مدونة استكمال مصنفات الإمامين ابن حزم والوكاني

الأحد، 20 مارس 2022

المجلد الثاني/كتاب الصيام /أول كتاب الصيام في المحلة لابن حزم {من مسألة رقم 726 - مسألة حتي 762 - مسألة }

ابن حزم - المحلى كتاب الصيام ابن حزم كتاب الصيام (مسألة 726 - 729)
كتاب الصيام

محلى ابن حزم - المجلد الثاني/كتاب الصيام

كتاب الصيام (مسألة 726 - 729) | كتاب الصيام (مسألة 730 - 734) | كتاب الصيام (مسألة 735 - 738) | كتاب الصيام (مسألة 739 - 752) | كتاب الصيام (مسألة 753) | كتاب الصيام (تتمة 1 مسألة 753) | كتاب الصيام (تتمة 2 مسألة 753) | كتاب الصيام ( مسألة 754 - 757) | كتاب الصيام (مسألة 758 - 761) | كتاب الصيام (مسألة 762) | كتاب الصيام (تتمة مسألة 762) | كتاب الصيام (مسألة 763 - 770) | كتاب الصيام (مسألة 771 - 774) | كتاب الصيام (مسألة 775 - 787) | كتاب الصيام (مسألة 788 - 796) | كتاب الصيام (مسألة 797 - 808) | كتاب الصيام (مسألة 809 - 810)

الفهارس المفصلة لكتاب الصيام في كتاب المحلي لابن حزم

فهارس كتاب الصيام
726 - مسألة: الصيام قسمان فرض, وتطوع
727 - مسألة: الفرض صيام شهر رمضان
728 - مسألة: ولا يجزئ صيام أصلا رمضان كان أو غيره إلا بنية مجددة في كل ليلة
729 - مسألة: ومن نسي أن ينوي من الليل في رمضان فأي وقت ذكر من النهار
730 - مسألة: ولا يجزئ صوم التطوع إلا بنية من الليل, ولا صوم قضاء رمضان
731 - مسألة: ومن مزج نية صوم فرض بفرض آخر أو بتطوع
732 - مسألة: ومن نوى وهو صائم إبطال صومه بطل إذا تعمد ذلك ذاكرا
733 - مسألة: ويبطل الصوم: تعمد الأكل, أو تعمد الشرب, أو تعمد الوطء في الفرج; أو تعمد القيء
734 - مسألة: ويبطل الصوم أيضا تعمد كل معصية
735 - مسألة: فمن تعمد ذاكرا لصومه شيئا مما ذكرنا فقد بطل صومه
736 - مسألة: ولا قضاء إلا على خمسة فقط
737 - مسألة: ولا كفارة على من تعمد فطرا في رمضان بما لم يبح له
738 - مسألة: ومن وطئ عمدا في نهار رمضان ثم سافر في يومه ذلك أو جن, أو مرض لا تسقط عنه الكفارة
739 - مسألة: صفة الكفارة الواجبة
740 - مسألة: يجزئ في ذلك رقبة مؤمنة أو كافرة, صغيرة, أو كبيرة
741 - مسألة: وكل ما قلنا: أنه لا يجزئ; فإنه عتق مردود باطل لا ينفذ
742 - مسألة: ومن كان فرضه الصوم, فقطع صومه عليه رمضان, أو أيام الأضحى, أو ما لا يحل صيامه فليسا متتابعين
743 - مسألة: فإن اعترضه فيهما يوم نذر نذره: بطل النذر وسقط عنه, وتمادى في صوم الكفارة
744 - مسألة: فإن بدأ بصومهما في أول يوم من الشهر صام إلى أن يرى الهلال الثالث
745 - مسألة: فإن بدأ بهما في بعض الشهر ولو لم يمض منه إلا يوم, أو لم يبق إلا يوم فما بين ذلك: لزمه صوم ثمانية وخمسين يوما لا أكثر
746 - مسألة: ومن كان فرضه الإطعام فإنه لا بد له من أن يطعمهم شبعهم, من أي شيء أطعمهم
747 - مسألة: ولا يجزئ إطعام رضيع لا يأكل الطعام, ولا إعطاؤه من ذلك
748 - مسألة: ولا يجزئ إطعام أقل من ستين, ولا صيام أقل من شهرين
749 - مسألة: ومن كان قادرا حين وطئه على الرقبة لم يجزه غيرها, افتقر بعد ذلك أو لم يفتقر
750 - مسألة: فمن لم يجد إلا رقبة لا غنى به عنها, لأنه يضيع بعدها أو يخاف على نفسه من حبها لم يلزمه عتقها
751 - مسألة: ومن كان عاجزا عن ذلك كله ففرضه الإطعام, وهو باق عليه
752 - مسألة: والحر والعبد في كل ما ذكرنا سواء
753 - مسألة: ولا ينقض الصوم حجامة، ولا احتلام, ولا استمناء
754 - مسألة: المجنون, والمغمى عليه يبطل صومهما، ولا قضاء عليهما
755 - مسألة: ومن جهده الجوع, أو العطش حتى غلبه الأمر ففرض عليه أن يفطر
756 - مسألة: ولا يلزم صوم في رمضان، ولا في غيره إلا بتبين طلوع الفجر الثاني
757 - مسألة: ومن صح عنده بخبر من يصدقه أن الهلال قد رئي البارحة في آخر شعبان ففرض عليه الصوم
758 - مسألة: وإذا رئي الهلال قبل الزوال فهو من البارحة ويصوم الناس من حينئذ باقي يومهم إن كان أول رمضان ويفطرون إن كان آخره,
759 - مسألة: ومن السنة تعجيل الفطر وتأخير السحور
760 - مسألة: من أسلم بعدما تبين الفجر له, أو بلغ كذلك, أو رأت الطهر من
الحيض كذلك, أو من النفاس كذلك, أو أفاق من مرضه
761 - مسألة: من تعمد الفطر في يوم من رمضان عاصيا لله تعالى لم يحل له أن يأكل في باقيه
762 - مسألة: من سافر في رمضان ففرض عليه الفطر إذا تجاوز ميلا, أو بلغه, أو إزاءه
763 - مسألة: ومن أقام من قبل الفجر ولم يسافر إلى بعد غروب الشمس في سفره
فعليه إذا نوى الإقامة المذكورة أن ينوي الصوم
764 - مسألة: الحيض الذي يبطل الصوم هو الأسود
765 - مسألة: إذا رأت الحائض الطهر قبل الفجر أو رأته النفساء
766 - مسألة: وتصوم المستحاضة كما تصلي
767 - مسألة: من كان عليه أيام من رمضان فأخر قضاءها عمدا, أو لعذر
768 - مسألة: المتابعة في قضاء رمضان واجبة
769 - مسألة: الأسير في دار الحرب إن عرف رمضان لزمه صيامه إن كان مقيما
770 - مسألة: والحامل, والمرضع, والشيخ الكبير كلهم مخاطبون بالصوم
771 - مسألة: ومن وطئ مرارا في اليوم عامدا فكفارة واحدة فقط
772 - مسألة: من أفطر رمضان كله بسفر أو مرض فإنما عليه عدد الأيام التي أفطر
773 - مسألة: للمرء أن يفطر في صوم التطوع إن شاء
774 - مسألة: من أفطر عامدا في قضاء رمضان فليس عليه إلا قضاء يوم واحد فقط
775 - مسألة: من مات وعليه صوم فرض من قضاء رمضان
776 - مسألة: إن صامه بعض أوليائه أجزأ
777 - مسألة: فإن تعمد النذور ليوقعها على وليه بعد موته فليس نذرا
778 - مسألة: من نذر صوم يوم فأكثر, شكرا لله عز وجل
779 - مسألة: إن نذر ما ليس طاعة، ولا معصية
780 - مسألة: وينهى عن النذر جملة
781 - مسألة: من قال علي لله تعالى صوم يوم أفيق
782 - مسألة: لو قال علي صوم ذلك اليوم أبدا
783 - مسألة: ومن أفطر في صوم نذر عامدا أو لعذر فلا قضاء عليه
784 - مسألة: ومن نذر صوم يومين فصاعدا أجزأه أن يصوم ذلك متفرقا
785 - مسألة: لو نذر صوم جمعة أو قال: شهر لم يجز أن يصوم ذلك إلا متتابعا
786 - مسألة: من نذر صوم جمعتين أو شهرين ولم ينذر التتابع في ذلك
787 - مسألة: فإن صام الشهر ما بين الهلالين لزمه إتمامه
788 - مسألة: من نذر صوم سنة
789 - مسألة: من كان عليه صوم يوم بعينه نذرا فإذا جاء رمضان لزمه فرضا أن يصوم ذلك اليوم
790 - مسألة: أفضل الصوم بعد الصيام المفروض صوم يوم وإفطار يوم
791 - مسألة: صيام ثلاثة أيام من كل شهر
792 - مسألة: ومن اقتصر على الفرض فقط فحسن
793 - مسألة: صوم يوم عاشوراء
794 - مسألة: صيام أيام العشر من ذي الحجة
795 - مسألة: ولا يحل صوم يوم الجمعة إلا لمن صام يوما قبله أو يوما بعده
796 - مسألة: لو نذر المرء صوم يوم يفيق, أو ذلك فوافق يوم جمعة لم يلزم
797 - مسألة: ولا يحل صوم الليل أصلا
798 - مسألة: صوم يوم الشك
799 - مسألة: ولا معنى للتلوم في يوم الشك
800 - مسألة: ولا يجوز صوم اليوم السادس عشر من شعبان تطوعا أصلا، ولا لمن صادف يوما كان يصومه
801 - مسألة: ولا يحل صوم يوم الفطر, ولا يوم الأضحى لا في فرض، ولا في تطوع
802 - مسألة: ولا يجوز صيام أيام التشريق
803 - مسألة: ولا يحل صوم أخرج مخرج اليمين
804 - مسألة: ولا يحل لذات الزوج أو السيد أن تصوم تطوعا بغير إذنه
805 - مسألة: تدريب الصبيان على الصوم في رمضان إذا أطاقوه
806 - مسألة: ويجب على من وجد التمر أن يفطر عليه
807 - مسألة: ويستحب فعل الخير في رمضان
808 - مسألة: ومن دعي إلى طعام وهو صائم فليجب
ليلة القدر
809 - مسألة: ليلة القدر واحدة في العام في كل عام, في شهر رمضان خاصة
810 - مسألة: الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان


=====
أول كتاب الصيام

726 - مسألة : الصيام قسمان فرض ، وتطوع ، وهذا إجماع حق متيقن ، ولا سبيل في بنية العقل إلى قسم ثالث ؟

727 - مسألة : فمن الفرض صيام شهر رمضان ، الذي بين شعبان ، وشوال ، فهو فرض على كل مسلم عاقل بالغ صحيح مقيم ، حرا كان أو عبدا ، ذكرا أو أنثى ، إلا الحائض والنفساء ، فلا يصومان أيام حيضهما ألبتة ، ولا أيام نفسهما ، ويقضيان صيام تلك الأيام وهذا كله فرض متيقن من جميع أهل الإسلام .

728 - مسألة : ولا يجزئ صيام أصلا - رمضان كان أو غيره - إلا بنية مجددة في كل ليلة لصوم اليوم المقبل ، فمن تعمد ترك النية بطل صومه ؟ برهان ذلك - : قول الله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } فصح أنهم لم يؤمروا بشيء في الدين إلا بعبادة الله تعالى والإخلاص له فيها بأنها دينه الذي أمر به . وقال رسول الله ﷺ : { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } . فصح أنه لا عمل إلا بنية له ، وأنه ليس لأحد إلا ما نوى . فصح أن من نوى الصوم فله صوم ، ومن لم ينوه فليس له صوم . ومن طريق النظر : أن الصوم إمساك عن الأكل والشرب ؛ وتعمد القيء ، وعن الجماع ، وعن المعاصي ، فكل من أمسك عن هذه الوجوه - لو أجزأه الصوم بلا نية للصوم - لكان في كل وقت صائما ، وهذا ما لا يقول أحد . ومن طريق الإجماع : أنه قد صح الإجماع على أن من صام ونواه من الليل فقد أدى ما عليه ، ولا نص ولا إجماع على أن الصوم يجزئ من لم ينوه من الليل . واختلف الناس في هذا - : فقال زفر بن الهذيل : من صام رمضان ، وهو لا ينوي صوما أصلا ، بل نوى أنه مفطر في كل يوم منه ، إلا أنه لم يأكل ولم يشرب ، ولا جامع - : فإنه صائم ويجزئه ، ولا بد له في صوم التطوع من نية ؟ وقال أبو حنيفة : النية فرض للصوم في كل يوم من رمضان ، أو التطوع ، أو النذر إلا أنه يجزئه أن يحدثها في النهار ، ما لم تزل الشمس ، وما لم يكن أكل قبل ذلك ، ولا شرب ، ولا جامع ، فإن لم يحدثها - لا من الليل ولا من النهار ما لم تزل الشمس - لم ينتفع بإحداث النية بعد زوال الشمس ، ولا صوم له ، وعليه قضاء ذلك اليوم ، وأما قضاء رمضان والكفارات فلا بد فيها من النية من الليل لكل يوم ، وإلا فلا صوم له ، ولا يجزئه أن يحدث النية في ذلك بعد طلوع الفجر . وقال مالك : لا بد من نية في الصوم وأما في رمضان فتجزئه نيته لصومه كله من أول ليلة منه ، ثم ليس عليه أن يجدد نية كل ليلة ، إلا أن يمرض فيفطر ، أو يسافر فيفطر ، فلا بد له من نية - حينئذ - مجددة قال : وأما التطوع فلا بد له من نية لكل ليلة . وقال الشافعي ، وداود : مثل قولنا ، إلا أن الشافعي رأى في التطوع خاصة إحداث النية له ما لم تزل الشمس ، وما لم يكن أكل قبل ذلك ، أو شرب ، أو جامع - : وروينا من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر قال : لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر . وعن مالك عن الزهري : أن عائشة أم المؤمنين قالت : لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر ( ) - : ومن طريق ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب : أخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : قالت حفصة أم المؤمنين : لا صيام لمن لم يجمع قبل الفجر ؟ فهؤلاء ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم لا يعرف لهم منهم مخالف أصلا ، والحنفيون ، والمالكيون : يعظمون مثل هذا إذا خالف أهواءهم وقد خالفوهم هاهنا ، ما نعلم أحدا قبل أبي حنيفة ، ومالك قال بقولهما في هذه المسألة ؛ هم يشنعون أيضا بمثل هذا على من قاله متبعا للقرآن والسنة الصحيحة ، وهم هاهنا خالفوا القرآن والسنن الثابتة برأي فاسد لم يحفظ عن أحد قبلهم ؟ قال أبو محمد : برهان صحة قولنا ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا أحمد بن الأزهر ثنا عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن حفصة أم المؤمنين أن رسول الله ﷺ قال : { من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له } . وهذا إسناد صحيح ، ولا يضر إسناد ابن جريج له أن أوقفه معمر ، ومالك ، وعبيد الله ، ويونس ، وابن عيينة ، فابن جريج لا يتأخر عن أحد من هؤلاء في الثقة والحفظ ، والزهري واسع الرواية ، فمرة يرويه عن سالم عن أبيه ، ومرة عن حمزة عن أبيه ، وكلاهما ثقة ، وابن عمر كذلك ، مرة رواه مسندا ، ومرة روى أن حفصة أفتت به ، ومرة أفتى هو به ، وكل هذا قوة للخبر . والعجب أن المعترضين بهذا من مذهبهم : أن المرسل كالمسند . قال أبو محمد : وهذا عموم لا يحل تخصيصه ، ولا تبديله ، ولا الزيادة فيه ، ولا النقص منه ، إلا بنص آخر صحيح ؟ فإن قيل : فهلا أوجبتم النية متصلة بتبين الفجر ، كما تقولون : في الوضوء والصلاة ، والزكاة ، والحج ، وسائر الفرائض . ؟ قلنا : لوجهين اثنين أحدهما هذا النص الوارد الذي لا يحل خلافه ولسنا والحمد لله ممن يضرب كلام رسول الله ﷺ بعضه ببعض فيؤمن ببعضه ، ويكفر ببعضه ، ولا ممن يعارض أوامر الله تعالى على لسان رسول الله ﷺ بنظره الفاسد ؛ بل نأخذ جميع السنن كما وردت ؛ ونسمع ونطيع لجميعها كما أتت ؟ والثاني : قول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ولم يكلفنا - عز وجل - السهر مراعاة لتبين الفجر ، وإنما ألزمنا النية من الليل ؛ ثم نحن عليها إلى أن يتبين الفجر وإن نمنا وإن غفلنا ، ما لم نتعمد إبطالها . فإن قيل : فأنتم تجيزون لمن نسي النية من الليل إحداثها في اليوم الثاني ؟ . قلنا : نعم ، بنص صحيح ورد في ذلك ولو لا ذلك ما فعلناه ؟ قال أبو محمد : وما نعلم لزفر حجة إلا أنه قال : رمضان موضع للصيام وليس . موضعا للفطر أصلا ، فلا معنى لنية الصوم فيه ، إذ لا بد منه ؟ قال علي : وهذه حجة عليه ، مبطلة لقوله ؛ لأنه لما كان موضعا للصوم لا للفطر أصلا وجب أن ينوي ما افترض الله تعالى عليه من العبادة بذلك الصوم ، وأن يخلص النية لله تعالى فيها ، ولا يخرجها مخرج الهزل واللعب . ووجه آخر : وهو أن شهر رمضان أمرنا بأن نجعله للصوم ، ونهينا فيه عن الفطر ، إلا حيث جاءنا النص بالفطر فيه ، فهو وقت للطاعة ممن أطاع بأداء ما أمر به ووقت - والله - للمعصية العظيمة فمن عصى الله تعالى فيه وخالف أمره عز وجل فلم يصمه كما أمر ؛ فإذ هو كذلك - يقينا بالحس والمشاهدة - فلا بد ضرورة من قصد إلى الطاعة المفروضة ، وترك المعصية المحرمة ، وهذا لا يكون إلا بنية لذلك . وهذا في غاية البيان والحمد لله . ووجه ثالث : وهو أنه يلزم على هذا القول أن من لم يبق له من وقت صلاة الصبح إلا مقدار ركعتين فصلى ركعتين تطوعا أو عابثا - : أن يجزئه ذلك من صلاة الصبح ؛ لأن ذلك الوقت وقت لها ، لا لغيرها أصلا ، وهذا هو القياس : إن كان القياس حقا . وما علمنا لأبي حنيفة حجة أصلا في تلك التقاسيم الفاسدة السخيفة ، إلا أن بعض من ابتلاه بتقليده موه في ذلك بحديث نذكره في المسألة التالية ، لأنه موضعه ، وليس في هذا الخبر متعلق لأبي حنيفة أصلا ، بل قد نقض أصله ، فأوجب فيه نية ؛ بخلاف قوله في الطهارة ، ثم أوجبها في النهار بلا دليل ، وما نعرف لمالك حجة أصلا ؛ إلا أنهم قالوا : رمضان كصلاة واحدة ؟ قال أبو محمد : وهذه مكابرة بالباطل ؛ لأن الصلاة الواحدة لا يحول بين أعمالها - بعمد - ما ليس منها أصلا ، وصيام رمضان يحول بين كل يومين منه ليل يبطل فيه الصوم جملة ويحل فيه الأكل والشرب والجماع ، فكل يوم له حكم غير حكم اليوم الذي قبله واليوم الذي بعده ؛ وقد يمرض فيه أو يسافر ، أو تحيض ، فيبطل الصوم ، وكان بالأمس صائما ، ويكون غدا صائما . وإنما شهر رمضان كصلوات اليوم والليلة ، يحول بين كل صلاتين ما ليس صلاة ، فلا بد لكل صلاة من نية ، فكذلك لا بد لكل يوم في صومه من نية . وهم أول من أبطل هذا القياس ، فرأوا من أفطر عامدا في يوم من رمضان أن عليه قضاءه وأن سائر صيامه كسائر أيام الشهر صحيح ، فقد أقروا بأن حكم الشهر كصلاة ليلة واحدة ، ويوم واحد . وإنما يخرج هذا على قول سعيد بن المسيب الذي يرى من أفطر يوما من رمضان عامدا أو أفطره كله - سواء ، وأن عليه في اليوم قضاء شهر ، كما عليه في الشهر كله ، ولا فرق . وهذا مما أخطئوا فيه القياس - لو كان القياس حقا - فلا النص اتبعوا ، ولا الصحابة قلدوا ، ولا قياس صحبوا ، ولا الاحتياط التزموا ، وبالله تعالى التوفيق .

729 - مسألة : ومن نسي أن ينوي من الليل في رمضان فأي وقت ذكر من النهار التالي لتلك الليلة - سواء أكل وشرب ووطئ أو لم يفعل شيئا من ذلك - فإنه ينوي الصوم من وقته إذا ذكر ، ويمسك عما يمسك عنه الصائم ، ويجزئه صومه ذلك تاما ، ولا قضاء عليه ، ولو لم يبق عليه من النهار ، إلا مقدار النية فقط ، فإن لم ينو كذلك فلا صوم له ، وهو عاص لله تعالى متعمد لإبطال صومه ، ولا يقدر على القضاء . وكذلك من جاءه الخبر بأن هلال رمضان رئي البارحة - فسواء أكل وشرب ووطئ أو لم يفعل شيئا من ذلك - في أي وقت جاء الخبر من ذلك اليوم ولو في آخره كما ذكرنا - : فإن ينوي الصوم ساعة صح الخبر عنده ، ويمسك عما يمسك عنه الصائم ، ويجزئه صومه ، ولا قضاء عليه ، فإن لم يفعل فصومه باطل ، كما قلنا في التي قبلها سواء سواء ، وكذلك أيضا : من عليه صوم نذر معين في يوم بعينه فنسي النية وذكر بالنهار فكما قلنا ولا فرق ، وكذلك من نسي النية في ليلة من ليالي الشهرين المتتابعين الواجبين ثم ذكر بالنهار ولا فرق وكذلك من نام قبل غروب الشمس في رمضان ، أو في الشهرين المتتابعين ، أو في نذر معين فلم ينتبه إلا بعد طلوع الفجر أو في شيء من نهار ذلك اليوم ، ولو في آخره - كما قلنا - فكما قلنا أيضا آنفا سواء سواء ، ولا فرق في شيء أصلا ، فلو لم يذكر في شيء من الوجوه التي ذكرنا ، ولا استيقظ حتى غابت الشمس - : فلا إثم عليه ، ولم يصم ذلك اليوم ولا قضاء عليه . برهان قولنا - : قول الله تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وكذلك قول رسول الله ﷺ : { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } . وكل من ذكرنا ناس ، أو مخطئ غير عامد ، فلا جناح عليه . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج حدثني أبو بكر بن نافع العبدي ثنا بشر بن المفضل ثنا خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ ابن عفراء قالت { أرسل رسول الله ﷺ غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة : من كان أصبح صائما فليتم صومه ، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه } . وبه إلى مسلم بن الحجاج : ثنا قتيبة بن سعيد ثنا حاتم بن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال : { بعث رسول الله ﷺ رجلا من أسلم يوم عاشوراء ، فأمره أن يؤذن في الناس : من كان لم يصم فليصم ، ومن كان أكل فليتم صيامه إلى } . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا المكي بن إبراهيم ثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال : { أمر النبي ﷺ رجلا من أسلم أن أذن في الناس : إن من أكل فليصم بقية يومه ، ومن لم يكن أكل فليصم ، فإن اليوم يوم عاشوراء } . ورويناه أيضا من طريق معاوية وغيره مسندا . قال أبو محمد : ويوم عاشوراء هو كان الفرض حينئذ صيامه . كما روينا بالسند المذكور إلى البخاري : ثنا أبو معمر ثنا عبد الوارث هو ابن سعيد التنوري - ثنا أيوب السختياني ثنا عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس - فذكر الحديث في يوم عاشوراء وفيه { أن رسول الله ﷺ صامه وأمر بصيامه } . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبيد الله بن موسى أخبرنا شيبان عن أشعث بن أبي الشعثاء عن جعفر بن أبي ثور عن جابر بن سمرة قال : { كان رسول الله ﷺ يأمر بصوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده ، فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا عنه ولم يتعاهدنا عنده } . وروينا من طريق الزهري ، وهشام بن عروة ، وعراك بن مالك كلهم عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين : { أن رسول الله ﷺ أمر بصيام عاشوراء ، حتى فرض رمضان } . قال عراك : فقال عليه السلام : { من شاء فليصمه ومن شاء فليفطره } . قال أبو محمد : فكان هذا حكم صوم الفرض ، وما نبالي بنسخ فرض صوم عاشوراء ، فقد أحيل صيام رمضان أحوالا ، فقد كان مرة : من شاء صامه ، ومن شاء أفطره وأطعم عن كل يوم مسكينا ، إلا أن حكم ما كان فرضا حكم واحد ؛ وإنما نزل هذا الحكم فيمن لم يعلم بوجوب الصوم عليه ؛ وكل من ذكرنا - من ناس ، أو جاهل ، أو نائم - فلم يعلموا وجوب الصوم عليهم ، فحكمهم كلهم هو الحكم الذي جعله رسول الله ﷺ من استدراك النية في اليوم المذكور متى ما علموا بوجوب صومه عليهم ، وسمي من فعل ذلك صائما ، وجعل فعله صوما - وبالله تعالى التوفيق . وبه قال جماعة من السلف - : كما روينا من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن عبد الكريم الجزري : أن قوما شهدوا على الهلال بعدما أصبحوا ، فقال عمر بن عبد العزيز من أكل فليمسك عن الطعام ، ومن لم يأكل فليصم بقية يومه ؟ وعن عطاء : إذا أصبح رجل مفطرا ولم يذق شيئا ثم علم برؤية الهلال أول النهار أو آخره فليصم ما بقي ولا يبدله ؟ ومن طريق وكيع عن أبي ميمونة عن أبي بشير عن علي بن أبي طالب أنه قال يوم عاشوراء : من لم يأكل فليصم ، ومن أكل فليتم بقية يومه . وروينا من طريق وكيع عن ابن عون عن ابن سيرين : أن ابن مسعود قال : من أكل أول النهار فليأكل آخره ؟ قال علي : اختلف الناس فيمن أصبح مفطرا في أول يوم من رمضان ثم علم أن الهلال رئي البارحة على أقوال - : منهم من قال : ينوي صوم يومه ويجزئه ، وهو قول عمر بن عبد العزيز وبه نأخذ ، وبه جاء النص الذي قدمنا - : ومنهم من قال : لا يصوم ، لأنه لم ينو الصيام من الليل ، ولم يروا فيه قضاء ، وهو قول ابن مسعود كما ذكرنا ، وبه يقول داود وأصحابنا : ومنهم من قال : يأكل بقيته ويقضيه ، وهو قول رويناه عن عطاء ؟ ومنهم من قال : يمسك فيه عما يمسك الصائم ، ولا يجزئه ، وعليه قضاؤه ، وهو قول مالك ، والشافعي . وقال به أبو حنيفة فيمن أكل خاصة ، دون من لم يأكل ؛ وفيمن علم الخبر بعد الزوال فقط ، أكل أو لم يأكل ، وهذا أسقط الأقوال ؛ لأنه لا نص فيه ، ولا قياس ، ولا نعلمه من قول صاحب ، ولا يخلو هذا الإمساك - الذي أمروه به - من أن يكون صوما يجزئه ، وهم لا يقولون بهذا ، أو لا يكون صوما ولا يجزئه ، فمن أين وقع لهم أن يأمروه بعمل يتعب فيه ويتكلفه ولا يجزئه ، وأيضا : فإنه لا يخلو من أن يكون مفطرا أو صائما ؛ فإن كان صائما فلم يقضيه إذن ؟ فيصوم يومين وليس عليه إلا واحد . وإن كان مفطرا فلم أمروه بعمل الصوم ؟ وهذا عجب جدا ، وحسبنا الله ونعم الوكيل . قال أبو محمد : احتج أبو حنيفة في تصحيح تخليطه الذي ذكرناه قبل - في نية الصوم - بخبر الربيع ، وسلمة بن الأكوع الذي ذكرنا ، وهذا عجب جدا أن يكونوا قد خالفوا رسول الله ﷺ في نفس ما جاء به الخبر ، فقالوا : من أكل لم يجزه صيام باقي يومه ، وفي تخصيصهم بالنية قبل الزوال وليس هذا في الخبر ، ثم احتجوا به فيما ليس منه شيء ومن عادتهم هذا الخلق الذميم ، وهذا قبيح جدا ، وتمويه لا يستجيزه محقق ناصح لنفسه ، وقال بعضهم : قد روى هذا الخبر عبد الباقي بن قانع عن أحمد بن علي بن مسلم عن محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع عن قتادة عن عبد الرحمن بن سلمة عن عمه قال : { أتيت النبي ﷺ - يعني في عاشوراء - فقال : صمتم يومكم هذا ؟ قالوا : لا ، قال : فأتموا يومكم هذا واقضوا } . قال أبو محمد : لفظة " واقضوا " موضوعة بلا شك ، وعبد الباقي بن قانع مولى بني أبي الشوارب يكنى أبا الحسين ، مات سنة 51 هـ - إحدى وخمسين وثلاثمائة ، وقد اختلط عقله قبل موته بسنة ، وهو بالجملة منكر الحديث ، وتركه أصحاب الحديث جملة وأحمد بن علي بن مسلم مجهول . وقد روينا هذا الحديث من طريق شعبة عن قتادة ، ومن طريق ابن أبي عروبة عن قتادة ، وليست فيه هذه اللفظة . كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن قاسم بن محمد ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن جعفر غندر ثنا شعبة ثنا قتادة عن عبد الرحمن بن المنهال بن سلمة الخزاعي عن عمه أن رسول الله ﷺ قال لأسلم : { صوموا اليوم قالوا : إنا قد أكلنا ، قال : صوموا بقية يومكم - يعني عاشوراء } . حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي ثنا محمد بن معاوية القرشي ثنا أحمد بن شعيب أنا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - ثنا محمد بن بكر هو البرساني - ثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عبد الرحمن بن سلمة الخزاعي عن عمه قال : { غدونا على رسول الله ﷺ صبيحة عاشوراء ؛ فقال لنا : أصبحتم صياما ؟ قلنا : قد تغدينا يا رسول الله ؛ قال : فصوموا بقية يومكم } . قال أبو محمد : ومن الغرائب تمويه الحنفيين بهذه اللفظة الموضوعة في حديث ابن قانع من قوله : { واقضوا } ثم خالفوها فلم يروا القضاء إلا على من أكل دون من لم يأكل ، وعلى من نوى بعد الزوال . وهذا كله خلاف الكذبة التي استحقوا بها المقت من الله تعالى ، فحيثما توجهوا عثروا ، وبكل ما احتجوا فقد خالفوه ، وهكذا فليكن الخذلان نعوذ بالله منه ، وأما من لم يعلم بوجوب صوم ذلك اليوم عليه إلا بعد غروب الشمس فإن لم يصمه كما أمر ؛ ولأنه لم ينو في شيء منه صوما ، ولم يتعمد ترك النية ، فلا إثم عليه فيما لم يتعمد ، ولا قضاء عليه ؛ لأنه لم يأت بإيجاب القضاء عليه نص ولا إجماع ، ولا يجب في الدين حكم إلا بأحدهما ؛ وإنما أمر بصيام ذلك اليوم ، لا بصوم غيره مكانه ، فلا يجزئ ما لم يؤمر به مكان ما أمر به .



730 - مسألة : ولا يجزئ صوم التطوع إلا بنية من الليل ، ولا صوم قضاء رمضان ، أو الكفارات إلا كذلك ، لأن النص ورد بأن لا صوم لمن لم يبيته من الليل كما قدمنا ، ولم يخص النص من ذلك إلا ما كان فرضا متعينا في وقت بعينه ، وبقي سائر ذلك على النص العام . وقولنا بهذا في التطوع ، وقضاء رمضان ، والكفارات : هو قول مالك ؛ وأبي سليمان وغيرهما . فإن قال قائل : فكيف استجزتم خلاف الثابت عن رسول الله الذي رويتموه من طريق طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله عن مجاهد ، وعائشة بنت طلحة كلاهما عن أم المؤمنين عائشة : { أن رسول الله ﷺ قال لها : هل عندكم من شيء ؟ وقال مرة : من غداء ؟ قلنا : لا ، قال : فإني إذن صائم } . وقال لها مرة أخرى : { هل عندكم من شيء ؟ قلنا : نعم ، أهدي لنا حيس ، قال : أما إني أصبحت أريد الصوم فأكل } . وقال بهذا جمهور السلف - : كما روينا من طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني ، وعبد الله بن أبي عتبة ، قال ثابت : عن أنس بن مالك : إن أبا طلحة كان يأتي أهله من الضحى ، فيقول : هل عندكم من غداء ؟ فإن قالوا : لا ، قال : فأنا صائم ، وقال ابن أبي عتبة : عن أبي أيوب الأنصاري بمثل فعل أبي طلحة سواء سواء . ومن طريق حماد بن سلمة : حدثتني أم شبيب عن عائشة أم المؤمنين قالت : إني لأصبح يوم طهري حائضا وأنا أريد الصوم ، فأستبين طهري فيما بيني وبين نصف النهار فأغتسل ثم أصوم ، ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج ومعمر ، قال ابن جريج : أخبرني عطاء ؛ وقال معمر : عن الزهري ، وأيوب السختياني ، قال الزهري عن أبي إدريس الخولاني ، وقال أيوب : عن أبي قلابة ، ثم اتفق عطاء ، وأبو إدريس ، وأبو قلابة كلهم عن أم الدرداء ، أن أبا الدرداء كان إذا أصبح سأل أهله الغداء ، فإن لم يكن ؛ قال : إنا صائمون . وقال عطاء في حديثه : إن أبا الدرداء كان يأتي أهله حين ينتصف النهار ، فيقول : هل من غذاء ؟ فيجده ، أو لا يجده ، فيقول : لأتمن صوم هذا اليوم . قال عطاء : وأنا أفعله ، ومن طريق قتادة : أن معاذ بن جبل كان يسأل الغداء ، فإن لم يجده صام يومه ، ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج : أخبرني عبيد الله بن عمر قال : إن أبا هريرة كان يصبح مفطرا ، فيقول : هل من طعام ؟ فيجده ، أو لا يجده ؛ فيتم ذلك اليوم . ومن طريق الحارث عن علي بن أبي طالب قال : إذا أصبحت وأنت تريد الصوم فأنت بالخيار : إن شئت صمت وإن شئت أفطرت ؛ إلا أن تفرض على نفسك الصوم من الليل ؟ ومن طريق ابن جريج : حدثني جعفر بن محمد عن أبيه أن رجلا سأل علي بن أبي طالب ، فقال : أصبحت ولا أريد الصوم ؟ فقال له علي : أنت بالخيار بينك وبين نصف النهار ، فإن انتصف النهار فليس لك أن تفطر . ومن طريق طاوس عن ابن عباس ، ومن طريق سعد بن عبيدة عن ابن عمر ، قالا جميعا : الصائم بالخيار ما بينه وبين نصف النهار ؛ قال ابن عمر : ما لم يطعم ، فإن بدا له أن يطعم طعم ، وإن بدا له أن يجعله صوما كان صوما . ومن طريق ابن أبي شيبة عن المعتمر بن سليمان التيمي عن حميد عن أنس بن مالك قال : من حدث نفسه بالصيام فهو بالخيار ما لم يتكلم ، حتى يمتد النهار . ومن طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن الأعمش عن عمارة عن أبي الأحوص قال قال ابن مسعود : إن أحدكم بأحد النظرين ما لم يأكل أو يشرب ، ومن طريق ابن أبي شيبة عن يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن الأعمش عن طلحة عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن هو السلمي - عن حذيفة : أنه بدا له في الصوم بعد أن زالت الشمس فصام . وعن حذيفة أيضا أنه قال : من بدا له في الصيام بعد أن تزول الشمس فليصم . ومن طريق معمر عن عطاء الخراساني : كنت في سفر وكان يوم فطر ؛ فلما كان بعد نصف النهار قلت : لأصومن هذا اليوم ؛ فصمت ، فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب ، فقال : أصبت ، قال عطاء : وكنت عند سعيد بن المسيب فجاءه أعرابي عند العصر فقال : إني لم آكل اليوم شيئا أفأصوم . ؟ قال : نعم ، قال : فإن علي يوما من رمضان ، أفأجعله مكانه ؟ قال نعم . ومن طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال : إذا عزم على الصوم من الضحى فله النهار أجمع ؛ فإن عزم من نصف النهار فله ما بقي من النهار ؛ وإن أصبح ولم يعزم فهو بالخيار ما بينه وبين نصف النهار ، ومن طريق ابن جريج : سألت عطاء عن رجل كان عليه أيام من رمضان ، فأصبح وليس في نفسه أن يصوم ، ثم بدا له بعدما أصبح أن يصوم وأن يجعله من قضاء رمضان . فقال عطاء : له ذلك . ومن طريق مجاهد : الصائم بالخيار ما بينه وبين نصف النهار ، فإذا جاوز ذلك فإنما له بقدر ما بقي من النهار . ومن طريق أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي : من أراد الصوم فهو بالخيار ما بينه وبين نصف النهار . ومن طريق هشام عن الحسن البصري قال : إذا تسحر الرجل فقد وجب عليه الصوم ، فإن أفطر فعليه القضاء ، وإن هم بالصوم فهو بالخيار ، إن شاء صام وإن شاء أفطر ؛ فإن سأله إنسان فقال : أصائم أنت ؟ فقال : نعم ، فقد وجب عليه الصوم إلا أن يقول : إن شاء ، فإن قالها فهو بالخيار ؛ إن شاء صام وإن شاء أفطر . فهؤلاء من الصحابة : عائشة أم المؤمنين ، وعلي بن أبي طالب ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأنس ، وأبو طلحة ، وأبو أيوب ، ومعاذ بن جبل ، وأبو الدرداء ، وأبو هريرة ، وابن مسعود وحذيفة . ومن التابعين : ابن المسيب ، وعطاء الخراساني ، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهد والنخعي ، والشعبي ، والحسن . وقال سفيان الثوري ، وأحمد بن حنبل : من أصبح وهو ينوي الفطر إلا أنه لم يأكل ولا شرب ولا وطئ - : فله أن ينوي الصوم ما لم تغب الشمس ، ويصح صومه بذلك . قال أبو محمد : فنقول : معاذ الله أن نخالف شيئا صح عن رسول الله ﷺ أو أن نصرفه عن ظاهره بغير نص آخر ، وهذا الخبر صحيح عن رسول الله ﷺ إلا أنه ليس فيه أنه عليه السلام لم يكن نوى الصيام من الليل ، ولا أنه عليه السلام أصبح مفطرا ثم نوى الصوم بعد ذلك ، ولو كان هذا في ذلك الخبر لقلنا به ، لكن فيه : أنه عليه السلام ، كان يصبح متطوعا صائما ثم يفطر ، وهذا مباح عندنا لا نكرهه ، كما في الخبر ، فلما لم يكن في الخبر ما ذكرنا ، وكان قد صح عنه عليه السلام { لا صيام لمن لم يبيته من الليل } لم يجز أن نترك هذا اليقين لظن كاذب . ولو أنه عليه الصلاة والسلام أصبح مفطرا ثم نوى الصوم نهارا لبينه ، كما بين ذلك في صيام عاشوراء إذ كان فرضا ، والتسمح في الدين لا يحل ، فإن قيل : قد رويتم من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن بعض أزواج النبي ﷺ قالت : { كان النبي ﷺ يجيء فيدعو بالطعام فلا يجده فيفرض الصوم } . وروي عن ابن قانع - راوي كل بلية - عن موسى بن عبد الرحمن السلمي البلخي عن عمر بن هارون عن يعقوب بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس { أن النبي ﷺ كان يصبح ولم يجمع الصوم ثم يبدو له فيصوم } قلنا : ليث ضعيف ، ويعقوب بن عطاء : هالك ، ومن دونه ظلمات بعضها فوق بعض ، والله لو صح لقلنا به . قال أبو محمد : أما المالكيون فيشنعون بخلاف الجمهور ، وخالفوا هاهنا الجمهور بلا رقبة . وأما الحنفيون فما نعلم أحدا قبلهم أجاز أن يصبح في رمضان عامدا لإرادة الفطر ، ثم يبقى كذلك إلى قبل زوال الشمس ثم ينوي الصيام حينئذ ويجزئه ، وادعوا الإجماع على أنه لا تجزئ النية بعد زوال الشمس في ذلك قد كذبوا ، ولا مؤنة عليهم من الكذب ، وقد صح هذا عن حذيفة نصا ، وعن ابن مسعود بإطلاق ، وعن أبي الدرداء نصا ، وعن سعيد بن المسيب نصا ، وعن عطاء الخراساني كذلك ، وعن الحسن ، وعن سفيان الثوري ، وأحمد بن حنبل . قال أبو محمد : ولا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ وبالله تعالى التوفيق .

731 - مسألة : ومن مزج نية صوم فرض بفرض آخر أو بتطوع ، أو فعل ذلك في صلاة أو زكاة ، أو حج ، أو عمرة ، أو عتق - : لم يجزه لشيء من كل ذلك وبطل ذلك العمل كله ، صوما كان أو صلاة ، أو زكاة ، أو حجا ، أو عمرة أو عتقا ، إلا مزج العمرة بالحج لمن أحرم ومعه الهدي فقط ، فهو حكمه اللازم له . برهان ذلك - : قول الله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } والإخلاص هو أن يخلص العمل المأمور به للوجه الذي أمره الله تعالى به فيه فقط ، وقال رسول الله ﷺ : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } فمن مزج عملا بآخر فقد عمل عملا ليس عليه أمر الله تعالى ولا أمر رسوله ﷺ فهو باطل مردود - وبالله تعالى التوفيق . وهو قول مالك والشافعي ، وأبي سليمان ، وأصحابهم . وقال أبو يوسف : من صلى ، وهو مسافر ركعتين نوى بهما الظهر والتطوع معا أو صام يوما من قضاء رمضان ينوي به قضاء ما عليه والتطوع معا وأعطى ما يجب عليه في زكاة ماله ونوى به الزكاة والتطوع معا ، أو أحرم بحجة الإسلام ونوى بها الفريضة والتطوع معا - : فإن كل ذلك يجزئه من صلاة الفرض وصوم الفرض ، وزكاة الفرض ، وحجة الفرض ، ويبطل التطوع في كل ذلك . وقال محمد بن الحسن : أما الصلاة فتبطل ولا تجزئه ، لا عن فرض ولا عن تطوع - وأما الزكاة ، والصوم فيكون فعله ذلك تطوعا فيهما جميعا ، ويبطل الفرض - وأما الحج فيجزئه عن الفرض ويبطل التطوع . فهل سمع بأسقط من هذه الأقوال ؟ وما ندري ممن العجب أممن أطلق لسانه بمثلها في دين الله تعالى ؟ يمحو ما يشاء ويثبت بالإهذار ويخص ما يشاء ، ويبطل بالتخاليط ، أو ممن قلد قائلها ، وأفنى عمره في درسها ونصرها متدينا بها ونعوذ بالله من الخذلان ؛ ونسأله إدامة السلامة والعصمة ، ونحمده على نعمه بذلك علينا كثيرا . وقد روينا عن مجاهد : أنه قال فيمن جعل عليه صوم شهرين متتابعين : إن شاء صام شعبان ورمضان ، وأجزأ عنه - يعني من فرضه ونذره ؛ قال مجاهد : ومن كان عليه قضاء رمضان فصام تطوعا فهو قضاؤه وإن لم يرده . ؟

732 - مسألة : ومن نوى وهو صائم إبطال صومه بطل ، إذا تعمد ذلك ذاكرا لأنه في صوم وإن لم يأكل ولا شرب ولا وطئ لقول رسول الله ﷺ { إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى } فصح يقينا أن من نوى إبطال ما هو فيه من الصوم فله ما نوى بقوله عليه الصلاة والسلام الذي لا تحل معارضته ، وهو قد نوى بطلان الصوم ، فله بطلانه ، فلو لم يكن ذاكرا لأنه في صوم لم يضره شيئا ، لقول الله تعالى : { ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } . وهكذا القول فيمن نوى إبطال صلاة هو فيها ، أو حج هو فيه ، وسائر الأعمال كلها كذلك ، فلو نوى ذلك بعد تمام صومه أو أعماله المذكورة كان آثما ، ولم يبطل بذلك شيئا منها ؛ لأنها كلها قد صحت وتمت كما أمر ، وما صح فلا يجوز أن يبطل بغير نص في بطلانه ، والمسألة الأولى لم يتم عمله فيها كما أمر - وبالله تعالى التوفيق .

733 - مسألة : ويبطل الصوم : تعمد الأكل ، أو تعمد الشرب ، أو تعمد الوطء في الفرج ؛ أو تعمد القيء ؛ وهو في كل ذلك ذاكر لصومه ، وسواء قل ما أكل أو كثر ، أخرجه من بين أسنانه أو أخذه من خارج فمه فأكله . وهذا كله مجمع عليه إجماعا متيقنا ، إلا فيما نذكره ، مع قول الله تعالى : { فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } . وما حدثناه حمام ثنا عبد الله بن محمد الباجي ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا حبيب بن خلف البخاري ثنا أبو ثور إبراهيم بن خالد ثنا معلى ثنا عيسى بن يونس ثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء ، ومن استقاء فليقض } . وروينا هذا أيضا عن ابن عمر ، وعلي وعلقمة . قال علي : عيسى بن يونس : ثقة . وقال الحنفيون من تعمد أن يتقيأ أقل من ملء فيه لم يبطل بذلك صومه ، فإن كان ملء فيه فأكثر ، بطل صومه ، وهذا خلاف لرسول الله ﷺ مع سخافة التحديد ؟ وقال الحنفيون ، والمالكيون : من خرج - وهو صائم - من بين أسنانه شيء من بقية سحوره كالجذيذة وشيء من اللحم ونحو ذلك فبلعه عامدا لبلعه ذاكرا لصومه فصومه تام ، وما نعلم هذا القول لأحد قبلهما ؟ واحتج بعضهم لهذا القول بأنه شيء قد أكل بعد ، وإنما حرم ما لم يؤكل ؟ فكان الاحتجاج أسقط وأوحش من القول المحتج له وما علمنا شيئا أكل فيمكن وجوده بعد الأكل ، إلا أن يكون قيئا أو عذرة ونعوذ بالله من البلاء ؟ وحد بعض الحنفيين المقدار الذي لا يضر تعمد أكله في الصوم من ذلك بأن يكون دون مقدار الحمصة . فكان هذا التحديد طريفا جدا ثم بعد ذلك ، فأي الحمص هو ؟ الإمليسي الفاخر ، أم الصغير ؟ فإن قالوا قسناه على الريق ؟ قلنا لهم : فمن أين فرقتم بين قليل ذلك وكثيره بخلاف الريق ؟ ونسألهم عمن له مطحنة كبيرة مثقوبة فدخلت فيها من سحوره زبيبة ، أو باقلاء فأخرجها يوما آخر بلسانه وهو صائم : أله تعمد بلعها أم لا ؟ فإن منعوا من ذلك تناقضوا ، وإن أباحوا سألناهم عن جميع طواحينه وهي ثنتا عشرة مطحنة - مثقوبة كلها فامتلأت سمسما أو زبيبا أو قنبا أو حمصا أو باقلا أو خبزا أو زريعة كتان ؟ فإن أباحوا تعمد أكل ذلك كله حصلوا أعجوبة وإن منعوا منه تناقضوا وتحكموا في الدين بالباطل . وإنما الحق الواضح فإن كل ما سمي أكلا - أي شيء كان - فتعمده يبطل الصوم ، وأما الريق - فقل أو كثر - فلا خلاف في أن تعمد ابتلاعه لا ينقض الصوم - وبالله تعالى التوفيق . والعجب كله ممن قلد أبا حنيفة ، ومالكا في هذا ، ولم يقلد من ساعة من ساعاته خير من دهرهما كله وهو أبو طلحة ، الذي روينا بأصح طريق عن شعبة ، وعمران القطان كلاهما عن قتادة عن أنس : أن أبا طلحة كان يأكل البرد وهو صائم قال عمران في حديثه : ويقول : ليس طعاما ولا شرابا وقد سمعه شعبة من قتادة ، وسمعه قتادة من أنس ؛ ولكنهم قوم لا يحصلون ؟

734 - مسألة : ويبطل الصوم أيضا تعمد كل معصية - أي معصية كانت ، لا نحاش شيئا - إذا فعلها عامدا ذاكرا لصومه ، كمباشرة من لا يحل له من أنثى أو ذكر ، أو تقبيل امرأته وأمته المباحتين له من أنثى أو ذكر ، أو إتيان في دبر امرأته أو أمته أو غيرهما ، أو كذب ، أو غيبة ، أو نميمة ، أو تعمد ترك صلاة ، أو ظلم ، أو غير ذلك من كل ما حرم على المرء فعله ؟ برهان ذلك - : ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج حدثني محمد بن رافع ثنا عبد الرزاق ثنا ابن جريج أخبرني عطاء عن أبي صالح الزيات هو السمان - أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله ﷺ { والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ، ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله ؟ فليقل : إني صائم } . وروينا من طريق مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قال : { الصيام جنة ، فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل ، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه ؟ فليقل : إني صائم } . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا آدم بن أبي إياس ثنا ابن أبي ذئب ثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة : أن النبي قال : { من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن سليمان التيمي عن عبيد مولى رسول الله ﷺ { أن رسول الله ﷺ أتى على امرأتين صائمتين تغتابان الناس فقال لهما : قيئا ، فقاءتا قيحا ودما ولحما عبيطا ، ثم قال عليه السلام : ها إن هاتين صامتا عن الحلال وأفطرتا على الحرام } . قال أبو محمد : فنهى عليه السلام عن الرفث والجهل في الصوم ، فكان من فعل شيئا من ذلك - عامدا ذاكرا لصومه - لم يصم كما أمر ، ومن لم يصم كما أمر ، فلم يصم ، لأنه لم يأت بالصيام الذي أمره الله تعالى به ، وهو السالم من الرفث والجهل ، وهما اسمان يعمان كل معصية ؛ وأخبر عليه السلام أن من لم يدع القول بالباطل - وهو الزور - ولم يدع العمل به فلا حاجة لله تعالى في ترك طعامه وشرابه . فصح أن الله تعالى لا يرضى صومه ذلك ولا يتقبله ، وإذا لم يرضه ولا قبله فهو باطل ساقط ؛ وأخبر عليه السلام أن المغتابة مفطرة وهذا ما لا يسع أحدا خلافه ؟ وقد كابر بعضهم فقال : إنما يبطل أجره لا صومه ؟ قال أبو محمد : فكان هذا في غاية السخافة وبالضرورة يدري كل ذي حس أن كل عمل أحبط الله تعالى أجر عامله فإنه تعالى لم يحتسب له بذلك العمل ولا قبله ، وهذا هو البطلان بعينه بلا مرية ؟ وبهذا يقول السلف الطيب - : روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة : ثنا حفص بن غياث ، وهشيم كلاهما عن مجالد عن الشعبي ، قال هشيم : عن مسروق عن عمر بن الخطاب ليس الصيام من الشراب والطعام وحده ؛ ولكنه من الكذب ، والباطل واللغو ؟ وعن حفص بن غياث عن مجالد عن الشعبي عن علي بن أبي طالب مثله نصا . ومن طريق ابن أبي شيبة : ثنا محمد بن بكر عن ابن جريج عن سليمان بن موسى قال قال جابر هو ابن عبد الله - : إذا صمت فليصم سمعك ، وبصرك ، ولسانك عن الكذب والمأثم ، ودع أذى الخادم وليكن عليك وقار ، وسكينة يوم صيامك ، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن أبي العميس هو عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود - عن عمرو بن مرة عن أبي صالح الحنفي عن أخيه طليق بن قيس قال قال أبو ذر : إذا صمت فتحفظ ما استطعت ، فكان طليق إذا كان يوم صيامه دخل فلم يخرج إلا إلى صلاة . ومن طريق وكيع عن حماد البكاء عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال : إذا اغتاب الصائم أفطر . ومن طريق وكيع عن إسماعيل بن مسلم العبدي عن أبي المتوكل الناجي قال : كان أبو هريرة وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المسجد وقالوا : نطهر صيامنا ؟ فهؤلاء من الصحابة رضي الله عنهم : عمر ، وأبو ذر وأبو هريرة ، وأنس ، وجابر ، وعلي : يرون بطلان الصوم بالمعاصي ، لأنهم خصوا الصوم باجتنابها وإن كانت حراما على المفطر ، فلو كان الصيام تاما بها ما كان لتخصيصهم الصوم بالنهي عنها معنى ، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة رضي الله عنهم . ومن التابعين : منصور عن مجاهد قال : ما أصاب الصائم شوى إلا الغيبة ، والكذب . وعن حفصة بنت سيرين : الصيام جنة ؛ ما لم يخرقها صاحبها ، وخرقها : الغيبة ؟ وعن ميمون بن مهران : إن أهون الصوم ترك الطعام والشراب ؟ وعن إبراهيم النخعي قال : كانوا يقولون : الكذب يفطر الصائم ؟ قال أبو محمد : ونسأل من خالف هذا عن الأكل للحم الخنزير ، والشرب للخمر عمدا : أيفطر الصائم أم لا ؟ فمن قولهم : نعم ؟ فنقول لهم : ولم ذلك ؟ فإن قالوا : لأنه منهي عنهما فيه ؟ قلنا لهم : وكذلك المعاصي ؛ لأنه منهي عنها في الصوم أيضا بالنص الذي ذكرنا . فإن قالوا : وغير الصائم أيضا منهي عن المعاصي ؟ قلنا لهم : وغير الصائم أيضا منهي عن الخمر ، والخنزير ، ولا فرق ؟ فإن قالوا : إنما نهي عن الأكل والشرب ولا نبالي أي شيء أكل أو شرب ؟ قلنا : وإنما نهي عن المعاصي في صومه ولا نبالي بما عصى ، أبأكل وشرب ، أم بغير ذلك ؟ فإن قالوا : إنما أفطر بالأكل والشرب للإجماع على أنه مفطر بهما ؟ قلنا : فلا تبطلوا الصوم إلا بما أجمع على بطلانه به وهذا يوجب عليكم أن لا تبطلوه بأكل البرد ولا بكثير مما أبطلتموه به كالسعوط والحقنة وغير ذلك ؟ فإن قالوا : قسنا ذلك على الأكل والشرب ؟ قلنا : القياس كله باطل ، ثم لو صح لكان هذا فاسدا من القياس وكان أصح أصولكم أن تقيسوا بطلان الصوم بجميع المعاصي على بطلانه بالمعصية بالأكل ، والشرب ، وهذا ما لا مخلص منه . فإن قالوا : ليس اجتناب المعاصي من شروط الصوم ؟ قلنا : كذبتم لأن النص قد صح بأنه من شروط الصوم كما أوردنا . فإن قالوا : تلك الأخبار زائدة على ما في القرآن ؟ قلنا : وإبطالكم الصوم بالسعوط والحقنة ، والإمناء مع التقبيل زيادة فاسدة باطلة على ما في القرآن فتركتم زيادة الحق ، وأثبتم زيادة الباطل وبالله تعالى التوفيق



735 - مسألة : فمن تعمد ذاكرا لصومه شيئا مما ذكرنا فقد بطل صومه ، ولا يقدر على قضائه إن كان في رمضان أو في نذر معين ، إلا في تعمد القيء خاصة فعليه القضاء . برهان ذلك - : أن وجوب القضاء في تعمد القيء قد صح عن رسول الله ﷺ كما ذكرنا قبل هذه المسألة بمسألتين ؛ ولم يأت في فساد الصوم بالتعمد للأكل أو الشرب أو الوطء : نص بإيجاب القضاء ، وإنما افترض تعالى رمضان - لا غيره - على الصحيح المقيم العاقل البالغ ، فإيجاب صيام غيره بدلا منه إيجاب شرع لم يأذن الله تعالى به ، فهو باطل ، ولا فرق بين أن يوجب الله تعالى صوم شهر مسمى فيقول قائل : إن صوم غيره ينوب عنه ، بغير نص وارد في ذلك - : وبين من قال : إن الحج إلى غير مكة ينوب عن الحج إلى مكة ، والصلاة إلى غير الكعبة تنوب عن الصلاة إلى الكعبة ، وهكذا في كل شيء . قال الله تعالى : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } . وقال تعالى : { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } . فإن قالوا : قسنا كل مفطر بعمد في إيجاب القضاء على المتقي عمدا قلنا : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ؛ لأنهم أول من نقض هذا القياس ؟ فأكثرهم لم يقس المفطر عمدا بأكل أو شرب على المفطر بالقيء عمدا في إسقاط الكفارة عنهم كسقوطها عن المتقي عمدا ، وهم الحنفيون ، والمالكيون ، والشافعيون : قاسوهم على المفطر بالقيء عمدا ، ولم يقيسوهم كلهم على المجامع عمدا في وجوب الكفارة عليهم كلهم ؛ فقد تركوا القياس الذي يدعون فإن وجد من يسوي بين الكل في إيجاب القضاء والكفارة كلم في إبطال القياس فقط . فإن ذكروا أخبارا وردت في إيجاب القضاء على المتعمد للوطء في نهار رمضان ؟ قيل : تلك آثار لا يصح فيها شيء - : لأن أحدها : من طريق أبي أويس عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة { أن رسول الله ﷺ أمر الذي أفطر في رمضان بالكفارة وأن يصوم يوما } وأبو أويس ضعيف ، ضعفه ابن معين وغيره . والثاني : رويناه من طريق هشام بن سعد عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة { أن رسول الله ﷺ أمره بأن يصوم يوما } وهشام بن سعد ضعفه أحمد بن حنبل ، وابن معين ، وغيرهما ، ولم يستجز الرواية عنه يحيى بن سعيد القطان . والثالث : رويناه من طريق عبد الجبار بن عمر عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة { أن النبي ﷺ قال للواطئ في رمضان اقض يوما مكانه } ؟ وعبد الجبار بن عمر : ضعيف ، ضعفه البخاري ، وقال ابن معين : ليس بشيء ، وقال أبو داود السجستاني : هو منكر الحديث . والرابع : رويناه من طريق الحجاج بن أرطاة عن عطاء عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن { النبي ﷺ أنه أمر الواطئ في نهار رمضان أن يصوم يوما مكانه } وهذا أسقطها كلها لأن الحجاج لا شيء ، ثم هي صحيفة ورويناه مرسلا من طريق مالك عن عطاء بن السائب عن سعيد بن المسيب ومن طريق ابن جريج عن نافع بن جبير بن مطعم . ومن طريق أبي معشر المدني { عن محمد بن كعب القرظي ؛ كلهم أن النبي ﷺ أمره بقضاء يوم } . وهذا كله مرسل ، ولا تقوم بالمرسل حجة ؟ وتالله لو صح منها خبر واحد - مسند من طريق الثقات - لسارعنا إلى القول به فإن لجوا وقالوا : المرسل حجة ، ولا نضعف المحدثين ؟ قلنا لهم : فلا عليكم حدثنا يوسف بن عبد الله النمري ثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا قاسم بن أصبغ ثنا مطرف بن قيس ثنا يحيى بن بكير ثنا مالك عن عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب قال : { جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ يضرب نحره وينتف شعره ويقول : هلك الأبعد ، فقال رسول الله ﷺ وما ذاك ؟ قال : أصبت أهلي في رمضان وأنا صائم فقال له رسول الله ﷺ هل تستطيع أن تعتق رقبة ؟ قال : لا ، قال : تستطيع أن تهدي بدنة ؟ قال : لا ، قال : فاجلس فأتي بعرق تمر وذكر باقي الخبر } . وهكذا رويناه من طريق ابن جريج ومعمر عن عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب - : فليأخذوا بالبدنة في الكفارة في ذلك ؛ وإلا فالقوم متلاعبون ؟ وقلنا لهم : لو أردنا التعلق بما لا يصح لوجدنا خيرا من كل خبر تعلقتم به هاهنا ، كما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن بشار ثنا يحيى هو ابن سعيد القطان - وعبد الرحمن بن مهدي قالا جميعا : ثنا سفيان هو الثوري - عن حبيب بن أبي ثابت حدثني أبو المطوس عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ { من أفطر يوما من رمضان - من غير رخصة ولا مرض - لم يقض عنه صيام الدهر وإن صامه } . قال أحمد بن شعيب : وأنبأنا مؤمل بن هشام ثنا إسماعيل عن شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن عمارة بن عمير عن أبي المطوس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : { من أفطر يوما من رمضان - من غير رخصة رخصها الله لم يقض عنه صوم الدهر } . قال أحمد بن شعيب : أنبأنا محمود بن غيلان ثنا أبو داود الطيالسي ثنا شعبة ، قال : أخبرني حبيب بن أبي ثابت قال : سمعت عمارة بن عمير يحدث عن أبي المطوس ، قال حبيب : وقد رأيت أبا المطوس ، فصح لقاؤه إياه فهذا أحسن من كل ما تعلقوا به ؟ وأما نحن فلا نعتمد عليه ؛ لأن أبا المطوس غير مشهور بالعدالة ، ويعيذنا الله من أن نحتج بضعيف إذا وافقنا ، ونرده إذا خالفنا ؟ وقال بمثل قولنا أفاضل السلف - : روينا من طريق عبد الله بن المبارك عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الرحمن بن البيلماني : أن أبا بكر الصديق قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما فيما أوصاه به : من صام شهر رمضان في غيره لم يقبل منه ولو صام الدهر أجمع . ومن طريق سفيان الثوري عن عبد الله بن سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل عن عمر بن الخطاب أنه أتي بشيخ شرب الخمر في رمضان ، فقال للمنخرين للمنخرين ولداننا صيام ثم ضربه ثمانين وصيره إلى الشام . قال أبو محمد : ولم يذكر قضاء ولا كفارة ؟ ومن طريق سفيان عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه : أن علي بن أبي طالب أتي بالنجاشي قد شرب الخمر في رمضان ، فضربه ثمانين ، ثم ضربه من الغد عشرين ، وقال : ضربناك العشرين لجرأتك على الله وإفطارك في رمضان ؟ قال علي : ولم يذكر قضاء ، ولا كفارة

ومن طريق ابن أبي شيبة عن أبي معاوية عن عمر بن يعلى الثقفي . عن عرفجة عن علي بن أبي طالب قال : من أفطر يوما من رمضان متعمدا لم يقضه أبدا طول الدهر . وعن ابن مسعود : من أفطر يوما من رمضان من غير رخصة لم يجزه صيام الدهر وإن صامه . وبأصح طريق عن علي بن الحسين عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان ، فقال أبو هريرة : لا يقبل منه صوم سنة . ومن طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه ، عن أبي هريرة : من أفطر يوما من أيام رمضان لم يقضه يوما من أيام الدنيا . قال أبو محمد : من أصل الحنفيين الذين يجاحشون عنه - ويتركون له السنن - : أن الخبر إذا خالفه راويه من الصحابة كان ذلك عندهم دليلا على ضعف ذلك الخبر أو نسخه ، قالوا ذلك في حديث ابن مغفل ، وأبي هريرة في غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا إحداهن بالتراب ، فتركوه ؛ لأنهم ادعوا أن أبا هريرة خالفه ؛ وقد كذبوا في ذلك ؛ بل قد صح عنه القول به ، وهذا مكان قد خالف فيه - أبو هريرة ما روي من هذا القضاء . وخالفه أيضا سعيد بن المسيب - على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى ، فرأى على من أفطر يوما من رمضان صوم شهر ؛ فينبغي لهم إسقاط القضاء المذكور في الخبر بهاتين الروايتين ؟ فإن قالوا قد رواه غير أبي هريرة ، وغير سعيد ؟ قلنا : وغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا قد رواه غير أبي هريرة فإن قالوا محال أن يكون عند أبي هريرة هذا الخبر ويفتي بخلافه ؟ قلنا : فقولوا هذا في خبر غسل الإناء : محال أن يكون عنده ذلك الخبر ويخالفه وهذا ما لا مخلص لهم منه ؟

736 - مسألة : ولا قضاء إلا على خمسة فقط : وهم الحائض ، والنفساء فإنهما يقضيان أيام الحيض والنفاس ، لا خلاف في ذلك من أحد ، والمريض ، والمسافر سفرا تقصر فيه الصلاة . لقول الله تعالى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } . والمتقيئ عمدا ، بالخبر الذي ذكرنا قبل ، وهذا كله أيضا مجمع عليه في المريض ، والمسافر إذا أفطرا ، وكلهم مطيع لله تعالى ، لا إثم عليهم ، إلا المتقيئ ، وهو ذاكر ؛ فإنه آثم ولا كفارة عليه

737 - مسألة : ولا كفارة على من تعمد فطرا في رمضان بما لم يبح له ، إلا من وطئ في الفرج من امرأته أو أمته المباح له وطؤهما إذا لم يكن صائما فقط ؛ فإن عليه الكفارة ، على ما نصف بعد هذا إن شاء الله تعالى ، ولا يقدر القضاء ، لما ذكرنا ؟ برهان ذلك - : أن رسول الله ﷺ لم يوجب الكفارة إلا على واطئ امرأته عامدا ، واسم امرأته يقع على الأمة المباح وطؤها ، كما يقع على الزوجة ، ولا جمع للمرأة من لفظها ؛ لكن جمع المرأة على نساء ، ولا واحد للنساء من لفظه ، قال تعالى : { نساؤكم حرث لكم } فدخل في ذلك - بلا خلاف - : الأمة المباحة ، والزوجة ؟ حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب ، ومحمد بن عبد الله بن نمير ، كلهم عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال { جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال : هلكت يا رسول الله ، قال : وما أهلكك ؟ قال : وقعت على امرأتي في رمضان ، قال : هل تجد ما تعتق رقبة ؟ قال : لا ، قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا ، قال : فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا ؟ قال لا ثم جلس ، فأتي النبي ﷺ بعرق فيه تمر ، فقال : تصدق بهذا ؟ فقال : أفقر منا فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا فضحك النبي ﷺ حتى بدت أنيابه ، ثم قال : اذهب فأطعمه أهلك } . قال أبو محمد : هكذا رواه منصور بن المعتمر ، وشعيب بن أبي حمزة ، والليث بن سعد ، والأوزاعي ، ومعمر ، وعراك بن مالك كلهم عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ . وخالف أشهب في هذا اللفظ سائر أصحاب الليث ؟ فلم يوجب الكفارة على غير من ذكرنا ، وقد قال عليه السلام { : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فلا يحل مال أحد بغير نص أو إجماع متيقن . ولا يحل لأحد إيجاب غرامة لم يوجبها القرآن ولا رسول الله ﷺ فيتعدى بذلك حدود الله ، ويبيح المال المحرم ، ويشرع ما لم يأذن به الله تعالى ؟ فإن قيل : فلم لم توجبوا الكفارة على كل من أفطر في رمضان فطرا لم يبح له ، بأي شيء أفطر ؟ بما رويتموه من طريق مالك ، وابن جريج ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، كلهم عن الزهري ، ومن طريق أشهب عن الليث عن الزهري ، ثم اتفقوا : عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة { أن رجلا أفطر في نهار رمضان ، فأمره رسول الله ﷺ أن يكفر بعتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستين مسكينا ؟ فقال : لا أجد ، فأتي رسول الله ﷺ بعرق تمر ، فقال : خذ هذا فتصدق به ؟ فقال : يا رسول الله لا أجد أحوج إليه مني فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت أنيابه ، وقال : كله } . قلنا : لأنه خبر واحد عن رجل واحد ، في قصة واحدة ، بلا شك ، فرواه من ذكرنا عن الزهري مجملا مختصرا ، ورواه الآخرون الذي ذكرنا قبل وأتوا بلفظ الخبر كما وقع ، كما سئل عليه السلام ، وكما أفتى ، وبينوا فيه أن تلك القضية إنما كانت وطئا لامرأته ، ورتبوا الكفارة كما أمر بها رسول الله ﷺ وأحال مالك ، وابن جريج ، ويحيى : صفة الترتيب ، وأجملوا الأمر ، وأتوا بغير لفظ النبي ﷺ فلم يجز الأخذ بما رووه من ذلك ، مما هو لفظ من دون النبي عليه السلام ممن اختصر الخبر وأجمله ، وكان الفرض أخذ فتيا النبي عليه السلام كما أفتى بها ، بنص كلامه فيما أفتى به ؟ فإن قيل : فإنا نقيس كل مفطر على المفطر بالوطء ؛ لأنه كله فطر محرم ؟ قلنا : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هاهنا هذا القياس باطلا ؛ لأنه قد جاء خبر المتقيئ عمدا ، وفيه القضاء ، ولم يذكر فيه كفارة . فما الذي جعل قياس سائر المفطرين على حكم الواطئ أولى من قياسهم على حكم المتعمد للقيء ؟ والآكل ، والشارب أشبه بالمتعمد للقيء منهما بالواطئ ؛ لأن فطرهم كلهم من حلوقهم لا من فروجهم ، بخلاف الواطئ ؛ ولأن فطرهم كلهم لا يوجب الغسل ، بخلاف فطر الواطئ ؛ فهذا أصح في القياس ، لو كان القياس حقا ؟ وقد أجمعوا على أنه لا كفارة على المتعمد لقطع صلاته ؛ والصلاة أعظم حرمة وآكد من الصيام ، فصارت الكفارة خارجة عن الأصل ؛ فلم يجز أن يقاس على خبرها ؟ فإن قال : إني أوجب الكفارة على المتعمد للقيء ؛ لأني أدخله في جملة من أفطر فأمر بالكفارة ، وأجعل هذا الخبر الذي رواه مالك ، وابن جريج ، ويحيى عن الزهري - : زائدا على ما في خبر المتعمد القيء ؟ قلنا : هذا لازم لكل من استعمل لفظ خبر مالك ، وابن جريج عن الزهري لازم له ، وإلا فهو متناقض ، وقد قال بهذا بعض الفقهاء . وروي عن أبي ثور ، وابن الماجشون ، إلا أن من ذهب إلى هذا لم يكلم إلا في تغليب رواية سائر أصحاب الزهري التي قدمنا على ما اختصره هؤلاء فقط . وليس إلا قولنا أو قول من أوجب الكفارة والقضاء على كل مفطر ، بأي وجه أفطر ، بعموم رواية مالك ، وابن جريج ، ويحيى ، وبالقياس جملة على المفطر بالوطء وبالقيء . وأما الحنفيون ، والمالكيون ، والشافعيون : فلم يتعلقوا بشيء من هذا الخبر أصلا ، ولا بالقياس ، ولا بقول أحد من السلف لأنهم أوجبوا الكفارة على بعض من أفطر بغير الوطء فتعدوا ما رواه جمهور أصحاب الزهري ، وأسقطوا الكفارة عن بعض من أفطر بغير الوطء ، مما قد أوجبها فيه غيرهم ، فخالفوا ما رواه مالك ، ويحيى ، وابن جريج ؛ فخالفوا كل لفظ خبر ورد في ذلك جملة وخالفوا القياس ؛ إذ لم يوجبوا الكفارة على بعض من أفطر بغير الوطء وبالوطء ، ولم يتبعوا ظاهر الآثار ؛ إذ أوجبوها على بعض من أفطر بغير الوطء على ما نذكر من أقوالهم بعد هذا ؛ فلا يجوز إيهامهم بأنهم تعلقوا في هذا الموضع بشيء من الآثار ، أو بشيء من القياس - : على من نبهناه على تخاذل أقوالهم في ذلك وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : وقد اختلف السلف في هذا ، فنذكر إن شاء الله تعالى ما يسر الله عز وجل لذكره من أقوالهم ، ثم نعقب بأقوال الحنفيين ، والمالكيين ، والشافعيين ، التي لا متعلق لها بالقرآن ولا بشيء من الروايات ، والسنن ، لا صحيحها ولا سقيمها ، ولا بإجماع ، ولا بقول صاحب ، ولا بقياس ، ولا برأي له وجه ، ولا باحتياط ، وبالله تعالى نتأيد ؟ فقالت طائفة : لا كفارة على مفطر في رمضان بوطء ولا بغيره - : روينا بأصح إسناد عن الحجاج بن المنهال : ثنا أبو عوانة عن المغيرة بن مقسم - عن إبراهيم النخعي ، في رجل أفطر يوما من رمضان ، قال : يستغفر الله ويصوم يوما مكانه ؟ وعن الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان ، وأيوب السختياني ، وحبيب بن الشهيد ، وهشام بن حسان ، قال حماد : عن إبراهيم النخعي ، وقال أيوب ، وحبيب وهشام كلهم عن محمد بن سيرين . ثم اتفق إبراهيم ، وابن سيرين ، فيمن وطئ عمدا في رمضان : أنه يتوب إلى الله تعالى ، ويتقرب إليه ما استطاع ، ويصوم يوما مكانه . ورويناه أيضا من طريق معمر عن أيوب عن ابن سيرين فيمن أكل يوما من رمضان عامدا ، قال : يقضي يوما ويستغفر الله ؟ ومن طريق الحجاج بن المنهال : ثنا جرير بن حازم حدثني يعلى بن حكيم قال : سألت سعيد بن جبير عن رجل وقع بامرأته في رمضان : ما يكفره ؟ فقال : ما ندري ما يكفره ذنب أو خطيئة ، يصنع الله تعالى به فيه ما يشاء ويصوم يوما مكانه ؟ ومن طريق حجاج بن المنهال : ثنا أبو عوانة عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر الشعبي أنه قال فيمن أفطر يوما من رمضان : لو كنت أنا لصمت يوما مكانه ؟ فهؤلاء : ابن سيرين ، والنخعي ، والشعبي ، وسعيد بن جبير : لا يرون على الواطئ في نهار رمضان عامدا كفارة وقالت طائفة بالكفارة ، ثم اختلفوا فروينا من طريق وكيع عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج الكلابي عن عوف بن مالك الأشجعي قال قال عمر بن الخطاب : صوم يوم من غير رمضان وإطعام مسكين يعدل يوما من رمضان وجمع بين أصبعيه ؟ قال أبو محمد : وعهدناهم يقلدون عمر في أجل العنين ، وفي حد الخمر ثمانين . ولا يصح في ذلك شيء عن عمر ، فليقلدوه هاهنا ؛ فهو أثبت عنه مما قلدوه ولكنهم متحكمون بالباطل في الدين وقالت طائفة كما روينا عن المعتمر بن سليمان : قرأت على فضيل عن أبي حريز قال : حدثني أيفع قال : سألت سعيد بن جبير عمن أفطر في رمضان ؟ فقال : كان ابن عباس يقول : من أفطر في رمضان فعليه عتق رقبة ، أو صوم شهر ، أو إطعام ثلاثين مسكينا ، ومن وقع على امرأته وهي حائض ، وسمع أذان الجمعة ولم يجمع ، وليس له عذر - : كذلك عتق رقبة ؟ قال علي : وهذا قول لا نص فيه ، وعهدنا بالحنفيين يقولون في مثل هذا - إذا وافق أهواءهم - : مثل هذا لا يقال بالرأي ، فلم يبق إلا أنه توقيف ، فيلزمهم أن يقولوه هاهنا ، وإلا فهم متلاعبون بالدين ؟ وقالت طائفة كما روينا عن وكيع عن سفيان الثوري عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي ، في رجل أفطر يوما من رمضان : يصوم ثلاثة آلاف يوم . وقالت طائفة كما روينا من طريق حماد بن سلمة : أنا حميد أنه سأل الحسن البصري عن رجل أفطر في رمضان أربعة أيام يأكل ويشرب وينكح ؟ فقال الحسن : يعتق أربعة رقاب ، فإن لم يجد فأربع من البدن ، فإن لم يجد فعشرين صاعا من تمر لكل يوم ، فإن لم يجد صام لكل يوم يومين ؟ وقد ذكرنا مثل هذا مرسلا عن النبي ﷺ من طريق سعيد بن المسيب . وروينا أيضا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة والحسن { أن النبي ﷺ قال في الذي وطئ امرأته في رمضان : رقبة ، ثم بدنة } ، ثم ذكر نحو حديث الزهري في العرق من التمر ؟ ومن طريق وكيع عن الربيع بن صبيح عن الحسن { أن رجلا أتى النبي ﷺ وقد واقع أهله في رمضان ، فقال له عليه السلام : أعتق رقبة ؟ قال : لا أجد ، قال : أهد بدنة ؟ قال : لا أجد ، قال : صم شهرين ، قال : لا أستطيع ، قال : أطعم ستين مسكينا ؟ قال : لا أجد ، فأتي النبي ﷺ بمكتل فيه تمر فقال : تصدق بهذا ؟ فقال : يا رسول الله : ما بينهما أهل بيت أحوج منا ، قال : كله أنت وعيالك } ؟ ومن طريق حماد بن سلمة : أنا عمارة بن ميمون عن عطاء بن أبي رباح { أن رسول الله ﷺ أمر الذي وقع بامرأته في رمضان أن يعتق رقبة ؟ قال : لا أجد ، قال : أهد هديا ؟ قال : لا أجده وذكر باقي الحديث } ؟ فإن تعللوا في مرسل سعيد بأنه ذكر له ما رواه عطاء الخراساني عنه من ذلك ؟ فقال سعيد : كذب ، إنما قلت له : تصدق تصدق - : فإن الحسن وقتادة ، وعطاء رووه أيضا مرسلا وفيه الهدي بالبدنة . قال أبو محمد : عهدنا بالحنفيين ، والمالكيين يقولون : المرسل كالمسند ، وهذا مرسل من طرق ، فيلزمهم القول به ؛ لأنه زاد على سائر الأحاديث ذكر الهدي . وأيضا - من طريق القياس : فإن البدنة ، والهدي يجبر بهما نقص الحج ؛ ولم نجد شيئا من الأعمال يجبر نقصه بكفارة إلا الحج ، والصوم ؛ فيجب أن يكون للهدي في الصوم مدخل كما له في الحج ؛ ولكن القوم لا يثبتون على شيء ؟ وأما نحن فلا حجة في مرسل عندنا أصلا . وقالت طائفة كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال : سألت سعيد بن المسيب عن رجل أكل في رمضان عامدا ؟ فقال : عليه صيام شهر ، قلت : يومين ؟ قال : صيام شهر ، قال : فعددت أياما فقال : صيام شهر ؟ ومن طريق وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن سعيد بن المسيب في الذي يفطر من رمضان متعمدا : عليه صوم شهر ؟ ومن طريق الحجاج بن المنهال : ثنا همام بن يحيى عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال : عليه لكل يوم أفطر شهر ؟ قال علي : يحتمل هذا القول أنه أراد شهرا شهرا عن كل يوم ، ويحتمل ما رواه معمر من أن عليه لكل يوم أفطر شهرا واحدا ، وهذا أظهر وأولى ، لتيقن الروايات عنه ؟ وحجة من قال بهذا : ما رويناه من طريق أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار قال : ثنا أحمد بن يحيى الصوفي الكوفي ثنا أبو غسان ثنا مندل عن عبد الوارث عن أنس قال قال رسول الله ﷺ { : من أفطر يوما من رمضان فعليه صوم شهر } . قال علي : مندل ضعيف ، وعبد الوارث مجهول . ولو صح لقلنا به ، ويلزم القول به من لم يبال بالضعفاء ؛ لأنه زائد على سائر الأخبار ، ويلزم أيضا المالكيين القائلين بأن نية واحدة في أول الشهر تجزئ لجميعه ؛ لأنه كله كصلاة واحدة ، وكيوم واحد ؟

وقالت طائفة كما روينا من طريق الشافعي : أن ربيعة قال : من أفطر يوما من رمضان عامدا فعليه صيام اثني عشر يوما ، لأن الله عز وجل تخيره من اثني عشر شهرا قال الشافعي : يجب على هذا أن من ترك صلاة من ليلة القدر أن يقضي ثلاثين ألف صلاة لأن الله تعالى يقول : { ليلة القدر خير من ألف شهر } . وقال الحنفيون ، والمالكيون ما نذكره إن شاء الله تعالى ، وهو أقوال لا تؤثر كما هي عن أحد من السلف - : فأما الشافعيون : فهم أقل الثلاث الطباق تناقضا ؛ وذلك أنهم قالوا : لا تجب الكفارة على مفطر عمدا في رمضان إلا على من جامع إنسانا ، أو بهيمة في فرج أو دبر ، فإن من فعل هذا تجب عليه الكفارة بالإيلاج ، أمنى أم لم يمن ؛ والكفارة عنده كما ذكرنا قبل من رواية الجمهور عن الزهري عن حميد عن أبي هريرة عن النبي ﷺ ولم ير على المرأة الموطوءة كفارة في أشهر الأقوال عنه ، ولا على من تعمد الأكل ، والشرب ، أو غير ذلك ، ولم يجعل في كل ذلك إلا القضاء فقط فقاس الواطئ لامرأة محرمة عليه على واطئ امرأته ، وقاس من أتى ذكرا على من أتى امرأته ، وقاس من أتى بهيمة على من أتى أهله ، وليس شيء من ذلك في الخبر . ولم يقس الآكل ، والشارب ، والمجامع دون الفرج فيمني والمرأة الموطوءة - : على الواطئ امرأته ، وهذا تناقض ؟ فإن قال أصحابه : قسنا الجماع على الجماع ، والأكل والشرب على المتعمد للقيء ؟ قلنا : فهلا قستم مجامع البهيمة على مجامع المرأة في إيجاب الحد ؟ كما قستموه عليه في إيجاب الكفارة ؟ وهلا قستم المرأة الموطوءة على الرجل الواطئ في إيجاب الكفارة ؟ فهو وطء واحد ، هما فيه معا ؟ وهلا قستم المجامع دون الفرج عامدا فيمني على المجامع في إيجاب الكفارة عليه ؟ فهذا أقرب إليه منه إلى الآكل ؟ وهذا تناقض قبيح في القياس جدا ؟ وأما المالكيون : فتناقضهم أشد ، وهو أنهم أوجبوا الكفارة ، والقضاء : على المفطر بالأكل أو الشرب ، وعلى من قبل فأمنى ؛ أو باشر فأمنى ؛ أو تابع النظر فأمنى ؛ وعلى من أكل ، أو شرب ، أو جامع شاكا في غروب الشمس فإذا بها لم تغرب ؛ وعلى من نوى الفطر في نهار رمضان وإن لم يأكل ولا شرب ، ولا جامع ، إذا نوى ذلك أكثر النهار ؛ وعلى المرأة تمس فرجها عامدة فتنزل ؟ ورأى على المرأة المكرهة على الجماع في نهار رمضان القضاء ، وأوجب على الواطئ لها الكفارة عن نفسه وكفارة أخرى عنها . وهذا عجب جدا ولم ير عليها إن أكرهها على الأكل والشرب كفارة ؛ ولا على التي جومعت نائمة ، ولا عليها ولا عليه عنها وهذا تناقض ناهيك به ولئن كانت الكفارة عليها فما يجزئ أن توجب الكفارة على غيرها ؟ ولئن لم تكن الكفارة عليها فأبعد من ذلك أن تجب على غيرها عنها ؟ وأبطلوا صيام من قبل فأنعظ ، أو أمذى ولم يمن أو باشر أو لمس فأمذى ولم يمن . ومن - نظر إلى امرأة - غير عامد لذلك - وتابع النظر فأمذى ولم يمن ، أو نظر نظرة ولم يتابع النظر فأمنى ، ومن تمضمض في صيام نهار رمضان فدخل الماء حلقه عن غير تعمد ، ومن أكل ناسيا أو وطئ ناسيا ، أو كان ذلك وهو لا يوقن بطلوع الفجر فإذا بالفجر قد طلع ، أو كان ذلك وهو يرى أن الشمس قد غربت فإذا بها لم تغرب ، ومن أكل شاكا في طلوع الفجر ثم لم يوقن بأنه طلع ولا أنه لم يطلع ، ومن أقام مجنونا يوما من رمضان أو أياما ، أو رمضان كله ، أو عدة شهور رمضان من عدة سنين ، ومن أغمي عليه أكثر النهار ، ومن أغمي عليه أياما من رمضان ، والمرضع تخاف على رضيعها ؛ والمرأة تجامع نائمة ، والمكره على الأكل والشرب ، ومن صب في - حلقه ماء وهو نائم ، ومن احتقن ، ومن اكتحل بكحل فيه عقاقير ، ومن بلع حصاة . وأوجبوا على كل من ذكرنا القضاء ، ولم يروا في شيء من ذلك كفارة . وهذا تناقض لا وجه له أصلا ، لا من قرآن ، ولا من سنة . ولا من رواية فاسدة ، ولا من إجماع ، ولا من قول صاحب ، أو تابع ، ولا من قياس ، ولا من رأي له وجه ؛ ولا يعرف هذا التقسيم عن أحد قبله ؟ وقد رأينا بعض مقلديه يوجبون على طحاني الدقيق ، والحناء ومغربلي الكتان والحبوب - : القضاء ، ويبطلون صومهم ، ولا يوجبون عليهم في تعمد ذلك كفارة ويدعون أن هذا قياس قول مالك وهذا تخليط لا نظير له ويلزمهم إبطال صوم كل من سافر فمشى في غبرة على هذا ؟ ولم يبطل صوم من قبل أو باشر فلم ينعظ ولا أمذى ولا أمنى ، ولا صوم من أمنى من نظر ولا لمس ، ولا صوم تطوع بدخول الماء في حلق فاعله من المضمضة ، ولا صوم متطوع صب الماء في حلقه وهو نائم وهذا عجب جدا أن يكون أمر واحد يبطل صوم الفرض ولا يبطل صوم التطوع ؟ ولم يبطل صوم من جن ، أو أغمي عليه أقل النهار ، وهذا عجب آخر ؟ ولم يبطل صوم من نام النهار كله ، وهذا عجب زائد ؟ ولا ندري قوله فيمن نوى الفطر أقل النهار : أيرى عليه القضاء ويبطل صومه بذلك ؟ أم يرى صومه تاما ؟ إلا أنه لا يرى فيه كفارة بلا شك ؟ ولم يبطل الصوم بالفتائل تتدخل لدواء ، ولا نقف الآن على قوله في السعوط والتقطير في الأذن ؟ ولم يبطل الصوم بكحل في العين لا عقاقير فيه ، ولا بمن تعمد بلع ما يخرجه من بين أضراسه من الجذيذة ونحوها ، ولا بمضغ العلك ، وإن استدعى الريق ، وكرهه ؟ قال أبو محمد : إن كان لا يبطل الصوم فلم كرهه ؟ وهذه أقوال لا نحتاج من إبطالها إلى أكثر من إيرادها ؟ وأما الحنفيون فأفسد الطباق أقوالا ، وأسمجها تناقضا وأبعدها عن المعقول ؟ وهو أن أبا حنيفة أوجب الكفارة والقضاء على من وطئ في الفرج - خاصة - امرأة ، حلالا له أو حراما وعلى المرأة عن نفسها ، وعلى من أكل ما يغتذي به ، أو شرب ما يتغذى به ، أو بلع لوزة خضراء ، أو أكل طينا إرمينيا خاصة . وأبطل صوم من لاط بإنسان في دبره فأمنى ، أو ببهيمة في قبل أو دبر فأمنى ، ومن بقي إلى بعد الزوال لا ينوي صوما ، ومن قبل ذاكرا لصومه فأمنى ، ومن لمس كذلك فأمنى ، أو جامع كذلك دون الفرج فأمنى ، ومن تمضمض فدخل الماء في حلقه وهو ذاكر لصومه ، ومن أكل ، أو شرب ، [ أو جامع ] بعد طلوع الفجر وهو غير عالم بطلوعه ثم علم ، ومن فعل شيئا من ذلك وهو يرى أن الشمس قد غربت فإذا بها لم تغرب ، ومن جن في يوم من رمضان ، أو أياما ، أو الشهر كله إلا ساعة واحدة منه ، ومن أغمي عليه بعد ما دخل رمضان ، حاشا يوم الليلة التي أغمي عليه فيها ، والمرضع تخاف على رضيعها ، ومن أصبح صائما في السفر ثم جامع ، أو أكل ، أو شرب عامدا ذاكرا ، ومن جامع ، أو أكل ، أو شرب عمدا ثم مرض من نهاره ذلك ، أو حاضت إن كانت امرأة ، ومن أصبح في رمضان لا ينوي صوما ثم أكل ، أو شرب ، أو جامع في صدر النهار ، أو في آخره ، والمرأة تجامع وهي نائمة ، أو مجنونة ، أو مكرهة ومن احتقن أو استعط أو قطر في أذنه قطورا ؟ واختلف قوله فيمن قطر في إحليله قطورا ، فمرة أبطل صومه ، ومرة لم يبطله ؟ وأبطل صوم من داوى جائفة به أو مأمومة بدواء رطب ، وإلا فلا ؟ وأبطل صوم من بلع حصاة عامدا ، أو بلع جوزة رطبة أو يابسة ، أو لوزة يابسة ، ومن رفع رأسه إلى السماء فوقع نقط من المطر في حلقه ؟ وأوجبوا في كل ذلك القضاء ولم يروا في شيء من ذلك كفارة . ولم يبطلوا صوم من لاط بذكر فأولج إلا أنه لم ينزل ولا صوم من أتى بهيمة في قبل أو دبر إلا أنه لم ينزل ولا صوم من أولج في دبر امرأة إلا أنه لم ينزل ورأوا صومه في كل ذلك تاما صحيحا لا قضاء فيه ولا كفارة ولم يبطلوا صوم من اكتحل بعقاقير أو بغيرها ، وصل إلى الحلق أو لم يصل ، ولا صوم من تابع النظر إلى فرج امرأة فأمنى ؛ ولا صوم من قبل أو باشر فأمذى ولم يمن ، ولا صوم من أكل ناسيا ، أو جامع ناسيا ، أو شرب ناسيا ، ولا صوم من جامع أو شرب ، أو أكل شاكا في الفجر ما لم يتبين أنه أكل بعد الفجر ، أو جامع بعده ، أو شرب بعده . ومنع للقادم من سفر فوجد امرأته قد طهرت من حيضها أن يجامعها " فليت شعري : إن كانا صائمين ، فهلا أوجب عليهما الكفارة ؟ وإن كانا غير صائمين ، فلم منعهما ؟ ولا أبطل صوم من أخرج من بين أسنانه طعاما - أقل من حمصة - فبلعه عامدا ذاكرا لصومه . قال أبو محمد : فمن أعجب شأنا ، أو أقبح قولا ممن يرى اللياطة . وإتيان البهيمة عمدا في نهار رمضان لا ينقض الصوم ؟ ويرى أن من قبل امرأته التي أباح الله تعالى له تقبيلها وهو صائم فأمنى فقد بطل صومه أو ممن فرق بين أكل ما يغذي وما لا يغذي ؟ ولا ندري من أين وقع لهم هذا ؟ وممن رأى أن من قبل زانية أو ذكرا أو باشرهما في نهار رمضان فلم ينعظ ، ولا أمذى : أن صومه صحيح تام لا داخلة فيه ؟ ومن قبل امرأته التي أباح الله تعالى له تقبيلها وهو صائم فأنعظ : أن صومه قد بطل ؛ ومن يرى على من أكل ناسيا القضاء ويبطل صومه ؟ ويرى أن من أكل متعمدا ما يخرج من بين أضراسه من طعامه أن صومه تام ؟ فهل في العجب أكثر من هذا ؟ والعجب كله في إيجابهم الكفارة على بعض من أفطر من غير المجامع قياسا على المجامع ، ثم إسقاطهم الكفارة عن بعض من أفطر من غير المجامع وكلاهما مفطر ، وتركوا القياس في ذلك ولم يلتزموا النص وأوجبوا الكفارة على المكرهة على الوطء ، وهي غير عاصية بذلك ، وأسقطوها عن المتعمد للقبل فيمذي وهو عاص ؟ فإن قال : ليس عاصيا ؟ قلنا : فالذي قبل فأمنى إذن ليس عاصيا ، فلم أوجبتموها عليه ؟ وهذه تخاليط لا نظير لها ولا متعلق لهم أصلا بشيء من الأخبار ؛ لأنهم فرقوا بين المفرطين في الحكم فلم يأخذوا برواية من روى { أن رجلا أفطر فأمره النبي عليه السلام بالكفارة } ولا برواية من روي { أن رجلا وقع على امرأته وهو صائم فأمره النبي عليه السلام بالكفارة } ، فيقتصروا عليه ، ولا قاسوا عليه كل مفطر ؟ وأسقطوا الكفارة عمن تعمد الفطر في قضاء رمضان ، وفي صوم نذر ، وفي شهري الكفارة ، وقد صح عن قتادة إيجاب الكفارة في قضاء رمضان إذا أفطر فيه عامدا ، وتركوا هاهنا القياس ؛ لأنه صوم فرض ، وصوم فرض ، وتعمد فطر ، وتعمد فطر ؟ فإن قيل : فمن أين أسقطتم الكفارة عمن وطئ امرأة محرمة عليه في الفرج ؟ وعن المرأة الموطوءة بإكراه أو بمطاوعة ؟ قلنا : لأن النص لم يرد إلا فيمن وطئ امرأته ، ولا يطلق على من وطئها في غير الفرج اسم واطئ ، ولا اسم مواقع ، ولا اسم مجامع ، ولا أنه وطئها ؛ ولا أنه وقع عليها ، ولا أنه جامعها ، إلا حتى يضاف إلى ذلك صلة البيان ، فإيجاب الكفارة على غير من ذكرنا مخالف للسنة وتعدي لحدود الله تعالى في ذلك ، وإيجاب ما لم يوجبه ؟ وأما المرأة فموطوءة ، والموطوءة غير الواطئ ، فالأمر في سقوط الكفارة عنها على كل حال أوضح من كل واضح ؟ وأيضا : فإن واطئ الحرام لا يصل إلى الوطء إلا بعد قصد إلى ذلك بكلام أو بطش ولا بد ؛ وكلا الأمرين معصية تبطل الصوم فلم يجامع إلا وصومه قد بطل - وبالله تعالى التوفيق . فإن قيل : فإنكم توجبونها على من وطئ امرأته أو أمته وهما حائضان ؟ قلنا : لأن رسول الله ﷺ أوجبها على من وطئ امرأته جملة ، ولم يسأله : أحائضا هي أم غير حائض ؟

738 - مسألة : ومن وطئ [ عمدا ] في نهار رمضان ثم سافر في يومه ذلك أو جن ، أو مرض لا تسقط عنه الكفارة ، لأن ما أوجبه الله تعالى فلا يسقط بعد وجوبه إلا بنص ، ولا نص في سقوطها لما ذكرنا . وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : تسقط بالمرض ولا تسقط بالسفر



739 - مسألة : وصفة الكفارة الواجبة هي كما ذكرنا في رواية جمهور أصحاب الزهري : من عتق رقبة لا يجزئه غيرها ما دام يقدر عليها ، فإن لم يقدر عليها لزمه صوم شهرين متتابعين ، فإن لم يقدر عليها لزمه - حينئذ - إطعام ستين مسكينا ؟ فإن قيل : هلا قلتم بما رواه يحيى الأنصاري وابن جريج ، ومالك عن الزهري من تخييره بين كل ذلك ؟ قلنا : لما قد بينا من أن هؤلاء اختصروا الحديث ، وأتوا بألفاظهم ، أو بلفظ من دون النبي ﷺ . وأما سائر أصحاب الزهري فأتوا بلفظ النبي ﷺ وهو الذي لا يحل تعديه أصلا ، وبزيادة حكم الترتيب ، ولا يحل ترك الزيادة وبقولنا يقول أبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو سليمان ، وأحمد ، وجمهور الناس ؟ وأما مالك فقال بما روي ؛ إلا أنه استحب الإطعام ، وليس لهذا الاستحباب وجه أصلا . وأما أبو حنيفة فإنه أجاز في الإطعام المذكور : أن تطعم مسكينا واحدا ستين يوما ، وهذا خلاف مجرد لأمر رسول الله ﷺ ولا يقع اسم ستين مسكينا على مسكين واحد أصلا

740 - مسألة : ويجزئ في ذلك رقبة مؤمنة أو كافرة ، صغيرة ، أو كبيرة ، ذكر أو أنثى ، معيب أو سليم ؛ لعموم { قول رسول الله ﷺ أعتق رقبة } فلو كان شيء من الرقاب التي تعتق لا يجزئ في ذلك لبينه عليه السلام ، ولما أهمله حتى يبينه له غيره . ويجزئ في ذلك : أم الولد ، والمدبر ، والمعتق بصفة ، وإلى أجل ، والمكاتب الذي لم يؤد شيئا من كتابته ، ولا يجزئ في ذلك نصفان من رقبتين ، ولا من بعضه حر ؟ وقال أبو حنيفة بقولنا في الكافر والصغير : وقال مالك ، والشافعي لا يجزئ إلا مؤمنة ، قالوا : قسنا ذلك على - الرقبة في قتل الخطأ . قال أبو محمد : والقياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه باطلا ، لأن مالكا لا يقيس حكم قاتل العمد على حكم قاتل الخطأ في الكفارة ، فإذا لم يقس قاتلا على قاتل فقياس الواطئ على القاتل أولى بالبطلان ، إن كان القياس حقا ؟ والشافعي لا يقيس المفطر بالأكل على المفطر بالوطء في الكفارة ، فإذا لم يقس مفطرا على مفطر فقياس المفطر على القاتل أولى بالبطلان ، إن كان القياس حقا ؟ وأيضا : فإنه لا خلاف في أن كفارة الواطئ في رمضان يعوض فيها الإطعام من الصيام ، ولا يعوض الإطعام من الصيام في كفارة قتل الخطأ فقد صح إجماعهم على أن حكم كفارة الواطئ مخالف لحكم كفارة القاتل ؛ فبطل بهذا قياس إحداهما على الأخرى ؟ فإن قالوا : إن النص لم يرد بالتعويض في كفارة القتل ، وورد به في كفارة الوطء ؟ قلنا : والنص لم يرد باشتراط مؤمنة في كفارة الوطء وورد به في كفارة القتل ، وهذا هو الحق . فإن قالوا : المؤمنة أفضل ؟ قلنا : نعم ؛ والعالم الفاضل أفضل من الجاهل الفاسق . قال تعالى : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } . وقال تعالى : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } وأنتم تجيزون فيها الجاهل الفاسق . وأما المعيب فكلهم متفق على إجازة العيب الخفيف فيها ، ولم يأت نص ، ولا إجماع ، ولا قياس بالفرق بين العيوب في ذلك ؟ وأيضا : فلا سبيل لهم إلى تحديد الخفيف - الذي أجازوه من الكثير - الذي لا يجيزونه - فصح أنه رأي فاسد من آرائهم ؟ وقال أبو حنيفة : يجزئ الأعور ، والمقطوع اليد أو الرجل أو كليهما من خلاف ، والمقطوع إصبعين من كل يد سوى الإبهامين . ولا يجزئ الأعمى ، ولا المقعد ، ولا المقطوع يدا ورجلا من جانب واحد ، ولا مقطوع الإبهامين فقط من كلتا يديه ولا مقطوع ثلاث أصابع من كل يد قال أبو محمد : وهذه تخاليط قوية بمرة ولو كان شيء من هذا لا يجزئ لبينه عليه السلام . وأما أم الولد والمدبر فلا خلاف في أن العتق جائز فيهما وحكمه واقع عليهما إذا عتقا ، فمعتق كل واحد منهما يسمى معتق رقبة ، وعتق كل واحد منهم عتق رقبة بلا خلاف ؛ فوجب أن من أعتق أحدهما في ذلك فقد فعل ما أمره الله تعالى به . وقال أبو حنيفة ، ومالك : لا يجزئان ؟ وقال الشافعي : لا تجزئ أم الولد ، لأنها لا تباع ؟ قال أبو محمد : فكان ماذا ؟ وهل اشترط عليه السلام - إذ أمر في الكفارة بعتق رقبة - أن تكون ممن يجوز بيعها ؟ حاش لله من هذا ، فإذ لم يشترط عليه السلام هذه الصفة فاشتراطها باطل ، وشرع في الدين لم يأذن به الله تعالى { وما كان ربك نسيا } . وأجاز في ذلك عتق المدبر ؟ وممن أجاز عتق أم الولد ، والمدبر في ذلك : عثمان البتي ، وأبو سليمان ؟ وأما المكاتب الذي لم يؤد شيئا فقد ذكرنا أنه عبد ، وممن أجازه في الكفارة دون من أدى شيئا من كتابته - : أبو حنيفة ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه . وأما المكاتب الذي أدى شيئا من كتابته ، ومن بعضه حر ، فقد ذكرنا في كتاب الزكاة شروع الحرية فيه بقدر ما أدى ، فمن أعتق باقيهما فإنما أعتق بعض رقبة ؛ لا رقبة ؛ فلم يؤد ما أمر به . وممن قال بقولنا في أنهما لا يجزئان : أبو حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق . وأما من أعتق نصفي رقبتين فلا يسمى معتق رقبة كما ذكرنا ؛ ولأنه يعتق عليه سائرهما بحكم آخر ولا بد ؛ فإذا لم يكن معتق - رقبة في ذلك فلم يؤد ما أمر به ؟ وأما المعتق إلى أجل - وإن قرب - أو بصفة فعتقهما وبيعهما جائز ؛ أما المعتق فلا خلاف منهم نعلمه فيه . وممن أجازهما في الكفارة : الشافعي وغيره ، ومعتقهما يسمى : معتق رقبة .

741 - مسألة : وكل ما قلنا : أنه لا يجزئ ؛ فإنه عتق مردود باطل لا ينفذ ، لقول رسول الله ﷺ : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } ولأنه لم يعتقه إلا بصفة لم تصح ، فلم يصح عتقه - وبالله تعالى التوفيق

742 - مسألة : ومن كان فرضه الصوم ، فقطع صومه عليه رمضان ، أو أيام الأضحى ، أو ما لا يحل صيامه فليسا متتابعين ، وإنما أمر بهما متتابعين ؟ وقال قائل : يجزئه ؟ قال علي : وهذا خلاف أمره ﷺ وليس كونه معذورا في إفطاره غير آثم ولا ملوم بمجيز له ما لم يجوزه الله تعالى من عدم التتابع . وروينا من طريق الحجاج بن المنهال عن أبي عوانة عن المغيرة عن إبراهيم : من لزمه شهران متتابعان فمرض فأفطر فإنه يبتدئ صومهما ؟

743 - مسألة : فإن اعترضه فيهما يوم نذر نذره : بطل النذر وسقط عنه ، وتمادى في صوم الكفارة ، وكذلك في رمضان سواء سواء ، لقول رسول الله ﷺ { كتاب الله أحق وشرط الله أوثق } . فصح أنه ليس لأحد أن يلتزم غير ما ألزمه الله تعالى ، ومن نذر ما يبطل به فرض الله تعالى : فنذره باطل ؛ لأنه تعد لحدود الله عز وجل ؟

744 - مسألة : فإن بدأ بصومهما في أول يوم من الشهر صام إلى أن يرى الهلال الثالث ولا بد ، كاملين كانا أو ناقصين ، أو كاملا وناقصا لقول الله تعالى : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله } فمن لزمه صوم شهرين لزمه أن يأتي بهما من جملة الاثني عشر شهرا المذكورة ؟

745 - مسألة : فإن بدأ بهما في بعض الشهر - ولو لم يمض منه إلا يوم ، أو لم يبق إلا يوم فما بين ذلك - : لزمه صوم ثمانية وخمسين يوما لا أكثر . لما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد العزيز بن عبد الله ثنا سليمان بن بلال عن حميد عن أنس بن مالك قال : { آلى رسول الله ﷺ من نسائه فأقام في مشربة تسعا وعشرين ليلة ثم نزل ، فقالوا : يا رسول الله ، آليت شهرا ، فقال : إن الشهر يكون تسعا وعشرين } . ورويناه من طرق متواترة جدا كذلك من طريق ابن جريج عن أبي الزبير : أنه سمع جابرا ، ومن طريق عكرمة بن عبد الرحمن عن أم سلمة ومن طريق سعيد بن عمرو ، وجبلة بن سحيم ، وعمرو بن دينار ، وعقبة بن حريث ، وسعد بن عبيدة كلهم عن ابن عمر ، ومن طريق إسماعيل بن أبي خالد عن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه ، ومن طريق الزهري عن عروة عن عائشة ، كلهم عن رسول الله ﷺ بأسانيد في غاية الصحة ؛ فإذا الشهر يكون تسعا وعشرين ويكون ثلاثين ، فلا يلزمه إلا اليقين ، وهو الأقل ؟ وقال قائلون : عليه أن يوفي ستين يوما ليكون على يقين من إتمام الشهرين ؟ قال أبو محمد : وهذا خطأ ؛ لأن الله تعالى إنما ألزمه شهرين ، ولم يقل كاملين ، كل شهر من ثلاثين يوما ، فإنما عليه ما يقع عليه اسم شهرين ، واسم شهرين يقع بنص كلامه عليه السلام على تسع وعشرين ، وتسع وعشرين ، والفرائض لا تلزم إلا بنص ، أو إجماع ؟ ويلزم من قال هذا من الحنفيين أن يقول : لا تجزئ - الرقبة إلا مؤمنة ؛ ليكون على يقين من أنه قد أدى الفرض في الرقبة ؟ ويلزم من قال بهذا من المالكيين ، والشافعيين أن يقول : لا تجزئ إلا غداء وعشاء ، أو غداء وغداء ، أو عشاء وعشاء ، كما يقول الحنفيون ، ولا يجزئ إلا صاع من شعير لكل مسكين ، أو نصف صاع بر - : ليكون على يقين من أداء فرض الإطعام ؟

746 - مسألة : ومن كان فرضه الإطعام فإنه لا بد له من أن يطعمهم شبعهم ، من أي شيء أطعمهم ، وإن اختلف ، مثل : أن يطعم بعضهم خبزا ، وبعضهم تمرا ، وبعضهم ثريدا ، وبعضهم زبيبا ، ونحو ذلك . ويجزئ في ذلك مد بمد النبي ﷺ إن أعطاهم حبا أو دقيقا أو تمرا أو زبيبا أو غير ذلك ، مما يؤكل ويكال ؛ فإن أطعمهم طعاما معمولا فيجزئه ما أشبعهم أكلة واحدة ، أقل كان أو أكثر ؟ حدثنا أحمد بن عمر ثنا عبد الله بن حسين بن عقال ثنا بكار بن قتيبة ثنا مؤمل هو ابن إسماعيل الحميري ثنا سفيان هو الثوري - عن منصور هو ابن المعتمر - عن الزهري عن حميد هو ابن عبد الرحمن بن عوف - عن أبي هريرة { أن رسول الله ﷺ فذكر خبر الواطئ في رمضان ، قال قال : فأتي النبي ﷺ بمكتل فيه خمسة عشر - يعني صاعا - فقال له النبي ﷺ خذه فأطعمه عنك } . قال علي : فأجزأ هذا في الإطعام . وكان إشباعهم من أي شيء أشبعهم مما يأكل الناس - : يسمى إطعاما ، والبر : يؤكل مقلوا ؛ فكل ذلك إطعام . ولا يجوز تحديد إطعام دون إطعام بغير نص ولا إجماع ، ولم يختلف فيما دون الشبع في الأكل ، وفيما دون المد في الإعطاء : أنه لا يجزئ ؟ وقال أبو حنيفة : لا يجزئ إلا نصف صاع بر ، أو مثله من سويقه أو دقيقه ، أو صاع من شعير ، أو زبيب ، أو تمر ، لكل مسكين . ولا بد من غداء وعشاء أو غداء وغداء ، أو عشاء وعشاء ، أو سحور وغداء ، أو سحور وعشاء ؟ قال أبو محمد : وهذا تحكم وشرع لم يوجبه نص ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب ؟

747 - مسألة : ولا يجزئ إطعام رضيع لا يأكل الطعام ، ولا إعطاؤه من ذلك ، لأنه لا يسمى إطعاما ، فإن كان يأكل كما تأكل الصبيان أجزأ إطعامه وإشباعه ، وإن أكل قليلا ، لأنه أطعم كما أمر - وبالله تعالى التوفيق ؟

748 - مسألة : ولا يجزئ إطعام أقل من ستين ، ولا صيام أقل من شهرين ، لأنه خلاف ما أمر به ؟

749 - مسألة : ومن كان قادرا حين وطئه على الرقبة لم يجزه غيرها ، افتقر بعد ذلك أو لم يفتقر ، ومن كان عاجزا عنها حينئذ قادرا على صيام شهرين متتابعين لم يجزه شيء غير الصيام ، أيسر بعد ذلك ووجد رقبة أو لم يوسر ؟ ومن كان عاجزا حين ذلك عن - الرقبة وعن الصيام قادرا على الإطعام لم يجزه غير الإطعام ، قدر على الرقبة أو الصوم بعد ذلك أو لم يقدر ؛ لأن كل ما ذكرنا هو فرضه بالنص ، والإجماع ؛ فلا يجوز سقوط فرضه وإيجاب فرض آخر عليه بغير نص ولا إجماع . وقال قائلون : إن دخل في الصوم فأيسر انتقل حكمه إلى الرقبة ؟ وهذا خطأ ، وقول بلا برهان ؟

750 - مسألة : فمن لم يجد إلا رقبة لا غنى به عنها ، لأنه يضيع بعدها أو يخاف على نفسه من حبها - : لم يلزمه عتقها ؟ لقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . وقوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } . وقوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } . وكل ما ذكرنا حرج وعسر لم يجعله تعالى علينا ، ولا أراده منا ، وفرضه حينئذ الصيام ، فإن كان في غنى عنها وهو قائم بنفسه ولا مال له فعليه عتقها ؛ لأنه واجد رقبة لا حرج عليه في عتقها ؟

751 - مسألة : ومن كان عاجزا عن ذلك كله ففرضه الإطعام ، وهو باق عليه ، فإن وجد طعاما وهو إليه محتاج أكله هو وأهله وبقي الإطعام دينا عليه ؛ لأن رسول الله ﷺ أمره بالإطعام فأخبره أنه لا يقدر عليه ، فأتاه بالتمر فأعطاه إياه وأمره بأن يطعمه عن كفارته ؟ فصح أن الإطعام باق عليه وإن كان لا يقدر عليه ، وأمره عليه السلام بأكله إذ أخبره أنه محتاج إلى أكله ، ولم يسقط عنه ما قد ألزمه إياه من الإطعام ، ولا يجوز سقوط ما افترضه عليه السلام إلا بإخبار منه عليه السلام بأنه قد أسقطه - وبالله تعالى التوفيق .

752 - مسألة : والحر والعبد في كل ما ذكرنا سواء ويطعم من ذلك الحر والعبد ، لأن حكم رسول الله ﷺ جاء عموما ، لم يخص منه حر من عبد ، وإذا كان العبد مسكينا فهو ممن أمر بإطعامه ولا تجوز معارضة أمره عليه السلام بالدعاوى الكاذبة - وبالله تعالى نتأيد ؟

----------



753 مسألة : ولا ينقض الصوم حجامة ولا احتلام ، ولا استمناء ، ولا مباشرة الرجل امرأته أو أمته المباحة له فيما دون الفرج ، تعمد الإمناء أم لم يمن ، أمذى أم لم يمذ ولا قبلة كذلك فيهما ، ولا قيء غالب ، ولا قلس خارج من الحلق ، ما لم يتعمد رده بعد حصوله في فمه وقدرته على رميه ، ولا دم خارج من الأسنان أو الجوف ما لم يتعمد بلعه ، ولا حقنة ولا سعوط ولا تقطير في أذن ، أو في إحليل ، أو في أنف ولا استنشاق وإن بلغ الحلق ، ولا مضمضة دخلت الحلق من غير تعمد ، ولا كحل - أو إن بلغ إلى الحلق نهارا أو ليلا - بعقاقير أو بغيرها ، ولا غبار طحن ، أو غربلة دقيق ، أو حناء ، أو غير ذلك ، أو عطر ، أو حنظل ، أو أي شيء كان ، ولا ذباب دخل الحلق بغلبة ، ولا من رفع رأسه فوقع في حلقه نقطة ماء بغير تعمد لذلك منه ؛ ولا مضغ زفت أو مصطكى أو علك ؛ ولا من تعمد أن يصبح جنبا ، ما لم يترك الصلاة ، ولا من تسحر أو وطئ وهو يظن أنه ليل فإذا بالفجر كان قد طلع ولا من أفطر بأكل أو وطء ، ويظن أن الشمس قد غربت فإذا بها لم تغرب ، ولا من أكل أو شرب أو وطئ ناسيا ؛ لأنه صائم ، وكذلك من عصى ناسيا لصومه ، ولا سواك برطب أو يابس ، ولا مضغ طعام أو ذوقه ، ما لم يتعمد بلعه ، ولا مداواة جائفة أو مأمومة بما يؤكل أو يشرب أو بغير ذلك ، ولا طعام وجد بين الأسنان - : أي وقت من النهار وجد ، إذا رمي ، ولا من أكره على ما ينقض الصوم ، ولا دخول حمام ، ولا تغطيس في ماء ، ولا دهن شارب ؟ أما الحجامة - قال أبو محمد : صح عن رسول الله ﷺ من طريق ثوبان ، وشداد بن أوس : ومعقل بن سنان ، وأبي هريرة ، ورافع بن خديج وغيرهم : أنه قال : { أفطر الحاجم والمحجوم } ، فوجب الأخذ به ، إلا أن يصح نسخه . وقد ظن قوم أن الرواية عن ابن عباس " احتجم رسول الله ﷺ ناسخة للخبر المذكور ، وظنهم في ذلك باطل ؛ لأنه قد يحتجم عليه السلام وهو مسافر فيفطر ، وذلك مباح ، أو في صيام تطوع فيفطر ، وذلك مباح . والعجب كله ممن يقول في الخبر الثابت أنه عليه السلام " مسح على العمامة " - : لعله كان مريضا ثم لا يقول هاهنا : لعله كان مريضا ؟ وأيضا فليس في خبر ابن عباس أن ذلك كان بعد إخباره عليه السلام أنه { أفطر الحاجم والمحجوم } ولا يترك حكم متيقن لظن كاذب ؟ وأيضا : فلو صح أن خبر ابن عباس بعد خبر من ذكرنا لما كان فيه إلا نسخ إفطار المحجوم لا الحاجم ؛ لأنه قد يحجمه عليه السلام غلام لم يحتلم ؟ قال أبو محمد : لكن وجدنا ما حدثناه عبد الله بن ربيع التميمي وأحمد بن عمر العذري قال التميمي : ثنا معاوية القرشي المرواني ثنا أحمد بن شعيب أنا إبراهيم بن سعيد ثنا إسحاق بن يوسف الأزرق عن سفيان الثوري عن خالد الحذاء ، وقال العذري ثنا عبد الله بن الحسين بن عقال الأسدي القرشي ثنا إبراهيم بن محمد الدينوري ثنا محمد بن أحمد بن الجهم ثنا موسى بن هارون ثنا إسحاق بن راهويه أنا المعتمر بن سليمان عن حميد ، ثم اتفق خالد الحذاء وحميد كلاهما عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري { أن رسول الله ﷺ أرخص في الحجامة للصائم } زاد حميد في روايته " والقبلة " . قال علي : إن أبا نضرة ، وقتادة أوقفاه عن أبي المتوكل على أبي سعيد ، وإن ابن المبارك أوقفه عن خالد الحذاء عن أبي المتوكل على أبي سعيد ؛ ولكن هذا لا معنى له إذ أسنده الثقة ، والمسندان له عن خالد وحميد : ثقتان ؛ فقامت به الحجة ، ولفظة " أرخص " لا تكون إلا بعد نهي ؛ فصح بهذا الخبر نسخ الخبر الأول ؟ وممن قال بأن الحجامة تفطر : علي بن أبي طالب ، وأبو موسى الأشعري ، وعبد الله بن عمر ، وغيرهم . ولم يرها تفطر : ابن عباس ، وزيد بن أرقم ، وغيرهما . وعهدنا بالحنفيين يقولون : إن خبر الواحد لا يقبل فيما تعظم به البلوى ، وهذا مما تكثر به البلوى ، وقد قبلوا فيه خبر الواحد مضطربا ؟ وأما الاحتلام : فلا خلاف في أنه لا ينقض الصوم ؛ إلا ممن لا يعتد به وأما الاستمناء : فإنه لم يأت نص بأنه ينقض الصوم ؟ والعجب كله ممن لا ينقض الصوم بفعل قوم لوط ، وإتيان البهائم وقتل الأنفس ، والسعي في الأرض بالفساد ، وترك الصلاة وتقبيل نساء المسلمين عمدا إذا لم يمن ولا أمذى - : ثم ينقضه بمس الذكر إذا كان معه إمناء وهم لا يختلفون : أن مس الذكر لا يبطل الصوم ، وأن خروج المني دون عمل لا ينقض الصوم ، ثم ينقض الصوم باجتماعهما ، وهذا خطأ ظاهر لا خفاء به ؟ والعجب كله ممن ينقض الصوم بالإنزال للمني إذا تعمد اللذة ، ولم يأت بذلك نص ، ولا إجماع ، ولا قول صاحب ، ولا قياس - : ثم لا يوجب به الغسل إذا خرج بغير لذة ، والنص جاء بإيجاب الغسل منه جملة ؟ .

وأما القبلة والمباشرة للرجل مع امرأته وأمته المباحة له فهما سنة حسنة ، نستحبها للصائم ، شابا كان أو كهلا أو شيخا ، ولا نبالي أكان معها إنزال مقصود إليه أو لم يكن ؟ حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا الحسن بن موسى ثنا شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف : أن عمر بن عبد العزيز أخبره أن عروة بن الزبير أخبره أن { عائشة أم المؤمنين أخبرته أن رسول الله ﷺ كان يقبلها وهو صائم } . وبه إلى مسلم : ثنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن جعفر غندر ثنا شعبة عن منصور عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن { عائشة أم المؤمنين أن رسول الله ﷺ كان يباشر وهو صائم } . وقال الله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } لا سيما من كابر على أن أفعاله ﷺ فرض . وقد روينا ذلك من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر ، وعلي بن الحسين ، وعمرو بن ميمون ، ومسروق ، والأسود ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، كلهم عن عائشة بأسانيد كالذهب ؟ ورويناه بأسانيد في غاية الصحة عن أمهات المؤمنين : أم سلمة ، وأم حبيبة ، وحفصة وعمر بن الخطاب ، وابن عباس وعمر بن أبي سلمة ، وغيرهم كلهم : عن النبي ﷺ . فادعى قوم أن القبلة تبطل الصوم ؟ وقال قوم : هي مكروهة . وقال قوم : هي مباحة للشيخ ، مكروهة للشاب . وقال قوم : هي خصوص للنبي ﷺ . فأما من ادعى أنها خصوص له عليه السلام فقد قال الباطل ، وما يعجز عن الدعوى من لا تقوى له ؟ فإن احتج في ذلك بما روي من قول عائشة رضي الله عنها { كان رسول الله ﷺ يقبل وهو صائم ، ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه } . قلنا : لا حجة لك في قول عائشة هذا ؛ لأن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا قال : ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا إسماعيل بن الخليل ثنا علي بن مسهر ثنا أبو إسحاق هو الشيباني - عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد عن أبيه عن { عائشة أم المؤمنين قالت كانت إحدانا إذا كانت حائضا فأراد النبي ﷺ أن يباشرها أن تتزر في فور حيضتها ثم يباشرها ، قالت : وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله ﷺ يملك إربه } ؟ فإن كان قولها ذلك في قبلة الصائم يوجب أنه له خصوص فقولها هذا في مباشرة الحائض يوجب أنها له أيضا خصوص ، أو أنها مكروهة ، أو أنها للشيخ دون الشاب ولا يمكنهم هاهنا دعوى الإجماع ؛ لأن ابن عباس وغيره كرهوا مباشرة الحائض ؛ جملة ولعمري إن مباشرة الحائض لأشد غررا ؛ لأنه يبقى عن جماعها أياما وليالي فتشتد حاجته ، وأما الصائم فالبارحة وطئها ، والليلة يطؤها ، فهو بشم من الوطء ؟ حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال : { أخبرني رجل من الأنصار ، أنه قبل امرأته على عهد رسول الله ﷺ فأمرها فسألت النبي ﷺ عن ذلك فقال لها النبي ﷺ إن رسول الله يفعل ذلك ، فأخبرته امرأته ، فقال لها : إن النبي ﷺ رخص له في أشياء ، فارجعي إليه ، فرجعت إليه ، فذكرت له ذلك ، فقال لها رسول الله ﷺ أنا أتقاكم وأعلمكم بحدود الله } . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج حدثني هارون بن سعيد الأيلي ثنا ابن وهب أخبرني عمرو هو ابن الحارث - عن عبد ربه بن سعيد عن عبد الله بن كعب الحميري { عن عمر بن أبي سلمة المخزومي أنه سأل رسول الله ﷺ أيقبل الصائم ؟ فقال له رسول الله ﷺ سل هذه ، يعني أم سلمة ، فأخبرته أن رسول الله ﷺ يصنع ذلك ، فقال : يا رسول الله ، قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال رسول الله ﷺ أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم } . فهذان الخبران يكذبان قول من ادعى في ذلك الخصوص له عليه السلام ؛ لأنه أفتى بذلك عليه السلام من استفتاه ، ويكذب قول من ادعى أنها مكروهة للشاب مباحة للشيخ ؟ لأن عمر بن أبي سلمة كان شابا جدا في قوة شبابه إذ مات عليه السلام ، وهو ابن أم سلمة أم المؤمنين وزوجه النبي ﷺ بنت حمزة عمه رضي الله عنه . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرنا قتيبة بن سعيد ثنا أبو عوانة عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن طلحة بن عبد الله بن عثمان القرشي { عن عائشة أم المؤمنين قالت أهوى النبي ﷺ ليقبلني ، فقلت : إني صائمة فقال : وأنا صائم ، فقبلني } . وكانت عائشة إذ مات عليه السلام بنت ثمان عشرة سنة فظهر بطلان قول من فرق في ذلك بين الشيخ والشاب ، وبطلان قول من قال : إنها مكروهة ؛ وصح أنها حسنة مستحبة ، سنة من السنن ، وقربة من القرب إلى الله تعالى اقتداء بالنبي ﷺ ووقوفا عند فتياه بذلك ؟ وأما ما تعلق به من كرهها للشاب فإنما هما حديثا سوء ، روينا أحدهما من طريق فيها ابن لهيعة ، وهو لا شيء ، وفيها قيس مولى تجيب ؛ وهو مجهول لا يدرى من هو ؟ والآخر من طريق إسرائيل - وهو ضعيف - عن أبي العنبس ، ولا يدرى من هو ؟ عن الأغر عن أبي هريرة ، في كليهما ، { أن النبي ﷺ أرخص في قبلة الصائم للشيخ ونهى عنها الشاب } ، فسقطا جميعا ؟ وأما من أبطل الصوم بها فإنهم احتجوا بقول الله تعالى : { فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } ففي هذه الآية المنع من المباشرة ؟ قلنا قد صح عن رسول الله ﷺ إباحة المباشرة ، وهو المبين عن الله تعالى مراده منا ، فصح أن المباشرة المحرمة في الصوم إنما هي الجماع فقط ؛ ولا حجة في هذه الآية لحنفي ولا لمالكي ، فإنهم يبيحون المباشرة ، ولا يبطلون الصوم بها أصلا وإنما يبطلونه بشيء يكون معها ، من المني أو المذي فقط ، وإنما هي حجة لمن منع المباشرة وأبطل الصوم بها . وهؤلاء أيضا قد احتجوا بخبرين : روينا أحدهما من طريق أبي أسامة حماد بن أسامة عن عمر بن حمزة أخبرني سالم بن عبد الله عن أبيه قال قال عمر : رأيت رسول الله ﷺ في المنام ، فرأيته لا ينظرني ، فقلت : يا رسول الله ما شأني ؟ فقال : ألست الذي تقبل وأنت صائم ؟ قلت : فوالذي بعثك بالحق لا أقبل بعدها وأنا صائم . قال أبو محمد : الشرائع لا تؤخذ بالمنامات لا سيما وقد أفتى رسول الله ﷺ عمر في اليقظة حيا بإباحة القبلة للصائم ؛ فمن الباطل أن ينسخ ذلك في المنام ميتا نعوذ بالله من هذا . ويكفي من هذا كله أن عمر بن حمزة لا شيء . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا عيسى بن حماد هو زغبة - عن الليث بن سعد عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن عبد الملك بن سعد الساعدي الأنصاري عن جابر بن عبد الله قال { قال عمر بن الخطاب هششت فقبلت وأنا صائم ، فقلت : يا رسول الله ، صنعت اليوم أمرا عظيما ، قبلت وأنا صائم ، فقال رسول الله ﷺ أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم ؟ قلت : لا بأس به ، قال : فمه } ؟ " . والخبر الثاني الذي رويناه من طريق إسرائيل - وهو ضعيف - عن زيد بن جبير عن أبي يزيد الضبي - وهو مجهول { عن ميمونة بنت عتبة مولاة رسول الله ﷺ سئل عمن قبل امرأته وهما صائمان ؟ فقال : قد أفطر } . قال أبو محمد : حتى لو صح هذا لكان حديث أبي سعيد الخدري - الذي ذكرنا في باب الحجامة للصائم - أنه عليه السلام أرخص في القبلة للصائم - : ناسخا له ؟ وممن روي عنه إبطال الصيام بالقبلة من طريق سعيد بن المسيب : أن عمر كان ينهى عن القبلة للصائم ، فقيل له { إن رسول الله ﷺ كان يقبل وهو صائم } ؟ فقال : ومن ذا له من الحفظ والعصمة ما لرسول الله ﷺ ؟ ومن طريق عمران بن مسلم عن زاذان عن ابن عمر قال في الذي يقبل وهو صائم ، فقال : ألا يقبل جمرة ؟ وعن مورق عنه : أنه كان ينهى عنها ؟ ومن طريق علي بن أبي طالب قال ما تريد إلى خلوف فيها ؟ دعها حتى تفطر ؟ وعن الهزهاز : أن ابن مسعود سئل عمن قبل وهو صائم فقال : أفطر ، ويقضي يوما مكانه . وعن حذيفة قال : من تأمل خلق امرأته وهو صائم بطل صومه ؟ وعن الزهري عن ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير : رأيت أصحاب رسول الله ﷺ ينهون عن القبلة للصائم ؟ ومن طريق شريح : أنه سئل عن قبلة الصائم ؟ فقال : يتقي الله ولا يعد . وعن أبي قلابة : أنه نهى عنها ؟ وعن محمد بن الحنفية : إنما الصوم من الشهوة ، والقبلة من الشهوة ؟ وعن أبي رافع قال : لا يقبل الصائم . وعن مسروق : أنه سئل عنها ؟ فقال : الليل قريب وقال ابن شبرمة : إن قبل الصائم أفطر وقضى يوما مكانه ؟ ومن كرهها - : روينا عن سعيد بن المسيب : القبلة تنقض الصوم ولا تفطر وعن إبراهيم النخعي : أنه كرهها ؟ وعن عبد الله بن مغفل أنه كرهها ؟ وعن سعيد بن جبير : أنه قال : لا بأس بها ، وإنها لبريد سوء ؟ وعن عروة بن الزبير قال : لم أر القبلة تدعو إلى خير - يعني للصائم ؟ وصح عن ابن عباس : أنه قال : هي دليل إلى غيرها والاعتزال أكيس ؟ وكرهها مالك ؟ ومن فرق بين الشيخ والشاب - : روينا من طريق ابن المسيب عن عمر بن الخطاب ومن طريق أبي مجلز عن ابن عباس ، ومن طريق ابن أبي مليكة عن أبي هريرة ، ومن طريق نافع عن ابن عمر ، ومن طريق هشام بن الغاز عن مكحول ، ومن طريق حريث عن الشعبي : أنهم كلهم رخصوا في قبلة الصائم للشيخ وكرهوها للشاب ؟ ومن كره المباشرة للصائم - : روينا من طريق عطاء عن ابن عباس : أنه سئل عن القبلة للصائم ؟ فقال : لا بأس بها ، وسئل أيقبض على ساقها ؟ قال لا يقبض على ساقها ، أعفوا الصيام ؟ ومن طريق مالك عن ابن عمر : أنه كان ينهى عن المباشرة للصائم . وعن الزهري : أنه نهى عن لمس الصائم وتجريده . وعن سعيد بن المسيب في الصائم يباشر قال : يتوب عشر مرار ، إنه ينقص من صومه الذي يجرد أو يلمس ، لك أن تأخذ بيدها وبأدنى جسدها وتدع أقصاه ؟ وعن عطاء بن أبي رباح في الصائم يباشر بالنهار ؟ قال : لم يبطل صومه ؛ ولكن يبدل يوما مكانه . وعن أبي رافع : لا يباشر الصائم . وكرهها مالك . ومن أباح المباشرة للشيخ ونهى عنها للشاب - : روينا هذا عن ابن عمر ، وعن ابن عباس والشعبي . وأما من أباح كل ذلك - : روينا من طريق عبد الرزاق عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله أن عائشة بنت طلحة بن عبيد الله أخبرته : أنها كانت عند عائشة أم المؤمنين فدخل عليها زوجها ، وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - وهو صائم في رمضان ، فقالت له عائشة أم المؤمنين : ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتقبلها وتلاعبها ؟ فقال : أقبلها وأنا صائم ؟ قالت : نعم . ومن طريق معمر عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن مسروق قال : سألت عائشة أم المؤمنين : ما يحل للرجل من امرأته صائما ؟ فقالت كل شيء إلا الجماع ؟ قال أبو محمد : عائشة بنت طلحة كانت أجمل نساء أهل زمانها ، وكانت أيام عائشة وهي وزوجها فتيين في عنفوان الحداثة ؟ وهذان الخبران يكذبان قول من لا يبالي بالكذب أنها أرادت بقولها { وأيكم أملك لإربه من رسول الله ﷺ } النهي من القبلة والمباشرة للصائم ؟ ومن طريق عبد الله ، وعبيد الله : ابني عبد الله بن عمر بن الخطاب : أن عمر بن الخطاب كانت تقبله امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو وهو صائم ؛ فلا ينهاها ومن طريق داود بن أبي هند عن سعيد بن جبير : أن رجلا قال لابن عباس : إني تزوجت ابنة عم لي جميلة ، فبنيت بها في رمضان : فهل لي - بأبي أنت وأمي إلى قبلتها من سبيل ؟ فقال له ابن عباس : هل تملك نفسك ؟ قال : نعم ، قال : قبل ، قال : فبأبي أنت وأمي : هل إلى مباشرتها من سبيل ؟ قال : هل تملك نفسك ؟ قال : نعم ، قال : فباشرها ، قال : فهل لي إلى أن أضرب بيدي على فرجها من سبيل ؟ قال : وهل تملك نفسك ؟ قال : نعم ، قال : اضرب - وهذه أصح طريق عن ابن عباس . وعن يحيى بن سعيد القطان عن حبيب بن شهاب عن أبيه قال : سألت أبا هريرة عن دنو الرجل من امرأته وهو صائم ؟ فقال : إني لأرف شفتيها وأنا صائم . وعن زيد بن أسلم قال : قيل لأبي هريرة : أتقبل وأنت صائم قال : نعم وأكفحها - معناه : أنه يفتح فاه إلى فيها وسئل عن تقبيل غير امرأته ؟ فأعرض بوجهه . ومن طرق صحاح عن سعد بن أبي وقاص : أنه سئل : أتقبل وأنت صائم ؟ قال : نعم وأقبض على متاعها . وعن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري : أنه كان لا يرى بالقبلة للصائم بأسا . وعن سفيان بن عيينة عن زكريا هو ابن أبي زائدة - عن الشعبي عن عمرو بن شرحبيل أن ابن مسعود كان يباشر امرأته نصف النهار وهو صائم - وهذه أصح طريق عن ابن مسعود . ومن طريق حنظلة بن سبرة ( عن ) المسيب بن نجبة الفزاري عن عمته - وكانت تحت حذيفة بن اليمان - قالت : كان حذيفة إذا صلى الفجر في رمضان جاء فدخل معي في لحافي ثم يباشرني . وعن أبي ظبيان عن علي بن أبي طالب : لا بأس بالقبلة للصائم . وعن مسعر عن سعيد بن مردان به عن أبي كثير أن أم سلمة أم المؤمنين قالت له وقد تزوج في رمضان : لو دنوت ، لو قبلت ؟ ومن التابعين من طريق عكرمة : لا بأس بالقبلة والمباشرة للصائم ، إنما هي كالكسرة يشتمها . وعن الحسن البصري قال : يقبل الصائم ، ويباشر . وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف : أنه كان يقبل في رمضان نهارا ويفتي بذلك . وعن سعيد بن جبير : إباحة القبلة للصائم . وعن الشعبي : لا بأس بالقبلة ، والمباشرة للصائم . وعن مسروق : أنه سئل عن تقبيل الصائم امرأته ؟ فقال : ما أبالي أقبلتها ، أو قبلت يدي ؟ فهؤلاء من الصحابة رضي الله عنهم عائشة ، وأم سلمة أم المؤمنين ، وعمر بن الخطاب ، وعلي ، وعاتكة بنت زيد ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، وسعد بن أبي وقاص ، وابن مسعود ، وأبو سعيد الخدري ، وحذيفة ، وما نعلم منهم أحدا روي عنه كراهتها إلا وقد جاء عنه إباحتها بأصح من طريق الكراهة ؛ إلا ابن عمر وحده ، ورويت الإباحة جملة عن سعد ، وأبي سعيد ، وعائشة ، وأم سلمة ، وعاتكة . قال أبو محمد : ولقد كان يجب لمن غلب القياس على الأثر أن يجعلها في الصيام بمنزلتها في الحج ؛ ويجعل فيها صدقة كما جعل فيها هنالك ؛ ولكن هذا مما تركوا فيه القياس - وبالله تعالى نتأيد . وإذ قد صح أن القبلة والمباشرة : مستحبتان في الصوم وأنه لم ينه الصائم في امرأته عن شيء إلا الجماع - : فسواء تعمد الإمناء في المباشرة أو لم يتعمد كل ذلك مباح لا كراهة في شيء من ذلك ؛ إذ لم يأت بكراهيته نص ولا وإجماع ، فكيف إبطال الصوم به ، فكيف أن تشرع فيه كفارة ؟ وقد بينا مع ذلك - من أنه خلاف للسنة - فساد قول من رأى الصوم ينتقض بذلك ؛ لأنهم ، يقولون : خروج المني بغير مباشرة لا ينقض الصوم ؛ وأن المباشرة إذا لم يخرج معها مذي ، ولا مني ، لا تنقض الصوم ؛ وأن الإنعاظ دون مباشرة لا ينقض الصوم ، فكل واحد من هذه على انفراده لا يكدح في الصوم أصلا ؛ فمن أين لهم إذا اجتمعت أن تنقض الصوم ؟ هذا باطل لا خفاء به ، إلا أن يأتي بذلك نص ، ولا سبيل إلى وجوده أبدا ، لا من رواية صحيحة ولا سقيمة ، وأما توليد الكذب والدعاوى بالمكابرة ، فما يعجز عنها من لا دين له . وما رئي قط حلال وحلال يجتمعان فيحرمان إلا أن يأتي بذلك نص ، وبهذا الدليل نفسه خالف الحنفيون السنة الثابتة في تحريم نبيذ التمر والزبيب يجمعان ، ثم حكموا به هاهنا حيث لا يحل الحكم به - وبالله تعالى التوفيق . وهم يقولون : إن الجماع دون الفرج حتى يمني لا يوجب حدا ولا يلحق به الولد ، وكان يجب أن يفرقوا بينه وبين الجماع في إبطال الصوم به ، مع أن نقض الصوم بتعمد الإمناء خاصة لا نعلمه عن أحد من خلق الله تعالى قبل أبي حنيفة ، ثم اتبعه مالك ، والشافعي ؟ وأما القيء الذي لا يتعمد فقد جاء الأثر بذلك على ما ذكرنا قبل ، ولا نعلم في القلس ، والدم : الخارجين من الأسنان لا يرجعان إلى - الحلق ، خلافا في أن الصوم لا يبطل بهما ، وحتى لو جاء في ذلك خلاف لما التفت إليه ؛ إذ لم يوجب بطلان الصوم بذلك نص



وأما الحقنة ، والتقطير في الإحليل ، والتقطير في الأذن ، والسعوط ، والكحل ، ومداواة الجائفة ، والمأمومة - : فإنهم قالوا : إن ما وصل إلى الجوف وإلى باطن الرأس - لأنه جوف - فإنه ينقض الصوم ، قياسا على الأكل ؟ ثم تناقضوا ، فلم ير الحنفيون ، والشافعيون في الكحل قضاء ، وإن وصل إلى حلقه ، ولم ير مالك بالفتائل تستدخل لدواء بأسا للصائم ، ولم ير الكحل يفطر ، إلا أن يكون فيه عقاقير ؟ وقال الحسن بن حي : لا تفطر الحقنة إن كانت لدواء ؟ وعن إبراهيم النخعي لا بأس بالسعوط للصائم ؟ ومن طريق عبد الرزاق عن المعتمر بن سليمان التيمي . أن أباه ، ومنصور بن المعتمر ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة كانوا يقولون : إن اكتحل الصائم فعليه أن يقضي يوما مكانه . قال أبو محمد : إنما نهانا الله تعالى في الصوم عن الأكل والشرب والجماع ، وتعمد القيء ، والمعاصي ، وما علمنا أكلا ، ولا شربا ، يكون على دبر ، أو إحليل ، أو أذن ، أو عين ، أو أنف ، أو من جرح في البطن ، أو الرأس وما نهينا قط عن أن نوصل إلى الجوف - بغير الأكل ، والشرب - ما لم يحرم علينا إيصاله والعجب أن من رأى منهم الفطر بكل ذلك لا يرى على من احتقن بالخمر ، أو صبها في أذنه حدا فصح أنه ليس شربا ، ولا أكلا ؟ ثم تناقضهم في الكحل عجب جدا وهو أشد وصولا إلى الحلق ، ومجرى الطعام من القطور في الأذن ؟ واحتج بعضهم بأنه كغبار الطريق ، والطحين ؟ فقيل له : ليس مثله ؛ لأن غبار الطريق ، والطحين : لم يتعمد إيصاله إلى الحلق ، والكحل تعمد إيصاله ؟ وأيضا : فإن قياس السعوط على غبار الطريق ، والطحين أولى ؛ لأن كل ذلك مسلكه الأنف ؛ ولكنهم لا يحسنون قياسا ولا يلتزمون نصا ، ولا يطردون أصلا وأما المضمضة ، والاستنشاق فيغلبه الماء فيدخل حلقه عن غير تعمد . فإن أبا حنيفة قال : إن كان ذاكرا لصومه فقد أفطر وعليه القضاء ، وإن كان ناسيا فلا شيء عليه - وهو قول إبراهيم . وقال مالك : عليه القضاء في كل ذلك . وقال ابن أبي ليلى : لا قضاء عليه ، ذاكرا كان أوغير ذاكر . وروينا عن بعض التابعين - وهو الشعبي ، وحماد - وعن الحسن بن حي : إن كان ذلك في وضوء لصلاة فلا شيء عليه ، وإن كان لغير وضوء فعليه القضاء . قال أبو محمد : قال الله تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وقال رسول الله ﷺ : { رفع عن أمتي : الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } . وروينا قولنا في هذه المسألة عن عطاء بن أبي رباح . واحتج من أفطر بذلك بالأثر الثابت عن رسول الله ﷺ { : وإذا استنشقت فبالغ ، إلا أن تكون صائما } . قال أبو محمد : ولا حجة لهم فيه ؛ لأنه ليس فيه أنه يفطر الصائم بالمبالغة في الاستنشاق ؛ وإنما فيه إيجاب المبالغة في الاستنشاق لغير الصائم ، وسقوط وجوب ذلك عن الصائم فقط ؛ لا نهيه عن المبالغة ؛ فالصائم مخير بين أن يبالغ في الاستنشاق وبين أن لا يبالغ فيه ، وأما غير الصائم فالمبالغة في الاستنشاق فرض عليه ، وإلا كان مخالفا لأمره عليه السلام : بالمبالغة ؛ ولو أن امرأ يقول : إن المبالغة في الاستنشاق تفطر الصائم لكان أدخل في التمويه منهم ؛ لأنه ليس في هذا الخبر من وصول الماء إلى الحلق أثر ولا عثير ولا إشارة ولا دليل ؛ ولكنهم لا يزالون يتكهنون في السنن ما يوافق آراءهم بالدعاوى الكاذبة وبالله تعالى التوفيق

وأما الذباب يدخل في الحلق غلبة ، ومن رفع رأسه إلى السماء فتثاءب فوقع في حلقه نقطة من المطر - : فإن مالكا قال : يفطر ؛ وقال أبو حنيفة : لا يفطر بالذباب . وقد روينا من طريق وكيع عن أبي مالك عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في الذباب يدخل حلق الصائم قال : لا يفطر ؟ وعن وكيع عن الربيع عن الحسن في الذباب يدخل حلق الصائم قال : لا يفطر . وعن الشعبي مثله : وما نعلم لابن عباس في هذا مخالفا من الصحابة رضي الله عنهم إلا تلك الرواية الضعيفة عنه . وعن ابن مسعود : الفطر مما دخل وليس مما خرج ؛ والوضوء مما خرج وليس مما دخل ؟ وكلهم قد خالف هذه الرواية ؛ لأنهم يرون الفطر بتعمد خروج المني ، وهو خارج لا داخل ، ويبطلون الوضوء بالإيلاج ، وهو داخل لا خارج ؟ قال أبو محمد : قد قلنا : إن ما ليس أكلا ، ولا شربا ، ولا جماعا ، ولا معصية ، فلا يفطر ؛ لأنه لم يأمر الله تعالى بذلك ، ولا رسوله ﷺ

وأما السواك بالرطب ، واليابس ، ومضغ الطعام أو ذوقه ما لم يصل منه إلى الحلق أي شيء بتعمد - : فكلهم لا يرون الصيام بذلك منتقضا ، وإن كان الشافعي كره السواك في آخر النهار ، ولم يبطل بذلك الصوم . وكره بعضهم مضغ الطعام وذوقه ، وهذا لا شيء ؛ لأن كراهة ما لم يأت قرآن ولا سنة بكراهته خطأ ، وهم لا يكرهون المضمضة ، ولا فرق بينهما وبين مضغ الطعام ؛ بل الماء أخفى ولوجا وأشد امتزاجا بالريق من الطعام ؛ وهذا مما خالفوا فيه القياس ؟ واحتج الشافعي بالخبر الثابت : { إن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك } . قال أبو محمد : الخلوف خارج من الحلق ، وليس في الأسنان ، والمضمضة تعمل في ذلك عمل السواك ، وهو لا يكرهها ، وقول الشافعي في هذا هو قول مجاهد ، ووكيع ، وغيرهما . وقد حص رسول الله ﷺ على السواك لكل صلاة ، ولم يخص صائما من غيره فالسواك سنة - للعصر ، والمغرب ، وسائر الصلوات ؟ وقد كره أبو ميسرة الرطب من السواك للصائم ، ولم يكرهه الحسن وغيره . وروينا من طريق الحسن ، وحماد ، وإبراهيم : أنهم كانوا لا يكرهون للصائم أن يمضغ الطعام للصبي ، وكان الحسن يفعله

وأما مضغ العلك ، والزفت ، والمصطكى : فروينا من طريق لا يصح عن أم حبيبة أم المؤمنين : أنها كرهت العلك للصائم ؟ وروينا عن الشعبي : أنه لم ير به بأسا ؟ وقد قلنا : إن ما لم يكن أكلا ، ولا شربا ، ولا جماعا ، ولا معصية : فهو مباح في الصوم ؛ ولم يأت به نص بنهي الصائم عن شيء مما ذكرنا ، وليس أكلا ، ولا شربا ، ولا ينقص منه شيء بطول المضغ لو وزن - وبالله تعالى التوفيق وأما غبار ما يغربل فقد ذكرنا عن أبي حنيفة : أنه لا يفطر ، ورويناه أيضا من طريق ابن وضاح عن سحنون وهو لا يسمى أكلا ، ولا شربا ، فلا يفطر الصائم


وأما طعام يخرج من بين الأسنان في أي وقت من النهار خرج فرمى به - : فهذا لم يأكل ، ولا شرب ؛ فلا حرج ، ولا يبطل الصوم - : وبالله تعالى التوفيق ؛ وهو قولهم كلهم .

وأما من أصبح جنبا عامدا أو ناسيا - ما لم يتعمد التمادي ضحى كذلك حتى يترك الصلاة عامدا ذاكرا لها : - فإن السلف اختلفوا في هذا ؟ فرأى بعضهم أنه يبطل صومه بترك الغسل قبل الفجر ؟ وقال الحنفيون ، والمالكيون ؛ والشافعيون : صومه تام وإن تعمد أن لا يغتسل من الجنابة شهر رمضان كله ؟ قال أبو محمد : أما هذا القول فظاهر الفساد ، لما ذكرنا قبل من أن تعمد المعصية يبطل الصوم ، ولا معصية أعظم من تعمد ترك الصلاة حتى يخرج وقتها ؟ وذهبت طائفة من السلف إلى ما ذكرنا قبل - : كما روينا من طريق شعيب بن أبي حمزة عن الزهري أخبرني عبد الله بن عبد الله بن عمر : " أنه احتلم ليلة في رمضان ثم نام فلم ينتبه حتى أصبح ، قال : فلقيت أبا هريرة فاستفتيته ؟ فقال : أفطر ، فإن رسول الله ﷺ كان يأمر بالفطر إذا أصبح الرجل جنبا قال : فجئت إلى أبي فأخبرته بما أفتاني به أبو هريرة ، فقال : أقسم بالله لئن أفطرت لأوجعن متنك ، صم ، فإن بدا لك أن تصوم يوما آخر فافعل . وروينا من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة سمعت عبد الله بن عمرو القارئ قال { : سمعت أبا هريرة يقول : لا ورب هذا البيت ، ما أنا قلت : من أدركه الصبح وهو جنب فلا يصم ، محمد - ورب الكعبة - قاله } . قال أبو محمد : وقد عاب من لا دين له ولا علم له هذا الخبر بأن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام روى عن أبي هريرة أنه قال له في هذا الخبر : إن أسامة بن زيد حدثه به ، وإن الفضل بن عباس حدثه به ؟ قال أبو محمد : وهذه قوة زائدة للخبر ، أن يكون أسامة والفضل روياه عن النبي ﷺ وما ندري إلى ما أشار به هذا الجاهل ؟ وما يخرج من هذا الاعتراض إلا نسبة أبي هريرة للكذب ، والمعترض بذلك أحق بالكذب منه ؟ وكذلك عارض قوم - لا يحصلون ما يقولون - هذا الخبر بأن أمي المؤمنين روتا { أن النبي ﷺ كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك النهار } . قال أبو محمد : وليس يعارض هذا الخبر ما رواه أبو هريرة لأن رواية أبي هريرة هي الزائدة . والعجب ممن يرد روايتهما رضي الله عنهما في أن رسول الله ﷺ كان يقبل وهو صائم برأيه - : ثم يجعل روايتهما هاهنا حجة على السنة الثابتة لا سيما مع صحة الرواية { عن عائشة رضي الله عنها : أنها قالت : ما أدرك الفجر قط رسول الله ﷺ إلا وهو نائم } فهلا حملوا هذا على غلبة النوم ، لا على تعمد ترك الغسل ؟ واحتج أيضا قوم بما رويناه من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن هشام الدستوائي عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال : رجع أبو هريرة عن فتياه في الرجل يصبح جنبا . قال علي : ولا حجة في رجوعه ، لأنه رأي منه ؛ إنما الحجة في روايته عن النبي ﷺ وقد افترض علينا اتباع روايتهم ، ولم نؤمر باتباع الرأي ممن رآه منهم . والعجب ممن يحتج بهذا من المالكيين وهم قد ثبتوا على ما روي عن عمر رضي الله عنه من تحريم المتزوجة في العدة على الذي دخل بها في الأبد . وقد صح رجوع عمر عن ذلك إلى أنه مباح له ابتداء زواجها ؟ وممن قال بهذا من السلف كما روينا من طريق ابن جريج عن عطاء : أنه لما اختلف عليه أبو هريرة ، وعائشة في هذا قال عطاء : يبدل يوما ويتم يومه ذلك . ومن طريق سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أنه قال : من أدركه الصبح جنبا وهو متعمد أبدل الصيام ؛ ومن أتاه غير متعمد فلا يبدله ؟ فهذا عروة ابن أخت عائشة رضي الله عنها قد ترك قولها لرواية أبي هريرة . ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر قال : سألت إبراهيم النخعي عن الرجل يصبح جنبا ؟ فقال : أما رمضان فيتم صومه ويصوم يوما مكانه ؛ وأما التطوع فلا ؟ ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي ثنا ابن إسحاق هو عبد الله قال : سألت سالما عن رجل أصبح جنبا في رمضان ؟ قال : يتم يومه ويقضي يوما مكانه . ومن طريق عبد الله بن طاوس عن أبيه قال : من أصبح جنبا في شهر رمضان فاستيقظ ولم يغتسل حتى يصبح فإنه يتم ذلك ويصوم يوما مكانه ؛ فإن لم يستيقظ فلا بدل عليه . ومن طريق وكيع عن الربيع عن الحسن البصري فيمن أصبح جنبا في رمضان : يقضيه في الفرض . ومن طريق ابن أبي شيبة عن عائذ بن حبيب عن هشام بن عروة في الذي يصبح جنبا في رمضان قال : عليه القضاء . قال أبو محمد : لو لم يكن إلا ما ذكرنا لكان الواجب القول بخبر أبي هريرة ، لكن منع من ذلك صحة نسخه ؟ وبرهان ذلك قول الله تعالى : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } . حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا أحمد بن دحيم ثنا إبراهيم بن حماد ثنا إسماعيل بن إسحاق ثنا عبد الواحد ثنا حماد بن سلمة ثنا عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } كان أحدهم إذا نام لم تحل له النساء ، ولم يحل له أن يأكل شيئا إلى القابلة ، ورخص الله لكم . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرني هلال بن العلاء بن هلال الرقي ثنا حسين بن عياش - ثقة من أهل باجدا - : ثنا زهير بن معاوية ثنا أبو إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب : أن أحدهم كان إذا نام قبل أن يتعشى لم يحل له أن يأكل شيئا ولا يشرب ليلته ويومه من الغد حتى تغرب الشمس ، حتى نزلت { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } . قال أبو محمد : فصح أن هذه الآية ناسخة لكل حال تقدمت الصوم ، وخبر أبي هريرة موافق لبعض الأحوال المنسوخة ، وإذ صح أن هذه الآية ناسخة لما تقدم فحكمها باق لا يجوز نسخه وفيها إباحة الوطء إلى تبين الفجر ؛ فإذ هو مباح بيقين ، فلا شك في أن الغسل لا يكون إلا بعد الفجر ، ولا شك في أن الفجر يدركه وهو جنب ، فبهذا وجب ترك حديث أبي هريرة ، لا بما سواه - وبالله تعالى التوفيق



وأما من نسي أنه صائم في رمضان ، أو في صوم فرض ، أو تطوع : فأكل ، وشرب ، ووطئ ، وعصى ؛ ومن ظن أنه ليل ففعل شيئا من ذلك فإذا به قد أصبح ؛ أو ظن أنه غابت الشمس ففعل شيئا من ذلك فإذا بها لم تغرب - : فإن صوم كل من ذكرنا تام لقول الله تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } ولقول رسول الله ﷺ : { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } . حدثنا بذلك أحمد بن عمر بن أنس العذري قال ثنا الحسين بن عبد الله الجرجاني قال ثنا عبد الرزاق بن أحمد بن عبد الحميد الشيرازي أخبرتنا فاطمة بنت الحسن الريان المخزومي وراق أبي بكر بن قتيبة ثنا الربيع بن سليمان المؤذن المرادي ثنا بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس قال : قال رسول الله ﷺ : { إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبدان أنا يزيد بن زريع ثنا هشام هو ابن حسان - ثنا ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : { إذا نسي أحدكم فأكل ، أو شرب فليتم صومه ؛ فإنما أطعمه الله وسقاه } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة ثنا أيوب هو السختياني - وحبيب بن الشهيد كلاهما عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال { : جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله ، إني أكلت وشربت ناسيا وأنا صائم ؟ فقال : الله أطعمك وسقاك } . ورويناه أيضا عن أبي رافع ، وخلاس عن أبي هريرة عن النبي ﷺ . قال أبو محمد : فسماه رسول الله ﷺ صائما ، وأمره بإتمام صومه ذلك فصح أنه صحيح الصوم - وبه يقول جمهور السلف ؟ روينا من طريق وكيع عن شعبة عن عبد الله بن دينار قال : استسقى ابن عمر وهو صائم ، فقلت : ألست صائما ؟ فقال : أراد الله أن يسقيني فمنعتني ؟ . ومن طريق أبي هريرة : من شرب ناسيا أو أكل ناسيا فليس عليه بأس ، إن الله أطعمه وسقاه ؟ وعن علي بن أبي طالب ، وزيد بن ثابت مثل هذا . ورويناه أيضا عن عطاء ، وقتادة ، ومجاهد والحسن ، وسويا في ذلك بين المجامع ، والآكل ، وعن الحكم بن عتيبة مثله ، وعن أبي الأحوص ، وعلقمة ، وإبراهيم النخعي ، والحسن البصري ، وهو قول أبي حنيفة ، وسفيان ، وأحمد بن حنبل ، والشافعي ، وأبي سليمان ، وغيرهم ؛ إلا أن بعض من ذكرنا رأى الجماع بخلاف الأكل والشرب ، ورأى فيه القضاء . وهو قول عطاء ، وسفيان : قال أبو محمد : وقال مالك : القضاء واجب على الناسي ؟ قال علي : وما نعلم لهم حجة أصلا ، إلا أنهم قالوا : الأكل ، والجماع ، والشرب ينافي الصوم ؟ فقيل لهم : وعلى هذا فالأكل والشرب ينافي الصلاة وأنتم تقولون : إن ذلك لا يبطل الصلاة إذا كان بنسيان فظهر تناقضهم فكيف وقولهم هذا خطأ ؟ وإنما الصواب أن تعمد الأكل والشرب والجماع والقيء ينافي الصوم لا الأكل كيف كان ، ولا الشرب كيف كان ، ولا الجماع كيف كان ، ولا القيء كيف كان ، فهذا هو الحق المتفق عليه ، والذي جاءت به النصوص من القرآن والسنن . وأما دعواهم فباطل ، عارية من الدليل جملة ، لا من قرآن ، ولا من سنة صحيحة ، ولا من رواية فاسدة ، ولا من قياس ، ولا من قول أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، بل هذا مما نقضوا فيه وتناقضوا فيه ، لأنهم يعظمون خلاف قول الصاحب إذا وافقهم . وخالفوا هاهنا طائفة من الصحابة لا يعرف لهم منهم مخالف ، وقالوا : الكلام ، أو الأكل ، أو الشرب في الصلاة بنسيان لا يبطلها ، وأبطلوا الصوم بكل ذلك بالنسيان وهذا تناقض لا خفاء به ؟ وأما أبو حنيفة فتناقض أيضا ، لأنه رأى أن الكلام ، أو الأكل ناسيا ، أو الشرب ناسيا تبطل الصلاة بكل ذلك ويبتدئها ، وخالف السنة الواردة في ذلك ، ورأى الجماع يبطل الحج ناسيا كان أو عامدا ورأى أن كل ذلك لا يبطل الصوم ، واتبع الخبر في ذلك ، ورأى الجماع ناسيا لا يبطل الصوم ، قياسا على الأكل ، ولم يقس الآكل نائما على الآكل ناسيا ؛ بل رأى الأكل نائما يبطل الصوم ، وهو ناس بلا شك ، وهذا تخليط لا نظير له ؟ وادعى مقلدوه الإجماع على أن الجماع والأكل ناسيا سواء ؛ وكذبوا في ذلك ؛ لأننا روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج : قلت لعطاء : رجل أصاب امرأته ناسيا في رمضان ؟ فقال عطاء : لا ينسى هذا كله عليه القضاء ؛ لم يجعل الله له عذرا ، وإن طعم ناسيا فليتم صومه ولا يقضيه ، الله أطعمه وسقاه وبه يقول سفيان الثوري . ورأى ابن الماجشون على من أكل ناسيا أو شرب ناسيا القضاء وعلى من جامع ناسيا القضاء والكفارة وهذه أقوال فاسدة وتفاريق لا تصح - وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : ومن أكل وهو يظن أنه ليل أو جامع كذلك أو شرب كذلك فإذا به نهار إما بطلوع الفجر وإما بأن الشمس لم تغرب - : كلاهما لم يتعمد إبطال صومه ، وكلاهما ظن أنه في غير صيام ، والناسي ظن أنه في غير صيام ولا فرق ، فهما والناسي سواء ولا فرق . وليس هذا قياسا - ومعاذ الله من ذلك - وإنما يكون قياسا لو جعلنا الناسي أصلا ثم شبهنا به من أكل وشرب وجامع وهو يظن أنه في ليل فإذا به في نهار ، ولم نفعل هذا بل كلهم سواء في قول الله تعالى : { ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وفي قول رسول الله ﷺ : { إن الله تجاوز لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } . وهذا قول جمهور السلف - : روينا من طريق عبد الرزاق : ثنا معمر عن الأعمش عن زيد بن وهب قال : أفطر الناس في زمن عمر بن الخطاب فرأيت عساسا أخرجت من بيت حفصة فشربوا ، ثم طلعت الشمس من سحاب ، فكأن ذلك شق على الناس ، فقالوا : نقضي هذا اليوم فقال عمر : لم ؟ والله ما تجانفنا لإثم وروينا أيضا من طريق الأعمش عن المسيب عن زيد بن وهب . ومن طريق ابن أسلم عن أخيه عن أبيه ولم يذكر قضاء ؟ وقد روي عن عمر أيضا القضاء ، وهذا تخالف من قوله ، فوجب الرجوع إلى ما افترض الله تعالى الرجوع إليه عند التنازع ، من القرآن والسنة ، فوجدنا ما ذكرنا قبل ، مع أن هذه الرواية عن عمر أولى لأن زيد بن وهب له صحبة ، وإنما روي عنه القضاء من طريق علي بن حنظلة عن أبيه . وروينا من طريق شعبة قال : سألت الحكم بن عتيبة عمن تسحر نهارا وهو يرى أن عليه ليلا ؟ فقال : يتم صومه . ومن طريق سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال : من أكل بعد طلوع الفجر وهو يظن أنه لم يطلع فليس عليه القضاء ؛ لأن الله تعالى يقول : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } . ومن طريق ابن أبي شيبة : ثنا سهل بن يوسف عن عمرو عن الحسن البصري فيمن تسحر وهو يرى أنه ليل ، قال : يتم صومه . ومن طريق ابن أبي شيبة : ثنا أبو داود - هو الطيالسي - عن حبيب عن عمرو بن هرم عن جابر بن زيد فيمن أكل يرى أنه ليل فإذا به نهار ، قال : يتم صومه . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج ، ومعمر ، قال ابن جريج : عن عطاء ، وقال معمر : عن هشام بن عروة عن أبيه ، ثم اتفق عروة وعطاء فيمن أكل في الصبح وهو يرى أنه ليل : لم يقضه ؛ فهؤلاء : عمر بن الخطاب ، والحكم بن عتيبة ، ومجاهد ؛ والحسن ، وجابر بن زيد أبو الشعثاء ، وعطاء بن أبي رباح ، وعروة بن الزبير - وهو قول أبي سليمان . وروينا عن معاوية ، وسعيد بن جبير ، وابن سيرين ، وهشام بن عروة ، وعطاء ، وزياد بن النضر ، وإنما قال هؤلاء : بالقضاء في الذي يفطر وهو يرى أنه ليل ثم تطلع الشمس وأما في الفجر فلا ، مثل قول أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وما نعلم لهم حجة أصلا . فإن ذكروا ما رويناه من طريق ابن أبي شيبة عن أبي أسامة عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر قالت : { أفطر الناس على عهد رسول الله ﷺ ثم طلعت الشمس } . قال أبو أسامة : قلت لهشام : فأمروا بالقضاء ؟ فقال : ومن ذلك بد ؟ فإن هذا ليس إلا من كلام هشام ، وليس من الحديث ، فلا حجة فيه . وقد قال معمر : سمعت هشام بن عروة في هذا الخبر نفسه يقول : لا أدري أقضوا أم لا ؟ فصح ما قلنا . وأما من أكره على الفطر ، أو وطئت امرأة نائمة ، أو مكرهة أو مجنونة أو مغمى عليها ، أو صب في حلقه ماء وهو نائم - : فصوم النائم ، والنائمة ، والمكره ، والمكرهة : تام صحيح لا داخلة فيه ، ولا شيء عليهم ، ولا شيء على المجنونة . والمغمى عليها ، ولا على المجنون والمغمى عليه ؛ لما ذكرنا من قول رسول الله ﷺ : { إن الله تجاوز لأمته عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } . والنائم والنائمة مكرهان بلا شك غير مختارين لما فعل بهما ؟ وقال زفر : لا شيء على النائم ، والنائمة ولا قضاء كما قلنا ، سواء سواء ، وصومهما تام - وهو قول الحسن بن زياد . وقد روي أيضا عن أبي حنيفة في النائم مثل قول زفر . وقال سفيان الثوري : إذا جومعت المرأة مكرهة في نهار رمضان فصومها تام ولا قضاء عليها وهو قول عبيد الله بن الحسن . وبه يقول أبو سليمان ، وجميع أصحابنا . والمجنون ، والمغمى عليه غير مخاطبين ، قال رسول الله ﷺ : { رفع القلم عن المجنون حتى يفيق ، والنائم حتى يستيقظ ، والصبي حتى يحتلم } . والمشهور عن أبي حنيفة أن القضاء على النائم والنائمة ، والمكره والمكرهة ، والمجنون والمجنونة ، والمغمى عليهما وهو قول مالك . قال أبو محمد : وهو قول ظاهر الفساد ، وما نعلم لهم حجة من قرآن ، ولا سنة صحيحة ولا رواية فاسدة ولا قول صاحب ، ولا قياس ، إلا أن بعضهم قاس ذلك على المكره على الحدث أنه تنتقض طهارته . قال علي : وهذا قياس في غاية الفساد - لو كان القياس حقا - فكيف والقياس كله باطل ؟ لأن الطهارة تنتقض من الأحداث بقسمين : أحدهما بنقضها كيف ما كان ، بنسيان أو عمد أو إكراه : والآخر لا ينقضها إلا بالعمد على حسب النصوص الواردة في ذلك ، وهم متفقون على أن - الريح ، والبول ، والغائط ينقض الطهارة - : أن يقيسوا الناسي في الصوم على الناسي في الطهارة ، والمغلوب بالقيء على المغلوب بالحدث ، وكلهم لا يقولون بهذا أصلا ، فبطل قياسهم الفاسد وكان أدخل في القياس لو قاسوا المكره ، والمغلوب في الصوم على المكره ، والمغلوب في الصلاة على ترك القيام ، أو ترك السجود ، أو الركوع ، فهؤلاء صلاتهم تامة بإجماع منهم ؛ فكذلك يجب أن يكون صوم المكره والمغلوب ولا فرق ؛ ولكنهم لا يحسنون القياس ولا يتبعون النصوص ولا يطردون أصولهم ، وبالله تعالى التوفيق

وأما دخول الحمام ، والتغطيس في الماء ، ودهن الشارب ، فقد روينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لا يدخل الصائم الحمام . وعن إبراهيم النخعي الإفطار بدهن الشارب ، وعن بعض السلف مثل ذلك في التغطيس في الماء ، ولا حجة إلا فيما صح عن رسول الله ﷺ ولم يأت عنه نهي للصائم عن شيء من ذلك ؛ فكل ذلك مباح لا يكدح في الصوم - وبالله تعالى التوفيق .



754 - مسألة : قال علي : اختلف الناس في المجنون ، والمغمى عليه ؟ فقال أبو حنيفة : من جن شهر رمضان كله فلا قضاء عليه ، فإن أفاق في شيء منه - قضى الشهر كله . قال : ومن أغمي عليه الشهر كله فعليه قضاؤه كله ، فإن أغمي عليه بعد ليلة من الشهر - قضى الشهر كله إلا يوم تلك الليلة التي أغمي عليه فيها ؛ لأنه قد نوى صيامه من الليل . وقال مالك : من بلغ وهو مجنون مطبق فأقام وهو كذلك سنين ثم أفاق - : فإنه يقضي كل رمضان كان في تلك السنين ، ولا يقضي شيئا من الصلوات . قال : فإن أغمي عليه أكثر النهار فعليه قضاؤه ، فإن أغمي عليه أقل النهار فليس عليه قضاؤه . وقد روي عنه إيجاب القضاء عليه جملة دون تقسيم . وقال عبيد الله بن الحسن : لا قضاء على المجنون إلا على الذي يجن ويفيق ، ولا قضاء على المغمى عليه . وقال الشافعي : لا يقضي المجنون ، ويقضي المغمى عليه . وقال أبو سليمان : لا قضاء عليهم . قال أبو محمد : كنا نذهب إلى أن المجنون ، والمغمى عليه يبطل صومهما ولا قضاء عليهما ، وكذلك الصلاة . ونقول : إن الحجة في ذلك - : ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك الخولاني ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا موسى بن إسماعيل ثنا وهيب هو ابن خالد - عن خالد هو الحذاء - عن أبي الضحى عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : { رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يعقل } وكنا نقول : إذا رفع القلم عنه فهو غير مخاطب بصوم ولا بصلاة . ثم تأملنا هذا الخبر - بتوفيق الله تعالى - فوجدناه ليس فيه إلا ما ذكرنا من أنه غير مخاطب في حال جنونه حتى يعقل ، وليس في ذلك بطلان صومه الذي لزمه قبل جنونه ، ولا عودته عليه بعد إفاقته ، وكذلك المغمى ، فوجب أن من جن بعد أن نوى الصوم من الليل فلا يكون مفطرا بجنونه ؛ لكنه فيه غير مخاطب ، وقد كان مخاطبا به ؛ فإن أفاق في ذلك اليوم أو في يوم بعده من أيام رمضان فإنه ينوي الصوم من حينه ويكون صائما ؛ لأنه حينئذ علم بوجوب الصوم عليه . وهكذا من جاءه الخبر برؤية الهلال ، أو من علم بأنه يوم نذره أو فرضه على ما قدمنا قبل ، وكذلك من أغمي عليه كما ذكرنا ، وكذلك من جن أو أغمي عليه قبل غروب الشمس ، أو من نام ، أو سكر قبل غروب الشمس فلم يستيقظ ولا صحا إلا من الغد وقد مضى أكثر النهار ، أو أقله . ووجدنا المجنون لا يبطل جنونه إيمانه ، ولا أيمانه ولا نكاحه ولا طلاقه ، ولا ظهاره ولا إيلاءه ، ولا حجه ، ولا إحرامه ولا بيعه ، ولا هبته ، ولا شيئا من أحكامه اللازمة له قبل جنونه ، ولا خلافته إن كان خليفة ، ولا إمارته إن كان أميرا ولا ولايته ولا وكالته ، ولا توكيله ، ولا كفره ، ولا فسقه ، ولا عدالته ، ولا وصاياه ، ولا اعتكافه ، ولا سفره ، ولا إقامته ، ولا ملكه ، ولا نذره ، ولا حنثه ، ولا حكم العام في الزكاة عليه . ووجدنا ذهوله عن كل ذلك لا يوجب بطلان شيء من ذلك ، فقد يذهل الإنسان عن الصوم ، والصلاة ، حتى يظن أنه ليس مصليا ولا صائما ؛ فيأكل ، ويشرب ، ولا يبطل بذلك صومه ولا صلاته ، بهذا جاءت السنن على ما ذكرنا في الصلاة وغيرها ، وكذلك المغمى عليه ولا فرق في كل ذلك ، ولا يبطل الجنون والإغماء إلا ما يبطل النوم من الطهارة بالوضوء وحده فقط . وأيضا : فإن المغلوب المكره على الفطر لا يبطل صومه بذلك على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى ، والمجنون ، والمكره مغلوبان مكرهان مضطران بقدر غالب من عند الله تعالى ما أصابهما ، فلا يبطل ذلك صومهما . وأيضا : فإن من نوى الصوم كما أمره الله عز وجل ثم جن ؛ أو أغمي عليه فقد صح صومه بيقين من نص وإجماع ؛ فلا يجوز بطلانه بعد صحته إلا بنص أو إجماع ؛ ولا إجماع في ذلك أصلا - وبالله تعالى التوفيق . وأما من بلغ مجنونا مطبقا فهذا لم يكن - قط - مخاطبا ، ولا لزمته الشرائع ، ولا الأحكام ولم يزل مرفوعا عنه القلم ؛ فلا يجب عليه قضاء صوم - أصلا ؛ بخلاف قول مالك : فإذا عقل فحينئذ ابتدأ الخطاب بلزومه إياه ، لا قبل ذلك . وأما من شرب حتى سكر في ليلة رمضان وكان نوى الصوم فصحا بعد صدر من النهار أقله أو أكثره - أو بعد غروب الشمس - : فصومه تام ، وليس السكر معصية ، إنما المعصية شرب ما يسكر سواء سكر أم لم يسكر ، ولا خلاف في أن من فتح فمه أو أمسكت يده وجسده وصب الخمر في حلقه حتى سكر أنه ليس عاصيا بسكره ، لأنه لم يشرب ما يسكره باختياره ، والسكر ليس هو فعله ، إنما هو فعل الله تعالى فيه ، وإنما ينهى المرء عن فعله ، لا عن فعل الله تعالى فيه الذي لا اختيار له فيه . وكذلك من نام ولم يستيقظ إلا في النهار ولا فرق ؛ أو من نوى الصوم ثم لم يستيقظ إلا بعد غروب الشمس ، فصومه تام . وبقي حكم من جن ، أو أغمي عليه أو سكر ، أو نام قبل غروب الشمس فلم يفق ولا صحا ولا انتبه ليلته كلها والغد كله إلى بعد غروب الشمس - : أيقضيه أم لا ؟ . فوجدنا القضاء إيجاب شرع ؛ والشرع لا يجب إلا بنص ، فلا نجد إيجاب القضاء في النص إلا على أربعة : المسافر ، والمريض - بالقرآن - والحائض ، والنفساء ، والمتعمد للقيء - بالسنة - ولا مزيد . ووجدنا النائم ، والسكران ، والمجنون المطبق عليه ليسوا مسافرين ولا متعمدين للقيء ، ولا حيضا ، ولا من ذوات النفاس ، ولا مرضى ؛ فلم يجب عليهم القضاء أصلا ، ولا خوطبوا بوجوب الصوم عليهم في تلك الأحوال ؛ بل القلم مرفوع عنهم - بالسنة . ووجدنا المصروع ، والمغمى عليه مريضين بلا شك ، لأن المرض هي حال مخرجة للمرء عن حال الاعتدال وصحة الجوارح والقوة إلى الاضطراب وضعف الجوارح واعتلالها ، وهذه صفة المصروع والمغمى عليه بلا شك ، ويبقى وهن ذلك وضعفه عليهما بعد الإفاقة مدة ؛ فإذ هما مريضان فالقضاء عليهما بنص القرآن - وبالله تعالى التوفيق . وليس قولنا بسقوط الصلاة عن المغمى عليه إلا ما أفاق في وقته منها وبقضاء النائم للصلاة - : مخالفا لقولنا هاهنا ؛ بل هو موافق ، لأن ما خرج وقته للمغمى عليه فلم يكن مخاطبا بالصلاة فيه ، ولا كان أيضا مخاطبا بالصوم ؛ ولكن الله تعالى أوجب على المريض عدة من أيام أخر ، ولم يوجب تعالى - على المريض : قضاء صلاة ، وأوجب قضاء الصلاة : على النائم ، والناسي ، ولم يوجب قضاء صيام على النائم ، والناسي بل أسقطه تعالى عن الناسي ، والنائم ؛ إذ لم يوجبه عليه . فصح قولنا - والحمد لله رب العالمين . وأما قول أبي حنيفة ففي غاية الفساد ؛ لأنه دعوى بلا برهان ، ولم يتبع نصا ، ولا قياسا ؛ لأنه رأى على من أفاق في شيء من رمضان من جنونه : قضاء الشهر كله ، وهو لا يراه على من بلغ ، أو - أسلم حينئذ . وقال بعض المالكيين : المجنون بمنزلة الحائض وهذا كلام يغني ذكره عن تكلف إبطاله ، وما ندري فيما يشبه المجنون الحائض

755 - مسألة : ومن جهده الجوع ، أو العطش حتى غلبه الأمر ففرض عليه أن يفطر ؛ لقول الله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } . ولقول الله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } . وقول الله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } . ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } . فإن كان خرج بذلك إلى حد المرض فعليه القضاء ، وإن كان لم يخرج إلى حد المرض فصومه صحيح ولا قضاء عليه ؛ لأنه مغلوب مكره مضطر قال الله عز وجل : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } . ولم يأت القرآن ولا السنة بإيجاب قضاء على مكره ، أو مغلوب ؛ بل قد أسقط الله تعالى القضاء عمن ذرعه القيء وأوجبه على من تعمده

756 - مسألة : ولا يلزم صوم في رمضان ولا في غيره إلا بتبين طلوع الفجر الثاني ، وأما ما لم يتبين فالأكل والشرب والجماع مباح كل ذلك ، كان على شك من طلوع الفجر أو على يقين من أنه لم يطلع . فمن رأى الفجر وهو يأكل فليقذف ما في فمه من طعام أو شراب ، وليصم ، ولا قضاء عليه ؛ ومن رأى الفجر وهو يجامع فليترك من وقته ، وليصم ، ولا قضاء عليه ؛ وسواء في كل ذلك كان طلوع الفجر بعد مدة طويلة أو قريبة ، فلو توقف باهتا فلا شيء عليه ، وصومه تام ؛ ولو أقام عامدا فعليه الكفارة . ومن أكل شاكا في غروب الشمس أو شرب فهو عاص له تعالى ، مفسد لصومه ، ولا يقدر على - القضاء ؛ فإن جامع شاكا في غروب الشمس فعليه الكفارة - : برهان ذلك - : قول الله عز وجل : { فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } وهذا نص ما قلنا ، لأن الله تعالى أباح الوطء والأكل والشرب إلى أن يتبين لنا الفجر ، ولم يقل تعالى : حتى يطلع الفجر ، ولا قال : حتى تشكوا في الفجر ؛ فلا يحل لأحد أن يقوله ، ولا أن يوجب صوما بطلوعه ما لم يتبين للمرء ، ثم أوجب الله تعالى التزام الصوم إلى الليل - : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبيد الله بن إسماعيل عن أبي أسامة عن عبيد الله هو ابن عمر عن نافع والقاسم بن محمد بن أبي بكر ، قال القاسم : عن عائشة ، وقال نافع : عن ابن عمر ، قالت عائشة ، وابن عمر : { كان بلال يؤذن بليل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن بلالا يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ؛ فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر } . وبه إلى البخاري : ثنا عبد الله بن مسلمة هو القعنبي - عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : { إن بلالا يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ، قال : وكان رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له : أصبحت أصبحت } - : حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا شيبان بن فروخ [ ثنا عبد الوارث ] عن عبد الله بن سوادة بن حنظلة القشيري حدثني أبي أنه سمع سمرة بن جندب يقول : [ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ] : { لا يغرن أحدكم نداء بلال من السحور ، ولا هذا البياض حتى يستطير } . وكذلك حديث عدي بن حاتم ، وسهل بن سعد في الخيطين الأسود ، والأبيض فقال عليه السلام { إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار } . قال أبو محمد : فنص عليه السلام على أن ابن أم مكتوم لا يؤذن حتى يطلع الفجر ، وأباح الأكل إلى أذانه ، فقد صح أن الأكل مباح بعد طلوع الفجر ما لم يتبين لمريد الصوم طلوعه . وقد ادعى قوم أن قوله تعالى : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { حتى يطلع الفجر و حتى يقال له : أصبحت أصبحت } أن ذلك على المقاربة ، مثل قوله تعالى : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف } إنما معناه فإذا قاربن بلوغ أجلهن ، قال أبو محمد : وقائل هذا مستسهل للكذب على القرآن وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . أول ذلك أنه دعوى بلا برهان ، وإحالة لكلام الله تعالى عن مواضعه ، ولكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقول عليه بما لم يقل ؛ ولو كان ما قالوا لكان بلال ، وابن أم مكتوم معا لا يؤذنان إلا قبل الفجر ، وهذا باطل لا يقوله أحد ، لا هم ولا غيرهم . وأما قوله تعالى : { فإذا بلغن أجلهن } فإقحامهم فيه : أنه تعالى أراد فإذا قاربن بلوغ أجلهن - : باطل وكذب ، ودعوى بلا برهان ، ولو كان ما قالوه لكان يجوز له الرجعة إلا عند مقاربة انتهاء العدة ؛ ولا يقول هذا أحد ، لا هم ولا غيرهم ، وهو تحريف للكلم عن مواضعه ؛ بل الآية على ظاهرها ، وبلوغ أجلهن هو بلوغهن أجل العدة ، ليس هو انقضاءها ، وهذا هو الحق ؛ لأنهن إذا كن في أجل العدة كله فللزوج الرجعة ، وله الطلاق ؛ فبطل ما قالوه بيقين لا إشكال فيه . وقال بعضهم : { قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبلال : اكلأ لنا الفجر } موجب لصحة قولهم . قال أبو محمد : وهذا باطل لوجهين - : أحدهما : أنه عليه السلام لم يأمره بذلك إلا للصلاة ، لا للصوم . والثاني : أنه حتى لو أمره بذلك للصوم لكان حجة لنا لا لهم ؛ لأن الأكل ، والجماع : مباحان إلى أن ينذرهم بلال بطلوع الفجر ، وإنذاره إياهم بطلوع الفجر لا يكون إلا بعد طلوع الفجر بلا شك ؛ فالأكل ، والشرب ، والجماع : مباح كل ذلك ، ولو طلع الفجر ، وإنما يحرم كل ذلك بإنذار بلال بعد طلوع الفجر ؛ هذا ما لا حيلة لهم فيه ، وقولهم هنا خلاف للقرآن ولجميع السنن - : حدثنا حمام بن أحمد ثنا عبد الله بن محمد الباجي ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا حبيب بن خلف البخاري ثنا أبو ثور إبراهيم بن خالد ثنا روح بن عبادة ثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن { زر بن حبيش قال تسحرت ثم انطلقت إلى المسجد ، فدخلت على حذيفة ، فأمر بلقحة فحلبت ، ثم أمر بقدر فسخنت ، ثم قال : كل . قلت : إني أريد الصوم ، قال : وأنا أريد الصوم ، فأكلنا ثم شربنا ثم أتينا المسجد وقد أقيمت الصلاة ، فقال حذيفة : هكذا فعل بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : بعد الصبح ؟ قال : بعد الصبح ؛ إلا أن الشمس لم تطلع } . حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا عبد الله بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع عن سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النجود { عن زر بن حبيش قلت لحذيفة : أي وقت تسحرتم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال : هو النهار ، إلا أن الشمس لم تطلع } . ومن طريق حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : { إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه } قال عمار : وكانوا يؤذنون إذا بزغ الفجر . قال حماد عن هشام بن عروة : كان أبي يفتي بهذا ؟ وحدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن قتادة { عن أنس : أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تسحر هو وزيد بن ثابت ، وهو عليه السلام يريد الصوم ، ثم صلى الركعتين ، ثم خرج إلى المسجد فأقيمت الصلاة } . قال أبو محمد : هذا كله على أنه لم يكن يتبين لهم الفجر بعد ؛ فبهذا تتفق السنن مع القرآن ؟ وروينا من طريق معمر عن أبان عن أنس عن أبي بكر الصديق أنه قال : إذا نظر الرجلان إلى الفجر فشك أحدهما فليأكلا حتى يتبين لهما . ومن طريق أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن هلال بن يساف عن سالم بن عبيد قال : كان أبو بكر الصديق يقول لي : قم بيني وبين الفجر حتى تسحر ؟ ومن طريق ابن أبي شيبة عن جرير بن عبد الحميد عن منصور بن المعتمر عن هلال بن يساف عن سالم بن عبيد الأشجعي قال : قم فاسترني من الفجر ، ثم أكل . سالم بن عبيد هذا أشجعي كوفي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذه أصح طريق يمكن أن تكون ؟ وقد روينا من طريق وكيع وعبد الرزاق ، قال وكيع : عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي السفر ، وقال عبد الرزاق : عن معمر عن أيوب السختياني عن أبي قلابة ، قالا جميعا : كان أبو بكر الصديق يقول : أجيفوا الباب حتى نتسحر الإيجاف : الغلق ومن طريق الحسن : أن عمر بن الخطاب كان يقول : إذا شك الرجلان في الفجر فليأكلا حتى يستيقنا . ومن طريق حماد بن سلمة : ثنا حميد عن أبي رافع أو غيره عن أبي هريرة : أنه سمع النداء والإناء على يده فقال : أحرزتها ورب الكعبة ؟ ومن طريق ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : أحل الله الشراب ما شككت ؛ يعني في الفجر . وعن عكرمة قال : قال ابن عباس : اسقني يا غلام ، قال له : أصبحت ، فقلت : كلا ، فقال ابن عباس : شك لعمر الله ، اسقني ؟ فشرب . وعن وكيع عن عمارة بن زاذان عن مكحول الأزدي قال : رأيت ابن عمر أخذ دلوا من زمزم وقال لرجلين : أطلع الفجر ؟ قال أحدهما : قد طلع ، وقال الآخر : لا ؛ فشرب ابن عمر . وعن سعد بن أبي وقاص : أنه تسحر في رمضان بالكوفة ثم خرج إلى المسجد فأقيمت الصلاة . وعن سفيان بن عيينة عن شعيب بن غرقدة عن حبان بن الحارث : أنه تسحر مع علي بن أبي طالب وهما يريدان الصيام ، فلما فرغ قال للمؤذن : أقم الصلاة ومن طريق ابن أبي شيبة ثنا جرير هو ابن عبد الحميد - عن منصور بن المعتمر عن شبيب بن غرقدة عن أبي عقيل قال : تسحرت مع علي بن أبي طالب ثم أمر المؤذن أن يقيم الصلاة . ومن طريق ابن أبي شيبة : ثنا أبو معاوية عن الشيباني هو أبو إسحاق - عن جبلة بن سحيم عن عامر بن مطر قال : أتيت عبد الله بن مسعود في داره ، فأخرج لنا فضل سحور ، فتسحرنا معه ، فأقيمت الصلاة ؛ فخرجنا فصلينا معه . ومن طريق حذيفة نحو هذا . ومن طريق ابن أبي شيبة : ثنا عفان بن مسلم ثنا شعبة { عن خبيب بن عبد الرحمن قال : سمعت عمتي - وكانت قد حجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن ابن أم مكتوم ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال ، وإن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ، قالت : وكان يصعد هذا وينزل هذا قالت : فكنا نتعلق به فنقول : كما أنت حتى نتسحر } . فحصل لنا من هذا الخبر أنهما كانا مؤذنين : أحدهما قبل الفجر بيسير ، أيهما كانا - : حينا هذا وحينا هذا - والآخر ولا بد بعد الفجر . وعن محمد بن علي بن الحسين : كل حتى يتبين لك الفجر . وعن الحسن : كل ما امتريت . وعن أبي مجلز : الساطع : ذلك الصبح الكاذب ، ولكن إذا انفضح الصبح في الأفق . وعن إبراهيم النخعي : المعترض الأحمر يحل الصلاة ويحرم الطعام . وعن ابن جريج : قلت لعطاء : أتكره أن أشرب وأنا في البيت لا أدري لعلي قد أصبحت ؟ قال : لا بأس بذلك ، هو شك ؟ ومن طريق ابن أبي شيبة : ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم قال : لم يكونوا يعدون الفجر فجركم ، إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق . وعن أبي وائل : أنه تسحر وخرج إلى المسجد فأقيمت الصلاة وعن معمر : أنه كان يؤخر السحور جدا ، حتى يقول الجاهل : لا صوم له ؟ قال علي : وقد ذكرنا في باب " من تسحر فإذا به نهار وهو يظن أنه ليل " من لم ير في ذلك قضاء . فهؤلاء : أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وعمه خبيب ، وزيد بن ثابت ، وسعد بن أبي وقاص ، فهم أحد عشر من الصحابة ، لا يعرف لهم مخالف من الصحابة رضي الله عنهم . إلا رواية ضعيفة من طريق مكحول عن أبي سعيد الخدري ولم يدركه ؛ ومن طريق يحيى الجزار عن ابن مسعود ولم يدركه . ومن التابعين : محمد بن علي ، وأبو مجلز ، وإبراهيم ، ومسلم ، وأصحاب ابن مسعود ، وعطاء ، والحسن ، والحكم بن عتيبة ، ومجاهد ، وعروة بن الزبير ، وجابر بن زيد . ومن الفقهاء : معمر ، والأعمش . فإن ذكروا رواية سعيد بن قطن عن أبيه عن معاوية فيمن أفطر وهو يرى أنه ليل فطلعت الشمس : أن عليه القضاء ، وبالرواية عن عمر بمثل ذلك - : فإنما هذا في الإفطار عند الليل ، لا في الأكل شاكا في الفجر ، وبين الأمرين فرق ، ولا يحل الأكل إلا بعد يقين غروب الشمس ، لأن الله تعالى قال : { إلى الليل } فمن أكل شاكا في مجيء الليل فقد عصى الله تعالى ، وصيامه باطل ، فإن جامع فعليه الكفارة ، لأنه في فرض الصيام ، ما لم يوقن الليل ، بخلاف قوله : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض } لأن هذا في فرض الإفطار حتى يوقن بالنهار - وبالله تعالى التوفيق .

757 - مسألة : ومن صح عنده بخبر من يصدقه - من رجل واحد ، أو امرأة واحدة : عبد ، أو حر ، أو أمة ، أو حرة ، فصاعدا - أن الهلال قد رئي البارحة في آخر شعبان ففرض عليه الصوم ، صام الناس أو لم يصوموا ، وكذلك لو رآه هو وحده ، ولو صح عنده بخبر واحد أيضا - كما ذكرنا - فصاعدا : أن هلال شوال قد رئي فليفطر ، أفطر الناس أو صاموا ؛ وكذلك لو رآه هو وحده ؛ فإن خشي في ذلك أذى فليستتر بذلك - : حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى : قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر { عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنه ذكر رمضان فقال : لا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم فاقدروا له } . وبه إلى مسلم : ثنا ابن المثنى ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال سمعت أبا البختري عن ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : فإن غم عليكم فأكملوا العدة } . واختلف الناس في قبول خبر الواحد في ذلك - : فقال أبو حنيفة ، والشافعي بمثل قولنا في هلال رمضان ، ولم يجيزوا في هلال شوال إلا رجلين عدلين . قال أبو محمد : وهذا تناقض ظاهر . وقال مالك : لا أقبل في كليهما إلا رجلين عدلين . قال أبو محمد : أما من فرق بين الهلالين فما نعلم لهم حجة . وأما قول مالك فإنهم قاسوه على سائر الأحكام . قال أبو محمد : والقياس كله باطل ؛ ثم لو كان حقا لكان هذا منه باطلا ؛ لأن الحقوق تختلف - : فمنها عند المالكيين ما يقبل فيها شاهد ويمين ، ومنها ما لا يقبل فيه إلا رجلان ، أو رجل وامرأتان . ومنها ما لا يقبل فيه إلا رجلان فقط . ومنها ما لا يقبل فيه إلا أربعة . ومنها ما يسمح فيه حتى يجيزوا فيه النصراني والفاسق ، كالعيوب في الطب ، فمن أين لهم أن يخصوا بعض هذه الحقوق دون بعض بقياس الشهادة في الهلال عليه . ونسألهم عن قرية ليس فيها إلا فساق ، أو نصارى ، أو نساء وفيهم عدل يضعف بصره عن رؤية الهلال ؟ قال أبو محمد : فأما نحن فخبر الكافة مقبول في ذلك ، وإن كانوا كفارا أو فساقا ؛ لأنه يوجب العلم ضرورة . فإن قالوا : قد أجمع الناس على قبول عدلين في ذلك ؟ قلنا : لا ، بل أبو يوسف القاضي يقول : إن كان الجو صافيا لم أقبل في رؤية الهلال أقل من خمسين . فإن قالوا : كلامه ساقط ؟ قلنا : نعم ، وقياسكم أسقط . فإن قالوا : فمن أين أجزتم فيهما خبر الواحد ؟ قلنا : لأنه من الدين ؛ وقد صح في الدين قبول خبر الواحد ؛ فهو مقبول في كل مكان ، إلا حيث أمر الله تعالى بأن لا يقبل إلا عدد سماه لنا . وأيضا : فقد ذكرنا قبل هذا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أذان بلال { كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم } فأمر عليه السلام بالتزام الصيام بأذان ابن أم مكتوم بالصبح ، وهو خبر واحد بأن الفجر قد تبين . وحدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا عبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي ثنا مروان بن محمد عن عبد الله بن وهب عن يحيى بن عبد الله بن سالم عن أبي بكر بن نافع عن أبيه نافع مولى ابن عمر { عن ابن عمر قال : تراءى الناس الهلال ، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني رأيته ، فصام وأمر الناس بصيامه } . وهذا خبر صحيح . وقد روينا من طريق أبي داود : ثنا الحسن بن علي ثنا حسين هو الجعفي - عن زائدة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : { جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال ؛ إني رأيت الهلال - يعني رمضان فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله ؟ قال : نعم ، قال ؛ أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم ، قال : قم يا بلال فأذن في الناس فليصوموا غدا } . قال أبو محمد : رواية سماك لا نحتج بها ولا نقبلها منهم ، وهم قد احتجوا بها في أخذ الدنانير من الدراهم ، فيلزمهم أن يأخذوها هاهنا ، وإلا فهم متلاعبون في الدين ؟ فإن تعلق من فرق بين هلال رمضان وهلال شوال بهذين الخبرين ، وقال : لم يرد إلا في هلال رمضان ؟ قلنا : ولا جاء نص قط بالمنع من ذلك في هلال رمضان ، وأنتم أصحاب قياس ، فهلا قستم هلال شوال على هلال رمضان ؟ فإن قالوا : إن الشاهد في هلال رمضان لا يجر إلى نفسه ، والشاهد في هلال شوال يجر إلى نفسه ؟ قلنا : فردوا بهذا الظن بعينه شهادة الشاهدين في شوال أيضا ؛ لأنهما يجران إلى أنفسهما ، كما تفعلون في سائر الحقوق . وأيضا : فإن من يكذب في مثل هذا لا يبالي قبل أو رد ؟ ونقول لهم : إذا صمتم بشهادة واحد ؛ فغم الهلال بعد الثلاثين ، أتصومون أحدا وثلاثين ؟ فهذه طامة ، وشريعة ليست من دين الله تعالى أم تفطرون عند تمام الثلاثين وإن لم تروا الهلال ؟ فقد أفطرتم بشهادة واحد وتناقضتم وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : فإن شغبوا بما روينا من طريق عباد بن العوام : ثنا أبو مالك الأشجعي ثنا حسين بن الحارث الجدلي - جديلة قيس { : أن أمير مكة وهو الحارث بن حاطب خطب فقال : عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ننسك لرؤيته ، فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما } . وبما روينا من طريق أبي عثمان النهدي قال : { قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعرابيان فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمسلمان أنتما ؟ قالا : نعم فأمر الناس فأفطروا أو صاموا } . وعن الحارث عن علي : إذا شهد رجلان على رؤية الهلال أفطروا . وعن عمرو بن دينار قال : أبي عثمان أن يجيز شهادة هاشم بن عتبة أو غيره على رؤية الهلال . وعن عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن أبي وائل قال : كتب إلينا عمر - ونحن بخانقين : إذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد رجلان : لرأياه بالأمس . ؟ قلنا : أما حديث الحارث بن حاطب فإن راويه حسين بن الحارث وهو مجهول ؛ ثم لو صح لم يكن فيه حجة ، لأنه ليس فيه إلا قبوله اثنين ، ونحن لا ننكر هذا ، وليس فيه أن لا يقبل واحد ؟ وكذلك حديث أبي عثمان ، على أنه مرسل . وكذا القول في فعل علي سواء سواء . وقد يمكن أن يكون عثمان رضي الله عنه إنما رد شهادة هاشم بن عتبة لأنه لم يرضه ؛ لا لأنه واحد ؛ ولقد كان هاشم أحد المجلبين على عثمان رضي الله عنه . وأما خبر عمر : فقد صح عن عمر في هذا خلاف ذلك ، كما روينا من طريق محمد بن جعفر عن شعبة عن أبي عبد الأعلى الثعلبي عن أبيه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب : أن عمر بن الخطاب كان ينظر إلى الهلال ، فرآه رجل ، فقال عمر : يكفي المسلمين أحدهم ؛ فأمرهم فأفطروا أو صاموا - فهذا عمر بحضرة الصحابة ؟ وقد روينا أيضا : - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل هذا ؛ وبه يقول أبو ثور . وأما قولنا : أنه يبنى على رؤيته فقد روينا عن عمر خلاف ذلك ؛ وهو أن من رآه وحده في استهلال رمضان فلا يصم ، ومن رآه وحده في استهلال شوال فلا يفطر - وبه يقول الحسن - : روينا ذلك من طريق معمر عن أبي قلابة : أن رجلين رأيا الهلال في سفر ؛ فقدما المدينة ضحى الغد ، فأخبرا عمر ، فقال لأحدهما : أصائم أنت ؟ قال : نعم ، كرهت أن يكون الناس صياما وأنا مفطر ، كرهت الخلاف عليهم ، وقال للآخر : فأنت ؟ قال : أصبحت مفطرا ؛ لأني رأيت الهلال ، فقال له عمر : لولا هذا - يعني الذي صام - لأوجعنا رأسك ، ورددنا شهادتك ؛ ثم أمر الناس فأفطروا . ومن طريق ابن جريج : أخبرت عن معاذ بن عبد الرحمن التيمي : أن رجلا قال لعمر : إني رأيت هلال رمضان ، قال : أرآه معك أحد ؟ قال : لا قال : فكيف صنعت ؟ قال : صمت بصيام الناس ، فقال عمر : يا لك فيها . وهو قول عطاء : قال أبو محمد : ينبغي لمن قلد عمر فيما يدعونه من مخالفة { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا } وتحريم المنكوحة في العدة - : أن يقلده هاهنا . قال أبو حنيفة ، ومالك : يصوم إن رآه وحده ، ولا يفطر إن رآه وحده وهذا تناقض وقال الشافعي كما قلنا ؟ وخصومنا لا يقولون بهذا ولا نقول به ؛ لأن الله تعالى قال : { لا تكلف إلا نفسك } . وقال تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } . وقال تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } فمن رآه فقد شهده . وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته } .



758 - مسألة : وإذا رئي الهلال قبل الزوال فهو من البارحة ويصوم الناس من حينئذ باقي يومهم - إن كان أول رمضان - ويفطرون إن كان آخره ، فإن رئي بعد الزوال فهو لليلة المقبلة . برهان ذلك - : قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته } فخرج من هذا الظاهر إذا رئي بعد الزوال بالإجماع المتيقن ، ولم يجب الصوم إلا من الغد ؛ وبقي حكم لفظ الحديث إذا رئي قبل الزوال ، للاختلاف في ذلك ؛ فوجب الرجوع إلى النص . وأيضا : فإن الهلال إذا رئي قبل الزوال فإنما يراه الناظر إليه والشمس بينه وبينه ، ولا شك في أنه لم يمكن رؤيته مع حوالة الشمس دونه إلا وقد أهل من البارحة وبعد عنها بعدا كثيرا . روينا من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل نا أبي نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن المغيرة بن مقسم عن سماك عن إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب كتب إلى الناس إذا رأيتموه قبل زوال الشمس فأفطروا وإذا رأيتموه بعد زوالها فلا تفطروا ؟ ورويناه أيضا : من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري بمثله - وبه يقول سفيان . وروينا من طريق يحيى بن الجزار عن علي بن أبي طالب قال رضي الله عنه إذا رأيتم الهلال من أول النهار فأفطروا وإذا رأيتموه في آخر النهار فلا تفطروا فإن الشمس تزيغ عنه أو تميل عنه . ومن طريق محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن الركين بن الربيع عن أبيه قال : كنا مع سلمان بن ربيعة الباهلي ببلنجر فرأيت الهلال ضحى فأتيت سلمان فأخبرته فقام تحت شجرة فلما رآه أمر الناس فأفطروا . وبه يقول عبد الملك بن حبيب الأندلسي ، وأبو بكر بن داود ، وغيره . فإن قيل : قد روي عن عمر خلاف هذا ؟ قلنا : نعم وإذا صح التنازع وجب الرد إلى القرآن والسنة . وقد ذكرنا الآن وجه ذلك - وبالله تعالى التوفيق .

759 - مسألة : ومن السنة تعجيل الفطر وتأخير السحور وإنما هو مغيب الشمس عن أفق الصائم ولا مزيد . روينا من طريق مسلم عن قتيبة عن أبي عوانة عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : { تسحروا فإن في السحور بركة } . ومن طريق قتيبة عن الليث بن سعد عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : { فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور } . قال أبو محمد : لا يضر الصوم تعمد ترك السحور ؛ لأنه من حكم الليل والصيام من حكم النهار ، ولا يبطل عمل بترك عمل غيره إلا بأن يوجب ذلك نص فيوقف عنده . ومن طريق { ابن مسعود أنه كان يؤخر السحور ويعجل الإفطار ، فقالت عائشة : هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصنع } . ومن طريق مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : { لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر } . ومن طريق البخاري عن مسدد عن عبد الواحد عن أبي إسحاق الشيباني عن عبد الله بن أبي أوفى { سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو صائم فلما غربت الشمس قال : انزل فاجدح لنا فقال : يا رسول الله لو أمسيت ؟ قال : انزل فاجدح لنا ؟ قال : يا رسول الله إن عليك نهارا ؟ قال : انزل فاجدح لنا ؟ فنزل فجدح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم ، وأشار بأصبعه قبل المشرق } . وروينا عن أبي موسى : تأخير الفطر حتى تبدو الكواكب ولا نقول بهذا - لما ذكرنا - وتعجيل الفطر قبل الصلاة والأذان أفضل ، كذلك روينا عن عمر بن الخطاب ، وأبي هريرة ، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم .

760 - مسألة : ومن أسلم بعدما تبين الفجر له ، أو بلغ كذلك ، أو رأت الطهر [ من الحيض ] كذلك ، أو من النفاس كذلك ، أو أفاق من مرضه كذلك ، أو قدم من سفره كذلك - فإنهم يأكلون باقي نهارهم ويطئون من نسائهم من لم تبلغ ، أو من طهرت في يومها ذلك ، ويستأنفون الصوم من غد - ولا قضاء على من أسلم ، أو بلغ ؛ وتقضي الحائض ، والمفيق ، والقادم ، والنفساء . وقد اختلف الناس في بعض هذا - : فروينا عن إبراهيم النخعي أنه قال في الحائض تطهر بعد طلوع الفجر : لا تأكل إلى الليل ، كراهة التشبه بالمشركين . وبه يقول أبو حنيفة ، والأوزاعي ، والحسن بن حي ، وعبيد الله بن الحسن ، وعن عطاء - إن طهرت أول النهار فلتتم يومها ، وإن طهرت في آخره أكلت وشربت ؛ وبمثل قولنا يقول سفيان الثوري ، ومالك ، والشافعي ، وأبو سليمان . وأما الكافر يسلم - : فروينا عن عطاء إن - أسلم الكافر في يوم من رمضان صام ما مضى من الشهر وإن أسلم في آخر النهار صام ذلك اليوم . وعن عكرمة مثل ذلك ، وقال : هو بمنزلة المسافر يدخل في صلاة المقيمين . وعن الحسن مثل ذلك . وقال أبو حنيفة في الصبي يبلغ بعد الفجر : أن عليه صوم ما بقي من يومه . وكذلك قال في المسافر يقدم بعد الفجر . قال أبو محمد : واحتج من أوجب صوم باقي اليوم بأن قال : قد كان الصبي قبل بلوغه مأمورا بالصيام فكيف بعد بلوغه . وقالوا : هلا جعلتم هؤلاء بمنزلة من بلغه الخبر أن الهلال رئي البارحة ؟ قلنا : هذا قياس ، والقياس كله باطل ، ثم لو كان القياس حقا لكان هذا منه باطلا لأن الذي جاءه خبر الهلال كان مأمورا بصوم ذلك اليوم لو علم أنه من رمضان أو أنه فرضه . وكل من ذكرنا فهم عالمون بوجوب الصوم على غيرهم ، وبدخول رمضان ، إلا أن فيهم من هو منهي عن الصوم جملة ؛ ولو صام كان عاصيا : كالحائض ، والنفساء ، والمسافر ، والمريض الذي يؤذيه الصوم . وفيهم من هو غير مخاطب بالصوم ، ولو صامه لم يجزه - وهو الصبي - وإنما يصوم إن صام تطوعا لا فرضا . وفيهم من هو مخاطب بالصوم بشرط أن يقدم الإسلام قبله ، وهو الكافر . وفيهم من هو مفسوح له في الصوم إن قدر عليه وفي الفطر إن شاء - وهو المريض الذي [ لا ] يشق عليه الصوم ؛ فكلهم غير ملزم ابتداء صوم ذلك اليوم بحال بخلاف من جاءه الخبر برؤية الهلال ، والذي جاءه الخبر برؤية الهلال يجزئه صيام باقي يومه ولا قضاء عليه ويعصي إن أكل ، وإنما اتبعنا فيمن بلغه أن اليوم [ من ] رمضان الخبر الوارد في ذلك فقط . وأيضا : فإن من ذكرنا لا يختلف الحاضرون المخالفون لنا في أن التي طهرت من الحيض ، والنفاس ، والقادم من السفر ، والمفيق من المرض : لا يجزئهم صيام ذلك اليوم وعليهم قضاؤه . ولا يختلفون في أن الذي بلغ ، والذي أسلم إن أكلا فليس عليهما قضاؤه ، فصح أنهم في هذا اليوم غير صائمين أصلا ، وإذا كانوا غير صائمين فلا معنى لصيامهم ، ولا أن يؤمروا بصوم ليس صوما ، ولا هم مؤدون به فرضا لله تعالى ، ولا هم عاصون له بتركه - وبالله تعالى التوفيق . وأما من رأى القضاء في ذلك [ اليوم ] على من أسلم ؟ فقول لا دليل على صحته ، ولقد كان يلزم من رأى نية واحدة تجزئ للشهر كله في الصوم أن يقول بهذا القول ، وإلا فهم متناقضون . وروينا عن ابن مسعود أنه قال : من أكل أول النهار فليأكل آخره - وبالله تعالى التوفيق .

761 - مسألة : ومن تعمد الفطر في يوم من رمضان عاصيا لله تعالى لم يحل له أن يأكل في باقيه ولا أن يشرب ، ولا أن يجامع وهو عاص لله تعالى إن فعل - وهو مع ذلك غير صائم - بخلاف من ذكرنا قبل هذا ، لأن كل من ذكرنا قبل هذا إما منهي عن الصوم ، وإما مباح له ترك الصوم فهم في إفطارهم مطيعون لله تعالى غير عاصين له بذلك . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم { لا صيام لمن لم يبيته من الليل } ولم يخرج من هذه الجملة إلا من جهل أنه يوم فرضه فقط بالنص الوارد فيهم ، فلم يجز أن يصوموا ، لأنهم لم ينووه من الليل ، ولم يكونوا عصاة بالفطر فهم مفطرون لا صائمون . وأما من تعمد الفطر عاصيا فهو مفترض عليه بلا خلاف ، صوم ذلك اليوم ، ومحرم عليه فيه كل ما يحرم على الصائم ولم يأت نص ، ولا إجماع بإباحة الفطر له إذا عصى بتعمد الفطر ، فهو باق على ما كان حراما عليه ، وهو متزيد من المعصية متى ما تزيد فطرا ، ولا صوم له مع ذلك . وروينا عن عمرو بن دينار نحو هذا ، وعن الحسن ، وعطاء : أن له أن يفطر .

762 - مسألة : ومن سافر في رمضان - سفر طاعة أو [ سفر ] معصية ، أو لا طاعة ولا معصية - ففرض عليه الفطر إذا تجاوز ميلا ، أو بلغه ، أو إزاءه ، وقد بطل صومه حينئذ لا قبل ذلك ، ويقضي بعد ذلك في أيام أخر ، وله أن يصومه تطوعا ، أو عن واجب لزمه ، أو قضاء عن رمضان خال لزمه ، وإن وافق فيه يوم نذره صامه لنذره . وقد فرق قوم بين سفر الطاعة ، وسفر المعصية فلم يروا له الفطر في سفر المعصية ، وهو قول مالك ، والشافعي . قال علي : والتسوية بين كل ذلك [ هو ] قول أبي حنيفة ، وأبي سليمان . وبرهان صحة قولنا - : قول الله تعالى : { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } فعم تعالى الأسفار كلها ولم يخص سفرا من سفر { وما كان ربك نسيا } . وأيضا فقد أتينا بالبراهين على بطلان الصوم بالمعصية بتعمد ، والسفر في المعصية معصية وفسوق ، فقد بطل صومه بهما . والقوم أصحاب قياس بزعمهم ، ولا يختلفون : أن من قطع الطريق ، أو ضارب قوما ظالما لهم مريدا قتلهم ، وأخذ أموالهم فدفعوه عن أنفسهم وأثخنوه ضربا في تلك المدافعة حتى أوهنوه ؛ فمرض من ذلك مرضا لا يقدر معه على الصوم ، ولا على الصلاة قائما ؛ فإنه يفطر ويصلي قاعدا ويقصر فأي فرق بين مرض المعصية وسفر المعصية . وأما المقدار الذي يفطر فيه فقد ذكرناه في كتاب الصلاة متقصى - والحمد لله رب العالمين ونذكر هاهنا إن شاء الله تعالى منه طرفا - : وهو أن أبا حنيفة حد السفر [ الذي يفطر فيه ] من الزمان بمسير ثلاثة أيام ، ومن المسافات بمقدار ما بين الكوفة والمدائن ؛ ذكر ذلك محمد بن الحسن في الجامع الصغير ؟ وحد الشافعي ذلك بستة وأربعين ميلا . وحد مالك في ذلك ، مرة يوما وليلة ، ومرة ثمانية وأربعين ميلا ، ومرة خمسة وأربعين ميلا ، ومرة اثنين وأربعين ميلا ، ومرة أربعين ميلا ، ومرة ستة وثلاثين ميلا ؛ ذكر ذلك إسماعيل بن إسحاق في كتابه المعروف بالمبسوط . قال أبو محمد : وكل هذه حدود فاسدة لا دليل على صحة شيء منها لا من قرآن ، ولا من سنة صحيحة . ولا من رواية فاسدة ، ولا إجماع [ قد ] جاءت في ذلك روايات مختلفة عن الصحابة رضي الله عنهم ليس بعضها أولى من بعض - : فروي عن ابن عمر أنه كان لا يقصر في أقل مما بين خيبر والمدينة وهو ستة وتسعون ميلا ؛ وروي عنه أن لا يقصر في أقل مما بين المدينة إلى السويداء وهو اثنان وسبعون ميلا ، وروي عنه لا يكون الفطر إلا في ثلاثة أيام ؛ وروي عنه لا يكون القصر إلا في اليوم التام وروي عنه القصر في ثلاثين ميلا ؛ وروي عنه القصر في ثمانية عشر ميلا ؛ وكل ذلك صحيح عنه . وروي عنه القصر في سفر ساعة ، وفي ميل وفي سفر ثلاثة أميال بإسناد في غاية الصحة ، وهو جبلة بن سحيم عنه ، ومحارب بن دثار ، ومحمد بن زيد بن خلدة عنه . وروي عن ابن عباس أربعة برد . وروي عنه يوم تام ، وروي عنه لا قصر في يوم إلى العتمة فإن زدت فأقصر ، ولا متعلق لهم بأحد من الصحابة رضي الله عنهم غير من ذكرنا ، وقد اختلف عنهم ، وعن الزهري ، والحسن : أنهما حدا ذلك بيومين . وروينا من طريق ابن أبي شيبة نا وكيع نا مسعر وهو ابن كدام - عن محارب بن دثار قال : سمعت ابن عمر يقول : إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر . ومن طريق ابن أبي شيبة نا علي بن مسهر عن أبي إسحاق الشيباني عن محمد بن زيد بن خلدة عن ابن عمر قال : تقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال . ومن طريق محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري قال : سمعت جبلة بن سحيم يقول : سمعت ابن عمر يقول : لو خرجت ميلا لقصرت الصلاة . وعن شرحبيل بن السمط عن ابن عمر : أنه قصر في أربعة أميال . وعن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب عن ابن عمر : أنه خرج معه إلى مكان على ثمانية عشر ميلا فقصر ابن عمر الصلاة - وهذه أسانيد عنه كالشمس . وعن عمر بن الخطاب القصر في ثلاثة أميال . وعن أنس في خمسة عشر ميلا . وعن ابن مسعود في اثني عشر ميلا . ومن طريق ابن أبي شيبة عن حاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن حرملة قال سألت سعيد بن المسيب أأقصر وأفطر في بريدين من المدينة ؟ قال : نعم . حدثنا عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك نا محمد بن بكر نا أبو داود نا عبيد الله بن عمر نا عبد الله بن يزيد هو المقري عن سعيد بن أبي أيوب نا يزيد بن أبي حبيب : أن كليب بن ذهل الحضرمي أخبره أن { عبيد بن جبر قال : كنت مع أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان فرفع ثم قرب غداءه قال : اقترب فقلت : ألست ترى البيوت ؟ فقال : أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأكل . } والروايات في هذا كثيرة جدا . فأما تحديد أبي حنيفة ، ومالك والشافعي ، فلا معنى له أصلا وإنما هي دعاوى بلا برهان ، وموه بعضهم في ذلك بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما منع من أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ؟ قال أبو محمد : وذلك خبر صحيح لا حجة لهم فيه ؛ لأنه ليس فيه من حكم القصر والفطر أثر ولا دليل . وأيضا : فإنه جاء بألفاظ مختلفة في بعضها { لا تسافر أكثر من ثلاث } وفي بعضها { لا تسافر ثلاثا } وفي بعضها { لا تسافر ليلتين } وفي بعضها { لا تسافر يوما وليلة } وفي بعضها { لا تسافر يوما } وفي بعضها { لا تسافر بريدا } . وهذه ألفاظ اختلف فيها عن أبي سعيد ، وأبي هريرة ، وابن عمر . وصح من طريق ابن عباس هذا الخبر { لا تسافر المرأة } دون تحديد أصلا ولم يختلف [ عنه ] في ذلك أصلا ؛ فإن عزموا على ترك من اختلف عنه والأخذ برواية من لم يختلف عنه فابن عباس لم يختلف عنه ؛ فهو أولى على هذا الأصل ، وإن أخذوا بالزيادة ، فرواية ابن عباس هي الزائدة على سائر الروايات ، لأنها تعم كل سفر ؛ وإن أخذوا بالمتفق عليه فأكثر من ثلاث هو المتفق عليه لا الثلاث ، كما رواه عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم { لا تسافر المرأة فوق ثلاث إلا ومعها ذو محرم } . وهكذا رواه هشام الدستوائي ، وسعيد بن أبي عروبة كلاهما عن قتادة عن قزعة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وهكذا رواه أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبطل أن يكون لأبي حنيفة ومالك ، والشافعي متعلق بهذا الخبر أصلا إلا كتعلق الزهري ، والحسن بذكر الليلتين فيه ولا فرق . وما لهم بعد هذا حيلة ، على أنهم قد كفونا المؤنة ، فذكر مالك في المدونة : أن من تأول من الرعاة وغيرهم فأفطر في مخرج ثلاثة أميال فليس عليه إلا القضاء ، ورأى القصر في منى من مكة ، وهذا قولنا ، وكذلك رأى أبو حنيفة ، والشافعي في المتأول ولا فرق . وأيضا : فإنهم كلهم رأوا لمن سافر ثلاثة أيام أن يفطر إذا فارق بيوت القرية ؛ فإن رجع لشيء أوجب عليه ترك السفر ؛ فلا شيء عليه إلا القضاء ، فقد أوجبوا الفطر في أقل من ميل ، ويغني من هذا كله قول الله تعالى : { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } فلم يخص تعالى سفرا من سفر . ووجدنا ما دون الميل ليس له حكم السفر ؛ لأنه قد صح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعد للغائط والبول فلا يقصر ولا يفطر ، ولم نجد في أقل من الميل قولا عن أحد من أهل العلم بالدين واللغة . قال علي : ويلزم من تعلق من الحنفيين بحديث { لا تسافر المرأة } أن لا يرى القصر والفطر في سفر معصية ؛ لأنه عليه السلام لم يبح لها بلا خلاف سفر المعصية أصلا ؛ وإنما أباح لها بلا شك أسفار الطاعات ؛ وهذا مما أوهموا فيه من الأخبار أنهم أخذوا به وهم مخالفون له . قال علي : فأما ما دون الميل فقد قال قوم : ليس له حكم السفر ؛ فلا يجوز الفطر ولا القصر فيه أصلا ، وإن أراد ميلا فصاعدا ؛ لأن نية السفر هي غير السفر ؛ وقد ينوي السفر من لا يسافر ، وقد يسافر من لا ينوي السفر . وقد روي عن أنس الفطر في رمضان في منزله إذا أراد السفر . وروي عن علي : إذ يفارق بيوت القرية . وروي عن ابن عمر : ترك القصر حتى يبلغ ما يقصر في مثله - وبالله تعالى التوفيق . وكان هذا هو النظر لولا حديث أنس { خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة إلى مكة فلم يزل يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة } فهذا على عمومه لا يجوز أن يخص منه شيء بغير نص . وأما قولنا : يقضي بعد ذلك في أيام أخر فهو نص القرآن ، وجائز أن يقضيه في سفر ، وفي حضر ، لأن الله تعالى لم يخص بأيام أخر حضرا من سفر .

وأما قولنا : لا يجوز الصوم في السفر فإن الناس اختلفوا - : فقالت طائفة : من سافر بعد دخول رمضان فعليه أن يصومه كله . وقالت طائفة : بل هو مخير إن شاء صام وإن شاء أفطر . وقالت طائفة : لا بد له من الفطر ولا يجزئه صومه . ثم افترق القائلون بتخييره - : فقالت طائفة : الصوم أفضل ، وقالت طائفة : الفطر أفضل : وقالت طائفة : هما سواء ، وقالت طائفة : لا يجزئه الصوم ولا بد له من الفطر - : فروينا القول الأول : عن علي من طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي بن أبي طالب قال : من أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر بعد لزمه الصوم ؛ لأن الله تعالى قال : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } وعن عبيدة مثله . ومن طريق ابن عباس مثله ؛ وعن عائشة أم المؤمنين : أنها نهت عن السفر في رمضان ؛ وعن خيثمة كانوا يقولون : إذا حضر رمضان : فلا تسافر حتى تصوم . وعن أبي مجلز مثله قال : فإن أبى أن لا يسافر فليصم . وعن إبراهيم النخعي مثل قول أبي مجلز . وعن عروة بن الزبير أنه سئل عن المسافر أيصوم أم يفطر ؟ فقال : يصوم . وأما الطائفة المجوزة للصوم والفطر ؛ أو المختارة للصوم - : فهو قول أبي حنيفة ، ومالك والشافعي ؛ فشغبوا بقول الله تعالى : { وأن تصوموا خير لكم } واحتجوا بأحاديث - : منها حديث سلمة بن المحبق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : { من كانت له حمولة يأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه } . ومن طريق أبي سعيد ، وأبي الدرداء ، وجابر { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أصحابه في السفر بالفطر وهو صائم فترددوا وفطر هو عليه السلام } . وذكروا عن أم المؤمنين أنها كانت تصوم في السفر وتتم الصلاة ؛ وعن أبي موسى أنه كان يصوم رمضان في السفر . وعن أنس بن مالك إن أفطرت فرخصة الله تعالى ، وإن صمت فالصوم أفضل . وعن عثمان بن أبي العاص ، وابن عباس : الصوم أفضل . وعن المسور بن مخرمة ، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث مثله ؛ وعن علي أنه صام في سفر ؛ لأنه كان راكبا ، وأفطر سعد مولاه ، لأنه كان ماشيا وعن عمر بن عبد العزيز : صمه في اليسر وأفطره في العسر . وعن طاوس : الصوم أفضل ، وعن الأسود بن يزيد مثله . واحتج من رأى الأمرين سواء بحديث { حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال : يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي ذلك شئت يا حمزة } . وبحديث مرسل عن الغطريف أبي هارون { أن رجلين سافرا ، فصام أحدهما وأفطر الآخر ، فذكرا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : كلاكما أصاب } . وبحديث مرسل عن أبي عياض { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن ينادى في الناس : من شاء صام ومن شاء أفطر } . ومن طريق أبي سعيد وجابر ، { كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم } . وعن علقمة ، والأسود ، ويزيد بن معاوية النخعي : أنهم سافروا في رمضان فصام بعضهم ، وأفطر بعضهم فلم يعب بعضهم على بعض . وعن عطاء إن شئت فصم وإن شئت فأفطر . وأما من رأى الفطر أفضل فاحتجوا بحديث { حمزة بن عمرو إذ سأل رسول الله ﷺ عن ذلك فقال له عليه السلام : هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه } . وممن روينا عنه اختيار الفطر على الصوم - : سعد بن أبي وقاص ، روينا أنه سافر هو ، وعبد الرحمن بن الأسود ، والمسور بن مخرمة فصاما وأفطر سعد فقيل له في ذلك ؟ فقال : أنا أفقه منهما . وصح عن ابن عمر أنه كان لا يصوم في السفر وكان معه رقيق فكان يقول : يا نافع ضع له سحوره ؟ قال نافع : وكان ابن عمر إذا سافر أحب إليه أن يفطر يقول : رخصة ربي أحب إلي وأن آجر لك أن تفطر في السفر . ويحتج أهل هذا القول بحديث حمزة بن عمرو الذي روينا آنفا { عن النبي ﷺ هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه } ، فحسن الفطر ولم يزد في الصوم على إسقاط الجناح . قال علي : هذا ما احتجت به كل طائفة ممن رأت الصوم في السفر لم ندع منه شيئا ، ولسنا نقول بشيء من هذه الأقوال فنحتاج إلى ترجيح بعضها على بعض ، إلا أنها كلها متفقة على جواز الصوم لرمضان في السفر ، وهو خلاف قولنا فإنما يلزمنا دفعها كلها من أجل ذلك فنقول وبالله تعالى نتأيد ونستعين - : أما قول الله تعالى : { وأن تصوموا خير لكم } فقد أتى كبيرة من الكبائر ، وكذب كذبا فاحشا من احتج بها في إباحة الصوم في السفر ؛ لأنه حرف كلام الله تعالى عن موضعه نعوذ بالله تعالى من مثل هذا . وهذا عار لا يرضى به محقق ؛ لأن نص الآية { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم } وإنما نزلت هذه الآية في حال الصوم المنسوخة ؛ وذلك أنه كان الحكم في أول نزول صوم رمضان : أن من شاء صامه ومن شاء أفطره وأطعم مكان كل يوم مسكينا ، وكان الصوم أفضل ، هذا نص الآية ، وليس للسفر فيها مدخل أصلا ولا للإطعام مدخل في الفطر في السفر أصلا ؛ فكيف استجازوا هذه الطامة ؟ وبهذا جاءت السنن ؟ - : حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج حدثني عمرو بن سواد أنا عبد الله بن وهب أنا عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع { عن سلمة بن الأكوع قال : كنا في رمضان على عهد رسول الله ﷺ من شاء صام ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين حتى نزلت هذه الآية : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } . } وبه إلى مسلم - : نا قتيبة بن سعيد نا بكر يعني ابن مضر - عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع عن سلمة بن الأكوع قال : لما نزلت هذه الآية : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها . قال أبو محمد : فحينئذ كان الصوم أفضل ؛ فظهرت فضيحة من احتج بهذه الآية في الصوم في السفر ؟ وأما حديث ابن المحبق { من كان يأوي إلى حمولة أو شبع فليصم } فحديث ساقط لأن راويه عبد الصمد بن حبيب - وهو بصري - لين الحديث عن سنان بن سلمة بن المحبق وهو مجهول ثم لو صح هذا الخبر لما كان فيه حجة لأحد من الطوائف المذكورة إلا للقول المروي عن عمر بن عبد العزيز " صمه في اليسر ، وأفطره في العسر " لأنه ليس فيه إلا إيجاب الصوم ، ولا بد على ذي الحمولة والشبع ، وهذا خلاف جميع الطوائف المذكورة . وأما حديث الغطريف ، وأبي عياض فمرسلان ؛ ولا حجة في مرسل ؛ وأما حديث حمزة بن عمرو الذي ذكرنا هاهنا الذي فيه إباحة الصوم في رمضان في السفر ؛ فإنما هو من رواية ابن حمزة - ابنه محمد بن حمزة - وهو ضعيف ، وأبوه كذلك ؛ وأما الثابت من حديث حمزة هو ما نذكره إن شاء الله تعالى . وأما حديث أبي سعيد ، وأبي الدرداء ، وجابر ؛ فلا حجة لهم في شيء منها لوجهين : أحدهما : ليس في شيء منها أنه عليه الصلاة والسلام كان صائما لرمضان ، وإذ ليس ذلك فيها فلا يجوز القطع بذلك ، ولا الاحتجاج باختراع ما ليس في الخبر على القرآن ، وقد يمكن أن يكون صائما تطوعا . والثاني : أنه حتى لو كان ذلك فيها نصا لما كان لهم فيها حجة ؛ لأن آخر الأمرين من رسول الله ﷺ إيجاب الفطر في رمضان في السفر ؛ فلو كان صوم رمضان في السفر قبل ذلك مباحا لكان منسوخا بآخر أمره عليه الصلاة والسلام كما نذكره إن شاء الله تعالى 

وأما احتجاج من أوجب الصوم في السفر لمن أهل عليه الشهر في الحضر بقول الله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ، فلا حجة لهم في هذه الآية ؛ لأن الله تعالى لم يقل : فمن شهد بعض الشهر فليصمه ؛ وإنما أوجب تعالى صيامه على من شهد الشهر لا على من شهد بعضه ، ثم يبطل قولهم أيضا قول الله تعالى : { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } فجعل السفر والمرض . ناقلين عن الصوم فيه إلى الفطر . وأيضا : فإن رسول الله ﷺ صح عنه أنه سافر في رمضان عام الفتح فأفطر وهو أعلم بمراد ربه تعالى ، والبلاغ منه نأخذه ، وعنه لا من غيره . فلما بطل كل ما احتجوا به ، وجب أن نأتي بالبرهان على صحة قولنا ، بحول الله تعالى وقوته . قال علي : نذكر الآن حديث أبي سعيد ، وأبي الدرداء ، وجابر ؛ وحمزة بن عمرو من الوجوه الصحاح - إن شاء الله تعالى - ونرى أنها لا حجة لهم فيها ؛ ثم نعقب بالبرهان على صحة قولنا إن شاء الله ، وبه نتأيد . روينا من طريق أبي داود نا مؤمل بن الفضل نا الوليد هو ابن مسلم - نا سعيد بن عبد العزيز حدثني إسماعيل بن عبيد الله حدثتني أم الدرداء عن أبي الدرداء قال : { خرجنا مع رسول الله ﷺ في بعض غزواته في حر شديد حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه أو كفه على رأسه من شدة الحر ما فينا صائم إلا رسول الله ﷺ وعبد الله بن رواحة } . ومن طريق حماد بن سلمة عن الجريري عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله { أن النبي ﷺ كان في سفر فأتى على غدير فقال للقوم : اشربوا ؟ فقالوا : يا رسول الله أنشرب ولا تشرب ؟ فقال : إني أيسركم إني راكب وأنتم مشاة فشرب وشربوا } . ومن طريق حماد بن زيد عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال { خرجنا مع رسول الله ﷺ في رمضان فمر بماء فقال : انزلوا فاشربوا ؛ فتلكأ القوم فنزل رسول الله ﷺ فشرب وشربنا معه } . وقد روينا هذا الخبر من طريق لا يحتج بها كما رويناه من طريق معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد حدثني { قزعة أنه سأل أبا سعيد عن الصوم في السفر فقال سافرنا مع رسول الله ﷺ إلى مكة ونحن صيام فنزلنا منزلا فقال رسول الله ﷺ إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فكانت رخصة ، فمنا من صام ومنا من أفطر ، ثم نزلنا منزلا آخر فقال : إنكم تصبحون عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا فكانت عزمة فأفطرنا ، ثم قال لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله ﷺ بعد ذلك في السفر . } ومن طريق عبد الرزاق - : عن معمر عن أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس قال { خرج النبي ﷺ في شهر رمضان فصام حتى مر بغدير في الطريق وذلك في نحر الظهيرة فعطش الناس فدعا النبي ﷺ بقدح فيه ماء فأمسكه على يده حتى رآه الناس ثم شرب فشرب الناس } . ومن طريق البخاري - : نا عبد الله بن يوسف عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين { أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال لرسول الله ﷺ أأصوم في السفر ؟ وكان كثير الصيام فقال : إن شئت فصم وإن شئت فأفطر } . ومن طريق مسلم - : نا أبو الربيع الزهراني ويحيى بن يحيى قال أبو الربيع نا حماد هو ابن زيد - وقال يحيى نا أبو معاوية ثم اتفق أبو معاوية وحماد كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين { أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال يا رسول الله إني رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر ؟ قال : صم إن شئت } . قال علي : كل هذا لا حجة لهم فيه ؛ أما حديث أبي الدرداء - : فليس فيه أن ذلك كان في رمضان أصلا ، وإقحام ما ليس في الخبر كذب ؛ وقد يمكن أن يكون تطوعا فلا ننكره فلا متعلق لهم ولا لنا فيه . وأما حديث أبي سعيد فطريق معاوية بن صالح لا يحتج بها ؛ ثم هبك أنها صحيحة فهو حجة لنا عليهم ؛ لأن فيه : أن آخر أمر رسول الله ﷺ كان الفطر ، هذا إن صح أنه كان في رمضان . وفي حديث حماد بن سلمة المذكور ؛ وحديث ابن عباس بيان أنه كان في رمضان ، وفيهما على أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي : أمر عظيم ، لأنهم لا يجيزون لمن صام وهو مسافر في رمضان أن يفطر في ذلك اليوم الذي ابتدأ صيامه ، واتفقوا على أنه مخطئ وما يبعد عنهم إطلاق اسم المعصية عليه ، ومالك يرى عليه الكفارة ؛ فلينظر ناصر أقوالهم فبماذا يدخل في احتجاجه بهذين الخبرين من إطلاق اسم الخطأ والمعصية على رسول الله ﷺ وإيجاب الكفارة عليه في إفطاره ، وهذا خروج عن الإسلام ممن أقدم عليه . وأما نحن فنقول : لو صح أنه عليه السلام كان صائما ينويه من رمضان لكان ذلك منسوخا بآخر أمره ، وآخر فعله ، وإذ لم يأت ذلك في شيء من الأخبار فيمكن أن يكون صام تطوعا ، والفطر للصائم تطوعا مباح مطلق لا كراهة فيه كما فعل عليه السلام . والعجب كل العجب ممن يقول في الخبر الثابت { أن امرأة كانت تستعير الحلي وتجحده فأمر رسول الله ﷺ بقطع يدها } : لعله إنما قطع يدها لغير ذلك . ويقول في الخبر الثابت { أن رسول الله ﷺ رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده فأمره بإعادة الصلاة } : لعله إنما أمره بالإعادة لغير ذلك . ويقول في الخبر { أن رسول الله ﷺ رأى رجلا يصلي ركعتي الفجر والصلاة تقام فقال له : بأي صلاتيك تعتد } : لعله إنما أنكر عليه أنه صلاهما بين الناس مكابرة للباطل : وفي الخبر منصوص أنه كان يصليهما ناحية . ثم لا يقول هاهنا : لعله كان يصوم تطوعا ؛ وهاهنا يجب أن يقال هذا ؛ لأنه ليس في الأخبار دليل على غير ذلك ؛ وأما تلك الأخبار فليس منها شيء يحتمل ما تأولوه لأن نصها يمنع من ذلك . والعجب ممن يحتج { بقول أبي سعيد ثم لقد رأيتنا نصوم بعد ذلك في السفر مع رسول الله ﷺ } في إجازة ما ليس في الخبر منه أثر ولا عثر من إجازة الصوم لرمضان في السفر ؛ وليس في الخبر أنه عليه السلام علم بذلك فأقره . وهم لا يرون { قول أسماء : ذبحنا على عهد رسول الله ﷺ فرسا فأكلناه } حجة ، ولا يرون قول ابن عباس { إن طلاق الثلاث كانت تجعل على عهد رسول الله ﷺ واحدة } حجة . وهذا عجب عجيب وإنما في حديث أبي سعيد إباحة الصوم في السفر ونحن لا ننكره تطوعا أو فرضا غير رمضان ؛ ومما يبين هذا أنه لا يعلم أنه عليه السلام سافر في رمضان بعد عام الفتح . وأما خبر حمزة فبيان جلي في أنه إنما سأله عليه السلام عن التطوع لقوله في الخبر { إني امرؤ أسرد الصوم أفأصوم في السفر } ؟ وكان كثير الصيام فبطل كل ما تأولوه ، وبطل أن يكون لهم في شيء من هذه الأخبار حجة - وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : فإذ لم يبق لهم حجة لا من قرآن ولا من سنة فلنذكر الآن البراهين على صحة قولنا بحول الله تعالى وقوته - : قال الله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } وهذه آية محكمة بإجماع من أهل الإسلام لا منسوخة ولا مخصوصة . فصح أن الله تعالى لم يفرض صوم الشهر إلا على من شهده ، ولا فرض على المريض ، والمسافر إلا أياما أخر غير رمضان ، وهذا نص جلي لا حيلة فيه ؛ ولا يجوز لمن قال : إنما معنى ذلك إن أفطرا فيه ؛ لأنها دعوى موضوعة بلا برهان . قال الله تعالى : { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } - : نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد بن المثنى نا عبد الوهاب هو ابن عبد المجيد الثقفي نا جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جابر بن عبد الله " أن رسول الله ﷺ { خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب فقيل له بعد ذلك : إن بعض الناس قد صام ؟ فقال : أولئك العصاة أولئك العصاة } . قال أبو محمد : إن كان صيامه عليه السلام لرمضان فقد نسخه بقوله { أولئك العصاة } وصار الفطر فرضا والصوم معصية ، ولا سبيل إلى خبر ناسخ لهذا أبدا ، وإن كان صيامه عليه السلام تطوعا فهذا أحرى للمنع من صيام رمضان لرمضان في السفر ، ومن طريق البخاري ، ومسلم . قال البخاري نا آدم ، وقال مسلم : نا أبو بكر بن أبي شيبة نا محمد بن جعفر ثم اتفق آدم ومحمد وكلاهما عن شعبة عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري عن محمد بن عمر بن الحسن بن علي بن أبي طالب عن جابر بن عبد الله قال { كان رسول الله ﷺ في سفر فرأى رجلا قد ظلل عليه فسأل عنه فقيل : صائم ، فقال : ليس من البر الصوم في السفر } هذا لفظ آدم ، ولفظ غندر { ليس من البر أن تصوموا في السفر } . قال أبو محمد : وهذا مكشوف واضح . فإن قيل : إنما منع عليه السلام في مثل حال ذلك الرجل ؟ قلنا : هذا باطل لا يجوز لأن تلك الحال محرم البلوغ إليها باختيار المرء للصوم في الحضر كما هو في السفر فتخصيص النبي ﷺ بالمنع من الصيام في السفر إبطال لهذه الدعوى المفتراة عليه ﷺ وواجب أخذ كلامه عليه السلام على عمومه . ومن طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عن صفوان بن عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي عن أم الدرداء عن كعب بن عاصم الأشعري قال " سمعت رسول الله ﷺ يقول : { ليس من البر الصيام في السفر } . صفوان ثقة مشهور مكي كان متزوجا بالدرداء بنت أبي الدرداء . وكعب بن عاصم مشهور الصحبة هاجر مع أبي موسى وهو من الأشاقر حي من الأزد . ومن طريق شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي حدثني يحيى هو ابن أبي كثير حدثني أبو قلابة الجرمي { أن أبا أمية عمرو بن أمية الضمري أخبره أن رسول الله ﷺ قال له وقد دعاه إلى الغداء : أخبرك عن المسافر ؟ إن الله وضع عنه الصيام ونصف الصلاة . } ومن طريق أبي زرعة عبيد الله بن عبد الكريم نا سهل بن بكار نا أبو عوانة عن أبي بشر { عن هانئ بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال له ودعاه إلى الغداء : أتدري ما وضع الله عن المسافر ؟ قلت : ما وضع الله عن المسافر ؟ قال : الصوم ، وشطر الصلاة } . ومن طريق يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حدثني جابر بن عبد الله { أن رسول الله ﷺ مر برجل في ظل يرش عليه الماء فسأل عنه فأخبر أنه صائم فقال : ليس من البر أن تصوموا في السفر وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها } فهذا أمر بقبولها وأمره عليه الصلاة والسلام فرض فهي رخصة مفترضة ؛ وصح بهذه الأخبار أن الله تعالى أسقط عن المسافر الصوم ونصف الصلاة وهذه آثار متواترة متظاهرة لم يأت شيء يعارضها فلا يجوز الخروج عنها . فإن قيل : فإن هذه الأخبار مانعة كلها بعمومها من كل صوم في السفر وأنتم تبيحون فيه كل صوم إلا رمضان وحده ؟ قلنا : نعم ، لأن النصوص جاءت بمثل ما قلنا ؛ لأن الله تعالى قال : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } فافترض تعالى صوم الثلاثة الأيام في السفر ولا بد . وقال رسول الله ﷺ في الحض على صوم عرفة ما سنذكره إن شاء الله تعالى وهو في السفر لمن كان حاجا . وقال عليه الصلاة والسلام : { إن أفضل الصيام صيام داود يصوم يوما ويفطر يوما } فعم عليه الصلاة والسلام ولم يخص . وقال عليه الصلاة والسلام : { من صام يوما في سبيل الله باعد الله النار عن وجهه } فحض على الصوم في السفر . فوجب الأخذ بجميع النصوص فخرج صوم رمضان في السفر بالمنع وحده وبقي سائر الصوم واجبه وتطوعه على جوازه في السفر ولا يجوز ترك نص لآخر . وقال بعض أهل الجهل والجرأة على القول بالباطل في الدين : معنى قوله عليه الصلاة والسلام : { ليس من البر الصيام في السفر } مثل قوله عليه الصلاة والسلام : { ليس المسكين بهذا الطواف } . قال أبو محمد : هذا تحريف للكلم عن مواضعه ، وكذب على رسول الله ﷺ وتقويل له ما لم يقل ، وفاعل هذا يتبوأ مقعده من النار بنص قوله عليه السلام ، وليس إذا وجد نص قد جاء نص آخر أو إجماع بإخراجه عن ظاهره وجب أن تبطل جميع النصوص وتخرج عن ظواهرها فيحصل من فعل هذا على مذهب القرامطة في إحالة القرآن عن مفهومه وظاهره ، ومن بلغ إلى هاهنا فقد كفى خصمه مؤنته . ويقال له : إذا قلت هذا في قوله عليه الصلاة والسلام : { ليس من البر الصيام في السفر } فقله أيضا في قوله تعالى : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } ولا فرق ؟ قال أبو محمد : ومن سلك هذا السبيل فقد أبطل الدين والعقل والتفاهم جملة . فإن قيل : فكيف تقولون في صومه عليه الصلاة والسلام مع قول الله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } . قلنا : هذا في غاية البيان لا تخلو هذه الآية من أن يكون نزولها تأخر إلى وقت فتح مكة أو بعده ، وتقدم فرض رمضان بوحي آخر كما كان نزول آية الوضوء في المائدة متأخرا عن نزول فرضه ؛ فإن كان تأخر نزولها فسؤالكم ساقط ولله الحمد رب العالمين . وإن كان تقدم نزولها فلا يخلو عليه الصلاة والسلام في صومه ذلك من أن يكون صامه لرمضان أو تطوعا ، فإن كان صامه تطوعا فسؤالكم ساقط ولله الحمد . وإن كان صامه عليه الصلاة والسلام لرمضان فلا ننكر أن يكون عليه الصلاة والسلام نسخ بفعله حكم الآية ثم نسخ ذلك الفعل وعاد حكم الآية ، فهذا كله حسن فكيف ولا دليل أصلا على تقدم نزول الآية قبل غزوة الفتح ؟ وما نزل بعضها إلا بعد إسلام عدي بن حاتم بعد الفتح بمدة وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : ولم يبق علينا إلا أن نذكر من قال : بمثل قولنا لئلا يدعوا علينا خلاف الإجماع ؛ فالدعوى لذلك منهم سهلة ، وهم أكثر الناس خلافا للإجماع على ما قد بينا في كتابنا هذا وفي غيره . روينا من طريق سليمان بن حرب نا حماد بن سلمة عن كلثوم بن جبر عن رجل من بني قيس أنه صام في السفر فأمره عمر بن الخطاب أن يعيد . ومن طريق سفيان بن عيينة عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن عمر بن الخطاب أنه أمر رجلا أن يعيد صيامه في السفر . قال أبو محمد : إن من احتج في رد السنن الثابتة من قول رسول الله ﷺ : { كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا } برواية شيخ من بني كنانة عن عمر أنه قال : البيع على صفقة أو تخاير ؛ ثم رد هذه الرواية عن عمر ومعه القرآن والسنن : لأعجوبة وأخلوقة ؟ ومن طريق سليمان بن حرب عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال : نهتني عائشة أم المؤمنين عن أن أصوم رمضان في السفر . وعن أبي هريرة : ليس من البر الصيام في السفر . ومن طريق شعبة عن أبي حمزة نصر بن عمران الضبعي - قال : سألت ابن عباس عن الصوم في السفر ؟ فقال : يسر وعسر خذ بيسر الله تعالى . قال أبو محمد : إخباره بأن صوم رمضان في السفر عسر : إيجاب منه لفطره .

وعنه أيضا : الإفطار في رمضان في السفر : عزمة . روينا هذا عنه من طريق عبد بن حميد ، وابن أبي شيبة كلاهما عن محمد بن بشر عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن جابر بن زيد أبي الشعثاء عن ابن عباس . ومن طريق ابن أبي شيبة عن أبي داود الطيالسي عن عمران القطان عن عمار مولى بني هاشم هو ابن أبي عمار - عن ابن عباس أنه سئل عمن صام رمضان في السفر ؟ فقال ابن عباس : لا يجزئه - يعني لا يجزئه صيامه . وعن ابن عمر أنه سئل عن الصوم في السفر ؟ فقال { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } . ومن طريق شعبة عن يعلى بن عطاء عن يوسف بن الحكم الثقفي أن ابن عمر سئل عن الصوم في السفر ؟ فقال : إنما هي صدقة تصدق الله بها عليك أرأيت لو تصدقت بصدقة فردت عليك ؟ ألم تغضب ؟ قال أبو محمد : هذا يبين أنه كان يرى الصوم في رمضان في السفر مغضبا لله تعالى ، ولا يقال هذا في شيء مباح أصلا . ومن طريق حماد بن سلمة عن كلثوم بن جبر أن امرأة صحبت ابن عمر في سفر فوضع الطعام فقال لها : كلي ؟ قالت : إني صائمة قال : لا تصحبينا ؟ ومن طريق معن بن عيسى القزاز عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال : يقال : الصيام في السفر كالإفطار في الحضر . قال أبو محمد : هذا إسناد صحيح ، وقد صح سماع أبي سلمة من أبيه ، ولا يقول عبد الرحمن بن عوف في الدين : يقال كذا إلا عن الصحابة أصحابه رضي الله عنهم ، وأما خصومنا فلو وجدوا مثل هذا لكان أسهل شيء عليهم أن يقولوا : لا يقول ذلك إلا عن رسول الله ﷺ . ومن طريق أبي معاوية نا ابن أبي ذئب عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال : الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ، وهذا سند في غاية الصحة . ومن طريق عطاء عن المحرر بن أبي هريرة قال : صمت رمضان في السفر فأمرني أبو هريرة أن أعيده في أهلي ، وأن أقضيه فقضيته . ومن طريق الدراوردي عن عبد الرحمن بن حرملة أن رجلا سأل سعيد بن المسيب أأتم الصلاة في السفر وأصوم ؟ قال : لا فقال : إني أقوى على ذلك ؟ قال سعيد : رسول الله ﷺ كان أقوى منك قد كان يقصر ويفطر . وعن عطاء أنه سئل عن الصوم في السفر فقال : أما المفروض فلا ؛ وأما التطوع فلا بأس به . ومن طريق شعبة عن عاصم مولى قريبة عن عروة بن الزبير أنه قال في رجل صام في السفر : إنه يقضيه في الحضر ، قال شعبة : لو صمت رمضان في السفر لكان في نفسي منه شيء . ومن طريق معمر عن الزهري قال : كان الفطر آخر الأمرين من رسول الله ﷺ وإنما يؤخذ من أمر رسول الله ﷺ بالآخر فالآخر . ومن طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال : لا تصوموا في السفر . وعن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أن أباه كان ينهى عن صيام رمضان في السفر ؛ وكان محمد بن علي ينهى عن ذلك أيضا . وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر قال : لا يصوم المسافر أفطر أفطر ؟ وعن يونس بن عبيد وأصحابه أنهم أنكروا صيام رمضان في السفر . قال أبو محمد : وقد جاء خبر لو وجدوا مثله لعظم الخطب معهم كما روينا من طريق محمد بن أحمد بن الجهم نا موسى بن هارون نا إبراهيم بن المنذر نا عبد الله بن موسى التيمي عن أسامة بن زيد الليثي عن الزهري عن أبي مسلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه رفعه إلى النبي ﷺ قال : { الصائم في السفر في رمضان كالمفطر في الحضر } . قال أبو محمد : وأما نحن فلا نحتج بأسامة بن زيد الليثي ولا نراه حجة لنا ولا علينا وفي القرآن وصحيح السنن كفاية ، ولله الحمد . قال علي : ومن العجب أن أبا حنيفة لا يجزئ عنده إتمام الصلاة في السفر ، ومالك يرى في ذلك الإعادة في الوقت ثم يختارون الصوم في السفر على الفطر ، تناقضا لا معنى له ، وخلافا لنص القرآن ، وللقياس الذي يدعون له السنن ؟ قال علي : فإذ قد صح هذا فمن سافر في رمضان فله أن يصوم تطوعا ، وله أن يصوم فيه قضاء رمضان أفطره قبل أو سائر ما يلزمه من الصوم نذرا أو غيره ؛ لأن الله تعالى قال : { فعدة من أيام أخر } : ولم يخص رمضان آخر من غيره ولم يمنع النص من صيامه إلا لعينه فقط ؛ وأما المريض فإن كان يؤذيه الصوم فتكلفه لم يجزه وعليه أن - يقضيه لأنه منهي عن الحرج والتكلف ، وعن أذى نفسه وإن كان لا يشق عليه أجزأه ؛ لأنه لا خلاف في ذلك وما نعلم مريضا لا حرج عليه في الصوم قال الله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } فالحرج لم يجعله الله تعالى في الدين . 
==========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مكتبات الكتاب الاسلامي

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أ...