشوا هكذا، ليكونن ترك مالك للأخذ بما روي حجة على الحنفيين في أخذهم به، وليكونن ترك أبي حنيفة لما بلغه من الحديث حجة على المالكيين في أخذهم به، وهكذا سفلا حتى يكون ترك كل أحد للحديث عن النبي ﷺ إذا بلغه حجة قاطعة في رده. وهذا مذهب إبليس ومن اتبعه، ولا كرامة لأحد أن يكون حجة على رسول الله ﷺ بل هو عليه السلام الحجة على الجن والإنس. وأسلم الوجوه لمن خالف ما روي عن صاحب فمن دونه من الأئمة خاصة أن يظن بهم النسيان أو التأويل الذي أخطئوا فيه قاصدين للخير، فيؤجرون مرة واحدة، وأما من أقدم على ما صح عنده عن النبي ﷺ فإن اعتقد جواز مخالفته عليه السلام كافر حلال الدم والمال، وإن لم يعتقد ذلك فهو فاسق قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}.

قال أبو محمد: وقد روي، عن ابن مسعود، وابن عمر، وشريح: أن لا ينتفع المرتهن بشيء من الرهن، ولا يصح عن أحد منهم، لأنه، عن ابن مسعود منقطع وعن ابن عمر من طريق ابن لهيعة، وعن شريح من طريق جابر الجعفي. بل قد صح، عن ابن سيرين، والشعبي: لا ينتفع من الرهن بشيء وهذا صحيح إن كانوا عنوا المرتهن وبه نقول إلا الحلب، والركوب إن أنفق فقط، وإلا فلا وبالله تعالى التوفيق.

وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأبو سليمان: نفقة الرهن على راهنه

وهذا صحيح، لأنه ماله، إلا أن الحنفيين قالوا: إن مرض الرقيق المرهون، أو أصابت العبد جراحة، أو دبرت الدواب المرهونة، فإن كان الدين، وقيمة الرهن سواء، فالعلاج كله على المرتهن، وإن كان الدين أقل من قيمة الرهن فالعلاج على الراهن والمرتهن بحساب ذلك. وهذا كلام يشبه الهذيان إلا أنه أسوأ حالا من الهذيان، لأنه على حكم في الدين بالآراء الفاسدة التي لا نعلم أحدا قالها قبله، ولا متعلق لهم فيها بقرآن، ولا سنة، ولا برواية ضعيفة، ولا بقياس، ولا برأي سديد، ولا بقول متقدم.



1215 - مسألة: فإن مات الرهن، أو تلف، أو أبق، أو فسد، أو كانت أمة فحملت من سيدها، أو أعتقها، أو باع الرهن، أو وهبه، أو تصدق به، أو أصدقه: فكل ذلك نافذ، وقد بطل الرهن وبقي الدين كله بحسبه، ولا يكلف الراهن عوضا مكان شيء من ذلك، ولا يكلف المعتق، ولا الحامل استسعاء، إلا أن يكون الراهن لا شيء له من أين ينصف غريمه غيره، فيبطل عتقه ; وصدقته، وهبته، ولا يبطل بيعه، ولا إصداقه.

روينا من طريق ابن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا إسرائيل عن المغيرة بن مقسم الضبي عن إبراهيم النخعي فيمن رهن عبده ثم أعتقه قال: العتق جائز، ويتبع المرتهن الراهن، قال يحيى: وسمعت الحسن بن حي يقول فيمن رهن عبدا ثم أعتقه: العتق جائز، وليس عليه سعاية. برهان ذلك: أن الدين قد ثبت فلا يبطله شيء إلا نص قرآن، أو سنة، فلا سبيل إلى وجود إبطاله فيهما. ولا يجوز تكليف عوض، ولا استسعاء، لأنه لم يأمر الله تعالى بذلك، ولا رسوله ﷺ والذمم بريئة إلا بنص قرآن، أو سنة.

فأما العتق، والبيع، والهبة، والإصداق، والصدقة ; فإن الرهن مال الراهن بلا خلاف: وكل هذه الوجوه مباحة للمرء في ماله بنص القرآن والسنة، والإجماع المتيقن، إلا من لا شيء له غير ذلك لقول النبي ﷺ: كل معروف صدقة وقوله: الصدقة عن ظهر غنى. فمن ادعى أن الأرتهان يمنع شيئا من ذلك فقوله باطل، ودعواه فاسدة إذ لا سبيل له إلى قرآن، ولا سنة، بتصحيح دعواه. قال تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}. وقد اختلفوا في ذلك: فقال عثمان البتي، وأبو ثور، وأبو سليمان: العتق باطل بكل حال وهو قول عطاء

وقال مالك، والشافعي: إن كان موسرا نفذ عتقه وكلف قيمة يجعلها رهنا مكانه، وإن كان معسرا فالعتق باطل.

وقال أحمد بن حنبل: العتق نافذ على كل حال، فإن كان موسرا كلف قيمته تكون رهنا، وإن كان معسرا لم يكلف قيمته، ولا كلف العبد استسعاء ونفذ العتق.

وقال أبو حنيفة: العتق نافذ بكل حال، ثم قسم كما نذكر بعد هذا.

وقال الشافعي: إن رهن أمة له فوطئها فحملت، فإن كان موسرا خرجت من الرهن وكلف رهنا آخر مكانها، وإن كان معسرا، فمرة قال: تخرج من الرهن، ولا يكلف رهنا مكانها، ولا تكلف هي شيئا ومرة قال: تباع إذا وضعت، ولا يباع الولد، وتكليف رهن آخر: والتفريق هاهنا بين الموسر والمعسر، وبيعها بعد وضعها دون ولدها أقوال فاسدة بلا برهان. وقال أبو ثور: هي خارجة من الرهن، ولا يكلف لا هو، ولا هي شيئا سواء معسرا كان أو موسرا.

وروينا عن قتادة: أنها تباع هي، ويكلف سيدها أن يفتك ولده منها.

قال أبو محمد: افتكاك الولد لا ندري وجهه، ولئن كان مملوكا فلأي معنى يكلف والده افتكاكه وإن كان حرا فلم يباع حتى يحتاج إلى افتكاكه.

وروينا، عن ابن شبرمة: أنها تستسعى وكذلك العبد المرهون إذا أعتق.

قال أبو محمد: وهذا عجب: وما ندري من أين حل أخذ مالهما وتكليفهما غرامة لم يكلفهما الله تعالى قط إياها، ولا رسوله ﷺ وما جعل الله تعالى فيهما شركا للمرتهن فيستسعى له وأما مالك فقال: إن كان موسرا كلف أن يأتي بقيمتها فتكون القيمة رهنا وتخرج هي من الرهن، وإن كان معسرا فإن كانت تخرج إليه وتأتيه فهي خارجة من الرهن، ولا تتبع بغرامة، ولا يكلف هو رهنا مكانها، ولكن يتبع بالدين الذي عليه فقط، وإن كان تسور عليها بيعت هي وأعطي هو ولده منها.

قال أبو محمد: في هذا القول خمسة أوجه من الخطإ: وهي: تفريقه بين المعسر، والموسر، في ذلك والحق عليهما واحد. وتكليفه إحضار قطعة من ماله لترهن لم يعقد قط فيها رهنا. وتفريقه بين خروجها إلى سيدها وبين تسوره عليها. وهما آمنة في كلا الوجهين، وهي مرهونة في كلا الوجهين، وهذا عجب جدا. وبيعه إياها وهي أم ولد، وإخراجه ولدها من حكم الرهن بلا تكليف عوض بخلاف الأم، وكلاهما عنده لا يجوز رهنهما. وكل هذه أوجه فاحشة الخطإ لا متعلق لها فيها بقرآن، ولا سنة، ولا رواية سقيمة، ولا إجماع، ولا دليل، ولا قياس، ولا رأي له وجه، ولا قول صاحب نعم، ولا قول أحد نعلمه قبله.

وقال أبو حنيفة، وأصحابه إن حملت فأقر بحملها، فإن كان موسرا خرجت من الرهن وكلف قضاء الدين إن كان حالا، أو كلف رهنا بقيمتها إن كان إلى أجل. فإن كان معسرا كلفت أن تستسعى في الدين الحال بالغا ما بلغ، ولا ترجع به على سيدها، ولا يكلف ولدها سعاية، فإن كان الدين إلى أجل كلفت أن تستسعى في قيمتها فقط، فجعلت رهنا مكانها، فإذا حل أجل الدين كلفت من ذي قبل أن تستسعى في باقي الدين إن كان أكثر من قيمتها. قالوا: فإن كان السيد استلحق ولدها بعد وضعها له وهو معسر قسم الدين على قيمتها يوم ارتهنها، وعلى قيمة ولدها يوم استلحق، فما أصاب الأم سعت فيه بالغا ما بلغ للمرتهن، ولم ترجع به على سيدها، وما أصاب الولد سعى في الأقل من الدين أو قيمته ورجع به على أبيه ويأخذ المرتهن كل ذلك. قالوا: فلو كان الرهن عبدا فأعتقه نفذ فيه العتق، وخرج من الرهن. فإن كان الراهن موسرا والدين حالا كلف غرم الدين. فإن كان الدين إلى أجل كلف السيد قيمة العبد تكون رهنا مكانه. فإن كان معسرا استسعي العبد في الأقل من قيمته أو الدين، ورجع به على سيده، ورجع المرتهن على الراهن بباقي دينه.

قال أبو محمد: إن في هذه الأقوال لعبرة لمن اعتبر ونعوذ بالله من الخذلان وإن من العجب تفريقه بين ما تستسعى فيه الأم وبين ما يستسعى فيه العبد المعتق، وبين ما يستسعى فيه الولد وهو عنده حر لاحق النسب فما بال أمة خرجت أم ولد من سيدها بوطء مباح. وما بال إنسان حر ابن حر ولد على فراش أبيه. وما بال عبد عتق يكلفون الغرامات دون جناية جنوها، ولا ذنب اقترفوه فتستباح أموالهم بالباطل، ويكلفون ما لم يكلفهم الله تعالى به قط، ولا رسوله عليه السلام، ولا أحد من المسلمين قبل أبي حنيفة ثم يكلفونهم ما ذكرنا، ويسلمون صاحب الجناية عندهم من الغرامة ما شاء الله كان. وكل ما يدخل على مالك مما ذكرنا قبل فإنه يدخل على أبي حنيفة إلا فرق مالك بين خروجها إليه وبين تسوره عليها. ويزيد من التناقض والفساد في قول أبي حنيفة تفريقه بين الدين الحال والمؤجل في ذلك وتفريقه بين ما تكلفه الأم وبين ما يكلفه الولد. وتفريقه بين إقراره بالحمل وبين إقراره بالولد بعد الوضع فيما يكلفه من الأستسعاء في الحالين. وتفريقه بين ما تكلفه أم الولد وبين ما يكلفه العبد بعتق. وتفريقه بين الرجوع مرة على السيد بما غرم الغارم منهم وبين منعهم من الرجوع عليه مرة بذلك. وأغرب من ذلك كله قوله: إن الولد يستسعى، فليت شعري إلى متى بقي هذا الدين المسخوط حتى ولد المحمول به، وحتى فطم، وكبر، وبلغ، وتصرف أفإن مات قبل ذلك ماذا يكون كل هذا بلا دليل أصلا، لا من قرآن، ولا سنة، ولا رواية سقيمة،، ولا قول أحد من ولد آدم قبلهم، ولا قياس أصلا، ولا رأي له وجه ما مثل عقول أنتجت هذه الأقوال بمأمونة على تدبير نواة محرقة، فكيف على التحكم في الدين وإن نعم الله تعالى علينا لعظيمة في توفيقه لنا إلى اتباع كتابه، وسنن رسوله ﷺ. ولا يموهون بأن يقول: قسنا ذلك على الأستسعاء الثابت عن النبي ﷺ في العبد المشترك يعتقه سيده وهو معسر، فإن ذلك الحكم في عبد يملكه اثنان فصاعدا وليس هاهنا مالك غير المعتق عبده والمولد أمته. ولو كان القياس حقا لكان هذا منه عين الباطل، لأنه قياس حكم على ما لا يشبهه، وعلى ما ليس منه في ورود، ولا في صدر قال أبو محمد: ثم نسألهم ما الفرق بين عتقه وهبته وبيعه وإصداقه، إذ أجزتم البيع بغير إجماع، ومنعتم من سائر ذلك

وأما هلاك الرهن بغير فعل الراهن، ولا المرتهن، فللناس فيه خمسة أقوال: قالت طائفة: يترادان الفضل: تفسير ذلك: أن الرهن إن كانت قيمته وقيمة الدين سواء، فقد سقط الدين عن الذي كان عليه، ولا ضمان عليه في الرهن. فإن كانت قيمة الرهن أكثر سقط الدين بمقداره من الرهن وكلف المرتهن أن يؤدي إلى الراهن مقدار ما كان تزيده قيمة الرهن على قيمة الدين. وإن كانت قيمة الرهن أقل سقط من الدين بمقداره وأدى الراهن إلى المرتهن فضل ما زاد الدين على قيمة الرهن.

روينا من طريق الحكم، وقتادة: أن علي بن أبي طالب قال: يتراجعان الفضل يعني في الرهن يهلك.

وروي أيضا، عن ابن عمر وهو قول عبيد الله بن الحسن، وأبي عبيد، وإسحاق بن راهويه.

وقالت طائفة: إن كانت قيمة الرهن أكثر من قيمة الدين أو مثلها فقد بطل الدين كله، ولا غرامة على المرتهن في زيادة قيمة الرهن على قيمة الدين، فإن كانت قيمة الرهن أقل من قيمة الدين سقط من الدين بمقدار قيمة الرهن وأدى الراهن إلى المرتهن ما بقي من دينه:

روينا هذا من طريق مطر الوراق عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عمر بن الخطاب ومن طريق وكيع عن علي بن صالح بن حي عن عبد الأعلى بن عامر عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب: ومن طريق قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عن علي ومن طريق وكيع عن إدريس الأودي عن إبراهيم بن عمير قال: سمعت ابن عمر يقول: مثل ذلك وهو قول إبراهيم النخعي، وقتادة.

وبه يقول أبو حنيفة، وأصحابه.

وقالت طائفة: ذهب الرهن بما فيه سواء كان كقيمة الدين أو أقل أو أكثر إذا تلف سقط الدين، ولا يغرم أحدهما للآخر شيئا صح هذا عن الحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وشريح، والشعبي، والزهري، وقتادة وصح عن طاووس في الحيوان يرتهن وروينا عن النخعي، والشعبي فيمن ارتهن عبدا فأعور عنده قالا: ذهب بنصف دينه.

وقالت طائفة: إن كان الرهن مما يخفى كالثياب، ونحوها، فضمان ما تلف منها على المرتهن بالغة ما بلغت ويبقى دينه بحسبه حتى يؤدي إليه بكماله، وإن كان الرهن مما يظهر كالعقار، والحيوان، فلا ضمان فيه على المرتهن ودينه باق بكماله حتى يؤدي إليه وهو قول مالك.

وقالت طائفة: سواء كان مما يخفى أو مما لا يخفى لا ضمان فيه على المرتهن أصلا ودينه باق بكماله حتى يؤدي إليه وهو قول الشافعي، وأبي ثور، وأحمد بن حنبل، وأبي سليمان، وأصحابهم.

وروينا من طريق الحجاج بن المنهال، حدثنا همام بن يحيى أنا قتادة عن خلاس أن علي بن أبي طالب قال في الرهن: يترادان الفضل فإن أصابته جائحة برئ فصح أن علي بن أبي طالب لم ير تراد الفضل إلا فيما تلف بجناية المرتهن لا فيما أصابته جائحة، بل رأى البراءة له مما أصابته جائحة وصح عن عطاء، أنه قال: الرهن وثيقة إن هلك فليس عليه غرم يأخذ الدين الذي له كله. وعن الزهري، أنه قال في الرهن يهلك أنه لم يذهب حق هذا إنما هلك من رب الرهن له غنمه وعليه غرمه.

قال أبو محمد: أما تفريق مالك بين ما يخفى وبين ما لا يخفى: فقول لا برهان على صحته لا من قرآن، ولا من سنة، ولا من رواية سقيمة، ولا قياس، ولا قول أحد نعلمه قبله فسقط، وإنما بنوه على التهمة ; والتهمة ظن كاذب يأثم صاحبه، ولا يحل القول به، والتهمة متوجهة إلى أحد وفي كل شيء.

وأما قول أبي حنيفة فإنهم احتجوا بخبر مرسل رويناه من طريق سعيد بن المسيب أن رسول الله ﷺ قال: لا يغلق الرهن من صاحبه له غنمه وعليه غرمه، لا يغلق الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه. وقالوا: قد أجمع الصحابة على تضمين الرهن، والمرتهن أمين فيما زاد من قيمة الرهن على قيمة دينه.

قال أبو محمد: أما قولهم: إن المرتهن أمين فيما فضل من قيمة الرهن على قيمة دينه، فدعوى فاسدة، وتفريق بلا دليل، وما هو إلا أمين في الكل أو غير أمين في الكل.

وأما قولهم: أجمع الصحابة على تضمين الرهن، فقول جروا فيه على عادتهم الخفيفة على ألسنتهم من الكذب على الصحابة بلا مؤنة. ويا للمسلمين هل جاء في هذا كلمة عن أحد من الصحابة إلا عن عمر، وعلي، وابن عمر فقط.

فأما عمر فلم يصح عنه ذلك، لأنه من رواية عبيد بن عمير وعبيد لم يولد إلا بعد موت عمر أو أدركه صغيرا لم يسمع منه شيئا.

وأما ابن عمر فلا يصح عنه ; لأنه من رواية إبراهيم بن عمير عنه وهو مجهول وقد روي عنه يترادان الفضل.

وأما علي فمختلف عنه في ذلك، وأصح الروايات عنه إسقاط التضمين فيما أصابته جائحة كما أوردنا آنفا. ثم أعجب شيء دعواهم أن الصحابة أجمعوا على تضمين الرهن، فإن صح ذلك فهم قد خالفوا الإجماع، لأنهم لا يضمنون بعض الرهن وهو ما زاد من قيمته على قيمة الدين فهذا حكمهم على أنفسهم.

وأما الحديث الذي ذكروا فمرسل، ولا حجة في مرسل، ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة أصلا، لأنه لا يدل على شيء من قولهم، ولا تقسيمهم، وإنما مقتضاه لو صح هو أن قول لا يغلق الرهن ممن رهنه بضم الراء وكسر الهاء، له غنمه وعليه غرمه، فوجب ضمان الرهن على المرتهن، ولا بد بخلاف قولهم. وقوله لا يغلق الرهن من صاحبه له غنمه وعليه غرمه إن كان أراد بصاحبه مالكه، وهو الأظهر، فهو يوجب أن خسارته منه، ولا يضمنه له المرتهن، وإن كان أراد بصاحبه المرتهن فهو يوجب ضمانه له بكل حال، فصار حجة عليهم بكل وجه، وبطل قولهم، ونقول لهم: في أي الأصول وجدتم شيئا واحدا رهنا كله عن دين واحد بعضه مضمون وبعضه أمانة وأنتم تردون السنن بخلافها بالأصول بزعمكم ثم تخالفونها جهارا بلا نص.

وأما من قال " يترادان الفضل " فما نعلم لهم حجة أصلا إلا أنه استحسان وكأنه لما كان الرهن مكان الدين تقاصا فيه، وهذا رأي، والدين لا يؤخذ بالآراء.

وأما من قال " ذهبت الرهون بما فيها " فإنهم احتجوا بخبر رويناه من طريق مصعب بن ثابت عن عطاء أن رجلا رهن فرسا فهلك عنده فقال رسول الله ﷺ: ذهب حقك.

قال أبو محمد: هذا مرسل، ومصعب بن ثابت ليس بالقوي.

قال أبو محمد: فإذ قد بطل كل ما موهوا به، فالواجب الرجوع إلى القرآن، والسنة، فوجدنا ما حدثناه أحمد بن قاسم، حدثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم، حدثنا جدي قاسم بن أصبغ حدثني محمد بن إبراهيم حدثني يحيى بن أبي طالب الأنطاكي وجماعة من أهل الثقة، حدثنا نضر بن عاصم الأنطاكي، حدثنا شبابة عن ورقاء، حدثنا أبي ذئب عن الزهري عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لا يغلق الرهن، الرهن لمن رهنه، له غنمه، وعليه غرمه. فهذا مسند من أحسن ما روي في هذا الباب، وادعوا أن أبا عمر المطرز غلام ثعلب، قال: أخطأ من قال: إن الغرم الهلاك.

قال أبو محمد: وقد صح في ذم قوم في القرآن قوله تعالى: {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما}. أي يراه هالكا بلا منفعة، فالقرآن أولى من رأي المطرز

قال أبو محمد: ووجدنا النبي ﷺ قد قال: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام. فلم يحل لغريم المرتهن شيئا، ولا أن يضمن الرهن بغير نص في تضمينه إلا أن يتعدى فيه، أو بأن يضيعه فيضمنه حينئذ باعتدائه في كلا الوجهين.

وكذلك الدين قد وجب فلا يسقطه ذهاب الرهن.

فصح يقينا من هذين الأصلين الصحيحين بالقرآن، والإجماع، والسنة: أن هلاك الرهن من الراهن، ولا ضمان على المرتهن، وأن دين المرتهن باق بحسبه لازم للراهن وبالله تعالى التوفيق.

وأما ما تولد من الرهن فإننا روينا من طريق عمرو بن دينار: أن معاذ بن جبل قضى فيمن ارتهن أرضا فأثمرت، فإن الثمرة من الرهن.

ومن طريق طاووس: أن في كتاب معاذ " من ارتهن أرضا فهو يحتسب ثمرها لصاحب الرهن ".

قال أبو محمد: الحكمان متضادان، وهما قولان: أحدهما: أن الثمرة لصاحب الرهن والآخر: أنها من الرهن.

وقال أبو حنيفة: الولد، والغلة، والثمرة، رهن مع الأصول. ثم تناقضوا، فقالوا: إن هلك الولد، والغلة، والثمرة: لم يسقط من أجل ذلك من، الدين شيء، وإن هلك الأصل، والأم، والشجر: قسم الدين على ذلك، وعلى النماء، فما وقع للأصل سقط، وما وقع للنماء بقي.

قال أبو محمد: وهذا تناقض فاحش، لأن كل ذلك رهن عندهم، ثم خالفوا بين أحكامها بلا برهان.

وقال مالك: أما الولد فداخل في الرهن، وأما الغلة والثمرة، فخارجان من الرهن وهذا تقسيم فاسد جدا بلا برهان.

فإن قالوا: إن الولد بعض الأم . قلنا: كذب من قال هكذا وكيف يكون بعضها، وقد يكون ذكرا وهي أنثى، ويكون مسلما، وهي كافرة ثم يقال لهم: والثمرة أيضا بعض الشجر دعوى كدعوى.

وقال الشافعي: كل ذلك لصاحب الأصل، ولا يدخل شيء منه في الرهن وهو الحق، لأن الرهن هو ما تعاقدا عليه الصفقة، لا ما لم يتعاقداها عليه، وكل ما ذكرنا شيء لم يتعاقدا الصفقة عليه، فكله غير الأصل، وكله حادث في ملك صاحب الأصل، فكله له وبالله تعالى التوفيق.

1216 - مسألة: فإن مات الراهن أو المرتهن بطل الرهن ووجب رد الرهن إلى الراهن أو إلى ورثته، وحل الدين المؤجل، ولا يكون المرتهن أولى بثمن الرهن من سائر الغرماء حينئذ، وذلك لقول الله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} فإذا ما مات المرتهن فإنما كان حق الرهن له، لا لورثته، ولا لغرمائه، ولا لأهل وصيته، وإنما تورث الأموال لا الحقوق التي ليست أموالا: كالأمانات، والوكالات، والوصايا وغير ذلك. فإذا سقط حق المرتهن بموته وجب رد الرهن إلى صاحبه. وإذا مات الراهن فإنما كان عقد المرتهن معه لا مع ورثته، وقد سقط ملك الراهن عن الرهن بموته، وانتقل ملكه إلى ورثته أو إلى غرمائه، وهو أحد غرمائه، أو إلى أهل وصيته، ولا عقد للمرتهن معهم، ولا يجوز عقد الميت على غيره فيكون كاسبا عليهم، فالواجب رد متاعهم إليهم، ولقول رسول الله ﷺ: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام. وما نعلم لمن خالف هذا حجة أصلا:

وروينا عن الشعبي فيمن رهن على يدي عدل فمات: أن الرهن له أي لورثته، قال: الحكم هو للغرماء.

1217 - مسألة: ومن ارتهن شيئا فخاف فساده كعصير خيف أن يصير خمرا ففرض عليه أن يأتي الحاكم فيبيعه ويوقف الثمن لصاحبه إن كان غائبا أو ينصف منه الغريم المرتهن إن كان الدين حالا أو يصرف الثمن إلى صاحبه إن كان الدين مؤجلا، فإن لم يمكنه السلطان فليفعل هو ما ذكرنا لقول الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} ولنهي النبي ﷺ عن إضاعة المال، ولأن ثمن الرهن هو غير الرهن، وإنما عقده في الرهن لا في ثمنه، وإنما ثمنه مال من مال مالكه كسائر ماله، ولا فرق وبالله تعالى التوفيق.

1218 - مسألة: ولا يجوز بيع سلعة على أن تكون رهنا عن ثمنها، فإن وقع فالبيع مفسوخ، ولكن يجوز للبائع إمساك سلعته حتى ينتصف من ثمنها إن كان حالا وإلا فليس له ذلك. برهان ذلك: أنه اشترط منع المشتري من قبض ما اشترى مدة مسماة وهذا شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل.

وأيضا: فإن المشتري لا يملك ما اشترى إلا بتمام عقد البيع بينهما، والبيع لا يتم إلا بما نذكره في " كتاب البيوع " إن شاء الله تعالى من التفرق أو التخيير، فهو ما لم يتم البيع فإنما الشيء المبيع ملك للبائع، فإنما اشترطا في المسألة المذكورة كون شيء من مال البائع المرتهن رهنا عنده نفسه وهذا في غاية الفساد، وهو قول الشافعي، وأبي سليمان، وأصحابهما.

وأما إمساك البائع سلعته حتى ينتصف فإن حقه واجب في مال المشتري فإن مطله بحق قد وجب له عنده، فهو ظالم معتد لقول النبي ﷺ: مطل الغني ظلم، وإذ هو ظالم فكل ظالم معتد.

وقال تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} فالسلعة التي ابتاع مال من مال المشتري فللمطول بحقه المعتدى عليه أن يعتدي على المعتدي عليه بمثل ما اعتدى عليه به نص القرآن، فله إمساك السلعة حتى ينتصف.

روينا من طريق محمد بن عبد السلام الخشني، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا هشيم، وسفيان الثوري، قال سفيان الثوري: عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أن عمرو بن حريث قال فيمن باع سلعة فنقده المشتري بعض الثمن، فقال البائع: لا أعطيك السلعة حتى تجيء بالبقية، فجعل عمرو بن حريث السلعة رهنا بما بقي. وقال هشيم عن داود بن أبي هند عن الشعبي: أن عروة بن المغيرة بن شعبة جعل في ذلك أيضا السلعة رهنا بما بقي فهذا عمرو صاحب لا يعرف له في هذا مخالف من الصحابة.

1219 - مسألة: ولا يكون حكم الرهن إلا لما ارتهن في نفس عقد التداين، وأما ما ارتهن بعد تمام العقد فليس له حكم الرهن، ولراهنه أخذه متى شاء، لأن الله تعالى لم يجعل الرهن إلا في العقد كما تلونا وكل ما كان بعد ذلك فهو شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل.

1220 - مسألة: ومن تداين فرهن في العقد رهنا صحيحا، ثم بعد ذلك تداينا أيضا وجعلا ذلك الرهن رهنا عن هذا الدين الثاني، فالعقد الثاني باطل مردود، لأن ذلك الرهن قد صح في العقد الأول، فلا يجوز نقله إلى عقد آخر، إذ لم يوجب ذلك قرآن، ولا سنة، فهو شرع ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، وكل عقد انعقد على باطل فهو باطل، لأنه لم تعقد له صحة إلا بصحة ما لا صحة له، فلا صحة له وبالله تعالى التوفيق.

1221 - مسألة: ومن رهن رهنا صحيحا ثم أنصف من بعض دينه أقله أو أكثره فأراد أن يخرج عن الرهن بقدر ما أدى، لم يكن له ذلك، لأن الرهن وقع في جميعه بجميع الدين فلا يسقط عن بعض الرهن حكم الرهن من أجل سقوط بعض الدين، إذ لم يوجب ذلك قرآن، ولا سنة. هو قول الشافعي، وأصحابنا.

فإن قيل: كيف تمنعون من إخراج الرهن إلا برضا المرتهن، وتجيزون بيعه وعتقه والصدقة به، وهو إخراج له عن الرهن بغير إذن المرتهن

قلنا: لأن النص جاء بإيجاب الرهن فليس له إبطال ما صححه الله تعالى فإذا أخرجه عن ملكه جملة، فلم يمنعه الله تعالى من ذلك قط، لا في قرآن، ولا سنة، فإذا صار في ملك غيره فقد قال تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} وعقد المرتهن لم يكن قط مع الذي انتقل إليه الملك، فلا يجوز له ارتهان ماله عن غيره. ونقول لهم: إن جميعكم يعني المالكيين، والحنفيين، والشافعيين مجمعون على أن من قال لعبده: أنت حر إذا قدم أبي أنه قد عقد فيه عقدا لا يحل له الرجوع فيه أبدا، وأنه حر متى قدم أبوه، ثم لا خلاف بينكم في جواز بيعه قبل أن يأتي أبوه وإصداقه، وهبته، فأي فرق بين الأمرين إن أنصفتم أنفسكم.





كتاب الرهن

1222 - مسألة: ولا يحل لأحد أن يرهن مال غيره عن نفسه، ولا مال ولده الصغير أو الكبير، إلا بإذن صاحب السلعة التي يريد رهنها، ولا بغير إذنه، ولا مال يتيمه الصغير أو الكبير، ولا مال زوجته. وقال الحنفيون، والمالكيون: له أن يرهن عن نفسه مال ابنه الصغير. قال المالكيون: وللوصي أن يرهن مال يتيمه عن نفسه. وقالوا: إذا أذن الأجنبي لغيره أن يرهن ماله عن نفسه جاز. واحتجوا في ذلك أن للأب الوصي أن يودع مال الأبن واليتيم، فإدخاله في الذمة أحق بالجواز.

قال أبو محمد: وهذا باطل، لأنه لا يجوز لهما إيداعه، ولا قرضه، إلا حيث يكون ذلك نظرا وحياطة للصغير، ولا نظر له أصلا في أن يرهنه الأب والوصي عن أنفسهما، فهو ضرر، فهو مردود.

وأيضا: فإن للإنسان أن يودع الوديعة التي أودعت عنده أذا خشي هلاكها عنده، ورأى السلامة في إيداعها: فيلزمهم بهذا الاستدلال البديع أن يكون له أن يرهنها عن نفسه. واحتجوا في ذلك بما صح من طريق سويد بن غفلة عن عائشة أم المؤمنين عن النبي ﷺ، أنه قال: إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم.

ومن طريق الأسود بن يزيد عن أم المؤمنين عائشة عن النبي ﷺ، أنه قال: إن أطيب ما أكل الرجل من كسب يده وولده من كسبه. رويناهما من طريق قاسم بن أصبغ قال:، حدثنا بكر بن حماد، وأحمد بن زهير، قال بكر:، حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري، حدثنا إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة وقال أحمد: حدثنا أبي، حدثنا أبو معاوية الضرير عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن الأسود.

قال أبو محمد: وهذان الخبران إنما هما في الأكل، وهكذا نقول: يأكل منه ما شاء من بيته وغير بيته، وليسا في البيع، ولا في الأرتهان، ولا في الهبة. ولا في الأخذ والتملك فإن قالوا: قسنا ذلك على الأكل. قلنا: القياس كله باطل، ثم لو صح لكنتم قد تناقضتم أفحش تناقض من وجهين، أحدهما أن الله تعالى يقول: {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم} إلى قوله تعالى: {أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا} فأباح الله تعالى الأكل من بيوت الأصدقاء والتي مفاتحها بأيدينا وبيوت الإخوة والأخوات وسائر من ذكر في الآية فأبيحوا الأرتهان منها قياسا على الأكل بغير إذن أهلها وأنتم لا تفعلون ذلك فقد نقضتم قياسكم وتركتموه وقضيتم بفساده وهو أهل للفساد جملة، والثاني أنكم لا تجيزون أن يبيع من مال ابنه الصغير إلا على وجه النظر له، ولا أن يتملك منه شيئا أصلا لغير الحاجة الماسة إلا الأرتهان خاصة، وعند المالكيين أن يصدقه عن نفسه خاصة فكم هذا التناقض والتحكم في الدين بالآراء الفاسدة المضطربة، واحتجوا أيضا بما رويناه من طريق البزار، حدثنا محمد بن يحيى بن عبد الكريم، حدثنا عبد الله بن داود هو الخريبي عن هشام بن عروة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن رسول الله ﷺ، أنه قال: أنت ومالك لأبيك قال أبو محمد: فأباحوا به أن يرهن الرجل مال ابنه الصغير وأسقطوا عنه الحد في وطء أمة ابنه الصغير والكبير وأسقطوا عنه الحد فيما سرق من مال ابنه الكبير، والصغير، وقضوا على الأب بضمانه ورده، وأباح المالكيون به أن يصدق مال ابنه الصغير عن نفسه وأن يعتق رقبة ابنه الصغير خاصة ويضمن القيمة في ذلك كله.

قال أبو محمد: ولا حجة لهم في هذا الخبر بل هو حجة عليهم لأنهم أول من خالفوه فلم يبيحوا للأب من مال ابنه غير ما ذكرنا والحديث عام لم يخص هذه الوجوه من غيرها فلا يجوز لهم تخصيصها بدعوى كاذبة. ووجه آخر وهو أنهم لم يبيحوا الأرتهان والإصداق إلا من مال الأبن الصغير لا من مال الأبن الكبير فخالفوا الخبر وتحكموا في الدين بالتحريم، والتحليل بالدعوى المبطلة بلا برهان فإن ادعوا إجماعا كذبوا لأنه روينا من طريق ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه أن رجلا صنع شيئا في ماله ولم يستأذن أباه فسأل النبي ﷺ أو أبا بكر أو عمر فقال: اردد عليه فإنما هو سهم من كنانتك، وقد صح ما روينا من طريق ابن الجهم، حدثنا أبو قلابة الرقاشي، حدثنا روح، هو ابن عبادة، حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: يأخذ الأب، والأم من مال ولدهما بغير إذنه، ولا يأخذ الأبن والأبنة من مال أبويهما بغير إذنهما، وصح مثله نصا من طريق عبد بن حميد عن عبيد الله بن موسى العبسي عن سفيان الثوري عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد، هو ابن غفلة عن أم المؤمنين عائشة من قولها ; ومن طريق ابن الجهم، حدثنا بشر بن موسى الأسدي، حدثنا أحمد بن الوليد الأزرقي، حدثنا الحباب بن فضالة بن هرمز الحنفي قال: قلت لأنس بن مالك: جارية لي غلبني عليها أبي لم يخلطها مال لأبي فقال لي أنس: هي له، أنت ومالك من كسبه، أنت ومالك له حلال، وماله عليك حرام إلا ما طابت به نفسه.

ومن طريق ابن الجهم، حدثنا أبو قلابة، حدثنا أبو داود هو السجستاني، حدثنا محمد بن أبان عن حماد عن مسعود بن جبير، عن ابن عباس قال: أولادكم هبة الله لكم وأموالكم لكم.

روينا من طريق ابن مسعود عن عمر بن الخطاب أنه أتاه أب وابن والأبن يطلب أباه بألف درهم أقرضه إياها والأب يقول: إنه لا يقدر عليها فأخذ عمر بيد الأبن فوضعها في يد الأب فقال: هذا وماله من هبة الله لك. وعن علي بن أبي طالب نحو هذا وأنه قضى بمال الولد للوالد وجوز من قال غير هذا.

ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا غندر، عن ابن جريج كان عطاء لا يرى بأسا بأن يأخذ الرجل من مال ولده ما شاء من غير ضرورة.

ومن طريق ابن أبي شيبة عن إسرائيل عن جابر عن الشعبي عن مسروق قال: أنت من هبة الله لأبيك، أنت ومالك لأبيك. حدثنا ابن أبي شيبة، حدثنا عبيد الله، هو ابن موسى، حدثنا الحسن، هو ابن حي عن ليث عن مجاهد، والحكم، قالا جميعا: يأخذ الرجل من مال ولده ما شاء إلا الفرج، حدثنا ابن أبي شيبة، حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان الثوري عن أبي حمزة عن إبراهيم النخعي قال: الوالد في حل من مال ولده إلا الفرج.

ومن طريق شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري أنه خاصم أباه إلى الشعبي في مال له فقال الشعبي لعبد الله، أجعلك ومالك له يعني لولده.

ومن طريق عبد بن حميد، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين عن الحسن بن صالح بن حي عن أبيه عن الشعبي قال: الرجل في حل من مال ولده.

ومن طريق علي بن المديني، حدثنا محمد بن أبي عدي، أخبرنا ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح: أنه كان لا يرى بأسا أن يأخذ الرجل من مال ولده ما شاء ما لم يضاره ومن طريق عبد بن حميد، حدثنا يزيد بن هارون أنا داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب قال: الوالد يأكل من مال ولده ما شاء والولد لا يأكل من مال والده إلا بإذنه.

ومن طريق عبد بن حميد، حدثنا محمد بن بكر البرساني عن هشام بن حسان عن الحسن البصري قال: يأخذ الوالدان من مال ولدهما ما شاءا

ومن طريق عبد بن حميد، حدثنا وهب بن جرير بن حازم عن أبيه قال: سمعت الحسن وسأله سائل عن شيء من أمر والده فقال له الحسن: أنت ومالك لأبيك، أما علمت أنك عبد أبيك ومن طريق عبد بن حميد أنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن قال: يأخذ الرجل من مال ولده ما شاء وإن كانت جارية تسراها، قال قتادة: لم يعجبني ما قال في الجارية.

ومن طريق ليث عن مجاهد قال: يأخذ الرجل من مال ولده إلا الفرج. وقد روينا عن الحسن أيضا إلا الفرج. وقال ابن أبي ليلى: لا يغرم الأب ما استهلك من مال ولده، ويجوز بيعه لمال ولده الكبير.

قال أبو محمد: ما نعلم خلافا من الصحابة لمن ذكرنا منهم في هذه المسألة وهم: عمر، وعلي، وابن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وجابر بن عبد الله، وأنس، وابن عباس، إلا رواية صحت، عن ابن عمر، وأخرى عن علي لم يصح. ولا نعلم لمن ذكرنا من التابعين مخالفا في هذه المسألة إلا ابن سيرين، والنخعي، ومجاهدا، باختلاف عنهم والزهري، فإنهم يقولون كقولنا.

روينا من طريق عبد بن حميد، حدثنا الضحاك بن مخلد عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين قال: كل واحد منهما أولى بماله يعني الوالد والولد.

وبه إلى عبد: أخبرني جعفر بن عون عن أبي حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم قال: ليس للأب من مال ابنه إلا ما احتاج إليه من طعام، أو شراب، أو لباس.

ومن طريق عبد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: لا يأخذ الرجل من مال ولده شيئا إلا أن يحتاج فيستنفق بالمعروف، يعوله ابنه، كما كان الأب يعوله، فأما إذا كان الأب موسرا فليس له أن يأخذ من مال ابنه فيبقى به ماله، أو يضعه في ما لا يحل قال: فإذا كانت أم اليتيم محتاجة أنفق عليها من ماله، يدها مع يده، والموسرة لا شيء لها.

ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا عبيد الله بن موسى عن عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: خذ من مال ولدك ما أعطيته، ولا تأخذ منه ما لم تعطه ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: قال رجل لجابر بن زيد: إن أبي يحرمني ماله فقال له جابر: كل من مال أبيك بالمعروف. حدثنا ابن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون عن جرير بن حازم عن يونس بن يزيد عن الزهري عن سالم بن عبد الله أن حمزة بن عبد الله بن عمر نحر جزورا فجاء سائل فسأل ابن عمر فقال ابن عمر: ما هي لي فقال له حمزة: يا أبتاه فأنت في حل، أطعم منها ما شئت. حدثنا ابن أبي شيبة عن إسرائيل عن عبد الأعلى عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب قال: الرجل أحق بمال ولده إذا كان صغيرا فإذا كبر واحتاز ماله فهو أحق به إسرائيل ضعيف.

قال أبو محمد: يقول ابن سيرين، والنخعي، والزهري، ومجاهد، وجابر بن زيد، نقول في كل شيء إلا في الأكل خاصة فإن للأب والأم أن يأكلا من مال الولد حيث وجداه من بيت أو غير بيت فقط ثم لا شيء لهما، ولا حكم في شيء من ماله، لا بعتق، ولا بإصداق، ولا بارتهان، إلا إن كانا فقيرين، فيأخذ الفقير منهما ما احتاج من مال ولده من كسوة، وأكل، وسكنى، وخدمة، وما احتاجا إليه فقط.

وأما الولد فيأكل من بيت أبيه، وبيت أمه ما شاء بغير إذنهما، ولا يأكل من غير البيت شيئا، كما جاءت النصوص، لا يتعدى حدود الله، فإن احتاج أخذ أيضا كما قلنا في الوالدين لقول الله تعالى: {وبالوالدين إحسانا وبذي القربى} ثم الحدود، والأحكام لازمة للأب في جارية ولده، وفي مال ولده، ولازمة للأبن في جارية أبيه، وأمه، ومالهما، كما هي فيما بين الأجنبيين سواء. والعجب أن الحنفيين، والمالكيين يشنعون خلاف الصاحب لا يعرف له منهم مخالف إذا وافق شهواتهم، ويجعلونه إجماعا ويكذبون في ذلك. وأقرب ذلك: ما ذكرنا من دعوى الحنفيين إجماع الصحابة على تضمين الرهن، وليس منه إلا روايات لا تصح عن عمر، وابنه، وعلي فقط. وقد صحت عن علي رواية بإسقاط التضمين إذا أصابته جائحة، ثم لا يرون هاهنا ما قد صح عن عائشة وأنس، وابن عباس.

وروي عن علي وابن مسعود لا مخالف لهم يعرف من الصحابة رضي الله عنهم حجة أصلا، ولا يلتفتون إليه، إلا رواية عن عمر رويناها من طريق شعبة عن أبي بشر عن محمد بن قدامة الحنفي عن رجل منهم: أن رجلا خاصم أباه إلى عمر بن الخطاب في مال أخذه له أبوه فقال عمر: أما ما كان في يده فإنه يرده، وأما ما استهلك فليس عليه شيء. وهم قد خالفوا هذا أيضا، مع أنها لا تصح، لأنها عمن لا يدري من هو أليس هذا من أعجب العجب ومما ينبغي لذي الحياء أن يهابه، ولذي الدين أن يفرقه.

فإن قيل: فأنتم القائلون بكل ما صح عن النبي ﷺ فلم استحللتم ترك الثابت عنه من قوله عليه السلام: أنت ومالك لأبيك. قلنا: يعيذنا الله من أن نترك خبرا صح عنه عليه السلام، ولو أجلب علينا من بين البحرين إلا أن يصح نسخه وهذا الخبر منسوخ لا شك فيه لأن الله عز وجل حكم بميراث الأبوين، والزوج، والزوجة، والبنين، والبنات، من مال الولد إذا مات، وأباح في القرآن لكل مالك أمة وطأها بملك يمينه، وحرمها على من لا يملكها بقوله تعالى: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون فدخل في هذا من له والد، ومن لا والد له.

فصح أن مال الولد له بيقين، لا لأبويه، ولا حق لهما فيه إلا ما جاء به النص مما ذكرنا: من الأكل، أو عند الحاجة فقط. ولو كان مال الولد للوالد لما ورثت زوجة الولد، ولا زوج البنت، ولا أولادهما من ذلك شيئا، لأنه مال لأنسان حي، ولا كان يحل لذي والد أن يطأ جاريته أصلا، لأنها لأبيه كانت تكون. فصح بورود هذين الحكمين وبقائهما إلى يوم القيامة ثابتين غير منسوخين: أن ذلك الخبر منسوخ، وكذلك أيضا صح بالنص، والإجماع المتيقن: أن من ملك أمة، أو عبدا لهما والد فإن ملكهما لمالكهما، لا لأبيهما. فصح أيضا: أن قوله عليه السلام: إنه لأبيه منسوخ، وارتفع الإشكال والحمد لله وهذا مما احتجوا به بالأثر وخالفوا ذلك الأثر نفسه.

وأما رهن المرء السلعة تكون لغيره بإذن صاحبها فإن الرهن لا يجوز إخراجه عن الأرتهان إلا بخروجه عن ملك الراهن، أو بهلاكه، أو باستحالته، حتى يسقط عنه الأسم الذي كان عليه حين رهن، أو بقضاء الحق الذي رهن عنه، فالتزام غير الراهن للراهن هذا كله في سلعته شرط ليس في كتاب الله تعالى، فهو باطل، وله أخذ سلعته متى شاء فالرهن باطل لأنه ليس له حكم الرهون فيما ذكرنا فليس رهنا وبالله تعالى التوفيق.


1223 - مسألة: وإذا استحق الرهن، أو بعضه: بطلت الصفقة كلها، لأنهما تعاقدا صحتها بصحة الرهن، ولم يتعاقدا قط تلك المداينة إلا على صحة الرهن، وذلك الرهن لا صحة له، تلك المداينة لم تصح قط. وبالله تعالى التوفيق.


1224 - مسألة: وإذا رهن جماعة رهنا هو لهم عند واحد، أو رهن واحد عند جماعة، فأي الجماعة قضى ما عليه خرج حقه من ذلك الرهن عن الأرتهان، وبقي نصيب شركائه رهنا بحسبه.

وكذلك إن قضى الواحد بعض الجماعة حقه دون بعض فقد سقط حق المقضي في الأرتهان، ورجعت حصته من الرهن إلى الراهن، وبقيت حصص شركائه رهنا بحسبها، لقول الله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى}.

فصح أن لكل واحد منهم وبالله تعالى التوفيق.


1225 - مسألة: ولا حق للمرتهن في شيء من رقبة الرهن، فإن كانت أمة فوطئها فهو زان وعليه الحد، وذلك الولد رقيق للراهن لقول النبي ﷺ: الولد للفراش وللعاهر الحجر فالأمة بلا خلاف ليست فراشا للمرتهن، ولا ملك يمين له، فهو معتد عاهر".

1226 - مسألة: ورهن الدنانير والدراهم جائز طبعت أو لم تطبع. قال مالك: لا يجوز إلا أن تطبع وهذا قول لا نعلمه لأحد قبله، ولئن كان يخاف انتفاع بها فإن ذلك لمخوف على كل ما يرهن، ولا فرق، ولا سيما مع قوله: إن الدنانير والدراهم لا تتعين، وإن امرأ لو غصب درهما أو دينارا لم يقض عليه بردهما بعينهما، وإن كانا حاضرين في يده، وإنما عليه مثلهما. وهذا عجب جدا مع قوله في طبعهما في الرهن. وبالله تعالى التوفيق. تم " كتاب الرهن " والحمد لله رب العالمين.

 

المحلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب الرهن
كتاب الرهن (مسألة 1209 - 1214) | كتاب الرهن (مسألة 1215 - 1221) | كتاب الرهن (مسألة 1222 - 1226)

=====

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مكتبات الكتاب الاسلامي

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أ...