مدونة استكمال مصنفات الإمامين ابن حزم والوكاني

الأحد، 20 مارس 2022

تابع كتاب الصيام /محلى ابن حزم - المجلد الثاني - من مسألة رقم 763 . الي رقم 810 } وهو منتهي كتاب الصيام في المحلي لابن حزم يليه كتاب الحج .

تابع كتاب الصيام

763 - مسألة : ومن أقام من قبل الفجر ولم يسافر إلى بعد غروب الشمس في سفره فعليه إذا نوى الإقامة المذكورة أن ينوي الصوم ولا بد ، سواء كان في جهاد ، أو عمرة ، أو غير ذلك ، لأنه إنما ألزم الفطر إذا كان على سفر وهذا مقيم ؛ فإن أفطر عامدا فقد أخطأ إن كان جاهلا متأولا ، وعصى إن كان عالما ولا قضاء عليه ؛ لأنه مقيم صحيح ظن أنه مسافر ؛ فإن نوى من الليل وهو في سفره أن يرحل غدا فلم ينو الصوم فلما كان من الغد حدثت له إقامة فهو مفطر ؛ لأنه مأمور بما فعل ، وهو على سفر ما لم ينو الإقامة المذكورة وهذا بخلاف الصلاة ؛ لأن النص ورد في الصلاة بقصر عشرين يوما يقيمها في الجهاد ، وبقصر أربعة أيام يقيمها في الحج . وبقصر ما يكون فيه من الصلوات مقيما ما بين نزوله إلى رحيله من غد ، ولم يأت نص بأن يفطر في غير يوم لا يكون فيه مسافرا . فإن قيل : قال الله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } فهذا على سفر ؟ قلنا : لو كانت " على " في هذه الآية معناها ما ظننتم من إرادة السفر لا الدخول في السفر لوجب على من أراد السفر وهو في منزله أن يفطر وإن نوى السفر بعد أيام ؛ لأنه على سفر وهذا ما لا يشك في أنه لا يقوله أحد ؛ ويبطله أيضا أول الآية إذ يقول تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } فوجب على الشاهد صيامه وعلى المسافر إفطاره لقول رسول الله ﷺ : { ليس من البر الصيام في السفر } ولقوله عليه الصلاة والسلام : { إن الله وضع عن المسافر الصيام وشطر الصلاة } . فصح أنه ليس إلا مسافر أو شاهد ؛ فالشاهد يصوم والمسافر يفطر وليس المسافر إلا المنتقل لا المقيم ؛ فلا يفطر إلا من انتقل بخلاف من لم ينتقل ، ومن كان مقيما صائما فحدث له سفر فإنه إذا برز عن موضعه فقد سافر فقد بطل صومه وعليه قضاؤه ؛ وبالله تعالى التوفيق . فإن قيل : بل نقيس الصوم على الصلاة ؟ قلنا : القياس باطل ثم لو كان حقا لكان هذا منه باطلا ؛ لأنهم متفقون على أن قصر بعض الصلوات لا يقاس عليه قصر سائرها ، فإذا لم يجز عندهم قياس قصر صلاة على قصر صلاة أخرى فأبطل وأبعد أن يقاس فطر على فطر ؛ وأيضا فقد ينوي في الصلاة المسافر إقامة فينتقل إلى حكم المقيم ولا يمكن ذلك في الصوم ، فبطل على كل حال قياس أحدهما على الآخر - وبالله تعالى التوفيق .

764 - مسألة : والحيض الذي يبطل الصوم هو الأسود لقول النبي ﷺ { إن دم الحيض أسود يعرف } . وقوله عليه الصلاة والسلام : { فإذا جاء الآخر فاغتسلي وصلي } وقد ذكرناه في كتاب الحيض من الطهارة من ديواننا هذا فأغنى عن إعادته . وعن أم عطية ، وغيرها كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئا .

765 - مسألة : وإذا رأت الحائض الطهر قبل الفجر أو رأته النفساء وأتمتا عدة أيام الحيض والنفاس قبل الفجر فأخرتا الغسل عمدا إلى طلوع الفجر ثم اغتسلتا وأدركتا الدخول في صلاة الصبح قبل طلوع الشمس لم يضرهما شيئا وصومهما تام ؛ لأنهما فعلتا ما هو مباح لهما ؛ فإن تعمدتا ترك الغسل حتى تفوتهما الصلاة بطل صومهما ؛ لأنهما عاصيتان بترك الصلاة عمدا ، فلو نسيتا ذلك أو جهلتا فصومهما تام ؛ لأنهما لم يتعمدا معصية ؛ وبالله تعالى التوفيق .

766 - مسألة : وتصوم المستحاضة كما تصلي على ما ذكرنا في كتاب الحيض من ديواننا هذا فأغنى عن إعادته وبالله تعالى التوفيق .

767 - مسألة : ومن كانت عليه أيام من رمضان فأخر قضاءها عمدا ، أو لعذر ، أو لنسيان حتى جاء رمضان آخر فإنه يصوم رمضان الذي ورد عليه كما أمره الله تعالى فإذا أفطر في أول شوال قضى الأيام التي كانت عليه ولا مزيد ، ولا إطعام عليه في ذلك ؛ وكذلك لو أخرها عدة سنين ولا فرق إلا أنه قد أساء في تأخيرها عمدا سواء أخرها إلى رمضان أو مقدار ما كان يمكنه قضاؤها من الأيام لقول الله تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } فالمسارعة إلى الله المفترضة واجبة . وقال الله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } وأمر النبي ﷺ المتعمد للقيء ، والحائض ، والنفساء : بالقضاء ؛ ولم يحد الله تعالى ولا رسوله ﷺ في ذلك وقتا بعينه ، فالقضاء واجب عليهم أبدا حتى يؤدى أبدا ، ولم يأت نص قرآن ولا سنة بإيجاب إطعام في ذلك فلا يجوز إلزام ذلك أحدا لأنه شرع والشرع لا يوجبه في الدين إلا الله تعالى على لسان رسوله ﷺ فقط . وهذا قول أبي حنيفة ، وأبي سليمان . وقال مالك : يطعم مع القضاء عن كل يوم من الرمضان الآتي مدا مدا عددها مساكين إن تعمد ترك - القضاء ؛ فإن كان تمادى مرضه قضى ولا إطعام عليه - وهو قول الشافعي . قال أبو محمد : وروينا في ذلك عن السلف رضي الله عنهم أقوالا - : فروينا عن ابن عباس ، وأبي هريرة مثل قول مالك ، والشافعي . ورويناه أيضا عن عمر ، وابن عمر من طريق منقطعة ، وبه يقول الحسن ، وعطاء . وروينا عن ابن عمر من طريق صحيحة أنه يصوم رمضان الآخر ولا يقضي الأول بصيام ، لكن يطعم عنه مكان كل يوم مسكينا مدا مدا . وبه يقول أبو قتادة ، وعكرمة . وروينا عنه أيضا : يهدي مكان كل رمضان فرط في قضائه بدنة مقلدة . وروينا من طريق ابن مسعود يصوم هذا ويقضي الأول ولم يذكر طعاما - وهو قول إبراهيم النخعي ، والحسن ، وطاوس ، وحماد بن أبي سليمان ؟ قال علي : عهدنا بهم يقولون فيما وافقهم من قول الصاحب : مثل هذا لا يقال بالرأي ؛ فهلا قالوه في قول ابن عمر في البدنتين ؟

768 - مسألة : والمتابعة في قضاء رمضان واجبة لقول الله تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } فإن لم يفعل فيقضيها متفرقة وتجزئه لقول الله تعالى : { فعدة من أيام أخر } ولم يحد تعالى في ذلك وقتا يبطل القضاء بخروجه . وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأبي سليمان - نعني أنهم اتفقوا على جواز قضائها متفرقة . واحتج من قال : بأنها لا تجزئ إلا متتابعة بأن في مصحف أبي " فعدة من أيام أخر متتابعات " . قال علي : روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال عروة : قالت عائشة أم المؤمنين : نزلت { فعدة من أيام أخر } متتابعات " فسقطت " متتابعات " . قال أبو محمد : سقوطها مسقط لحكمها ، لأنه لا يسقط القرآن بعد نزوله إلا بإسقاط الله تعالى إياه قال الله تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } وقال تعالى : { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } وقال تعالى : { سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله } فإن قيل : قد يسقط لفظ الآية ويبقى حكمها كما كان في آية الرجم . قلنا : لولا إخبار النبي ﷺ ببقاء حكم الرجم لما جاز العمل به بعد إسقاط الآية النازلة به لأن ما رفع الله تعالى فلا يجوز لنا إبقاء لفظه ولا حكمه إلا بنص آخر .

769 - مسألة : والأسير في دار الحرب إن عرف رمضان لزمه صيامه إن كان مقيما ؛ لأنه مخاطب بصومه في القرآن ؛ فإن سوفر به أفطر ولا بد لأنه على سفر وعليه قضاؤه لما ذكر قبل ؛ فإن لم يعرف الشهر وأشكل عليه سقط عنه صيامه ولزمته أيام أخر إن كان مسافرا وإلا فلا . وقال قوم : يتحرى شهرا ويجزئه . وقال آخرون : إن وافق شهرا قبل رمضان لم يجزه ، وإن وافق شهرا بعد رمضان أجزأه ، لأنه يكون قضاء عن رمضان . قال علي : أما تحري شهر فيجزئه أو يجعله قضاء فحكم لم يأت به قرآن ، ولا سنة صحيحة ، ولا رواية سقيمة ، ولا إجماع ، ولا قول صاحب ، وما كان هكذا فهو دعوى فاسدة لا برهان على صحتها . فإن قالوا : قسناه على من جهل القبلة . قلنا : هذا باطل ؛ لأن الله تعالى لم يوجب التحري على من جهل القبلة ؛ بل من جهلها فقد سقط عنه فرضها ، فيصلي كيف شاء . فإن قالوا : قسناه على من خفي عليه وقت الصلاة . قلنا : وهذا باطل ، أيضا ، لأنه لا يجزئه صلاة إلا حتى يوقن بدخول وقتها . قال أبو محمد : وبرهان صحة قولنا - : قول الله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } فلم يوجب الله تعالى صيامه إلا على من شهده ، وبالضرورة ندري أن من جهل وقته فلم يشهده قال الله عز وجل : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقال تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } فمن لم يكن في وسعه معرفة دخول رمضان فلم يكلفه الله تعالى صيامه بنص القرآن ، ومن سقط عنه صوم الشهر فلا قضاء عليه ؛ لأنه صوم غير ما أمر الله تعالى به . فإن صح عنده بعد ذلك أنه كان فيه مريضا أو مسافرا فعليه ما افترض الله تعالى على المريض فيه والمسافر فيه وهو عدة من أيام أخر ، فيقضي الأيام التي سافر ، والتي مرض فقط ولا بد ؛ وإن لم يوقن بأنه مرض فيه أو سافر فلا شيء عليه - وبالله تعالى التوفيق .

770 - مسألة : - والحامل ، والمرضع ، والشيخ الكبير كلهم مخاطبون بالصوم فصوم رمضان فرض عليهم ، فإن خافت المرضع على المرضع قلة اللبن وضيعته لذلك ولم يكن له غيرها ، أو لم يقبل ثدي غيرها ، أو خافت الحامل على الجنين ، أو عجز الشيخ عن الصوم لكبره : أفطروا ولا قضاء عليهم ولا إطعام ، فإن أفطروا لمرض بهم عارض فعليهم القضاء . أما قضاؤهم لمرض فلقول الله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } . وأما وجوب الفطر عليهما في الخوف على الجنين ، والرضيع فلقول الله تعالى : { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم } . وقال رسول الله ﷺ : { من لا يرحم لا يرحم } فإذ رحمة الجنين ، والرضيع : فرض ، ولا وصول إليها إلا بالفطر : فالفطر فرض ؛ وإذ هو فرض فقد سقط عنهما الصوم ، وإذا سقط الصوم فإيجاب القضاء عليهما شرع لم يأذن الله تعالى به ولم يوجب الله تعالى القضاء إلا على المريض ، والمسافر ، والحائض ، والنفساء ، ومتعمد القيء فقط ، { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } . وأما الشيخ الذي لا يطيق الصوم لكبره فالله تعالى يقول { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فإذا لم يكن الصوم في وسعه فلم يكلفه . وأما تكليفهم إطعاما فقد قال رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فلا يجوز لأحد إيجاب غرامة لم يأت بها نص ولا إجماع . قال أبو محمد : روينا عن إبراهيم أن علقمة جاءته امرأة فقالت له : إني حبلى وأنا أطيق الصوم وزوجي يأمرني أن أفطر ؟ فقال لها علقمة : أطيعي ربك وأعصي زوجك . وممن أسقط عنها القضاء - : روينا عن حماد بن سلمة عن أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر كلاهما عن نافع أن امرأة من قريش سألت ابن عمر وهي حبلى ؟ فقال لها : أفطري وأطعمي كل يوم مسكينا ولا تقضي . ومن طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني ، وقتادة كلاهما عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال لأمة له مرضع : أنت بمنزلة { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } أفطري وأطعمي كل يوم مسكينا ولا تقضي . روينا كليهما من طريق إسماعيل بن إسحاق عن الحجاج بن المنهال عن حماد ، ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير قال : تفطر الحامل التي في شهرها والمرضع التي تخاف على ولدها وتطعم كل واحدة منهما كل يوم مسكينا ولا قضاء عليهما . وبه يقول قتادة ، وهو ظاهر قول سعيد بن المسيب . وممن أسقط الإطعام كما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : تفطر الحامل ، والمرضع في رمضان ويقضيانه صياما ولا إطعام عليهما . ومثله عن عكرمة ، وعن إبراهيم النخعي - وهو قول أبي حنيفة ، وسفيان . وممن رأى عليهما الأمرين جميعا : عطاء بن أبي رباح فإنه قال : إذا خافت المرضع والحامل على ولدها فلتفطر ولتطعم مكان كل يوم نصف صاع ولتقض بعد ذلك - وهو قول الشافعي . قال أبو محمد : فلم يتفقوا على إيجاب القضاء ولا على إيجاب الإطعام فلا يجب شيء من ذلك ؛ إذ لا نص في وجوبه ولا إجماع ، وعهدنا بهم يقولون في قول الصاحب إذا وافقهم . مثل هذا لا يقال بالرأي ، فهلا قالوا هاهنا في قول ابن عمر في إسقاط القضاء ؟ وقد روينا عن ابن عباس مثل قولنا كما روينا عن إسماعيل بن إسحاق نا إبراهيم بن حمزة الزبيري نا عبد العزيز بن محمد هو الدراوردي عن حميد عن بكر بن عبد الله المزني عن ابن عباس أنه سئل عن مرضع في رمضان خشيت على ولدها فرخص لها ابن عباس في الفطر . قال علي : ولم يذكر قضاء ولا طعاما ، وقال مالك : أما المرضع فتفطر وتطعم عن كل يوم مسكينا وتقضي مع ذلك ، وأما الحامل فتقضي ولا إطعام عليها ، ولا يحفظ هذا التقسيم عن أحد من الصحابة والتابعين ؟ قال أبو محمد : احتج من رأى الإطعام في ذلك بقول الله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } . وذكروا ما رويناه من طريق حماد بن سلمة نا قتادة عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية في الحبلى والمرضع ، والشيخ ، والعجوز . واحتج من رأى القضاء بما رويناه من طريق يزيد بن هارون عن جويبر عن الضحاك بن مزاحم قال : { كان النبي ﷺ يرخص للحبلى ، والمرضع أن يفطرا في رمضان فإذا أفطمت المرضع ، ووضعت الحبلى جددتا صومهما } . قال علي : حديث عكرمة مرسل ؛ وحديث الضحاك فيه ثلاث بلايا ، جويبر وهو ساقط والضحاك مثله والإرسال مع ذلك ، لكن الحق في ذلك ما رويناه قبل في حكم الصوم في السفر من طريق سلمة بن الأكوع ، أن هذه الآية منسوخة . ومن طريق حماد بن زيد عن سلمة بن علقمة بن محمد بن سيرين عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية { فدية طعام مسكين } فقال : هي منسوخة ، فهذا هو المسند الصحيح الذي لا يجوز خلافه . والعجب كل العجب من هؤلاء القوم فإنهم يصرفون هذه الآية تصريف الأفعال في غير ما أنزلت فيه ، فمرة يحتجون بها في أن الصوم في السفر أفضل ، ومرة يصرفونها في الحامل ، والمرضع ، والشيخ الكبير ، وكل هذا إحالة لكلام الله تعالى ، وتحريف للكلم عن مواضعه ، وما ندري كيف يستجيز - من يعلم أن وعد الله حق - مثل هذا في القرآن وفي دين الله تعالى ؟ ونعوذ بالله من الضلال ؟ وأما الشيخ الكبير فإن أبا حنيفة أوجب عليه إطعام مسكين مكان كل يوم ، ولم ير مالك الإطعام عليه واجبا " . وقال الشافعي مرة كقول أبي حنيفة ، ومرة كقول مالك . قال أبو محمد : روينا من طريق إسماعيل عن علي بن عبد الله عن سفيان ، وجرير قال سفيان قال عمرو بن دينار : أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقرؤها ( وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مسكين ) يكلفونه ولا يطيقونه . قال : هذا الشيخ الكبير الهرم والمرأة الكبيرة الهرمة لا يستطيع الصوم يفطر ويطعم كل يوم مسكينا . وقال جرير عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس : مثله . قال علي : هذا صحيح عن ابن عباس ، وروينا عن علي بن أبي طالب أنه قال في الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم : إنه يفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينا ، وصح عن أنس أنه ضعف عن الصوم - إذ كبر - فكان يفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينا ، قال قتادة : الواحد كفارة ، والثلاثة تطوع . ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبد الرحمن بن حرملة قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول في قول الله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } هو الكبير الذي عجز عن الصوم ، والحبلى يشق عليها الصوم ، فعلى كل واحد منهما إطعام مسكين عن كل يوم . وعن الحسن ، وقتادة في الشيخ الكبير ، والعجوز : أنهما يطعمان مكان كل يوم مسكينا . وعن عطاء ، والحسن ، وسعيد بن جبير مثل ذلك . وروي عن قيس بن السائب وهو من الصحابة مثل ذلك . وعن أبي هريرة أنه يتصدق عن كل يوم بدرهم . وعن مكحول ، وطاوس ، ويحيى بن أبي كثير فيمن منعه العطاش من الصوم : أنه يفطر ويطعم عن كل يوم مدا . قال أبو محمد : فرأى أبو حنيفة على الشيخ الذي لا يطيق الصوم لهرمه إطعام مسكين مكان كل يوم ، ولم يره على الحامل والمرضع . وأوجبه مالك على المرضع خاصة ، ولم يوجبه على الحامل ولا الشيخ الكبير ؛ وهذا تناقض ظاهر . واحتج بعض الحنفيين بأن الحامل والمرضع بمنزلة المريض والمسافر ؛ لأنهم كلهم أبيح لهم الفطر دون إطعام . قال علي : والشيخ كذلك وهو أشبه بالمريض ، والمسافر ، لأنه أبيح له الفطر من أجل نفسه كما أبيح لهما من أجل أنفسهما ؛ وأما الحامل والمرضع ؛ فإنما أبيح لهما الفطر من أجل غيرهما . قال علي : وأما المالكيون فيشنعون بخلاف الصاحب إذا وافق تقليدهم . وقد خالفوا هاهنا : عليا ، وابن عباس ، وقيس بن السائب ؛ وأبا هريرة ، ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف . وخالفوا : عكرمة ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، وقتادة ، وسعيد بن جبير ، وهم يشنعون بمثل هذا . قال أبو محمد : وأما نحن فلا حجة عندنا في غير النبي ﷺ . وأما الرواية عن ابن عباس : أنه كان يقرؤها ( وعلى الذين يطوقونه ) فقراءة لا يحل لأحد أن يقرأ بها ؛ لأن القرآن لا يؤخذ إلا عن لفظ رسول الله ﷺ فمن احتج بهذه الرواية فليقرأ بهذه القراءة وحاش الله أن يطوق الشيخ ما لا يطيقه . وقد صح عن سلمة بن الأكوع ، وعن ابن عباس نسخ هذه الآية كما ذكرنا في هذا الباب ، وفي باب صوم المسافر ، وأنها لم تنزل قط في الشيخ ، ولا في الحامل ، ولا في المرضع وإنما نزلت في حال وقد نسخت وبطلت . والشيخ ، والعجوز اللذان لا يطيقان الصوم فالصوم لا يلزمهما قال الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وإذا لم يلزمهما الصوم فالكفارة لا تلزمهما ، لأن الله تعالى لم يلزمهما إياها ولا رسوله ﷺ والأموال محرمة إلا بنص أو إجماع ؟ والعجب كله من أن أبا حنيفة ، ومالكا ، والشافعي يسقطون الكفارة عمن أفطر في نهار رمضان عمدا وقصد إبطال صومه عاصيا ، لله تعالى بفعل قوم لوط ، وبالأكل ، وشرب الخمر عمدا وبتعمد القيء . نعم ، وبعضهم يسقط القضاء والكفارة عنه فيمن أخرج من بين أسنانه شيئا من طعامه فتعمد أكله ذاكرا لصومه ، ثم يوجبون الكفارة على من أفطر ممن أمره الله تعالى بالإفطار وأباحه له من مرضع خائفة على رضيعها التلف ، وشيخ كبير لا يطيق الصوم ضعفا ، وحامل تخاف على ما في بطنها ؛ وحسبك بهذا تخليطا ؛ ولا يحل قبول مثل هذا إلا من الذي { لا يسأل عما يفعل } وهو الله تعالى على لسان رسوله ﷺ .



771 - مسألة : ومن وطئ مرارا في اليوم عامدا فكفارة واحدة فقط ، ومن وطئ في يومين عامدا فصاعدا فعليه لكل يوم كفارة ، سواء كفر قبل أن يطأ الثانية أو لم يكفر : قال أبو حنيفة : عليه لكل ذلك - ولو أنه أفطر في كل يوم من رمضان عامدا - كفارة واحدة فقط إلا أن يكون قد كفر ثم أفطر نهارا آخر فعليه كفارة أخرى . وقد روي عنه : أنه سواء كفر أو لم يكفر ليس عليه إلا كفارة واحدة إذا كانت الأيام من شهر واحد ؛ فإن كان اليومان اللذان أفطر فيهما من شهر رمضان اثنين ، فلكل يوم منهما كفارة غير كفارة اليوم الآخر . فلم يختلف قوله فيمن تعمد الفطر أيام رمضان كلها أو بعضها أو يوما واحدا منها في أنه ليس عليه إلا كفارة واحدة فقط ، إذا لم يكفر في خلال ذلك ، ولم يختلف قوله فيمن أفطر يومين من رمضانين أن عليه كفارتين كفر بينهما أو لم يكفر . واختلف قوله فيمن أفطر يومين فصاعدا من رمضان واحد وكفر في خلال ذلك ؛ فمرة قال : عليه كفارة أخرى ، ومرة قال : ليس عليه إلا الكفارة التي كفر بعد . وقال مالك والليث ، والحسن بن حي ، والشافعي : مثل قولنا وهو عطاء ، وأحد قول الشافعي . قال أبو محمد : وهذا مما تناقض فيه أبو حنيفة وخالف فيه جمهور العلماء . برهان صحة قولنا - : أمر رسول الله ﷺ الذي وطئ امرأته في رمضان بالكفارة ، فصح أن لذلك اليوم الكفارة المأمور بها ، وكل يوم فلا فرق بينه وبين ذلك اليوم ؛ لأن الخطاب بالكفارة واقع عليه فيه كما وقع في اليوم الأول ولا فرق . فإن قيل : هلا قستم هذا على الحدود ؟ قلنا : القياس باطل ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ؛ لأن الحدود التي يقيمها الإمام والحاكم على المرء كرها ، ولا يحل للمرء أن يقيمها على نفسه ، بخلاف الكفارة التي إنما يقيمها المرء على نفسه وهو مخاطب بها على نفسه ، وليس مخاطبا بالحدود على نفسه ؛ وفروق أخر نذكرها إن شاء الله تعالى في الحدود ؟ وأيضا : فإن أبا حنيفة رأى إن كان اليومان من رمضانين فكفارتان ولا بد ؛ ولا خلاف منه في أنه لو زنى بامرأتين من بلدين مختلفتين في عامين مختلفين فحد واحد ، ولو شرب خمرا من عصير عام واحد ، وخمرا من عصير عام آخر فحد واحد ، ولو سرق في عامين مختلفين فقطع واحد - وبالله تعالى التوفيق . ومن أعجب الأشياء أن أبا حنيفة قال ما ذكرنا ، ورأى فيمن ظاهر من امرأتيه بلفظ واحد أن عليه لكل امرأة كفارة أخرى . وقال فيمن قال في مجلس : والله لا كلمت زيدا ، ثم قال في مجلس آخر : والله لا كلمت زيدا - : أنهما يمينان يجب عليه كفارتان ، ومن قال : والله والرحمن لا كلمت زيدا - : فعليه كفارتان إلا أن ينوي أنهما يمين واحدة . قال علي : وأما إذا كرر الوطء في يوم واحد مرارا فإن النبي ﷺ لم يأمره إلا بكفارة واحدة ولم يسأله أعاد أم لا ؟ وأيضا : فإنه إذا وطئ فقد أفطر ، فالوطء الثاني وقع في غير صيام فلا كفارة فيه ، وأيضا : فإن الواطئ بأول إيلاجه متعمدا ذاكرا وجبت عليه الكفارة عاود أو لم يعاود ، ولا كفارة في إيلاجه ثانية بالنص ، والإجماع ؟

772 - مسألة : ومن أفطر رمضان كله بسفر أو مرض فإنما عليه عدد الأيام التي أفطر ولا يجزئه شهر ناقص مكان تام ، ولا يلزمه شهر تام مكان ناقص لقول الله تعالى : { فعدة من أيام أخر } وقال الحسن بن حي : يجزئ شهر مكان شهر إذا صام ما بين الهلالين ولا برهان على صحة هذا القول .

773 - مسألة : وللمرء أن يفطر في صوم التطوع إن شاء ، لا نكره له ذلك ، إلا أن عليه إن أفطر عامدا قضاء يوم مكانه . برهان ذلك - : أن الشريعة كلها فرض وتطوع ، وهذا معلوم بنصوص القرآن ، والسنن ، والإجماع ، وضرورة العقل ، إذ لا يمكن قسم ثالث أصلا ؛ فالفرض هو الذي يعصي من تركه ؛ والتطوع هو الذي لا يعصي من تركه ولو عصى لكان فرضا ، والمفرط في التطوع تارك ما لا يجب عليه فرضا ، فلا حرج عليه في ذلك . وقد { أخبر رسول الله ﷺ الأعرابي الذي سأله عن الصوم فأخبره عليه السلام برمضان ؟ فقال : هل علي غيره ؟ قال : لا إلا أن تتطوع شيئا ؟ فقال الأعرابي : والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص منه ؛ فقال عليه السلام : أفلح إن صدق ، دخل الجنة إن صدق } فلم يجعل النبي ﷺ في ترك التطوع كراهة أصلا . وهكذا نقول فيمن قطع صلاة تطوع ، أو بدا له في صدقة تطوع ، أو فسخ عمدا حج تطوع ، أو اعتكاف تطوع ، ولا فرق لما ذكرنا ، وما عدا ذلك فدعوى لا برهان عليها ، وإيجاب ما لم يوجبه الله تعالى ولا رسوله ﷺ إلا أنه لا قضاء عليه في شيء مما ذكرنا إلا في فطر التطوع فقط لما نذكر إن شاء الله تعالى ؟ فإن قيل : إنكم توجبون فرضا في الصوم غير رمضان كالنذر وصيام الكفارات ؟ قلنا : نوجب ما أوجب رسول الله ﷺ ونضيفه إلى فرض رمضان ، ولا نوجب ما لم يوجب ولا نتعدى حدوده ولا نعارضه بآرائنا ، وقد جاءت في ذلك سنة - : كما حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب : أخبرني عبد الله بن الهيثم نا أبو بكر الحنفي نا سفيان عن طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله عن مجاهد عن عائشة أم المؤمنين قالت : { إن رسول الله ﷺ أتانا يوما فقال : هل عندكم من شيء ؟ قلنا : نعم ، أهدي لنا حيس ؟ فقال : أما إني أصبحت أريد الصوم فأكل } . وقد رويناه من طريق عائشة بنت طلحة عن أم المؤمنين ؟ قال علي : وهذه سنة ثابتة ، نا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد نا الفربري نا البخاري نا محمد بن بشار نا جعفر بن عون نا أبو العميس هو عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال : { آخى النبي ﷺ بين سلمان ، وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها : ما شأنك ؟ قالت : أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا ، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال : كل قال فإني صائم ؛ قال سلمان : ما أنا بآكل حتى تأكل ؟ فأكل } ، وذكر باقي الحديث . وفيه : { أن سلمان قال له : إن لربك عليك حقا ، وإن لنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه ، فأتى النبي ﷺ فقال عليه السلام : صدق سلمان } فهذا النبي ﷺ قد صوب قول سلمان في إفطار الصائم المتطوع ولم ينكره : ومن طريق ابن أبي شيبة عن أبي داود عمر بن سعد الحفري عن سفيان الثوري عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة قال : { أتي النبي ﷺ بطعام وهو بمر الظهران فقال لأبي بكر وعمر ادنوا فكلا ؟ قالا : إنا صائمان ، فقال رسول الله ﷺ ارحلوا لصاحبكم ، اعملوا لصاحبكم ، ادنوا فكلا } . وهذه كلها آثار صحاح ، وبهذا يقول جمهور السلف . روينا من طريق وكيع عن سيف بن سليمان المكي عن قيس بن سعد عن داود بن أبي عاصم عن سعيد بن المسيب قال : خرج عمر بن الخطاب يوما على أصحابه فقال : إني أصبحت صائما فمرت بي جارية لي فوقعت عليها فما ترون ؟ قال : فلم يألوا ما شكوا عليه ، وقال له علي : أصبت حلالا وتقضي يوما مكانه ؛ قال له عمر : أنت أحسنهم فتيا . ومن طريق وكيع عن مسعر بن كدام عن عمران بن عمير عن سعيد بن جبير عن ابن عمر في الذي يأكل بعد أن أصبح صائما قال ابن عمر : لا جناح عليه ما لم يكن نذرا أو قضاء ومن طريق وكيع عن الربيع بن صبيح عن قيس بن سعد عن ابن عباس قال : الصيام تطوعا والطواف والصلاة والصدقة إن شاء مضى وإن شاء قطع . وروينا أنه كان يصبح متطوعا ثم يفطر ولا يبالي ويأمر بقضاء يوم مكانه . وعن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه كان لا يرى بإفطار التطوع بأسا . وهو قول سعيد بن جبير ، وعطاء ، وسليمان بن موسى ؛ والشافعي ، وأبي سليمان ، إلا أنهما لم يريا في ذلك قضاء . وقال مالك : إن أفطر فيه ناسيا يتم صومه ولا شيء عليه وإن أفطر فيه عمدا فقد أساء ويقضي . قال علي : ولا برهان على صحة هذا القول مع خلافه لمن ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم : أبي بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وجابر بن عبد الله ، وأم المؤمنين وغيرهم . وأما إيجابنا القضاء فلما حدثناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا أحمد بن عيسى عن ابن وهب عن جرير بن حازم عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة { عن عائشة قالت : أصبحت صائمة أنا وحفصة أهدي لنا طعام فأعجبنا فأفطرنا فدخل النبي ﷺ فبدرتني حفصة فسألته ؟ فقال : صوما يوما مكانه } . قال علي : لم يخف علينا قول من قال : إن جرير بن حازم أخطأ في هذا الخبر ، إلا أن هذا ليس بشيء لأن جريرا ثقة ؛ ودعوى الخطأ باطل إلا أن يقيم المدعي له برهانا على صحة دعواه ؛ وليس انفراد جرير بإسناده علة ، لأنه ثقة . قال أبو محمد : لا خلاف بين أحد في أن حكم ما أفطر به من جماع أو غيره حكم واحد ، فمن موجب للقضاء في كل ذلك ، ومسقط له في كل ذلك ؛ وقد صح النص بالقضاء في الإفطار فما نبالي بأي شيء أفطر ؛ وبالله تعالى التوفيق . وأما تفريق مالك بين الإفطار ناسيا في صوم تطوع أو فرض فخطأ لا وجه له ، وليس إلا صائم أو مفطر ، فإن كان مفطرا فالحكم واحد في القضاء أو تركه ؛ وإن كان صائما فلا قضاء على صائم .

774 - مسألة : ومن أفطر عامدا في قضاء رمضان فليس عليه إلا قضاء يوم واحد فقط ؛ لأن إيجاب القضاء إيجاب شرع لم يأذن به الله تعالى . وقد صح أنه عليه السلام قضى ذلك اليوم من رمضان فلا يجوز أن يزاد عليه غيره بغير نص ولا إجماع . وروينا عن قتادة أن عليه الكفارة كمن فعل ذلك في رمضان ؛ لأنه بدل منه . قال أبو محمد : هذا أصح ما يكون من القياس إن كان القياس حقا ، وعن بعض السلف - : عليه قضاء يومين ، يوم رمضان ، ويوم القضاء - .



775 - مسألة : ومن مات وعليه صوم فرض من قضاء رمضان ، أو نذر أو كفارة واجبة ففرض على أوليائه أن يصوموه عنه هم أو بعضهم ، ولا إطعام في ذلك أصلا - أوصى به أو لم يوص به - فإن لم يكن له ولي استؤجر عنه من رأس ماله من يصومه عنه ولا بد - أوصى بكل ذلك أو لم يوص - وهو مقدم على ديون الناس . وهو قول أبي ثور ، وأبي سليمان ، وغيرهما . وقال أبو حنيفة ، ومالك : إن أوصى أن يطعم عنه أطعم عنه مكان كل يوم مسكين ، وإن لم يوص بذلك فلا شيء عليه . والإطعام عند مالك في ذلك مد مد ، وعند أبي حنيفة صاع من غير البر لكل مسكين ، نصف صاع من البر أو دقيقه . وقال الليث كما قلنا . وهو قول أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه في النذر خاصة . قال أبو محمد : قال الله تعالى { من بعد وصية يوصي بها أو دين } . نا عبد الله بن يوسف ، وعبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ، قال عبد الله : نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج حدثني هارون بن سعيد الأيلي ، وأحمد بن عيسى نا ابن وهب ، وقال عبد الرحمن : نا إبراهيم بن أحمد الفربري نا البخاري نا محمد بن موسى بن أعين نا أبي . ثم اتفق موسى ، وابن وهب كلاهما عن عمرو بن الحارث عن عبيد الله بن أبي جعفر حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله ﷺ قال : { من مات وعليه صيام صام عنه وليه } وبه إلى مسلم - : نا أبو سعيد الأشج نا أبو خالد الأحمر نا الأعمش عن سلمة بن كهيل ، والحكم بن عتيبة ، ومسلم البطين عن سعيد بن جبير ، وعطاء ، ومجاهد عن ابن عباس : { أن سائلا سأل النبي ﷺ فقال : إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال رسول الله ﷺ : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم ، قال : فدين الله أحق أن يقضى } . قال أبو محمد : سمعه الأعمش من مسلم البطين ، ومن الحكم ، ومن سلمة ، وسمعه الحكم ، وسلمة من مجاهد . وبه إلى مسلم - : نا أبو بكر بن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وعلي بن حجر السعدي ، قال أبو بكر : نا عبد الله بن نمير ، وقال عبد : نا عبد الرزاق أنا سفيان الثوري . وقال علي بن حجر : نا علي بن مسهر ، ثم اتفق ابن نمير ، وسفيان ، وعلي بن مسهر ، كلهم عن عبد الله بن عطاء المكي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : { بينما أنا جالس عند رسول الله ﷺ إذ أتته امرأة فقالت : إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت ؟ فقال رسول الله ﷺ وجب أجرك وردها عليك الميراث ؟ قالت : يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها ؟ قال : صومي ، قالت : إنها لم تحج قط أفأحج عنها ؟ قال : حجي عنها } . قال ابن نمير في روايته : شهرين ، واتفقوا على كل ما عدا ذلك . قال أبو محمد : فهذا القرآن ، والسنن المتواترة المتظاهرة التي لا يحل خلافها ، وكلهم يقول : يحج عن الميت إن أوصى بذلك ، ثم لا يرون أن يصام عنه وإن أوصى بذلك ، وكلاهما عمل بدن ، وللمال في إصلاح ما فسد منهما مدخل بالهدي ، وبالإطعام ، وبالعتق ، فلا القرآن اتبعوا ، ولا بالسنن أخذوا ولا القياس عرفوا ، وشغلوا في ذلك بأشياء - : منها : أنهم ذكروا قول الله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } . وذكروا قول رسول الله ﷺ { إذا مات الميت انقطع عمله إلا من ثلاث : علم علمه ، أو صدقة جارية ، أو ولد صالح يدعو له } . وبأثر رويناه من طريق عبد الرزاق عن إبراهيم بن أبي يحيى عن الحجاج بن أرطاة عن عبادة بن نسي أن رسول الله ﷺ قال : { من مرض في رمضان فلم يزل مريضا حتى مات لم يطعم عنه ، وإن صح فلم يقضه حتى مات أطعم عنه } وقال بعضهم : قد روي عن عائشة ، وابن عباس - وهما رويا الحديث المذكور - أنهما لم يريا الصيام عن الميت كما رويتم من طريق ابن أبي شيبة عن جرير بن عبد الحميد عن عبد العزيز بن رفيع عن امرأة منهم اسمها عمرة : أن أمها ماتت وعليها من رمضان فقالت لعائشة : أقضيه عنها ؟ قالت : لا ، بل تصدقي عنها مكان كل يوم نصف صاع على كل مسكين . وإذا ترك الصاحب الخبر الذي روي فهو دليل على نسخه لا يجوز أن يظن به غير ذلك ، إذ لو تعمد ما رواه لكانت جرحة فيه ، وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك . وقالوا : لا يصام عنه كما لا يصلى عنه ؟ قال أبو محمد : هذا كل ما موهوا به ، وهو كله لا حجة لهم في شيء منه ، أما قول الله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } فحق إلا أن الذي أنزل هذا هو الذي أنزل { من بعد وصية يوصي بها أو دين } . وهو الذي قال لرسوله ﷺ { لتبين للناس ما نزل إليهم } . وهو الذي قال : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } . فصح أنه ليس للإنسان إلا ما سعى ، وما حكم الله تعالى أو رسوله ﷺ أن له من سعي غيره عنه ، والصوم عنه من جملة ذلك . والعجب أنهم نسوا أنفسهم في الاحتجاج بهذه الآية فقالوا : إن حج عن الميت ، أو أعتق عنه ، أو تصدق عنه ، فأجر كل ذلك له ولا حق به ، فظهر تناقضهم ؟ فإن قال منهم قائل : إنما يحج عنه إذا أوصى بذلك ، لأنه داخل فيما سعى ؟ قلنا له : فقولوا : بأن يصام عنه كما إذا أوصى بذلك لأنه داخل فيما سعى . فإن قالوا : للمال في الحج مدخل في جبر ما نقص منه ؟ قلنا : وللمال في الصوم مدخل في جبر ما نقص منه بالعتق والاطعام ؛ وكل هذا منهم تخليط ، وتناقض ، وشرع في الدين لم يأذن به الله تعالى وهم يجيزون العتق عنه ، والصدقة عنه - وإن لم يوص بذلك - فبطل تمويههم بهذه الآية ؟ . وأما إخباره عليه السلام بأن عمل الميت ينقطع إلا من ثلاث ، فصحيح ، والعجب أنهم لم يخافوا الفضيحة في احتجاجهم به وليت شعري من قال لهم : إن صوم الولي عن الميت هو عمل الميت حتى يأتوا بهذا الخبر الذي ليس فيه إلا انقطاع عمل الميت فقط ، وليس فيه انقطاع عمل غيره أصلا ، ولا المنع من ذلك ؛ فظهر قبح تمويههم في الاحتجاج بهذا الخبر جملة ؟ وأما حديث عبد الرزاق فلا تحل روايته إلا على سبيل بيان فسادها لعلل ثلاث فيه : إحداها - أنه مرسل ، والثانية : أن فيه الحجاج بن أرطاة ، وهو ساقط ، والثالثة : أن فيه إبراهيم بن أبي يحيى وهو كذاب . ثم لو صح لكان عليهم لا لهم ؛ لأن فيه إيجاب الإطعام عنه إن صح بعد أن مرض ، والحنفيون ، والمالكيون لا يقولون بذلك ، إلا أن يوصي بذلك ، وإلا فلا . فإن قالوا : معنى ذلك إن أوصى به ؟ قلنا : كذبتم وزدتم في الخبر خلاف ما فيه ، لأن فيه { إن مات ولم يصح لم يطعم عنه } فلو أراد إلا أن يوصي بذلك لما كان لتفريقه بين تمادي مرضه حتى يموت فلا يطعم عنه ، وبين صحته بين مرضه وموته فيطعم عنه ؛ لأنه إن أوصى بالإطعام عنه ، وإن لم يصح أطعم عنه عندهم ؛ فبطل تمويههم بهذا الخبر الهالك وعاد حجة عليهم . وأما تمويههم بأن عائشة ، وابن عباس رويا الخبر وتركاه فقول فاسد لوجوه : أحدها - أنه لا يجوز ما قالوا ، لأن الله تعالى إنما افترض علينا اتباع رواية الصاحب عن النبي ﷺ ولم يفترض علينا قط اتباع رأي أحدهم . والثاني : أنه قد يترك الصاحب اتباع ما روى لوجوه غير تعمد المعصية ، وهي أن يتأول فيما روى تأويلا ما اجتهد فيه فأخطأ فأجر مرة ، أو أن يكون نسي ما روى فأفتى بخلافه ؛ أو أن تكون الرواية عنه بخلافه وهما ممن روى ذلك عن الصاحب ؛ فإذ كل ذلك ممكن فلا يحل ترك ما افترض علينا اتباعه من سنن رسول الله ﷺ لما لم يأمرنا باتباعه لو لم يكن فيه هذه العلل فكيف وكلها ممكن فيه ؟ ولا معنى لقول من قال : هذا دليل على نسخ الخبر ، لأنه يعارض بأن يقال : كون ذلك الخبر عند ذلك الصاحب دليل على ضعف الرواية عنه بخلافه ، أو لعله قد رجع عن ذلك . والثالث : أنهم إنما يحتجون بهذه الجملة إذا وافقت تقليد أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأما إذا خالف قول الصاحب رأي أحد ممن ذكرنا فأهون شيء عندهم إطراح رأي الصاحب والتعلق بروايته وهذا فعل يدل على رقة الدين وقلة الورع ؟ فمن ذلك : أن عائشة رضي الله تعالى عنها روت { فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فلما هاجر رسول الله ﷺ زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على الحالة الأولى } . ثم روي عنها من أصح طريق الإتمام في السفر ؛ فتعلق الحنفيون ، والمالكيون بروايتها وتركوا رأيها ، إذ خالفت فيه ما روت ، وهي التي روت { أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل } ثم أنكحت بنت أخيها عبد الرحمن المنذر بن الزبير وأبوها غائب بالشام بغير إذنه ، وأنكر ذلك إذ بلغه أشد الإنكار ، فخالفوا رأيها واتبعوا روايتها . وهي التي روت التحريم بلبن الفحل ثم كانت لا - تدخل عليها من أرضعه نساء إخوتها ، - وتدخل عليها من أرضعه بنات أخواتها ، فتركوا رأيها واتبعوا روايتها . وروى أبو هريرة من طريق لا تصح عنه : إيجاب القضاء على من تعمد الفطر في نهار رمضان ، وصح عنه أنه لا يجزئه صيام الدهر وإن صامه وأنه لا يقضيه ، فتركوا الثابت من رأيه للهالك من روايته . وروى أبو هريرة في البحر { هو الطهور ماؤه الحل ميتته } ثم روينا عنه من طريق سعيد بن منصور عن إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية - عن هشام الدستوائي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة ماءان لا يجزئان من غسل الجنابة : ماء البحر وماء الحمام . وروي عن ابن عباس في صدقة الفطر " مدان من قمح " من طريق لا تصح ، وصح عنه من رأيه صاع من بر في صدقة الفطر فترك الحنفيون رأيه لروايته ، وهذا كثير منهم جدا وفيما ذكرنا كفاية تحقق تلاعب القوم بدينهم . والرابع - أن نقول : لعل الذي روي عن عائشة فيه الإطعام كأن لم يصح حتى ماتت فلا صوم عليها ؟ والخامس - أنه قد روي عن ابن عباس الفتيا بما روي من الصوم عن الميت كما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى ؛ فصح أنه قد نسي ، أو غير ذلك مما الله تعالى أعلم به ممن لم نكلفه . وقد جاء عن السلف في هذا أقوال - : روينا عن حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن أبي يزيد المدني : أن رجلا قال لأخيه عند موته : إن علي رمضانين لم أصمهما فسأل أخوه ابن عمر فقال : بدنتان مقلدتان ، ثم سأل ابن عباس ؟ فقال ابن عباس : يرحم الله أبا عبد الرحمن ما شأن البدن وشأن الصوم ، أطعم عن أخيك ستين مسكينا ؟ قال أبو محمد : إن لم يكن قال ابن عمر في البدنتين حجة فليس قول ابن عباس في الإطعام حجة ولا فرق ؛ ولعل هذا لم يكن مطيقا للصوم ، أو لعل ذينك الرمضانين كانا عن تعمد فلا قضاء في ذلك . روينا من طريق سليمان التيمي : أن عمر بن الخطاب قال : إذا مات الرجل عليه صيام رمضان أطعم عنه مكان كل يوم نصف صاع من بر . ومن طريق صحيحة عن ابن عباس : إن مات الذي عليه صوم ولم يصح قبل موته ليس عليه شيء فإن صح أطعم عنه عن كل يوم نصف صاع حنطة . وعن الحسن إن لم يصح حتى مات فلا شيء عليه ، فإن صح فلم يقض صومه حتى مات أطعم عنه عن كل يوم مكوك من بر ، ومكوك من تمر . وروي أيضا عن طائفة مد عن كل يوم ، وقد جاء عن الحسن : لا إطعام في ذلك ولا صيام ، وأيضا فإن احتجاج المالكيين والشافعيين بترك عائشة ، وابن عباس للخبر المذكور هو حجة عليهم لأنهم خالفوا عائشة في هذا الخبر نفسه في قولها أن يطعم عن كل يوم نصف صاع لمسكين ، وهم لا يقولون : بهذا ، فإن كان ترك عائشة للخبر حجة ، فقولها في نصف صاع حجة ، وإن لم يكن قولها في نصف صاع حجة فليس تركها للخبر حجة ، فظهر أنهم إنما يحتجون من قول الصاحب بما وافق تقليدهم فقط ؛ فإذا خالف من قلدوه هان عليهم خلاف الصاحب ، وهذا دليل سوء نعوذ بالله منه . وأما قول أحمد فروينا من طريق أبي ثور نا عبد الوهاب هو ابن عطاء - عن سعيد بن أبي عروبة ، وروح بن القاسم عن علي بن الحكم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال فيمن مات وعليه رمضان ونذر شهر : يطعم عنه مكان كل يوم مسكين ويصوم عنه وليه نذره . ومن طريق ابن أبي شيبة : نا ابن علية عن علي بن الحكم البناني عن ميمون بن مهران عن ابن عباس سئل عن رجل مات وعليه رمضان وصوم شهر فقال : يطعم عنه لرمضان ويصام عنه النذر ، وهذا إسناد صحيح ؛ فإن كان ترك ابن عباس لما ترك من الخبر حجة فأخذه بما أخذ منه حجة ، وإن لم يكن أخذه بما أخذ به حجة فتركه ما ترك ليس بحجة وما عدا هذا فتلاعب بالدين . وأما قولنا فروينا من طريق أبي ثور نا عبد الوهاب عن سعيد بن أبي عروبة قال : حدثوني عن قتادة عن سعيد بن المسيب : أنه قال فيمن مات وعليه رمضان : إن لم يجدوا ما يطعم عنه صامه عنه وليه ، وهو قول الأوزاعي . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه إذا مات الرجل وعليه صيام رمضان قضى عنه بعض أوليائه ، قال معمر : وقال حماد بن أبي سليمان . وبه إلى معمر عن الزهري : من مات وعليه نذر صيام فإنه يصوم عنه بعض أوليائه . قال أبو محمد : ليس قول بعض الصحابة رضي الله عنهم أولى من بعض ، وكل ما ذكرنا فهو مخالف لقول أبي حنيفة والشافعي ؛ لأن كل من ذكرنا فقد أوجب ما أوجب من غير اشتراط أن يوصي الميت بذلك . وقال أبو حنيفة ، ومالك : لا شيء في ذلك إلا أن يوصي بالإطعام فيطعم عنه وما نعلم أحدا قبلهم قال بهذا ؛ إلا رواية عن الحسن قد صح عنه خلافها . وأما قولهم : لا يصام عنه كما لا يصلى عنه ؛ فباطل وقياس للخطأ على الخطأ بل يصلى عنه النذر ، وصلاة فرض إن نسيها أو نام عنها ولم يصلها حتى مات ؛ فهذا دخل تحت ، قول رسول الله ﷺ " فدين الله أحق أن يقضى " . والعجب أنهم كلهم أجمعوا على أن تصلى الركعتان إثر الطواف عن الميت الذي يحج عنه ؛ وهذا تناقض منهم لا خفاء به . وهذا قول إسحاق بن راهويه في قضاء الصلاة عن الميت . وقال الشافعي : إن صح الخبر قلنا به وإلا فيطعم عنه مد عن كل يوم . وإنما قلنا : إن الاستئجار لذلك إن لم يكن له ولي من رأس المال مقدم على ديون الناس لقول النبي ﷺ : { فدين الله أحق أن يقضى } . قال أبو محمد : من الكبائر أن يقول قائل : بل دين الناس أحق أن يقضى من دين الله تعالى عز وجل وقد سمع هذا القول .

776 - مسألة : فإن صامه بعض أوليائه أجزأ ؛ لعموم الخبر في ذلك ، وإن كانوا جماعة فاقتسموه جاز كذلك أيضا إلا أنه لا يجزئ أن يصوموا كلهم يوما واحدا لقول الله تعالى : { فعدة من أيام أخر } . فلا بد من أيام متغايرة ، فلو لم يصح حتى مات فلا شيء على أوليائه ولا عليه ؛ لأن الأثر إنما جاء فيمن مات وعليه صوم ، وهذا مات وليس عليه صوم لقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فإذا لم يكن في وسعه الصوم فلم يكلف ، وإذا لم يكلفه فقد مات ولا صوم عليه . والأولياء هم ذوو المحارم بلا شك ولو صامه الأبعد من بني عمه أجزأ عنه ، لأنه وليه ، فإن أبوا من الصوم فهم عصاة لله تعالى ولا شيء على الميت من ذلك الصوم ؛ لأنه قد نقله الله تعالى عنه إليهم بقول رسول الله ﷺ { من مات وعليه صوم صام عنه وليه } . وبأمره عليه السلام الولي أن يصوم عنه .

777 - مسألة : فإن تعمد النذور ليوقعها على وليه بعد موته فليس نذرا ولا يلزمه هو ولا وليه بعده ، وهو عاص لله تعالى بذلك ، وقد صح عن النبي ﷺ ما حدثناه عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الله بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج حدثني علي بن حجر نا إسماعيل بن إبراهيم نا أيوب هو السختياني - عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن الحصين أن رسول الله ﷺ قال : { لا وفاء لنذر في معصية الله } . قال علي : وهذا النذر إنما يكون نذرا إذا قصد به الله تعالى فيلزم حينئذ فإذا قصد به غير الله تعالى فهو معصية لا يحل الوفاء به ولا يلزم صاحبه ولا غيره - وبالله تعالى التوفيق .

778 - مسألة : ومن نذر صوم يوم فأكثر ، شكرا لله عز وجل ، أو تقربا إليه تعالى ، أو إن فاق ، أو إن أراه الله تعالى أملا يأمله لا معصية لله عز وجل في ذلك الشيء المأمول ، ففرض عليه أداؤه . قال عز وجل : { أوفوا بالعقود } - : نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا القعنبي عن مالك عن طلحة بن عبد الملك الأيلي عن القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين قالت : قال رسول الله ﷺ : { من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه } فهذا عموم لكل نذر معصية كمن نذرت صوم يوم حيضتها أو صوم يوم العيد ، ونحو ذلك من كل معصية .

779 - مسألة : فإن نذر ما ليس طاعة ولا معصية كالقعود في دار فلان أو أن لا يأكل خبزا مأدوما أو ما أشبه هذا لم يلزمه ، ولا حكم لهذا إلا استغفار الله تعالى منه ، لأن إيجاب النذر شريعة ، والشرائع لا تلزم إلا بنص ولا نص إلا في نذر الطاعة فقط .

780 - مسألة : وينهى عن النذر جملة فإن وقع لزم كما قدمنا ، روينا بالسند المذكور إلى أبي داود نا عثمان بن أبي شيبة نا جرير بن عبد الحميد عن منصور هو ابن المعتمر - عن عبد الله بن مرة الهمداني عن عبد الله بن عمر قال : { أخذ رسول الله ﷺ ينهى عن النذر ويقول لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من البخيل } ففي قوله عليه السلام { وإنما يستخرج به من البخيل } إيجاب للوفاء به إذا وقع في طاعة الله تعالى .

781 - مسألة : ومن قال علي لله تعالى صوم يوم أفيق ، أو قال : يوم يقدم فلان ، أو قال يوم أنطلق من سجني ، أو ما أشبه هذا فكان ما رغب فيه ليلا أو نهارا : لم يلزمه صيام ذلك اليوم ولا قضاؤه ولا صوم غيره ؛ لأنه إن كان ما رغب فيه ليلا فلم يكن في يوم فلا يلزمه ما لم يلتزمه ، وإن كان نهارا فلا يمكنه إحداث صوم لم يبيته من الليل ولا تقدم إلزام الله تعالى له إياه ، ولا يلزمه صيام يوم آخر ؛ لأنه لم يلتزمه - وهذا قول أبي حنيفة ، والشافعي - وقال الأوزاعي : إن قدم نهارا صام بقية ذلك اليوم ولا قضاء عليه ، وقال مالك : إن قدم ليلا صام الناذر غد تلك الليلة

782 - مسألة : فلو قال في كل ذلك : علي صوم ذلك اليوم أبدا فإن كان ليلا لم يلزمه كما قدمنا ، لأنه لم يلتزمه ولا يلزم صيام الليل ، لأنه معصية ، فإن كان نهارا لزمه في المستأنف صوم ذلك اليوم إذا تكرر كما نذره ولا قضاء عليه في يومه ذلك ، لأنه غير ما نذر .

783 - مسألة : ومن أفطر في صوم نذر عامدا أو لعذر فلا قضاء عليه إلا أن يكون نذر أن يقضيه فيلزمه ، لأنه إذا لم ينذر القضاء فلا يجوز أن يلزم ما لم ينذره ؛ إذ لم يوجب ذلك نص .

784 - مسألة : ومن نذر صوم يومين فصاعدا أجزأه أن يصوم ذلك متفرقا لأنه غير مخالف لما نذر .

785 - مسألة : فلو نذر صوم جمعة أو قال : شهر لم يجز أن يصوم ذلك إلا متتابعا ولا بد ؛ فإن تعمد في خلال ذلك فطرا لعذر أو لغير عذر : ابتدأه من أوله لأن اسم الجمعة والشهر لا يقع إلا على أيام متتابعة لا متفرقة ، فإنما يلزمه ما نذر لا ما لم ينذر ؛ فإن لم يتابع ذلك فلم يأت بما نذر فعليه أن يأتي به .

786 مسألة : ومن نذر صوم جمعتين أو قال : شهرين ، ولم ينذر التتابع في ذلك لزمه أن يصوم كل جمعة متتابعة ولا بد ، وكل شهر متتابعا ولا بد ، وله أن يفرق بين الجمعة والجمعة ، وبين الشهر والشهر لما ذكرنا آنفا إلا أن ينذرهما متتابعين فيلزمه ذلك ؛ لأنه طاعة زائدة .

787 - مسألة : فإن صام الشهر ما بين الهلالين لزمه إتمامه ، فإن ابتدأ صيامه بعد دخول الشهر لم يلزمه إلا تسعة وعشرون يوما متصلة ولا بد لقول رسول الله ﷺ { الشهر تسعة وعشرون } وأن الشهر يكون تسعا وعشرين فلا يلزمه زيادة يوم إلا بنص وارد ولا نص في ذلك ؛ وإنما يلزمه ما يقع عليه اسم ما نذر من شهر أو أكثر فقط ؛ فإن نذر نصف شهر لم يلزمه إلا أربعة عشر يوما ، لأن كسر يوم لا يلزمه صيامه لمن نذره ، ولا يجوز أن يلزم يوما زائدا لم ينذره .



788 - مسألة : ومن نذر صوم سنة فقد قال قوم : يصوم اثني عشر شهرا لا يعد فيها رمضان ، ولا يوم الفطر ، والأضحى ، ولا أيام التشريق ، وفي هذا عندنا نظر والواجب عندنا أن لا يلزمه شيء ؛ لأن هذه الفتيا إلزام له ما لم ينذره ؛ لأن اسم سنة لا يقع إلا على اثني عشر شهرا متصلة لا مبددة ، وهو لا يقدر على الوفاء بنذره كما نذره ؛ فلا يجوز أن يلزم ما لم يلتزمه ولا نذره ، ولا أن يلتزم ما لم يمكن ، وما ليس في وسعه قال الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ومن ادعى هاهنا إجماعا فقد كذب ؛ لأنه لا يقدر على أن يأتي في ذلك برواية عن صاحب أصلا ، ولا نعلم في ذلك قولا عن تابع . وقد قال فيها أبو حنيفة يفطر فيها يومي الفطر والأضحى وأيام التشريق ، ثم يقضيها . وقال زفر : يفطر الأيام المذكورة ، ولا يقضيها . وقال مالك : يصوم ، ويفطر الأيام المذكورة ، ولا يقضي رمضان ، ولا الأيام المذكورة ، إلا أن ينوي قضاءها . وقال الليث : يصوم ويقضي رمضان ويومين مكان الفطر والأضحى ، ويصوم أيام التشريق . [ قال أبو محمد : فهذه الأقوال إما موجبة عليه ما لم ينذره ولا التزمه ، وإما مسقطة عنه ما نذر ] . قال أبو محمد : إن كان نذر صوم هذه الأيام وصوم رمضان عن نذره ؛ فقد نذر الضلال والباطل ، وأمرا مخالفا لدين الإسلام ؛ فلا يلزمه نذره ذلك لأنه معصية ، ولا يلزم صوم سائر الأيام لأنه غير ما نذر ، وكل طاعة مازجتها معصية فهي كلها معصية ، لأنه لم يأت بالطاعة كما أمر ، قال تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } . فإن نذر أن يصوم سنة حاشا رمضان والأيام المنهي عن صيامها لزمه ذلك ، لأنه نذر طاعة ؛ وكذلك لو نذر صوم شوال ، أو صوم ذي الحجة ، أو صوم شعبان فلا يلزمه شيء لما ذكرنا إلا أن ينوي استثناء ما لا يجوز صومه من الأيام فيلزمه ذلك .

789 - مسألة : ومن كان عليه صوم يوم بعينه نذرا فإذا جاء رمضان لزمه فرضا أن يصوم ذلك اليوم لرمضان لا للنذر أصلا ؛ فإن صامه لنذره أو لرمضان ولنذره فالإثم عليه ولا يجزئه لا لنذره ولا لرمضان ؛ لأن أمر الله تعالى متقدم لنذره فليس له أن يصوم رمضان ولا شيئا منه لغير ما أمره الله تعالى بصيامه مخلصا له ذلك - وبالله تعالى التوفيق ؛ ولا قضاء عليه فيه لما ذكرناه .

790 - مسألة : وأفضل الصوم بعد الصيام المفروض صوم يوم وإفطار يوم . ولا يحل لأحد أن يصوم أكثر من ذلك أصلا ، والزيادة عليه معصية ممن قامت عليه بها الحجة ، ولا يحل صوم الدهر أصلا : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد نا الفربري نا البخاري نا محمد بن مقاتل نا عبد الله بن المبارك أنا الأوزاعي نا يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال : حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال لي رسول الله : { يا عبد الله بن عمرو ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ؟ قلت : بلى يا رسول الله قال : فلا تفعل ، صم وأفطر وقم ونم ؛ فإن لجسدك عليك حقا وإن لعينك عليك حقا ، وإن لزوجك عليك حقا ، وإن لزورك عليك حقا ؛ وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها فإذا ذلك صيام الدهر كله فشددت فشدد علي قلت : يا رسول الله إني أجد قوة ؟ قال فصم صيام نبي الله داود ولا تزد عليه ، قلت : وما كان صيام نبي الله داود ؟ قال : نصف الدهر } . ومن طريق البخاري عن أبي اليمان الحكم بن نافع عن شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله ﷺ وذكر الحديث . وفيه : { أن عبد الله بن عمرو قال عليه السلام إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : فصم يوما وأفطر يوما ؟ قلت : إني أطيق أفضل من ذلك ؟ قال : لا أفضل من ذلك } . قال أبو محمد : فصح نهي النبي ﷺ عن الزيادة على صيام يوم وإفطار يوم ونعوذ بالله من مواقعة نهيه ، وإذ أخبر عليه السلام أنه لا أفضل من ذلك فقد صح أن من صام أكثر من ذلك فقد انحط فضله فإذا انحط فضله فقد حبطت تلك الزيادة بلا شك وصار عملا لا أجر له فيه بل هو ناقص من أجره ؛ فصح أنه لا يحل أصلا . قال علي : ومن طرائف المصائب قول بعض من يتكلم في العلم بما هو عليه لا له : قال : قد جاء هذا الحديث وفيه أنه عليه السلام قال : { فصم صوم داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى } فقال : إنما هذا الحكم لمن لا يفر إذا لاقى . قال أبو محمد : فجمع هذا الكلام الملعون وجهين من الضلال - : أحدهما : الكذب على رسول الله ﷺ بما لم يخبر به بل قد أمر عليه السلام بذلك عبد الله بن عمرو وقطع بأنه لا صوم أفضل من صوم داود . والثاني : أنه تأويل سخيف لا يعقل ؛ لأنه لا شك في أن من لا يفر في سبيل الله إذا لاقى أفضل ممن يفر ؛ فإذا كان حكم الأفضل أن لا يتزيد من الفضل في الصيام ويمنع من ذلك ؛ فهذه شريعة إبليس لا شريعة محمد ﷺ . نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا عبيد الله بن معاذ هو ابن معاذ العنبري نا أبي نا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت سمع أبا العباس هو السائب بن فروخ المكي - سمع عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله ﷺ { لا صام من صام الأبد } . ورويناه من طريق البخاري نا آدم نا شعبة فذكره بإسناده المذكور ، وفيه : أن رسول الله ﷺ قال : { لا صام من صام الدهر } . ومن طريق أبي قتادة { عن رسول الله ﷺ أنه قال - : وقد ذكر له من يصوم الدهر - فقال عليه السلام لا صام ولا أفطر ، أو ما صام ولا أفطر } . وكذلك نصا من طريق مطرف عن عبد الله بن الشخير عن أبيه ، وعمران بن الحصين كلاهما { عن رسول الله ﷺ أنه قال فيمن صام الدهر لا صام ولا أفطر } فقد صح أنه حبط صومه ولم يفطر . وهذه أخبار متظاهرة متواترة لا يحل الخروج عنها . ومن عجائبهم أنهم قالوا : إنما لا يجوز إذا صام الدهر ولم يفطر الأيام المنهي عنها ؟ فقلنا : كذب من قال هذا لأن رسول الله ﷺ منع ونهى عن الزيادة على نصف الدهر وأبطل أجر من زاد . قال أبو محمد : وشغب من خالفنا بأن ذكر حديث { حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال : يا رسول الله إني أسرد الصوم أفأصوم في السفر ؟ قال : إن شئت فصم وإن شئت فأفطر } . وبخبر رويناه من طريق زيد بن الحباب : أخبرني ثابت عن قيس الغفاري حدثني أبو سعيد المقبري حدثني أبو هريرة عن أسامة بن زيد قال : { كان رسول الله ﷺ يسرد الصوم فيقال : لا يفطر } . قال أبو محمد : لا حجة لهم في هذين الخبرين ، لأن السرد إنما هو المتابعة لا صوم أكثر من نصف الدهر ، يبين ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي أوردناه . وحديث عائشة الذي رويناه من طريق مسلم بن الحجاج نا أبو بكر بن أبي شيبة نا سفيان بن عيينة عن ابن أبي لبيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال : { سألت عائشة أم المؤمنين عن صيام رسول الله ﷺ فقالت : كان يصوم حتى نقول : قد صام ويفطر حتى نقول : قد أفطر ، ولم أره صائما من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان ، كان يصوم شعبان كله ، كان يصوم شعبان إلا قليلا } . فهذه أم المؤمنين بينت السرد الذي ذكره أسامة ، والذي ذكره حمزة بن عمرو في حديثه ، فبطل أن يكون لهم متعلق بشيء من الآثار . وموهوا أيضا بما رويناه من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن أبيه أن عائشة كانت تصوم الدهر ؛ قلت : الدهر ؟ قال : كانت تسرد . ومن طريق حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : كان عمر يسرد الصوم . وعنه أيضا أنه سرد الصوم قبل موته بسنتين . ومن طريق عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان هو الضبعي - عن ثابت البناني عن أنس قال : كان أبو طلحة قل ما يصوم على عهد رسول الله ﷺ من أجل العدو ، فلما توفي النبي ﷺ ما رأيته مفطرا إلا يوم أضحى ، أو يوم فطر . ومن طريق ابن أبي شيبة نا حماد بن خالد عن الزبير بن عبد الله ابن أميمة عن جدته قالت : كان عثمان يصوم الدهر ويقوم الليل إلا هجعة من أوله . وعن الأسود ، وعروة ، وعبيد : أنهم كانوا يصومون الدهر . قال أبو محمد : هذا كله لا حجة لهم فيه - : أما عائشة رضي الله عنها فقد فرق عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بين صيام الدهر وبين سرد الصوم كما ذكرنا ، ولم يثبت عليها إلا السرد وهو المتابعة لا صوم الدهر ؛ ولو صح عنها ذلك ولا يصح ؟ - : فقد روينا من طريق وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه : أن عائشة أم المؤمنين كانت تصوم أيام التشريق . وكذلك صح عنها رضي الله عنها أنها كانت تختار صوم يوم الشك من آخر شعبان ؛ فإن كان ما لا يصح عنها من صوم الدهر حجة فالذي صح عنها من صوم أيام التشريق ، ويوم الشك حجة ، وإن لم يكن هذا حجة فليس ذلك حجة . فإن قالوا : قد صح نهي النبي ﷺ عن صوم أيام التشريق . قيل لهم : وقد صح نهيه عليه السلام عن صوم أكثر من نصف الدهر ، وصح نهيه عن صوم الدهر . وأما خبر عمر فليس فيه إلا السرد فقط وهو المتابعة لا صيام الدهر ؛ بل قد صح عنه تحريم صيام الدهر كما روينا من طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي عمرو الشيباني قال : بلغ عمر بن الخطاب : أن رجلا يصوم الدهر فأتاه فعلاه بالدرة وجعل يقول : كل يا دهر كل يا دهر ؛ وهذا في غاية الصحة عنه ؛ فصح أن تحريم صوم الدهر كان من مذهبه ولو كان عنده مباحا لما ضرب فيه ولا أمر بالفطر . وأما عثمان ، فإن الزبير بن عبد الله ابن أميمة وجدته مجهولان ، فسقط هذا الخبر . وأما أبو طلحة فقد روينا من طريق شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك قال : كان أبو طلحة يأكل البرد وهو صائم . قال أبو محمد : وفي الخبر الذي شغبوا به : أن أنسا قال : ما رأيته مفطرا إلا يوم فطر ، أو يوم أضحى ، ففي هذا الخبر : أنه كان يصوم أيام التشريق فإن لم يكن فعل أبي طلحة في أكله البرد وهو صائم حجة فصومه الدهر ليس حجة ؛ ولئن كان صومه الدهر حجة فإن أكله البرد في صيام حجة ؛ فسقط كل ما موهوا به عن الصحابة رضي الله عنهم . وأما الأسود : فروينا عن وكيع عن شعبة عن الحكم بن عتيبة : أن الأسود كان يصوم الدهر وأيام التشريق وعن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه : أنه صام أربعين سنة أو ثلاثين سنة - قال هشام : لم أره مفطرا إلا يوم فطر أو يوم نحر ؛ فليقتدوا بهما في صوم أيام التشريق وإلا فالقوم متلاعبون . قال علي : صح عن عمر ما ذكرناه من النهي عن صوم الدهر ، وأمره بالفطر فيه ، وضربه على صيامه . ومن طريق شعبة عن قتادة عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي موسى الأشعري قال : من صام الدهر ضيق الله عليه هكذا - : وقبض كفه . ومن طريق سفيان الثوري عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي موسى الأشعري قال : من صام الدهر ضيقت عليه جهنم ، وقد روي أيضا مسندا . قال علي : من نوادرهم قولهم : معناه ضيقت عليه جهنم حتى لا يدخلها ؟ قال علي : وهذه لكنة وكذب - : أما اللكنة : فإنه لو أراد هذا لقال : ضيقت عنه ، ولم يقل : عليه ، وأما الكذب : فإنما أورده رواته كلهم على التشديد والنهي عن صومه فكيف ورواية شعبة المذكورة إنما هي ضيق الله عليه فقط ؟ ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن أبي إسحاق أن ابن أبي أنعم كان يصوم الدهر ؟ فقال عمرو بن ميمون : لو رأى هذا أصحاب محمد ﷺ لرجموه . قال علي : هم يدعون الإجماع بأقل من هذا ؛ وقد يكون الرجم حصبا كما كان يفعل ابن عمر بمن رآه يتكلم والإمام يخطب . ومن طريق شعبة عن يحيى بن عمر والهمداني عن أبيه أنه سمع عبد الله بن مسعود - وسئل عن صوم الدهر - فكرهه . ومن طريق أبي بكرة ، وعائذ بن عمرو أنهما كرها صوم رجب ، وهذا يقتضي ولا بد أنهما لا يجيزان صيام الدهر . قال علي : لو كان مباحا عند ابن مسعود ما كرهه ، لأن فعل الخير لا يكره ، ولا يكره إلا ما لا خير فيه ولا أجر . وعن الشعبي أنه كره صوم الدهر . وعن سعيد بن جبير أنه كره صوم شهر تام غير رمضان

791 - مسألة : قال أبو محمد - : ونستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، ونستحب صيام الاثنين ، والخميس ، وكل هذا فبأن لا يتجاوز أكثر من نصف الدهر ، فأما الثلاثة الأيام فلما ذكرنا آنفا في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وأما الاثنين والخميس فلما حدثناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا القاسم بن زكريا نا حسين هو الجعفي - عن زائدة عن عاصم عن المسيب هو ابن رافع - عن حفصة أم المؤمنين قالت : { كان رسول الله ﷺ يصوم الاثنين ، والخميس } " . ويكره صوم شهر تام غير رمضان لما ذكرنا من فعله ﷺ . وقد ذكرنا مثل قولنا آنفا عن سعيد بن جبير .

792 - مسألة : ومن اقتصر على الفرض فقط فحسن لما قد ذكرناه قبل من { قول رسول الله ﷺ للذي سأله عن الدين فأخبره عليه السلام بوجوب رمضان قال : هل علي غيره ؟ قال : لا إلا أن تتطوع - وذكر مثل ذلك في الصلاة والزكاة والحج ؛ فقال السائل : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص ، فقال رسول الله ﷺ : أفلح إن صدق دخل الجنة إن صدق } .

793 - مسألة : ونستحب صوم يوم عاشوراء : وهو التاسع من المحرم وإن صام العاشر بعده فحسن . ونستحب أيضا صيام يوم عرفة للحاج وغيره - : نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر نا شعبة عن غيلان بن جرير سمع عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة الأنصاري { أن رسول الله ﷺ سئل عن صوم يوم عرفة ؟ فقال : يكفر السنة الماضية والباقية } . { وسئل عن صوم يوم عاشوراء ؟ فقال يكفر السنة الماضية } . وبه إلى مسلم - : نا أبو بكر بن أبي شيبة نا وكيع بن الجراح عن حاجب بن عمر عن الحكم بن الأعرج قال : { سألت ابن عباس عن صوم عاشوراء ؟ فقال : إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما ؟ فقلت : هكذا كان محمد ﷺ يصومه ؟ قال : نعم } . نا حماد بن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول في يوم عاشوراء : خالفوا اليهود صوموا التاسع والعاشر ، فإن قيل : من أين أحببتم صوم يوم عرفة في الحج ؟ وقد صح من طريق ميمونة أم المؤمنين أنها قالت : { إن الناس شكوا في صوم رسول الله ﷺ يوم عرفة فأرسلت إليه بحلاب وهو واقف في الموقف فشرب منه والناس ينظرون } ؟ ومن طريق حامد بن يحيى البلخي عن سفيان بن عيينة عن أيوب السختياني عن سعيد بن جبير قال : أتيت ابن عباس بعرفة وهو يأكل رمانا فقال : ادن فكل لعلك صائم إن رسول الله ﷺ لم يكن يصوم هذا اليوم . ومن طريق مؤمل بن إسماعيل عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن أمية عن نافع قال : سئل ابن عمر عن صوم يوم عرفة ؟ فقال : لم يصمه النبي ﷺ ولا أبو بكر ، ولا عمر ، ولا عثمان . ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي نا حوشب بن عقيل عن مهدي الهجري العبدي عن عكرمة قال : قال لي أبو هريرة : { نهى رسول الله ﷺ عن صوم يوم عرفة بعرفات } . ومن طريق شعبة أخبرني عمرو بن دينار قال : سمعت عطاء عن عبيد بن عمير قال : نهى عمر بن الخطاب عن صوم يوم عرفة : وقد تكلم في سماع عبد الله بن معبد الزماني من أبي قتادة . قلنا - وبالله تعالى التوفيق - : أما أن رسول الله ﷺ لم يصمه فلا حجة لكم في ذلك ؛ لأنه عليه السلام قد حض على صيامه أعظم حض ، وأخبر أنه يكفر ذنوب سنتين ، وما علينا أن ننتظر بعد هذا أيصومه عليه السلام أم لا ؟ وقد حدثنا يوسف بن عبد الله النميري قال : نا أحمد بن محمد بن الجسور قال : نا قاسم بن أصبغ نا مطرف بن قيس نا يحيى بن بكير نا مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : { إن كان رسول الله ﷺ ليترك العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم } ؟ وأما حديث أبي هريرة في النهي عن صوم يوم عرفة بعرفات فإن رواية حوشب بن عقيل وليس بالقوي عن مهدي الهجري وهو مجهول ، وهذا لا يحتج به وأما ترك أبي بكر ، وعمر ، وابن عمر ، وابن عباس صيامه فقد صامه غيرهم - : كما روينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سهل بن أبي الصلت عن الحسن البصري أنه سئل عن صوم يوم عرفة ؟ فقال : صامه عثمان بن عفان في يوم حار يظلل عليه . ومن طريق حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق : أن عائشة أم المؤمنين كانت تصوم يوم عرفة في الحج . وبه إلى حماد بن سلمة نا عطاء الخراساني : أن عبد الرحمن بن أبي بكر - دخل على عائشة أم المؤمنين يوم عرفة وهي تصب عليها الماء فقال لها : أفطري ؟ فقالت : أفطر ؟ وقد سمعت رسول الله ﷺ يقول : { صوم يوم عرفة يكفر العام الذي قبله } . ومن طريق هشام بن عروة : أن عبد الله بن الزبير كان يدعو عشية عرفة إذا أفاض الناس بماء ثم يفيض ؟ قال علي : فإذا اختلفوا فالمرجوع إليه سنة رسول الله ﷺ وقد روينا من طريق البخاري عن مسدد عن يحيى بن سعيد القطان عن شعبة عن توبة عن مورق العجلي قال : { قلت لابن عمر أتصلي الضحى ؟ قال : لا ؛ قلت : فعمر ؟ قال : لا ، قلت : فأبو بكر ؟ قال : لا ، قلت - : فرسول الله ﷺ قال : لا إخاله . } فمن كره صوم يوم عرفة لقول ابن عمر : إن رسول الله ﷺ لم يصمه ، ولا أبو بكر ، ولا عمر ، فليكره صلاة الضحى فيها مثل ذلك ، والطريقان صحيحان وإلا فهو متلاعب بالدين ، وقد صح أن أبا بكر ، وعمر لم يكونا يضحيان فليكرهوا الأضحية أيضا لذلك ؟ قال علي : ومن العجب أن يكون النبي ﷺ قد جاء بأغلظ الوعيد عن صيام الدهر ولم يصمه عليه السلام فيستحبونه ويبيحونه ثم يأتي حض النبي ﷺ بأشد الحض على صوم عرفة فيكرهونه ، لأنه عليه السلام لم يصمه ولم يحض النبي ﷺ بتركه الحاج دون غيره ، ولا بالحض عليه من ليس حاجا من حاج ؟ وأما سماع عبد الله بن معبد من أبي قتادة فعبد الله ثقة - والثقات مقبولون - لا يحل رد رواياتهم بالظنون - وبالله تعالى التوفيق

794 - مسألة : ونستحب صيام أيام العشر من ذي الحجة قبل النحر لما حدثناه حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال النبي ﷺ { ما من أيام أحب إلى الله فيهم العمل - أو أفضل فيهن العمل - من أيام العشر قيل : يا رسول الله ولا الجهاد ؟ قال : ولا الجهاد إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء } . قال أبو محمد : هو عشر ذي الحجة ، والصوم عمل بر ؛ فصوم عرفة يدخل في هذا أيضا .

795 - مسألة : ولا يحل صوم يوم الجمعة إلا لمن صام يوما قبله أو يوما بعده فلو نذره إنسان كان نذره باطلا ، فلو كان إنسان يصوم يوما ويفطر يوما فجاءه صومه في الجمعة فليصمه ؛ - : نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا أبو كريب نا حسين هو الجعفي - عن زائدة عن هشام هو ابن حسان - عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : { لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم } - : . نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا إسماعيل بن مسعود هو الجحدري - نا بشر هو ابن المفضل - نا سعيد هو ابن أبي عروبة - عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو قال : { دخل رسول الله ﷺ على جويرية بنت الحارث يوم الجمعة وهي صائمة فقال لها : أصمت أمس ؟ قالت : لا قال : أتريدين أن تصومي غدا ؟ قالت : لا قال : فأفطري } . وروينا أيضا من طريق جابر ؛ ومن طريق جويرية أم المؤمنين . ومن طريق جنادة الأزدي : - وله صحبة كلهم عن النبي ﷺ . وبه قال طائفة من الصحابة رضي الله عنهم - : روينا من طريق حماد بن سلمة عن سعيد الجريري عن أبي العلاء هو ابن الشخير - أن سلمان الفارسي صاحب رسول الله ﷺ قال لزيد بن صوحان : انظر ليلة الجمعة فلا تصلها ؟ قال علي : لا نعلم له مخالفا من الصحابة رضي الله عنهم . ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن شعبة عن عبد العزيز بن رفيع عن قيس بن السكن قال : مر ناس من أصحاب ابن مسعود بأبي ذر يوم جمعة وهم صيام فقال : عزمت عليكم لما أفطرتم فإنه يوم عيد - قيس بن السكن أدرك أبا ذر وجالسه . وعن علي بن أبي طالب أنه نهى عن تعمد صيام يوم الجمعة . ومن طريق محمد بن جعفر عن شعبة عن منصور عن مجاهد عن أبي هريرة قال : لا تصم يوم الجمعة إلا أن تصوم قبله أو بعده . وهو قول إبراهيم النخعي ؛ ومجاهد ، والشعبي ، وابن سيرين وغيرهم ، وذكره إبراهيم عمن لقي ، وإنما لقي أصحاب ابن مسعود . فإن قيل : فقد رويتم من طريق شيبان عن عاصم عن زر عن ابن مسعود قال : { إن رسول الله ﷺ كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر وقل ما كان يفطر يوم الجمعة } . ومن طريق ليث بن أبي سليم عن عمر بن أبي عمير { عن ابن عمر قل ما رأيت رسول الله ﷺ مفطرا يوم جمعة } . ومن طريق ليث بن أبي سليم عن طاوس { عن ابن عباس قل ما رأيته مفطرا يوم جمعة قط } . قال أبو محمد : ليث ليس بالقوي وأما خبر ابن مسعود فصحيح ، والقول فيها كلها سواء ، وهو أنه ليس في شيء منها - لا عن رسول الله ﷺ ولا عن ابن مسعود ، ولا عن ابن عمر ، ولا عن ابن عباس - : إباحة تخصيص يوم الجمعة بصيام دون يوم قبله أو يوم بعده . ونحن لا ننكر صيامه إذا صام يوما قبله أو يوما بعده ، ولا يحل أن نكذب على رسول الله ﷺ فنخبر عنه بما لم يخبر به عنه صاحبه ، ولا أن نحمل فعله على مخالفة أمره ألبتة إلا ببيان نص صحيح فيكون حينئذ نسخا أو تخصيصا ، قال تعالى آمرا له أن يقول : { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } فكيف وقد ورد عن ابن عباس ، وطاوس بيان قولنا بأصح من هذه الطرق ؟ كما روينا من طريق ابن أبي شيبة - : نا محمد بن بكر عن ابن جريج عن عطاء قال : كان ابن عباس ينهى عن افتراد اليوم كلما مر بالإنسان - يعني عن صيامه - : فصح نهي ابن عباس عن افتراد يوم بعينه في الصوم ، فدخل في ذلك يوم الجمعة وغيره . ومن طريق عبد الله بن طاوس عن أبيه أنه كان يكره أن يتحرى يوما يصومه ، وما نعلم لمن ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم مخالفا أصلا في النهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصيام - وبالله تعالى التوفيق .

796 - مسألة : فلو نذر المرء صوم يوم يفيق ، أو ذلك فوافق يوم جمعة لم يلزم ؛ لأنه لا يصوم يوما قبله ، ولا يوما بعده ، ولا وافق صوما كان يصومه ، ولا يجوز صيامه إلا بأحد هذين الوجهين كما ذكرنا قبل وبالله تعالى التوفيق .



797 - مسألة : ولا يحل صوم الليل أصلا ، ولا أن يصل المرء صوم يوم بصوم يوم آخر لا يفطر بينهما ، وفرض على كل أحد أن يأكل أو يشرب في كل يوم وليلة ولا بد . نا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد نا الفربري نا البخاري نا إبراهيم بن حمزة نا ابن أبي حازم عن يزيد هو ابن الهادي - عن عبد الله بن خباب عن أبي سعيد الخدري : " أنه سمع رسول الله ﷺ يقول : { لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر ، قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله قال : لست كهيئتكم ، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني } . ورويناه أيضا مسندا صحيحا من طريق أم المؤمنين عائشة ، وأنس ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، كلهم عن رسول الله ﷺ وهذه الآثار تنتظم كل ما قلنا . قال أبو محمد : وقد روينا النهي عن الوصال عن أبي سعيد الخدري ، وعائشة أم المؤمنين ، وعلي ، وأبي هريرة ، وروينا عن بعض السلف إباحة الوصال ، كما روينا من طريق ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن أبا هريرة قال : { نهى رسول الله ﷺ عن الوصال فقال رجل من المسلمين : فإنك تواصل يا رسول الله ﷺ فقال : وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ؛ فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال عليه السلام : لو تأخر الهلال لزدتكم ؛ كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا } . وعن أخت أبي سعيد الخدري أنها كانت تواصل ، وكان أخوها ينهاها ؛ قال علي : هي صاحبة بلا شك . ومن طريق حماد بن سلمة نا عمار بن أبي عمار قال : كان عبد الله بن الزبير يواصل سبعة أيام فإذا كان الليلة السابعة دعا بإناء من سمن فشربه ثم يؤتى بثريدة فيها عرقان ويؤتي الناس بالجفان فيقول : هذا من خالص مالي ، وهذا من بيت مالكم . وكان ابن وضاح يواصل أربعة أيام . قال أبو محمد : هذا يوضح أن لا حجة في أحد غير رسول الله ﷺ لا صاحب ، ولا غيره ؛ فقد واصل قوم من الصحابة رضي الله عنهم في حياة النبي ﷺ وتأولوا في ذلك التأويلات البعيدة فكيف بعده عليه السلام ؟ فكيف من دونهم ؟ ولا فرق بين من خالف حضه عليه السلام على صوم يوم عرفة ونهيه عليه السلام عن تخصيص صوم يوم الجمعة ، وتأولوا في ذلك : أنه عليه السلام لم يصم يوم عرفة { ، وقول ابن مسعود قل ما رأيته عليه السلام مفطرا يوم الجمعة } وبين من خالف نهيه عن الوصال وتأول أنه عليه السلام كان يواصل .

798 - مسألة : ولا يجوز صوم يوم الشك الذي من آخر شعبان ، ولا صيام اليوم الذي قبل يوم الشك المذكور إلا من صادف يوما كان يصومه فيصومهما حينئذ للوجه الذي كان يصومهما له لا لأنه يوم شك ولا خوفا من أن يكون من رمضان - : نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا أبو بكر بن أبي شيبة ، وأبو كريب كلاهما عن وكيع عن علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : { لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوما فليصم } . وقد ذكرنا أمره عليه السلام بأن لا يصام حتى يرى الهلال من طريق ابن عمرو - : نا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس : " أن النبي ﷺ قال : { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن أغمي عليكم فعدوا ثلاثين ، قالوا : يا رسول الله ألا نقدم بين يديه يوما أو يومين ؟ فغضب وقال : لا } . قال أبو محمد : نعوذ بالله من غضب رسول الله ﷺ هذا الخبر يوضح أنه لا حجة في أي صاحب ولا غيره أصلا - وبهذا يقول طائفة من السلف - : روينا عن ابن مسعود أنه قال : لأن أفطر يوما من رمضان ثم أقضيه أحب إلي من أن أزيد فيه يوما ليس فيه . وعن حذيفة أنه كان ينهى عن صوم اليوم الذي يشك فيه . وعن أبي إسحاق السبيعي عن صلة بن أشيم أنه سمع عمار بن ياسر في يوم الشك في آخر شعبان يقول : من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم . وعن حذيفة ؛ وابن عباس ؛ وأبي هريرة ، وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأنس بن مالك : النهي عن صيامه . وعن ابن عمر ، والضحاك بن قيس أنهما قالا : لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه ؟ قال أبو محمد : وروي خلاف هذا عن بعض السلف - : كما روينا عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان . وعن أسماء بنت أبي بكر : أنها كانت تصوم يوم الشك - : وحدثنا يونس بن عبد الله نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم نا أحمد بن خالد نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي نا عبيد الله بن عمر عن نافع قال : كان ابن عمر إذا خلت تسع وعشرون ليلة من شعبان بعث من ينظر الهلال فإن حال من دون منظره سحاب أو قترة أصبح صائما ، وإن لم ير ولم يحل دون منظره أصبح مفطرا . وعن أبي عثمان النهدي أنه كان يصوم يوم الشك . وعن القاسم بن محمد : أنه كان لا يكره صيام يوم الشك إلا إن أغمي دون رؤية الهلال ، وعن الحسن البصري أنه كان يصبح يوم الشك صائما فإن قدم خبر برؤية الهلال ما بينه وبين نصف النهار أتم صومه وإلا أفطر . وبالنهي عن صومه جملة يقول إبراهيم النخعي ، والشعبي ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وابن سيرين وغيرهم . قال أبو محمد : هذا ابن عمر هو روى أن لا يصام حتى يرى الهلال ثم كان يفعل ما ذكرنا ؛ واحتج من رأى صيام يوم الشك بما روينا من طريق مسلم عن ابن أبي شيبة نا يزيد بن هارون عن الجريري عن أبي العلاء عن مطرف عن عمران بن الحصين : { أن النبي ﷺ قال لرجل : هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا ؟ يعني شعبان قال : لا ، قال : فإذا أفطرت من صيام رمضان فصم يومين مكانه } . وبما رويناه من طريق أبي داود نا أحمد بن حنبل نا محمد بن جعفر نا شعبة عن توبة العنبري عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أم سلمة أم المؤمنين : { أن النبي ﷺ لم يكن يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان يصله برمضان } . ومن طريق عبد الله بن أبي العلاء عن أبي الأزهر المغيرة بن فروة قال : قام معاوية بن أبي سفيان في الناس في دير مسحل الذي على باب حمص فقال : يا أيها الناس إنا قد رأينا الهلال يوم كذا وكذا وأنا متقدم بالصيام فمن أحب أن يفعله فليفعله ، فقام إليه مالك بن هبيرة السبائي فقال : يا معاوية أشيء سمعته من رسول الله ﷺ ؟ أم شيء من رأيك ؟ فقال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : { صوموا الشهر وسره } . قال أبو محمد : المغيرة بن فروة غير مشهور ثم لو صح لما كانت فيه حجة أصلا ، لأن نصه { صوموا الشهر وسره } وهو بلا شك شهر رمضان لا ما سواه " وسره " مضاف إليه ، ولا يخلو " سره " من أن يكون أوله أو آخره أو وسطه وأي ذلك كان ؟ فهو من رمضان لا من شعبان ، وليس فيه : صوموا سر شعبان ؛ فبطل التعلق به . وأما خبر أم سلمة فلا حجة لهم فيه ؛ لأن كل من كان له صوم معهود فوافق يوم الشك فليصمه كما جاء في الخبر الذي صدرنا به ، ولا يجوز أن يحمل صوم النبي ﷺ له وفي وصله شعبان برمضان إلا على أنه صوم معهود كان له ؟ وأما خبر عمران فصحيح إلا أنه لا حجة لهم فيه ؛ لأننا لا ندري ماذا كان يقول له النبي ﷺ ؟ لو قال له الرجل : إنه صام سرر شعبان أينهاه أم يقره على ذلك ؟ والشرائع الثابتة لا يجوز خلافها بالظنون ولا بما لا بيان فيه ، ثم لو كان في هذه الأخبار بيان جلي بإباحة صوم يوم الشك من شعبان لما كان لهم فيه حجة ؛ لأن صوم يوم الشك وغيره كان مباحا بلا شك في صدر الإسلام ؛ لأن الصوم جملة عمل بر وخير ؛ فلما صح نهي النبي ﷺ عن صوم يومين قبل رمضان إلا لمن كان له صوم يصومه صح يقينا لا مرية فيه أن الإباحة المتقدمة قد نسخت وبطلت ؛ لأن الصوم قد كان متقدما لهذا النهي بنصه كما هو لاستثنائه عليه السلام من كان له صوم فليصمه ، ولا يحل العمل بشيء قد صح أنه منسوخ بلا شك ولا يحل خلاف الناسخ ومن ادعى أن الحالة المنسوخة قد عادت وأن الناسخ قد بطل فقد كذب وقفا ما لا علم له به ، وقال ما لا دليل له به أبدا ، والظن أكذب الحديث .

799 - مسألة : ولا معنى للتلوم في يوم الشك ، لأنه إن كان تلومه بنية الصوم فقد خالف أمر رسول الله ﷺ بترك صومه وواقع النهي ، وإن كان تلومه بغير نية الصوم فهو عناء لا معنى له ، وترك المفطر الأكل عمل فارغ . وقد روينا عن أنس وجماعة معه تعجيل الفطر في أوله .

800 - مسألة : ولا يجوز صوم اليوم السادس عشر من شعبان تطوعا أصلا ولا لمن صادف يوما كان يصومه - : نا عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك نا محمد بن بكر نا أبو داود نا قتيبة بن سعيد نا عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال : قدم عباد بن كثير المدينة فمال إلى مجلس العلاء بن عبد الرحمن فأخذ بيده فأقامه ثم قال : اللهم إن هذا يحدث عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال : { إذا انتصف شعبان فلا تصوموا } فقال العلاء : اللهم إن أبي حدثني عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال ذلك . قال أبو محمد : هكذا رواه سفيان عن العلاء ، والعلاء ثقة روى عنه : شعبة ، وسفيان الثوري ، ومالك ، وسفيان بن عيينة ، ومسعر بن كدام ، وأبو العميس ، وكلهم يحتج بحديثه فلا يضره غمز ابن معين له ، ولا يجوز أن يظن بأبي هريرة مخالفة ما روى عن النبي ﷺ والظن أكذب الحديث ؛ فمن ادعى هاهنا إجماعا فقد كذب . وقد كره قوم الصوم بعد النصف من شعبان جملة ، إلا أن الصحيح المتيقن من مقتضى لفظ هذا الخبر النهي عن الصيام بعد النصف من شعبان ، ولا يكون الصيام في أقل من يوم ، ولا يجوز أن يحمل على النهي عن صوم باقي الشهر إذ ليس ذلك بينا ، ولا يخلو شعبان من أن يكون ثلاثين أو تسعا وعشرين ؛ فإن كان ذلك فانتصافه بخمسة عشر يوما ؛ وإن كان تسعا وعشرين فانتصافه في نصف اليوم الخامس عشر ، ولم ينه عن الصيام بعد النصف ، فحصل من ذلك النهي عن صيام اليوم السادس عشر بلا شك . فإن قيل : فقد رويتم من طريق وكيع عن أبي العميس عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ : { إذا كان النصف من شعبان فأمسكوا عن الصوم حتى يكون رمضان } . قلنا : نعم ، وهذا يحتمل النهي عن كل ما بعد النصف من شعبان ؛ ويحتمل أن يكون النهي عن بعض ما بعد النصف ، وليس أحد الاحتمالين أولى بظاهر اللفظ من الآخر ؛ وقد روينا ما ذكرنا قبل من قول أم سلمة أم المؤمنين : { أن رسول الله ﷺ كان يصوم شعبان يصله برمضان } وقول عائشة أم المؤمنين : { أنه عليه الصلاة والسلام : كان يصوم شعبان كله إلا قليلا } وقولهما هذا يقتضي أنه عليه السلام كان يداوم ذلك فوجب استعمال هذه الأخبار كلها وألا يرد منها شيء لشيء أصلا ؛ فصح صيام أكثر شعبان مرغوبا فيه ، وصح جواز صوم آخره ؛ فلم يبق يقين النهي إلا على ما لا شك فيه وهو اليوم السادس عشر كما قلنا - وبالله تعالى التوفيق . ومن ادعى نسخا في خبر العلاء فقد كذب وقفا ما لا علم له به - وبالله تعالى نتأيد . وقد بينا فيما خلا ما قاله أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي مما لا يعرف أن أحدا قاله قبل كل واحد منهم ، أكثر ذلك مما قالوه برأي لا بنص ؟ من ذلك قول أبي حنيفة : يجزئ من مسح الرأس في الوضوء مقدار ثلاثة أصابع ولا يجزئ أقل منه ، ومرة قال : ربع الرأس ولا يجزئ أقل ، ويجزي مسحه بثلاث أصابع ولا يجزئ بأصبعين ولا بأصبع . وأجازوا الاستنجاء بالروث . وقوله : المرة والماء الخارجان ، من الجوف ينقضان الوضوء إذا كان كل واحد منهما ملء الفم ، فإن كان أقل لم ينقض الوضوء ؛ وكذلك تعمد القيء والدم الخارج من الجوف ينقض الوضوء إن غلب على البصاق وإن لم يملأ الفم ، والبلغم الخارج من الجوف لا ينقض الوضوء وإن ملأ الفم . وقوله في صدقة الخيل : إن شاء أعطى عن كل رأس من الإناث أو الذكور أو الإناث مخلوطين عن كل رأس عشرة دراهم ، وإن شاء قومها قيمة وأعطى عن كل مائتي درهم خمسة ، ولا يعطي من الذكور المفردة شيئا . وقوله : الزكاة في كل ما أخرجت الأرض قل أو كثر إلا الحطب ، والقصب ، والحشيش ، وقصب الزريرة ، فإن كان الخارج في الدار فلا زكاة فيه ، وكل هذا لا يعلم أحد قاله قبلهم . وكقول مالك : من ترك من الصلاة ثلاث تكبيرات ، أو ثلاث تسميعات بطلت صلاته ، فإن ترك تكبيرتين فأقل لم تبطل ولا تسميعتين فأقل . وقوله في الزكاة فيما تخرجه الأرض ومما لا زكاة فيه من ذلك من أنواع الحبوب . وقوله : إن الزكاة تسقط بموت المرء إلا زكاة عامه ذلك . وقوله فيما تخرج منه زكاة الفطر من الحبوب . وقول الشافعي : فيما يخرج منه الزكاة من الحبوب وما يخرج منه . وقوله : فيما يخرج منه زكاة الفطر من الحبوب وما لا يجزئ فيها منها . وقوله في أن الماء إن كان خمسمائة رطل بالبغدادي له لم يقبل نجاسة إلا أن تغيره ، فإن كان أقل - ولو بوزن درهم - فإنه ينجس وإن لم يتغير . وكل هذا لا يعرف له قائل قبل من ذكرنا . ولو تتبعنا ما لكل واحد منهم من مثل هذا لبلغ لأبي حنيفة ، ومالك : ألوفا من المسائل ، ولبلغ للشافعي مائتين - وبالله تعالى نتأيد .

801 - مسألة : ولا يحل صوم يوم الفطر ، ولا يوم الأضحى - لا في فرض ولا في تطوع - وهو قول جمهور الناس . وقد روينا من طريق وكيع عن عبد الله بن عون عن زياد بن جبير قال : { سأل رجل ابن عمر عمن نذر صوم يوم فوافق يوم أضحى ، أو يوم فطر ؟ فقال ابن عمر : أمر الله تعالى بوفاء النذر ، ونهى رسول الله ﷺ عن صوم هذا اليوم } . وروينا عن عطاء فيمن نذر صوم شوال : أنه يفطر يوم الفطر ثم يصوم يوما من ذي القعدة مكانه ويطعم مع ذلك عشرة مساكين . قال علي : إنما أمر عز وجل بالوفاء بالنذر إذا كان طاعة لا إذا كان معصية ، وإذ صح نهي النبي ﷺ عن صوم يوم الفطر والأضحى ، أو أي يوم نهى عنه فصوم ذلك اليوم معصية ؛ ولم يأمر الله تعالى - قط - بالوفاء بنذر معصية ، وقد صح في ذلك آثار - : منها ما رويناه من طريق البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال : { شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : هذان يومان نهى رسول الله ﷺ عن صيامهما : يوم فطركم من صيامكم ، واليوم الآخر يوم تأكلون فيه من نسككم } . وصح أيضا من طريق أبي هريرة ، وأبي سعيد مسندا . وقال محمد بن الحسن في رواية هشام بن عبيد الله عنه : " من نذر أن يصوم الدهر وأراد بذلك اليمين : فعليه أن يصومه ويفطر : يوم الفطر والأضحى وأيام التشريق ؛ ولا يطعم شيئا ، لكن يوصي عند موته أن يطعم عنه لكل يوم نصف صاع " . وهذا تخليط لا نظير له .

802 - مسألة : ولا يجوز صيام أيام التشريق ، وهي ثلاثة أيام بعد يوم الأضحى ، لا في قضاء رمضان ، ولا في نذر ، ولا في كفارة ، ولا لمتمتع بالحج لا يقدر على الهدي - وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي . وقال مالك : يصومها المتمتع المذكور كلها ، ولا يصوم الناذر منها إلا اليوم الثالث فقط ؛ ولا يجوز أن يصام شيء منها تطوعا ، ولا في كفارة - : حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا عبد الله بن مسلمة القعنبي نا مالك عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد عن أبي مرة مولى أم هانئ { أنه دخل مع عبد الله بن عمرو بن العاص على أبيه عمرو بن العاص فقرب إليهما طعاما فقال : إني صائم فقال له : كل فهذه الأيام التي كان رسول الله ﷺ يأمرنا بإفطارها وينهانا عن صيامها } قال مالك : هي أيام التشريق . نا حمام بن أحمد نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا بكر هو ابن حماد - نا مسدد نا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن نافع بن جبير بن مطعم عن بشر بن سحيم : { أن رسول الله ﷺ أمره أن ينادي أيام التشريق : أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، وأنها أيام أكل وشرب } . قال أبو محمد : تفريق مالك بين اليومين وبين اليوم الثالث لا وجه له أصلا ؛ فإن ذكر ذاكر ما رويناه من طريق شعبة قال : سمعت عبد الله بن عيسى هو ابن أبي ليلى - عن الزهري عن عروة بن الزبير ، وسالم بن عبد الله بن عمر قال عروة : عن عائشة ، وقال سالم : عن أبيه ، ثم اتفقا ، قالا : لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي . وقد أسنده عن شعبة : يحيى بن سلام ، وليس هو ممن يحتج بحديثه ، فإن هذا موقوف على أم المؤمنين ، وابن عمر رضي الله عنهم ، ولا حجة في أحد مع رسول الله ﷺ ولا يجوز أن يسند هذا إلى رسول الله ﷺ بالظن فقد قال رسول الله ﷺ : { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } . وروينا من طريق وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تصوم أيام التشريق . ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبد الملك بن أبي نعامة عن أبيه عن ابن عباس أنه كان يصوم أيام التشريق . وعن أبي طلحة : أنه كان لا يفطر إلا يوم فطر أو أضحى . وعن الأسود أنه كان يصوم أيام التشريق . ولو كان مسندا لكان حجة على المالكيين ؛ لأنه أباح اليوم الثالث أن يصومه الناذر ، وهو خلاف هذا الخبر . قال أبو محمد : عهدنا بالحنفيين ، والمالكيين يقولون فيما وافق أهواءهم من أقوال الصحابة : هذا لا يقال بالرأي ، قالوا ذلك في تيمم جابر إلى المرفقين . وفي قول عائشة رضي الله عنها لأم ولد زيد بن أرقم إذ باعت منه عبدا إلى العطاء بثمان مائة ثم اشترته منه بستمائة : أبلغ زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ ؟ إن لم يتب - وهو خبر لا يصح ، وخالفوا بذلك القرآن والسنة الثابتة . وفي التيمم إلى الكوعين ، فهلا قالوا هنا في قول عائشة ، وابن عمر : مثل هذا لا يقال بالرأي ؟ وعهدنا بهم يقولون فيما خالف أهواءهم من السنن ما تعظم به البلوى : لا يقبل فيه خبر الواحد ، وردوا بذلك الوضوء من مس الذكر ، فهلا قالوا هاهنا : هذا مما تعظم به البلوى ؟ فلا يقبل فيه خبر الواحد ، إذ لو كان النهي عن صيام أيام التشريق صحيحا ما خفي على عائشة ، وأبي طلحة وابن عباس ، والأسود . وعهدنا بهم يقولون : إن الخبر المضطرب فيه مردود ، وادعوا ذلك في حديث : { لا تحرم المصة ولا المصتان } فهذا الخبر أشد اضطرابا ، لأنه روي عن بشر بن سحيم ، ومرة عنه عن علي . وعهدنا بهم يقولون فيما وافقهم : هذا ندب ؟ فهلا قالوه هاهنا ؟ وعهدنا بهم يقولون : إذا روى الصاحب خبرا وتركه فهو دليل على نسخه ، وعائشة قد روت كما ذكرنا النهي عن صيام أيام التشريق وتركت ذلك فكانت تصومها تطوعا ؛ فهلا تركوا هاهنا روايتها لرأيها ؟ ولا يقدر أحد على أن يقول إنهما وابن عباس صاماها في تمتع الحج ؛ لأن يسارهما ويسار الأسود وسعة أموالهم لألف هدي أشهر من أن يجهله إلا من لا علم له أصلا .

803 - مسألة : ولا يحل صوم أخرج مخرج اليمين كأن يقول القائل : أنا لا أدخل دارك فإن دخلتها فعلي صوم شهر ، أو ما جرى هذا المجرى - : نا يونس بن عبد الله بن مغيث نا أبو بكر محمد بن أحمد بن خالد قال : نا أبي نا علي بن عبد العزيز نا أبو عبيد القاسم بن سلام نا إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : قال رسول الله ﷺ : { من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله } . قال أبو محمد : فصار الحلف بغير الله تعالى معصية ، وخلافا لنهي رسول الله ﷺ فإذا هو كذلك فقد ذكرنا قبل قول رسول الله ﷺ { لا وفاء لنذر في معصية الله } والنذر اللازم : هو الذي يتقرب به إلى الله تعالى فقط ، وهو قول الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبي سليمان وغيرهم .

804 - مسألة ولا يحل لذات الزوج أو السيد أن تصوم تطوعا بغير إذنه ؛ وأما الفروض كلها فتصومها أحب أم كره ؛ فإن كان غائبا لا تقدر على استئذانه أو تقدر فلتصم التطوع إن شاءت - : نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا الحسن بن علي هو الحلواني - نا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله ﷺ : { لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه غير رمضان ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه } . قال علي : البعل اسم للسيد ، في اللغة ، وصيام قضاء رمضان ، والكفارات ، وكل نذر تقدم لها قبل نكاحها إياه مضموم إلى رمضان ؛ لأن الله تعالى افترض كل ذلك كما افترض رمضان . وقال تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } فأسقط الله عز وجل الاختيار فيما قضى به ؛ وإنما جعل النبي ﷺ الإذن والاستئذان فيما فيه الخيار ، وأما ما لا خيار فيه ولا إذن لأحد فيه ولا في تركه ولا في تغييره فلا مدخل للاستئذان فيه : هذا معلوم بالحس ، وهو الذي يقتضي تخصيصه عليه السلام إذن البعل فيه ؛ وبالله تعالى التوفيق .

805 - مسألة : ونستحب تدريب الصبيان على الصوم في رمضان إذا أطاقوه وليس واجبا عليهم لما قد ذكرنا من قول رسول الله ﷺ : { رفع القلم عن ثلاث } فذكر فيهم الصبي حتى يحتلم . وقد ذكرنا في أول كتاب الطهارة وجوب الأحكام بالإنبات ، والحيض . والله تعالى يقول : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير } وتدريبهم على الصوم خير . وقد ذكرنا ( قبل ) قول عمر رضي الله عنه للشيخ الذي وجده سكران في رمضان : ولداننا صيام . وقد روينا من طريق ابن جريج عن محمد بن عبد الرحمن ابن لبيبة عن أبيه عن جده عن رسول الله ﷺ : { إذا صام الغلام ثلاثة أيام متتابعة فقد وجب عليه صيام شهر رمضان } . قال أبو محمد : محمد بن عبد الرحمن ابن لبيبة لا شيء إلا أن الحنفيين ، والمالكيين ، والشافعيين ، أخذوا بروايته في ( إباحة ) كراء الأرض وأبطلوا بها الروايات الثابتة في تحريم كراء الأرض ، فهو حجة إذا اشتهوا وليس هو حجة إذا اشتهوا - : وروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا بلغ الغلام خمسة أشبار وجبت عليه الحدود . وروينا عن ابن سيرين ، وقتادة ، والزهري : يؤمر الغلام بالصلاة إذا عرف يمينه من شماله ، وبالصوم إذا أطاقه . وعن عروة بن الزبير : يؤمرون بالصلاة إذا عقلوها ، وبالصوم إذا أطاقوه قال علي : لا حجة في أحد دون رسول الله . وعن سعيد بن المسيب : الصلاة على الجارية إذا حاضت ، وعلى الغلام إذا احتلم .

806 - مسألة : ويجب على من وجد التمر أن يفطر عليه فإن لم يجد فعلى الماء وإلا فهو عاص لله تعالى إن قامت عليه الحجة فعند ولا يبطل صومه بذلك ؛ لأن صومه قد تم وصار في غير صيام ؛ وكذلك لو أفطر على خمر ، أو لحم خنزير ، أو زنى ؛ فصومه تام وهو عاص لله تعالى . نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا قتيبة بن سعيد نا سفيان بن عيينة عن عاصم الأحول عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن عمها سلمان بن عامر يبلغ به النبي ﷺ قال : { إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة ، فإن لم يجد تمرا فالماء فإنه طهور } : نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا أحمد بن حنبل نا عبد الرزاق نا جعفر بن سليمان الضبعي نا ثابت البناني أنه سمع أنس بن مالك يقول : { كان النبي ﷺ : يفطر على رطبات قبل أن يصلي ، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات ؛ فإن لم يكن حسا حسوات من ماء } . وقد قال قوم : ليس هذا فرضا ؛ لأنه عليه السلام قد أفطر في طريق خيبر على السويق ؟ فقلنا وما دليلكم على أنه لم يكن أفطر بعد على تمر ، أو أنه كان معه تمر ؟ والسويق المجدوح بالماء ، فالماء فيه ظاهر ، فهو فطر على الماء . وأيضا فالفطر على كل مباح موافق للحالة المعهودة ، والأمر بالفطر على التمر - فإن لم يكن فعلى الماء - أمر وارد يجب فرضا ؛ وهو رافع للحالة الأولى بلا شك ، وادعى قوم الإجماع على غير هذا - وقد كذب من ادعى الإجماع وهو لا يقدر على أن يحصي في هذا أقوال عشرة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ؛ وذكروا إفطار عمر رضي الله عنه بحضرة الصحابة على اللبن - : قال أبو محمد : إن كان هذا إجماعا أو حجة فقد خالفوه وأوجبوا القضاء بخلاف قول عمر في ذلك ، فقد اعترفوا على أنفسهم خلاف الإجماع ، وأما نحن فليس هذا عندنا إجماعا ، ولا يكون إجماعا إلا ما لا شك في أن كل مسلم يقول به ؛ فإن لم يقله فهو كافر : كالصلوات الخمس ، والحج إلى مكة ، وصوم رمضان ؛ ونحو ذلك - وبالله تعالى التوفيق .

807 - مسألة : ويستحب فعل الخير في رمضان : حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا سليمان بن داود هو المهري - عن ابن وهب أخبرني يونس هو ابن يزيد - عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن عباس كان يقول : { كان رسول الله ﷺ أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان } وذكر باقي الحديث . قال الله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }

808 - مسألة : ومن دعي إلى طعام - وهو صائم - فليجب ؛ فإذا أتاهم فليدع لهم وليقل : إني صائم . حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا عبد الله بن سعيد نا أبو خالد هو الأحمر - عن هشام هو ابن حسان - عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : { إذا دعي أحدكم فليجب ، فإن كان مفطرا فليطعم ، وإن كان صائما فليصل } . قال هشام : والصلاة الدعاء . وبه إلى أبي داود نا مسدد نا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : { إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل : إني صائم } . قال أبو محمد : فعليه أن يجمع بين الأمرين جميعا . وروينا أن ابن عمر كان إذا دعي إلى طعام وهو صائم أتاهم فدعا لهم ثم انصرف . ومن طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني قال : دعاني أنس إلى طعام فقلت : إني لا أطعم ؟ فقال : قل : إني صائم . ومن طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن ابن سيرين : أن أباه أولم بالمدينة سبعة أيام يدعو الناس فدعا أبي بن كعب وهو صائم فأجابه ودعا لهم ورجع .


كتاب الصيام

809 - مسألة : ليلة القدر واحدة في العام في كل عام ، في شهر رمضان خاصة ، في العشر الأواخر خاصة ، في ليلة واحدة بعينها لا تنتقل أبدا إلا أنه لا يدري أحد من الناس أي ليلة هي من العشر المذكور ؟ إلا أنها في وتر منه ولا بد . فإن كان الشهر تسعا وعشرين فأول العشر الأواخر بلا شك : ليلة عشرين منه ؛ فهي إما ليلة عشرين ، وإما ليلة اثنين وعشرين ، وإما ليلة أربع وعشرين ، وإما ليلة ست وعشرين ، وإما ليلة ثمان وعشرين ؛ لأن هذه هي الأوتار من العشر ( الأواخر ) . إن كان الشهر ثلاثين فأول العشر الأواخر بلا شك : ليلة إحدى وعشرين ، فهي إما ليلة إحدى وعشرين ، وإما ليلة ثلاث وعشرين ، وإما ليلة خمس وعشرين ، وإما ليلة سبع وعشرين ، وإما ليلة تسع وعشرين ، لأن هذه هي أوتار العشر بلا شك . وقال بعض السلف : من يقم العام يدركها . وبرهان قولنا : أنها في رمضان خاصة دون سائر العام قول الله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } وقال عز وجل : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } فصح أنه أنزل في ليلة القدر في شهر رمضان ؛ فصح ضرورة أنها في رمضان لا في غيره ؛ وإذ لو كانت في غيره لكان كلامه تعالى ينقض بعضه بعضا بالمحال ، وهذا ما لا يظنه مسلم . وروي عن ابن مسعود : أنها في ليلة سبع عشرة من رمضان ليلة يوم بدر . وبرهان صحة قولنا : أنها في العشر الأواخر منه ولا بد ما حدثناه عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد بن المثنى نا عبد الأعلى نا سعيد بن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : { اعتكف رسول الله ﷺ العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر قبل أن تبان له قال فلما انقضين أمر بالبناء فقوض ثم أبينت له أنها في العشر الأواخر فأمر بالبناء فأعيد ثم خرج على الناس فقال : يا أيها الناس إنها كانت أبينت لي ليلة القدر وإني خرجت لأخبركم بها فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان فنسيتها فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان ، والتمسوها في التاسعة ، والسابعة ، والخامسة } . ثم فسرها أبو سعيد فقال : إذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها اثنتين وعشرين فهي التاسعة ، فإذا مضى ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة ، فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة " . قال أبو محمد : هذا على ما قلنا من كون رمضان تسعا وعشرين . وبه إلى مسلم : نا زهير بن حرب نا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه { أن رجالا رأوا أنها ليلة سبع وعشرين فقال رسول الله ﷺ : أرى رؤياكم في العشر الأواخر فاطلبوها في الوتر منها } . قال أبو محمد : هذه الأخبار تصحح ما قلنا : إذ لو كانت تنتقل لما كان لإعلام النبي ﷺ حقيقة ، لأنها كانت لا تثبت ؛ ولوجب إذ خرج ليخبرهم بها أن يخبرهم بها عاما إلى يوم القيامة ، وهذا محال ؛ وإذا نسيها عليه السلام فمن المحال الباطل أن يعلمها أحد بعده ؛ وإذ لم يقطع عليه السلام برؤيا من رأى من أصحابه فرؤيا من بعدهم أبعد من القطع بها ؛ وقد روي عن أبي بن كعب : أنها ليلة سبع وعشرين ، وليس قوله بأولى من قول ابن مسعود . فإن قيل : قد جاء أن علامتها أن الشمس تطلع حينئذ لا شعاع لها ؟ قلنا : نعم ، ولم يقل عليه السلام : إن ذلك يظهر إلينا فنعلم من ذلك ما لم يعلمه هو عليه السلام ؛ فيكون ذلك أول طلوعها بحيث لا يتبين ذلك فيها أحد . فإن قيل : قد قال عليه السلام : { إنه أري أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين } فكان ذلك صباح ليلة إحدى وعشرين ؟ قلنا : نعم ، وقد وكف المسجد أيضا في صبيحة ليلة ثلاث وعشرين فسجد عليه السلام في ماء وطين - : روينا هذا من طريق مسلم بن الحجاج عن سعيد بن عمرو بن سهل بن إسحاق بن محمد بن الأشعث الكندي أنا أبو ضمرة أنس بن عياض حدثني الضحاك بن عثمان عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن بسر بن سعيد عن عبد الله بن أنيس أن رسول الله ﷺ قال : { أريت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني صبيحتها أسجد في ماء وطين ، قال : 8 فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله ﷺ فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه } . ( قال ) وكان عبد الله بن أنيس يقول : ثلاث وعشرون وقد يمكن أن تكف السماء في العشر الأواخر كلها فبقي الأمر بحبسه . ومن طرائف الوسواس : احتجاج ابن بكير المالكي في أنها ليلة سبع وعشرين بقول الله تعالى : { سلام هي } قال : فلفظة " هي " هي السابعة وعشرون من السورة . قال أبو محمد : حق من قام هذا في دماغه أن يعاني بما يعاني به سكان المارستان نعوذ بالله من البلاء ، ولو لم يكن له من هذا أكثر من دعواه أنه وقف على ما غاب من ذلك عن رسول الله ﷺ ولم ينس من علم الغيب ما أنساه الله عز وجل نبيه عليه السلام ، ومن بلغ إلى هذا الحد فجزاؤه أن يخذله الله تعالى مثل هذا الخذلان العاجل ثم في الآخرة أشد تنكيلا

810 مسألة : ويستحب الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان لقول رسول الله ﷺ : { التمسوها في العشر الأواخر } وإنما تلتمس بالعمل الصالح لا بأن لها صورة وهيئة يمكن الوقوف عليها بخلاف سائر الليالي كما يظن أهل الجهل ، إنما قال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم } وقال تعالى : { ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر } فبهذا بانت عن سائر الليالي فقط والملائكة لا يراهم أحد بعد النبي ﷺ . نسأل الله تعالى التوفيق والهدى والعصمة آمين

قلت المدون هذا اخر كتاب الصيام في المحلي لابن حزم يليه كتاب الحج بمشيئة الله الواحد

==================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مكتبات الكتاب الاسلامي

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أ...