مدونة استكمال مصنفات الإمامين ابن حزم والوكاني

السبت، 19 مارس 2022

ج2. الشوكاني/أدب الطالب/كيفية الوصول إلى المرتبة الثانية للعلم اخر الكتاب

 

كيفية الوصول إلى المرتبة الثانية للعلم

وإذا عرفت ما ينبغي لأهل الطبقة الأولى من العلوم فلنتكلم الآن على ما ينبغي لأهل الطبقة الثانية من الطبقات المذكورة سابقا وهي طبقة من يريد أن يعرف ما طلبه منه الشارع من أحكام التكليف والوضع على وجه يستقل فيه بنفسه ولا يحتاج إلى غيره من دون أن يتصور البلوغ إلى ما تصوره أهل الطبقة الأولى من تعدي فوائد معارفهم إلى غيرهم والقيام في مقام أكابر الأئمة المرجوع إليهم كما يتصوره أهل الطبقة الأولى فتقول صاحب هذه الطبقة الثانية هو من يطلب ما يصدق عليه مسمى الاجتهاد ويسوغ به العمل بأدلة الشرع وهو يكفي بأن يأخذ من كل فن من فنون الاجتهاد بنصيب يعلم به ذلك الفن علما يستغني به عن الحاجة إليه أو يهتدي به إلى المكان الذي فيه ذلك البحث على وجه يفهم به ما يقف عليه منه علم النحو فيشرع بتعلم علم النحو حتى تثبت له فيه ملكة يقتدر بها على معرفة أحوال أواخر الكلم إعرابا وبناء وأقل ما يحصل له ذلك بحفظ مختصر من المختصرات المشتملة على مهمات مسائل النحو والمتضمنة لتقرير مباحثه على الوجه المعتبر كالكافية لابن الحاجب وقراءة شرح من شروحها المختصرة وأحسنها بالنسبة إلى الشروح المختصرة شرح الجامي فإنه ينتفع به الطالب انتفاعا لا يجده في غيره من مختصرات الشروح علم الصرف ثم يحفظ مختصرا في الصرف كالشافية لابن الحاجب وقراءة شرح من شروحها المختصرة وأحسنها شرح الجاربردي علم المعاني والبيان ثم يشتغل بحفظ مختصر من مختصرات علم المعاني والبيان كالتلخيص للقزويني وقراءة شرح من شروحه المختصرة كشرح السعد المختصر علم أصول الفقه ثم يشتغل بحفظ مختصر من مختصرات الأصول الفقهية وقراءة شرح من شروحه وأنفع ما ينتفع به الطالب الغاية للحسين بن القاسم وشرحها له فإنهما مع المبالغة في الاختصار قد اشتملا على ما حوته غالب المطولات الكبار علم التفسير ثم يشتغل بقراءة تفسير من التفاسير المختلفة كتفسير القاضي البيضاوي مع مراجعة ما يمكنه مراجعته من التفاسير علم الحديث ثم يشتغل بسماع ما لابد من سماعه من كتب الحديث وهي الست الأمهات فإن عجز عن ذلك اشتغل بسماع ما هو مشتمل على ما فيها من المتون كجامع الأصول ثم لا يدع البحث عن ما هو موجود من أحاديث الأحكام في غيرها بحسب ما تبلغ إليه طاقته ويبحث عن الأحاديث الخارجة عن الصحيح في المواطن التي هي مظنة للكلام عليها من الشروح والتخريجات علوم أخرى ويكون مع هذا عند ممارسته لعلم اللغة على وجه يهتدي به في البحث عن الألفاظ العربية واستخراجها من مواطنها وعنده من علم إصلاح الحديث وعلم الجرح والتعديل ما يهتدي به إلى معرفة ما يتكلم به الحفاظ على أسانيد الأحاديث ومتونها مؤشر الوصول إلى المرتبة الثانية فمن علم بهذه العلوم علما متوسطا يوجب ثبوت مطلق الملكة في كل واحد منها صار مجتهدا مستغنيا عن غيره ممنوعا من العمل بغير دليل وعليه أن يبحث عند كل حادثة يحتاج إليها في دينه عن أقوال أهل العلم وكيفية استدلالهم في تلك الحادثة وما قالوه وما رد عليهم به فإنه ينتفع بذلك انتفاعا كاملا ويضم إلى علمه علوما وإلى فهمه فهوما وهو وإن قصر عن أهل الطبقة الأولى فليس بمحتاج فيما يتعلق به من أمر الدين إلى زيادة على هذا المقدار ويختلف الانتفاع بالعلوم باختلاف القرائح والفهوم فقد ينتفع من هو كامل الذكاء صادق الفهم قوي الإدراك بالقليل ما لا يقتدر على الانتفاع بما هو أكثر منه كثير من جامد الفهم راكدي الفطنة =

كيفية الوصول إلى المرتبة الثالثة للعلم

وأما أهل الطبقة الثالثة وهم الذين يرغبون في إصلاح ألسنتهم وتقويم أفهامهم بما يقتدرون به على فهم معاني ما يحتاجون إليه من الشرع وعدم تحريفه وتصحيفه وتغيير إعرابه من دون قصد منهم إلى الاستقلال بل يعزمون على التعويل على السؤال عند عروض التعارض والاحتياج إلى الترجيح علم الإعراب فينبغي تعلم شيئا من علم الإعراب حتى يعرف به إعراب أواخر الكلمة ويكفيه في مثل ذلك حفظ منظومة الحريري المسماة الملحة وقراءة شروحها على أهل الفن وتدربه في إعراب ما يطلع عليه من الكلام المنظوم والمنثور ويحفى السؤال عن إعراب ما أشكل عليه حتى تثبت له بمجموع ذلك ملكه يعرف بها أحوال أواخر الكلم إعرابا وبناء وإلا لم يعلم بوجوده العلل النحوية ولا عرف الحجج العربية علم مصطلح الحديث ثم يتعلم اصطلاح علم الحديث ويكفيه في مثل ذلك مثل النخبة وشرحها علم السنة ثم بعد هذا يكب على سماع المختصرات في الحديث مثل بلوغ المرام و العمدة و المنتقى وإن تمكن من سماع جامع الأصول أو شئ من مختصراته فعل فإذا أشكل عليه معنى حديث نظرا في الشروح أو كتب اللغة وإن أشكل عليه الراجحة من المتعارضات أو التبس عليه هل الحديث مما يجوز العمل به أم لا شأن علماء هذا الشأن الموثوق بعرفانه وأنصافهم ويعمل على ما يرشدونه إليه استفتاء وعملا بالدليل لا تقليدا وعملا بالرأي علم التفسير ويشتغل بسماع تفسير من التفاسير التي لا يحتاج إلى تحقيق وتدقيق كتفسير البغوي وتفسير السيوطي المسمى الدر المنثور ماذا يفعل الطالب عند حدوث إشكال أو صعوبة وإذا أشكل عليه بحث من المبادئ أو تعارضت عليه التفاسير ولا يهتد إلى الراجح أو التبس عليه أمر يرجع إلى تصحيح شئ مما يجده في كتب التفسير رجع إلى أهل العلم لذلك الفن سائلا له عن الرواية لا عن الرأي وقد كان من هذه الطبقة الصحابة والتابعين وتابعيه الذين يقولون فيهم النبي ﷺ خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فإنهم كانوا يسألون أهل العلم منه عن حكم ما يعرض لهم مما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم فيروون لهم في ذلك ما جاء عن الله تعالى أو عن رسوله ﷺ فيعلمون بروايتهم لا برأيهم من دون تقليد ولا التزام رأي كما يعرف ذلك من يعرفه وقد أوضحت هذا إيضاحا كثيرا في كتابي الذي سميته القول المفيد في حكم التقليد فليرجع إليه=

كيفية الوصول إلى المرتبة الرابعة للعلم

وأما الطبقة الرابعة الذين يقصدون الوصول إلى علم من العلوم أو علمين أو أكثر لغرض من الأغراض الدينة أو الدنيوية من دون تصور إلى علم الشرع كما يفعله من يريد أن يكون مدركا لصناعة من الصناعات التي لها تعلق بالعلم وذلك كمن يريد أن يكون شارعا ومنشئا أو حاسبا فإنه ينبغي له أن يتعلم ما يتوصل به إلى ذلك المطلب كيف تصبح شاعرا فمن أراد أن يكون شاعرا تعلم من علم النحو والمعاني والبيان ما يفهم به مقاصد أهل هذه العلوم ويستكثر من الاطلاع على علم البديع والإحاطة بأنواعه والبحث عن نكته وأسراره وعلم العروض والقوافي ويمارس أشعار العرب ويحفظ ما يمكنه حفظه منها ثم أشعار أهل الطبقة الأولى من أهل الإسلام كجرير والفرزدق وطبقتهما ثم أشعار مثل بشار بن برد وأبي نواس ومسلم بن الوليد وأعيان من جاء بعدهم كأبي تمام والبحتري والمتنبي ثم أشعار المشهورين بالجودة من أهل العصور المتأخرة ويستعين على فهم ما استعصب عليه بكتب اللغة ويكب على الكتب المشتملة على تراجم أهل الأدب كيتيمة الدهر وذيولها وقلائد العقيان وما هو على نمطه من مؤلفات أهل الأدب كالريحانة و النفحة كيف تصبح منشئا وكما يحتاج إلى ما ذكرناه من أراد أن يكون شاعرا فهو يحتاج إليه أيضا من أراد أن يكون منشئا مع احتياجه إلى الإطلاع على المثل السائر لابن الأثير و الكامل للمبرد و الأمالي للقالي ومجاميع خطب البلغاء ورسائلهم خصوصا مثل ما هو مدون من بلاغات الجاحظ والفاضل والعماد وأمثالهم فإنه ينتفع بذلك أتم انتفاع كيف تصبح محاسبا ومن أراد أن يكون محاسبا اشتغل بعلم الحساب ومؤلفاته معروفة كيف تصبح عالما بالفلسفة وهكذا من أراد أن يطلع على علم الفلسفة فإنه يحتاج إلى معرفة العلم الرياضي وهو علم يعرف به أحوال الكم المتصل والمنفصل والعلم الطبيعي وهو العلم الباحث عن أحوال عالم الكون والفساد والعلم الإلهي وهو العلم الباحث عن أحوال الموجود بما هو موجود مع ما يتعلق بذلك من أحوال المبدأ والمعاد وهكذا علم الهندسة وهو العلم الباحث عن مقادير الأشياء كما وكيفا ومبادئ الأشكال فمن جمع هذه العلوم الأربعة أعني الرياضي والطبيعي والإلهي والهندسي صار فيلسوفا والعلم بالعلوم الفلسفية لا ينافي علم الشرع بل يزيد المتشرع الذي قد رسخت قدمه في علم الشرع غبطة بعلم الشرع ومحبة له لأنه يعلم أنه لا سبيل للوقوف على ما حاول الفلاسفة الوقوف عليه إلا من جهة الشرع وأن كل باب غير هذا الباب لا ينتهي بمن دخل إليه إلى غاية وفائدة كيف تصبح طبيبا ومن كان مريدا لعلم الطب فعليه بمطالعة كتب جالينوس فإنها أنفع شئ في هذا الفن باتفاق من جاء بعده من المشتغلين بهذه الصناعة إلا النادر القليل وقد انتقى منها جماعة من المتأخرين ستة عشر كتابا وشرحوها شروحا مفيدة فإن تعذر عليه ذلك فأكمل ما وقفت عليه من الكتب الجامعة بين المفردات والمركبات والعلاجات كتاب القانون لابن سينا و كامل الصناعة المشهور ب الملكي لعلي بن العباس

ومن أنفع المختصرات في هذا الفن الذخيرة لثابت بن قرة فإنها قد تضمنت من العلاجات النافعة والأدوية المجربة مع اختصارها ما هو قائم مقام كثير من المطرلات ومن أنفع ما في هذا الفن باعتبار خواص الأدوية المفردة وبعض المركبات تذكرة الشيخ داود الأنطاكي ولو كمل بالمعالجات لكان مغنيا عن غيره ولكنه انقطع بعد أن شرع في الكلام على معالجات العلل على حروف أبجد فوصل إلى حرف الطاء ثم انقطع الكتاب ومن أنفع الكتب في هذا الفن الموجز وشروحه وبالجملة فمن كان قاصدا إلى علم من العلوم كان عليه أن يتوصل إليه بالمؤلفات المشهورة بنفع من اشتغل بها المحررة أحسن تحرير المهذبة أبلغ تهذيب وقد قدمنا في كل فن ما فيه إرشاد إلى أحسن المؤلفات فيه كيف تكون عالما بمذهب من المذاهب وكثيرا ما يقصد الطالب الذي لم يتدرب بأخلاق المنصفين ويتهذب بإرشاد المحققين الاطلاع على مذهب من المذاهب المشهورة ولم تكن له في غيره رغبة ولا عنده لما سواه نشاط فأقرب الطريق إلى إدراك مقصده ونيل مأربه أن يبتدئ بحفظ مختصر من مختصرات أهل ذلك المذهب كالكنز في مذهب الحنفية و المنهاج في مذهب الشافعية فإذا صار ذلك المختصر محفوظا له متقنا على وجه يستغني به عن حمل الكتاب شرع في تفهم معانيه وتدبر مسائله على شيخ من شيوخ ذلك الفن حتى يكون جامعا بين حفظ ذلك المختصر وفهم معانيه مع كونه مكررا لدرسه متدبرا لمعانيه الوقت بعد الوقت حتى يرسخ حفظه رسوخا يأمن معه من التفلت ثم يشتغل بدرس شرح مختصر من شروحه على شيخ من الشيوخ ثم يترقى إلى ما هو أكثر منه فوائد وأكمل مسائل ثم يكب على مطالعة مؤلفات المحققين من أهل ذلك الفن فيضم ما وجده من المسائل خارجا عن ذلك المختصر قد صار محفوظا له إليه على وجه يستحضره عند الحاجة إليه ولكنه إذا لم يكن لديه من العلم إلا ما قد صار عنده من فقه ذلك المذهب فلا ريب أنه يكون عامي الفهم سيء الإدراك عظيم البلادة غليظ الطبع

فعليه أن يبتدئ بتهذيب فهمه وتلقيح فكره بشيء من مختصرات النحو ومجاميع الأدب حتى تثبت له الفقاهة الصورية وأما الفقاهة الحقيقية فلا يتصف بها إلا المجتهد بلا خلاف بين المحققين = مباحث ضرورية لطالب الحق

وإذا عرفت ما ينبغي لكل طبقة من تلك الطبقات من المعارف العلمية فلنكمل لك الفائدة بذكر مباحث ينتفع بها طالب الحق ومريد الإنصاف انتفاعا عاما ويرتقي بها إلى مكان يستغني به عن كثير من الجزئيات.

جلب المصالح ودفع المفاسد
الدلائل العامة والكليات
أصالة المعنى الحقيقي وعدم جواز الانتقال عنه إلا لعلاقة أو قرابة
التحايل على أحكام الشريعة
الإجماع والقياس والاجتهاد والاستحسان
جلب المصالح ودفع المفاسد

فمنها أن يعلم أن هذه الشريعة المطهرة السمحة مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد ومن تتبع الوقائع الكائنة من الأنبياء والقصص المحكية في كتب الله المنزلة علم ذلك علما لا يشوبه شك ولا تخالطه شبهة وقد وقع ذلك من نبيا ﷺ وقوعا لا ينكره من له أدنى علم بالشريعة المطهرة فإنه ﷺ لما تبين له نفاق بعض المنافقين واستحقاقه للقتل بحكم الشريعة قال لا يتحدث الناس بأن محمدا يقتل أصحابه فترك قتله لجلب مصلحة هي أتم نفعا للإسلام وأكثر عائدة على أهله ودفع مفسدة هي أعظم من المفسدة الكائنة بترك قتله وبيان ذلك أنه إذا تحدث الناس بمثل هذا الحديث وشاع بينهم شيوعا لا يتبين عنده السبب كان ذلك من أعظم المنفرات لأهل الشرك عن الدخول في الدين لأنه يصد أسماعهم ذلك الحديث فيظنون عنده أن ما يعتقدونه من السلامة من القتل بالدخول في الإسلام غير صحيح فيهربون منه هربا شديدا ويبعدون عنه بعدا عظيما وهكذا وقع منه ﷺ التأثير لجماعة ممن لم تثبت قدمه في الإسلام بغنائم حنين كأبي سفيان والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن فكان يعطي الواحد من هؤلاء وأمثالهم المائة من الإبل وما يقوم مقام ذلك والمهاجرون والأنصار الذين هم المقاتلة المستحقون للغنيمة ينظرون إلى التأثير ووقع في أنفسهم ما وقع حتى قال قائلهم يرحم الله رسول الله يعطي هؤلاء وسيوفنا تقطر من الدماء فلما علموا بما أراده ﷺ من المصلحة العائدة على الإسلام وأهله بتأليف مثل هؤلاء وتأثيرهم بالغنيمة قبلوه أتم قبول وطابت أنفسهم أكمل طيبة وهكذا وقع منه ﷺ العزم على مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة ظنا منه بأن في ذلك جلب مصلحة ودفع مفسدة فلما تبين له أن الترك أجلب للمصلحة وأدفع للمفسدة صار إليه وهكذا وقع منه ﷺ النهي عن تلقيح النخل فلما تبين له ما في ذلك من المصلحة لأهله أذن لهم به وهكذا وقع منه الأذن بالعرايا لما شكى عليه الفقراء ما يلحقهم من المفسدة بالمنع من شراء الرطب بالتمر مع عظم الخطر فيما هو مظنة بالربا وكم يعد العاد من هذه الأمور وبالجملة فكل ما وقع من النسخ والتخصيص والتقييد في هذه الشريعة المطهرة فسببه جلب المصالح أو دفع المفاسد فإن كل عالم بعلم أن نسخ الحكم بحكم آخر يخالفه لم يكن إلا لما في الناسخ من جلب مصلحة أو دفع مفسدة زائدة على ما في الأولى من النفع والدفع وهكذا بالتقييد كما وقع في قوله تعالى غير أولى الضرر وقوله عز وجل من الفجر ونحو ذلك كثير جدا وقد كان دينه ﷺ وهجيره الإرشاد إلى التيسير دون التعسير وإلى التبشير دون التنفير فكان يقول يسروا ولا تعسروا ولا تنفروا وكان ﷺ يرشد إلى الألفة واجتماع الأمر وينفر عن الفرقة والاختلاف لما في الألفة والاجتماع من الجلب للمصالح والدفع للمفاسد وفي الفرقة والاختلاف من عكس ذلك فالعالم المرتاض بما جاءنا عن الشارع الذي بعثه الله تعالى متمما لمكارم الأخلاق إذا أخذ نفسه في تعليم العباد وإرشادهم إلى الحق وجذبهم عن الباطل ودفعهم عن البدع والأخذ بحجزهم عن كل مزلقة من المزالق مدحضة من المداحض بالأخلاق النبوية والشمائل المصطفوية الواردة في الكتاب العزيز والسنة المطهرة فيسر ولم يعسر وبشر ولم ينفر وأرشد إلى ائتلاف القلوب واجتماعها ونهى عن التفرق والاختلاف وجعل غاية همه وأقصى رغبته جلب المصالح الدينية للعباد ودفع المفاسد عنهم كان من أنفع دعاة المسلمين وأنجع الحاملين لحجج رب العالمين وانجذبت له القلوب ومالت إليه الأنفس وتذلل له الصعب وتسهل عليه الوعر وانقلب له المتعصب منصفا والمبتدع متسننا ورغب في الخير من لم يكن يرغب فيه ومال إلى الكتاب والسنة من كان يميل عنهما وتردى بأثواب الرواية من كان متجلببا بالرأي ومشى في رياض الاجتهاد واقتطف من طيب ثمراته واستنشق من عابق رياحينه ما كان معتقلا في سجن التقليد مكبلا بالقيل والقال مكتوفا بآراء الرجال فإن قلت ما ذكرته من انبناء الشريعة المطهرة على جلب المصالح ودفع المفاسد ماذا تريد به هل يلاحظ ذلك النفع والدفع مطلقا أو في حالة من الحالات قلت لا أريد ما قدمته إلا أن ما لم يرد فيه نص يخصه ولا اشتمل عليه عموم ولا تناوله إطلاق فحق على العالم المرشد للعباد الطالب للحق أن يستحضر ذلك ويرشد إليه ويهتم به ويدعو إليه وأما مواقع النصوص وموارد أدلة الكتاب والسنة ومواطن قيام الحجج فلا جلب نفع ولا دفع ضر أولى من ذلك وأقرب منه إلى الخير وأولى منه بالبركة فهو في الحقيقة مصالح مجلوبة ومفاسد مدفوعة وإن قصرت بعض العقول عن إدراك ذلك والإحاطة بكنهه والوقوف على حقيقته فمن قصورها أتيت ومن ضعف إدراكها دهيت ومن تدبر ذلك كل التدبر وتأمله بحق التأمل لم يخف عليه فإن كل جزئي من جزئيات الشريعة التي قام الدليل على طلبها والتعبد بها للكل أو البعض مطلقا أو مقيدا لا بد أن يشتمل على جلب مصلحة أو مصالح عرفها من عرفها وجهلها من جهلها وكل جزئي من جزئيات الشريعة الواردة بالنهي عن أمر أو أمور لا بد أن يكون المنهي عنه مشتملا على مفسدة أو مفاسد تندفع بالنهي عنها ولمزيد التتبع وكثرة التدبر في ذلك مدخلية جليلة لا سيما مع استحضار الاستعانة بالله والتوكل عليه والتفويض إليه =

الدلائل العامة والكليات

ومما يستعين به طالب الحق ومريد الإنصاف على ما يريده من ربط المسائل بالدلائل والخروج من آراء الرجال المتلاعبة بأهلها من يمين إلى شمال أن يتدبر الدلائل العامة ويتفكر فيما يندرج تحتها من المسائل بوجه من وجوه الدلالة المعتبرة فإنه إذا تمرن في ذلك وتدرب صار مستحضرا لدليل كل ما يسأل عنه من الأحكام الشرعية كائنا ما كان وعرف معنى قوله عز وجل ما فرطنا في الكتاب من شيء ومن أمعن النظر فيما وقع منه ﷺ من استخراج الأحكام الشرعية من كتاب الله تعالى زاده ذلك بصيرة كما ثبت عنه أنه لما سئل عن الحمر الأهلية فقال لم أجد فيها إلا هذه الآية القائلة من يعلم مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره فإن في هذا وأمثاله أعظم عبرة للمعتبرين وأجل بصيرة للمتبصرين وأوضح قدرة للمعتدين من العلماء المجتهدين وثبت أنه ﷺ قال لعمرو ابن العاص صليت بصحابك وأنت جنب يا عمرو فقال سمعت الله يقول ولا تقتلوا أنفسكم فقرره النبي ﷺ وضحك ولم يقل شيئا وهذا باب واسع يطول تعداده وهكذا التفكر في الكليات الصادرة عمن أعطى جوامع الكلم وأفصح من نطق بالضاد كقوله ﷺ إنما الأعمال بالنيات فإن هذا اللفظ الموجز والعبارة المختصرة صالحة للاستدلال بها على كل جزء من جزئيات الشرع فتدخل ما حصلت فيه النية في عداد الأعمال المقبولة ويخرج ما لم تحصل فيه النية إلى حيز الأعمال المردودة وتصير بها المباحات قربات وعبادات أقل أحوالها الاندراج تحت حقائق المندوبات ويبطل كثير من الصور والحاكية لما هو من العبادات بعقد النية وعدم وجودها لا على الوجه المعتبر وكقوله ﷺ كل بدعة ضلالة ومن غشنا فليس منا و الحلال بين والحرام بين وكل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد فإن كل فرد من أفراد هذه العبارات وأمثالها صالح لجعله قضية كبرى للشكل الأول فلا يبقى فرد من الأفراد إلا وأمكن إدراجه تحت هذه الكلية باجتلاب قضية صغرى سهلة الحصول نقول مثلا هذا أمر ليس عليه أمر النبي ﷺ وكل أمر ليس عليه أمره رد فهذا رد فلا يبقى فعل ولا قول ولا اعتقاد لم يأت به الشرع إلا وأمكن الاستدلال على رده بهذا الحديث الصحيح وهكذا العمل في سائر الكليات والمتحلى بالمعارف العلمية يستغني بمجرد الإشارة والإيقاظ لأن المواد قد حصلت له بما حصله من العلوم ومارسه من المعارف فربما يغفل عن إخراج ما في القوة إلى الفعل فإذا نبه على ذلك تنبه وكان العمل سهلا والانتفاع بالعلوم يسيرا =

أصالة المعنى الحقيقي وعدم جواز الانتقال عنه إلا لعلاقة أو قرابة

ومن جملة ما ينبغي تصوره ويعينه استحضاره أن يعلم أن هذه الشريعة المباركة هي ما اشتمل عليه الكتاب والسنة من الأوامر والنواهي والترغيبات والتنفيرات وسائر ماله مدخل في التكليف من غير قصد إلى التعمية والألغاز ولا إرادة لغير ما يفيده الظاهر ويدل عليه التركيب ويفهمه أهل اللسان العربي فمن زعم أن حرفا من حروف الكتاب والسنة لا يراد به المعنى الحقيقي والمدلول الواضح فقد زعم على الله ورسوله زعما يخالف اللفظ الذي جاءنا عنهما

فإن كان ذلك لمسوغ شرعي تتوقف عليه الصحة الشرعية أو العقلية التي يتفق العقلاء عليها لا مجرد ما يدعيه أهل المذاهب والنحل على العقل مطابقا لما قد حببه إليهم التعصب فأدناه من عقولهم البعد عن الإنصاف فلا بأس بذلك وإلا فدعوى التجوز مردوده مضروب بها في وجه صاحبها فاحرص على هذا فإنه وإن وقع الاتفاق على أصالة المعنى الحقيقي وعدم جواز الانتقال عنه إلا لعلاقة وقرينة كما صرح به في الأصول وغيرها فالعلم في كتب التفسير والحديث والفقه يخالف هذا لمن تدبره وأعمل فكره ولم يغتر بالظواهر ولا جمد على قبول ما يقال من دون بحث عن موارده ومصادره وكثيرا ما يجد المتعصبين يحأمون عن مذاهبم ويؤثرونها على نصوص الكتاب والسنة فإذا جاءهم نص لا يجدون عنه متحولا وأعياهم رده وأعجزهم دفعه أدعو أنه مجاز واذكروا للتجوز علاقة هي من البعد بمكان وقرينة ليس لها في ذلك المقام وجود ولا تدعو إليها حاجة وأعانهم على هذه الترهات استكثارهم من تعداد أنواع القرائن والعلاقات حتى جعلوا من جملة ما هو من العلاقات المسوغة للتجوز التضاد فانظر هذا التلاعب وتدبر هذه الأبواب التي فتحوها على أدلة الكتاب والسنة وقبلها عنهم من لم يمعن النظر ويطيل التدبر فجعلها علما وقبلها على كتاب الله وسنة رسوله وأصلها دعوة افتراها على أهل اللغة متعصب قد آثر مذهبه على الكتاب والسنة لم يستطع التصريح بترجيح المذهب على الدليل فدقق الفكر وأعمق النظر عنادا الله تعالى وبغيا على شريعته وخداعا لعباده فقال هذا الدليل وإن كان معناها الحقيقي يخالف ما نذهب إليه فهو هنا مجاز والعلاقة كذا والقرينة كذا ولا علاقة ولا قرينة فيأتي بعد عصر هذا المتعصب من لا يبحث عن المقاصد ولا يتدبر المسالك كما ينبغي فيجعل تلك العلاقة التي افتراها ذلك المتعصب من جملة العلائق المسوغة للتجوز ولهذا صارت العلاقات قريبا من ثلاثين علاقة ثم لما كان منه جملة أنواع القرائن العرفية والعقلية افترى كل متعصب على العقل والعرف ما شاء وصنع في مواطن الخلاف ما أرد والله المستعان =

التحايل على أحكام الشريعة

ومن جملة ما يستعين به على الحق ويأمن معه من الدخول في الباطل وهو لا يشعر أن يقرر عند نفسه أن هذه الشريعة لما كانت من عند عالم الغيب والشهادة الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ويعلم ما تكن الصدور وتخفيه الضمائر ويحول بين المرء وقلبه كانت المخادعة بالحيل الباطلة والتخلص مما طلبه بالوسائل الفاسدة من أعظم المعاصي له وأقبح التجرؤ عليه وجميع هذه الحيل التي دونها أهل الرأي هي ضد لما شرعه وعناد له ومراوغة لأحكامه ومجادلة باطلة لما جاء في كتابه وسنة رسوله ومن تفكر في الأمر كما ينبغي وتدبره كما يجب اقشعر له جلده وقف عنده شعره فإن هذا الذي وضع للعباد هذه الحيل كأنه يقول لهم هذا الحكم الذي أوجبه الله عليكم أو حرمه قد وجدت لكم عنه مخلصا ومنه متحولا بذهني الدقيق وفكري العميق هو كذا وكذا فهذا المخذول قد بلغ من التجرؤ على الله تعالى مبلغا يتقاصر عنه الوصف لأنه ذهب يعانده ويضاد ما تعبدنا به بمجرد رأيه الفايل وتخليه الباطل مقرا على نفسه بقبيح صنعه وأنه جاء بما يريح العباد من الحكم الشرعي فإن كان مع هذا معتقدا أن ذلك التحيل الذي جاء به يحلل الحرام ويحرم الحلال فهو مع كذبه على الله وافترائه على شريعته قد ضم إلى ذلك ما يستلزم أنه يدعي لنفسه أن يشرع للعباد من عند نفسه غير ما شرعه لهم وذلك لا يكون إلا لله سبحانه فإن كان هذا المخذول يدعي لنفسه الإلوهية مع الله سبحانه فحسبك من شر سماعه وإن كان لا يدعي لنفسه ذلك فيقال له ما بالك تصنع هذا الصنع وأي أمر ألجأك إليه وأوقعك فيه قال فإن رأيت الله عز وجل قد صنع مثل هذا في مثل قصة أيوب وصنعه رسول الله ﷺ في المريض الذي زنى فيقال له ما أنت وهذا لأكثر الله في أهل العلم من أمثالك ومن أنت حتى تجعل لنفسك ما جعله الله لنفسه فلو كان هذا الأمر الفظيع سائغا لأحد من عباد الله لكان لهم أن يشرعوا كما شرع وينسخوا من أحكام الدين ما شاوا كما نسخ ثم أي جامع بين هذه أو بين ما شرعه الله من ذلك فإنه مجرد خروج من مأثم وتحلل من يمين قد شرع الله تعالى فيها إتيان الذي هو خير كما تواترت بذلك الأحاديث الصحيحة حتى ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ حلف على ذلك فقال والله لا أحلف على شئ فأرى غيره خيرا منه إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني فأين هذا مما يصنعه أسراء التقليد من الكذب على الله تعالى وعلى شريعته وعلى عباده أما الكذب على الله فلكونهم زعموا عليه أنه أذن لهم وسوغه لهم وهو كذب بحت وزور محض وإن كانوا لا يعتقدون ذلك بل جعلوه من عند أنفسهم جرأة وعنادا ومكرا وخداعا فالأمر أشد والقضية أعظم وأما كذبهم على الشريعة فلكونهم جعلوا ما نصبوه من الحيل الملعونة والذرائع الشيطانية والوسائل الطاغوتية من جملة الشريعة ومن مسائلها ودونوه في كتب العبادات والمعاملات وأما الكذب على عباده فلكونهم ذهبوا إليهم فخدعوهم وماكروهم بأن ما أوجبه الله من كذا ليس بواجب وما حرمه من كذا ليس بمحرم إذا فعلوا كذا أو قالوا كذا وما أشبه هذا بما كان يصنعه رؤساء الجاهلية لأهلها من التلاعب بهم كما يتلاعب الصبيان والمجانين وكما يصنعه المجان وأهل الدعاية فإن تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وكذلك ما كان يفعلونه من النسئ وما كانوا عليه من الميسر والأنصاب والأزلام وما كانوا يعتمدونه من يطوف بالبيت الحرام من تلك الأفعال التي هي أشبه بأفعال المجانين كالتعري وما يشاكله لا مقصد لرؤساء الجاهلية بهذه الأمور التي كانوا يفعلونها ويأمرون العباد بها إلا مجرد ارتفاع الذكر وإظهار اقتدارهم على تنفيذ ما يريدونه وقبول الناس لما يأمرونهم به وإن كانت أمور متكررة وبلايا متعددة وأعمالا شاقة فتدبر هذا وتأمله لتكون على حذر من نفاق ما جاءوا به من الحيل الباطلة عندك وإلا كنت كالبهيمة التي لا تمنع ظهرها من راكب ولا تستعصى على مستعمل وقد دلت أدلة الكتاب والسنة على هذا وكفاك بما قصة الله سبحانه علينا من حيلة أهل السبت وقد أورد البخاري في كتاب الحيل من صحيحه ما يشفى ويكفى ولبعض المتأخرين في هذا مصنف حافل استوعب فيه جميع الأدلة وهي معلومة لعلماء الكتاب والسنة ولكننا اقتصرنا ههنا على بيان الأسباب التي تنشأ عنها الحيل والمفاسد التي تتأثر عنها ليكون ذلك أوقع للمصنف وأوقع في نفسه كما هو دأبنا في هذا المختصر فإنا نشير إلى القضية التي ينبغي اجتنابها بكلمات لا تنبو عنها مسامع المنصفين ولا تنكرها قلوبهم ولا تبعد عنها أفهامهم وإذا حصل المقصود بالاختصار لم تبق للتطويل حاجة وقد ينفع القليل نفعا لا يبلغه الكثير على أنا لم نكن بصدد نشر الأدلة وإيراد ألفاظها فإنها معروفة مدونة بل نحن بصدد الإرشاد إلى الإنصاف بعبارات تشتمل على معان قد تحتجب عن كثير من الأذهان وتبعد عن غالب الأفهام عدم الاغترار بمجرد الاسم دون النظر في معاني المسميات وحقائقها ومن جملة ما ينبغي له استحضاره أن لا يغتر بمجرد الاسم دون النظر في معاني المسميات وحقائقها فقد يسمى الشئ باسم شرعي وهو ليس من الشرع في شئ بل هو طاغوت بحت وذلك كما يقع من بعض من نزعه عرق إلى ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريث الإناث فإنهم يخرجون أموالهم أو أكثرها أو أحسنها إلى الذكور من أولادهم بصورة الهبة والنذر والوصية أو الوقف فيأتي من لا يبحث عن الحقائق فينزل ذلك منزلة التصرفات الشرعية اغترارا منه بأن الشارع سوغ للناس الهبة والنذر والوصية غير ملتفت إلى أن هذا لم يكن له من ذلك إلا مجرد الاسم الذي أحدثه فاعله ولا اعتبار بالأسماء بل الاعتبار بالمسميات فالهبة الشرعية هي التي أرشد إليها النبي ﷺ لما سأله بشير والد النعمان عن تخصيص ولده النعمان بشيء من مال وطلب منه أن يشهد على ذلك فقال لا أشهد على جور ووقع منه الأمر بالتسوية بين الأولاد وهو حديث صحيح له طرق متعددة فالهبة المشتملة على التفصيل المخالف لفرائض الله ليست بهبة شرعية بل جور مضاد لما شرعه الله فإطلاق اسم الهبة عليها مخادعة لله ولعباده فلا ينفذ من ذلك شئ بل هو باطل رده لكونه ليس على أمر النبي ﷺ وهكذا من خصص بعض ورثته بنذر يخالف ما شرعه الله من الفرائض فهذا ليس هو النذر الذي شرعه الله بل هو نذر طاغوتي فإن النذر الذي شرعه الله سبحانه هو الذي يقول فيه النبي ﷺ النذر ما ابتغى به وجه الله ويقول لا نذر في معصية الله كما هو ثابت في الصحيح وهذا الناذر أخرج بعض ماله إلى بعض ورثته مخالفا لما فرضه الله تعالى من المواريث ثم سمى ذلك البعض نذرا وهو لم يبتغ به وجه الله ولا أطاعه به بل ابتغى به وجه الشيطان الذي وسوس له بأن يخالف الشرع وأطاعه بمعصية الله وهكذا من أخرج بعض ماله على تلك الصفة بالوصية فإن هذه الوصية المتضمنة للمفاضلة بين الورثة ليست الوصية التي شرعها الله تعالى لعباده بل وصية طاغوتية فإن الوصية الشرعية هي التي يقول فيها النبي ﷺ إن الله قد أعطى كل حق حقه ولا وصية لوارث ويقول فيها الرب تبارك وتعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار ويقول فيها فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه والمراد بالإصلاح إبطال ما جاء من الفساد في وصيته وقد ورد عن النبي ﷺ أن الضرار في الوصية من أسباب النار وأنه يحبط عبادة العمر كما أخرج ذلك جماعة وصححه من صححه فمن جاءته من هذه الوصايا المشتملة عل الضرار بوجه من الوجوه فأنفذها من الثلث مستدلا على ذلك بمثل حديث الثلث والثلث كثير وبمثل ما ورد من سائر الآيات والأحاديث القاضية بالوصية على الإطلاق فقد غلط بينا فإن هذه الوصية التي قال فيها النبي ﷺ الثلث والثلث كثير هي وصية قربة كما في القصة المشهورة الثابتة في الأمهات أن سعد بن أبي وقاص استأذن رسول الله ﷺ أن يتصدق بجميع ماله فمازال ينازله حتى قال له الثلث والثلث كثير وهكذا ما ورد من قوله ﷺ إن الله جعل لكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم فإنه قيده بقوله في آخره زيادة في حسناتكم ولا يزيد في الحسنات إلا ما كان قربة وأما وصايا الضرار المتضمنة لمخالفته ما شرعه الله فهي زيادة في السيئات لا زيادة في الحسنات فتبين لك أن هذه الوصية التي أذن بها النبي ﷺ ليست وصية الضرار فإن تلك قد أخرجها الله من عموم مشروعية الوصية بقوله غير مضار وأخرجها النبي ﷺ بما تقدم من الوعيد الشديد لمن يضار في وصيته ويمنع الوصية للوارث حتى ثبت في بعض الروايات بلفظ لا تجوز وصية لوارث وقد أوضحته في أبحاث متعددة من مصنفاتي وليس المراد ههنا إلا إرشاد طالب إنصاف إلى عدم الاغترار بما يفعله المتلاعبون بأحكام الشرع من تسمية أمور تصدر عنهم من الطاغوت بأسماء شرعية مخادعة لأنفسهم واستدراجا لمن لا فهم عنده ولا بحث عن الحقائق وهذه الذريعة الشيطانية قد عمت وطمت خصوصا أهل البادية فإنه بقى في أنفسهم ما كانت عليه الجاهلية الأولى من عدم توريث الإناث ومن لاحظ له عندهم من الورثة وإن كانوا ذكورا فأرادوا الاقتداء بهم ولكنهم لما كانوا مخبوطين بسوط الشرع مقهورين بسيفه نصبوا هذه الوسائل الملعونة فقالوا نذرنا وهبنا أو وصينا وساعدهم على ذلك طائفة من المقصرين الذين لا يعقلون الصواب ولا يفهمون ربط المسببات بأسبابها فحرروا لهم تحريرات على أبلغ ما يفيد النفوذ والصحة طمعا فيما يتعجلونه من الحطام الذي هو من أقبح أنواع السحت فإن ما يأخذونه على ذلك هو حرام كما ثبت عن الشارع من تحريم حلوان الكاهن وأجر البغي وما يأخذه من يعلم كتاب الله ونحو ذلك من الأمور ولا يشك من يفهم الحجج الشرعية أن سبب تحريم ذلك هو كونه على تحليل حرام أو تحريم حلال وهذا الذي يكتب هذه المكاتيب الطاغوتية المتضمنة لمخالفة ما شرعه الله من لعباده من المواريث وقدره لهم في كتابه وقيده بعدم الضرار هو أولى بتحريم ما يأخذه من أولئك وقد يقوم شيطان من شياطين المقلدة ومخذول من مخذولي المشتغلين بالرأي فيجادل عن هذه الوصايا والنذر ورد الهبات ونحوها وينزلها منزلة الوصايا والنذور والهبات الشرعية ويورد ما قاله من يقلده ممن يستعظم الناس كلامه ويقتدون بمذهبه ويحكى لهم ما صرح به في هذه الأبواب ونحوها من مصنفاته غير متعقل الفرق بين هذه الطواغيت وبين تلك الأمور الشرعية ولا فاهم للمغايرة الكلية ولا متأمل للأسباب التي تصدر عنها تلك الأمور وأن أهل العلم بأسرهم إنما تكلموا في مصنفاتهم على الأمور الشرعية لا الأمور الجاهلية وأن مجرد الاسم لا يحلل الحرام ولا يحرم الحلال كما لو سميت الخمر ماء أو الماء خمرا فإنه لو كان الحكم يدور على التسمية لكان الخمر المسمى ماء حلالا وكان الماء المسمى خمرا حراما وهذا خرق للشرع وهتك للدين ومن اغتر فليس من النوع الإنساني بل من النوع البهيمي ولا ينبغي الكلام نعه بل يقال له هذا الذي فيه النزاع ليس هو ما تكلم عليه من تقلده وتقتدي به بل هو شئ آخر يضاده ويخالفه لأن أهل الشرع إنما يتكلمون على الأمور الشرعية وهذا ليس شرعي بل طاغوتي فإن فهم هذا استراح منه وإن لم يفهمه ففي السكوت راحة من تحمل كرب مخاطبة السفهاء ولقد وقعنا مع جماعة من مقصري القضاة والمفتين في هذه المسألة في أمور عظيمة وخطوب جسيمة وفتن كبيرة لا يتسع المقام لبسطها والحق منصور والباطل مخذول ولله الحمد وأعظم ما يتمسكون به من التغرير على العوام والتزوير على الملوك ومن يقدر على القيام بنصرهم استكثارهم من قولهم هذا خالف المذهب فعل كذا قال كذا ولم يخالف في الواقع إلا الطاغوت ولا نصر إلا الشرع فليحذر طالب العلم من الاغترار بمثل ذلك والروعة منه فإن العاقبة للمتقين والله ناصر المحقين والأعمال بالنيات ولقد تلطف المحبون لهذه الطواغيت والمساعدون لهم على كتبها لما صممت على إبطالها وأبطلها كل من ترد عليه من فاض أو غيره بعد أن وقع بيني وبينهم ما أشرت إليه سابقا فكان من جملة ما عدلوا إليه من الذرائع والوسائل الإقرار للذكور أو لمن يحبون بديون ونفقات ومكتسبات ولم ينفق ذلك علي ولا التفت إليه بل كشفت عن أصل كل إقرار فما كان صادرا عن هذه المقاصد الفاسدة أبطلته ومن جملة ما تلطف به من له أولاد ذكورا وإناثا أن يعمدوا إلى أولاد أولادهم الذكور فينذرون عليهم ويوصون لهم ويقولون إنهم فعلوا ذلك لغير وارث ولم يفعلوا ذلك إلا لقصد تقليل نصيب بناتهم وتوفير نصيب الذكور وقد تتبعت هذا فما وجدت أحدا يوصي لأولاده أولاده أو ينذر عليهم إلا ومعه بنات أو له ميل إلى بعض الأولاد دون بعض ولا يفعلون ذلك لمقصد صالح إلا في أندر الحالات وأقلها ومن جملة هذه الوصايا الطاغوتية والنذور الشيطانية ما يفعله كثير من الناس من النذور والوصايا على قبول الأموات فإنه لا مقصد لهم بذلك إلا استجلاب الخير واستدفاع الشر من صاحب القبر وهو قد صار بين أطباق الثرى يعجز عن نفع نفسه فضلا عن نفع غيره فلا يصح شئ من ذلك بل يتوجه على أهل الولايات صرفه في مصالح المسلمين ويعرفون الناس بقبح ما يصنعونه من ذلك وأنه من الأمور التي لا يحل اعتقادها وأن الضر والنفع واستجلاب الخير واستدفاع الشر بيد الله عز وجل ليس لغيره فيه حكم ولا له عليه اقتدار فإن رجعوا عن ذلك وتابوا وإلا انتقل صاحب الولاية معهم إلى ما هو أشد من ذلك ولا يدعهم حتى يتوبوا وهكذا ما يقع من الأوقاف على القبور فإنها من الحبس الشيطانية والدلس الطاغوتية ولا يحل تقرير شئ منها ولا السكوت عنه بل صرفها في مصالح المسلمين من أهم الأمور وأوجبها فإن في عدم إنكارها وإبطالها مفسدة عظيمة تنشأ عنها الاعتقادات الباطلة المفضية بصاحبها إلى نوع من أنواع الشرك وهو لا يشعر =

الإجماع والقياس والاجتهاد والاستحسان

ومن جملة ما ينبغي لطالب الحق أن يتصوره ويحذر من قبوله بدون كشف عنه ما يجعله كثير من أهل العلم دليلا يستدلون به على إثبات الأحكام الشرعية على العباد وهو الإجماع والقياس والاجتهاد والاستحسان الإجماع فأما الإجماع فقد أوضحت في كثير من مؤلفاتي أنه ليس بدليل شرعي على فرض إمكانه لعدم ورود دليل يدل على حجيته وأوضحت انه ليس بممكن لاتساع البلاد الإسلامية وكثرة الحاملين للعلم وخمول كثير منهم في كل عصر من الأعصار منذ قام الإسلام إلى هذه الغاية وتعذر الاستقراء التام لما عند كل واحد منهم وأن الأعمار الطويلة لا تتسع لذلك فضلا عن الأعمار القصيرة فإن المدينة الواسعة قد يعجز من هو من أهلها أن يعرف ما عند كل فرد من أفراد علمائها بل قد يعجز عن معرفة كل عالم فيها كما هو مشاهد محسوس معلوم لكل فرد فكيف بالمدائن المتباينة فكيف بجميع الأقطار الإسلامية بدوها وحضرها ومداينها وقراها فقد يوجد في زاوية من الزوايا التي لا يؤبه لها ولا يرفع الرأس إليها من يقل نظيره من المشاهير في الأمصار الواسعة ومع هذه فهذا المذاهب قد طبقت الأقطار وصارت عند المنتمين إلى الإسلام قدوة يقتدون بها لا يخرج عنها ويجتهد رأيه ويعمل بما قام عليه الدليل إلا الفرد بعد الفرد والواحد بعد الواحد وهم على غاية الكتم لما عندهم والتستر بما لديهم خوفا من المتمذهبين لأنهم قد جعلوا المذهب الذي هم عليه حجة شرعية على كل فرد من أفراد العباد لا يخرج عنه خارج ولا يخالفه مخالف إلا مزقوا عرضه وأهانوه وأخافوه والدولة في كل أرض معهم وفي أيديهم والملوك معهم لأنهم من جنسهم في القصور والبعد عن الحقائق وإذا وجد النادر من الملوك والشاذ من السلاطين له من الإدراك والفهم للحقائق ما يعرف به الحق والمحقين فهو تحت حكم المقلدة وطوع أمرهم لأنهم جنده ورعيته فإذا خالفهم خالفوه فيظن عند ذلك ذهاب ملكه وخروج الأمر من يده وإذا كان الحال هكذا فكيف يمكن الوقوف على ما عند كل عالم من علماء الإسلام هذا باعتبار الأحياء وهو في أهل العصور المنقرضة من الأموات أشد بعدا وأعظم تعذرا فإنه لا سبيل إلى ذلك إلا ما يوجد في المصنفات وما كل من يعتد به في الإجماع يشتغل بالتصنيف بل المشتغلون بذلك منهم هم القليل النادر ومع هذا فمن اشتغل منهم بالتصنيف لا يحظى بانتشار مؤلفاته منهم إلا أقلهم وهذا معلوم لكل أحد لا يكاد يلتبس ولا شك أن من الملوك من يصر على أمر مخالف للشرع فلا يستطيع أحد من أهل العلم أن ينكر عليه أو يظهر مخالفته تقية ومحاذرة ورغبة في السلامة وفرارا من المحنة وبالجملة فالدنيا مؤثرة في كل عصر وإذا عجز الملك عن إظهار مذهبه على فرض أنه من أهل الإدراك والحال أن بيده السيف والسوط فما ظنك بعالم المستضعف لم يكن بيده إلا أقلامه ومحبرته ومما أحكيه لك مما أدركته في أيام الحداثة ومن الصبا أن الإمام المهدي العباس بن الحسين رحمه الله تعالى أحد ملوك اليمن ووالد إمامنا الإمام المنصور حفظه الله كان له إدراك تام وفهم ثاقب واتصل بمقامه من أكابر العلماء المنصفين العالمين بالأدلة جماعة فأظهر في الصلاة سنن كانت متروكة لترك المتمذهبين لها فقامت قيامة جماعة من المتفيهقين المقلدين وأثاروا حفائظ جماعة من شياطين البدوان الذين لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه ولا يدرون من الدين إلا رسمه فتجمعوا في بواديهم وقالوا قد خرج الإمام من مذهب الشيعة إلى مذهب السنة ومن الاقتداء بعلي بن أبي طالب إلى الاقتداء بمعاوية كما لقنهم هذه المقالة شياطين المقلدة ثم خرجوا عليه في جند يعجز عن مقاومتهم فما وسعه إلا مصانعتهم بالمال والإعلان بترك تلك السنن التي هي أوضح من شمس النهار وأحكي لك أيضا حادثة أشنع من هذه كائنة في عام تحرير هذه الأحرف هي أني لم أزل منذ اتصلت بخليفة عصرنا حفظه الله مرغبا له في العدل في الرعية على الوجه الذي ورد الشرع به ورفع المظالم المخالفة لقطعيات الشريعة كالمكس ونحوه والاقتصار على ما ورد به الشرع وعدم مجاوزته في شيء فألهمه الله سبحانه إلى الإجابة إلى ذلك بعد طول مداراة وترغيب فجعلت مكتوبا محكيا عنه مضمونه أنه قد أمر عماله في العدل في الرعية ورفع كل مظلمة والاقتصار على ما ورد به الشرع في كل شيء وأن من لم يمتثل هذا الأمر كان على القاضي في ذلك القطر أن ينهى أمره إلى حضرة الإمام حتى يحل به من العقوبة ما يردعه ويردع أمثاله وفي هذا المكتوب التشديد في الربا والسياسة الشيطانية والأخذ على قضاة الأقطار أن يبعثوا من يعلم الناس أمر دينهم من الصلاة والصيام والحج والزكاة والتوحيد على الوجه المطابق لمراد الله عز وجل وقرر الإمام ذلك وأنفذه وأظهره في الناس فقامت شياطين المقلدة وفراعين البدوان وخونة الوزراء في وجه هذا الأمر قياما يبكي له الإسلام ويموت كمدا عنده الأعلام فجعلوا هذا المعروف منكرا وما كان الأمر السابق عليه من المنكر معروفا وليس العجب ممن له حظ في المظالم ونصيب من المكس وقسط من السحت فقد يفعل ذلك من يؤثر الدنيا ويبيع الآجل بالعاجل ولكن العجب من جماعة لا حظ لهم في شيء من ذلك ولهم حظ من العلم ونصيب من الورع متكئين على أرائكهم عاكفين على دفاترهم صاروا ينكرون من هذا الأمر ما يعلمون أنه مخالفة لقطعيات الشريعة مع علمهم بحكم من خالفها واعترافهم بأن هذا هو الحق الذي اتفقت عليه الكتب المنزلة والرسل المرسلة لكنهم يتركون تدبير الشرع ويعودون لتدبير الدولة وما يصلحهم ويصلح لهم حتى كأنهم من أهل الولايات ومن القابضين للجبايات وظهر ما عندهم وتكلموا به للناس حتى اعتقد من لا حقيقة لديه من العامة ومن يلتحق بهم ومن أصحاب الدولة ومن شابههم أني أرشدت إلى خطأ وأمرت بمنكر فاجتمع من جميع ما قدمت ذكره تشوش خاطر الإمام ومن له رغبة في شرائع الإسلام فتوقف الأمر ولم ينفذه من يقدر على التنفيذ ممن له رغبة فيه ووجد أعداء الله من الظلمة المجال فبالغوا في المخالفة والمدافعة والمحاولة والمصاولة فاسمع هذه الأعجوبة واعتبر بها وأني لا أشك أن الله سبحانه منفذ شرعه وناصر من نصره وخاذل من خذله ومتم نوره على رغم أنف من أباه ولكن للباطل صولة وللشيطان جولة حتى يقر الحق في قراره ويتم من العدل ورفع الظلم ما أمر الله به ومن رام أن ينصر باطلا أو يدفع حقا فهو مركوس من غير فرق بين رئيس ومرؤوس وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل وعند عزائم الرحمن يندفع كيد الشيطان القياس وأما القياس فاعلم أنه قد رسمه أهل الأصول بأنه مساواة أصل للفرع في علة حكمه ثم شرطوه بشروط وقيدوه بقيود هي معلومة عند من يعرف الفن لكنهم توسعوا في هذه المساواة وأثبتوها بأمور هي مجرد خيال ليس على ثبوته إشارة من علم وبيانه أنهم جعلوا مسالك العلة أنواعا فأكثر ما قيل أنها عشرة ثم جميع هذه المسالك إلا القليل هي بحث الرأي ومحصل الدعاوي المجردة فعليك أن تضع قدمك موضع المنع وتقوم في مقام الإنكار حتى يوجب عليك المصير إلى شيء منها ما لا يقدر على دفعه ولا يشك في صحته كمسلك النص على العلة ومسلك القطع بانتفاء الفارق ومثل هذا فحوى الخطاب وما شابه هذه الأمور وإياك أن تثبت أحكام الله بخيالات تقع لك أو لعالم مثلك من سابق الأمة أو لاحقها فإن عليك من الوزر والوبال ما قدمنا ذكره في هذا الكتاب وبالجملة فالقياس الذي يذكره أهل الأصول ليس بدليل شرعي تقوم به الحجة على أحد من عباد الله ولا جاء دليل شرعي يدل على حجيته وإن زعم ذلك من لا خبرة له بالأدلة الشرعية ولا بكيفية الاستدلال بها يعرف هذا من يعرفه وينكره من ينكره وأما ما كانت العلة فيه منصوصة فالدليل هو ذلك النص على العلة لأن الشارع كأنه صرح باعتبارها إذا وجدت في شيء من المسائل من غير فرق بين كونه أصلا أو فرعا وهكذا ما وقع القطع فيه بنفي الفارق فإنه بهذا اقدر قد صار الأمران اللذان لا فارق بينهما شيئا واحدا ما دل على أحدهما دل على الآخر من دون أصلا أو فرعا وهكذا ما وقع القطع فيه بنفي الفارق فأنه بهذا القدر قد صار الأمران اللذان لا فارق بينهما شيئا واحدا ما دل على أحدهما دل على الآخر من دون تعدية ولا اعتماد أصلية ولا فرعية وأما فحوى الخطاب ولحنه فهذان هما راجعان إلى المفهوم والمنطوق وإن سماهما بعض أهل العلم بقياس الفحوى وبحث العمل بالمفهوم خارج عما نحن بصدده وقد جاءت لغة العرب الحاكية لما كانوا يفهمونه ويتحاورون به ويعملون عليه أن مثل هذا المفهوم كان معتبرا لديهم مأخوذا به عندهم ولهذا قال من قال من العلماء إنه منطوق لا مفهوم ولقد تلاعب كثير من أهل الرأي بالكتاب والسنة تلاعبا لا يخفى إلا على من لا يعرف الإنصاف بهذه الذريعة القياسية وعولوا على ما هو منه أوهن من بيت العنكبوت وقدموه على آيات قرآنية وأحاديث نبوية وما هذه بأول فاقرة جاء بها الشيطان وحسنها لنوع الإنسان وذاد بها عباد الله عن شرائعه ومن أنكر هذا فلينظر المصنفات في الفقه ويتتبع مسائلها المبنية على مجرد القياس المبني على غير أساس مع وجود أدلة نيرة وبراهين مرضية ومن هذا الباب دخل أهل الرأي وإليه خرجوا من أبواب الأدلة الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ فكن رجلا رجله في الثرى وهامه همته في الثريا وكل من له فهم لا يغرب عنه أن الله تعالى لم يتعبد عباده بمجرد قول عالم من العلماء أنه قد أفاده مسلك تخريج المناط أو تنقيح الناط أو الشبه أو الدوران أو نحو هذا الهذيان هذا على فرض أنه لم يوجد في الكتاب والسنة ما يخالف هذا المسلك الذي لا يسلكه المتورعون ولا يمشي عليه المتدينون فكيف إذا كان الدليل المخالف له واضح المنار ظاهر الاشتهار قريب الديار لمن سافر إليه من أهل الاعتبار والكلام في هذا البحث طويل الذيول وقد أفرده جماعة من أهل العلم بالتصنيف وليس المراد هنا إلا مجرد التنبيه لطاب العلم وإني وإن حذرته عن العمل بهذا القياس فلا أحذره عن العلم به وتطويل الباع في معرفته والإحاطة بما جاء به المصنفون من أهل الأصول في مباحثه فإنه لا يعرف صحة ما قلته إلا من عرفه حق معرفته وقد يعرف الشيء ليجتنب ويحذر ويعرف الشر لا للشر الاستحسان وأما الاستحسان فاعلم أنهم رسموه بأنه دليل ينقدح في نفس المجتهد ويعسر عله التعبير عنه وأنت لا يخفى عليك إن بقي لك نصيب من فهم وحظ من إنصاف أن الله تبارك وتعالى لم يتعبد أحدا من عباده بدليل يستدل به أحد من علماء الأمة ويمكنه التعبير عنه وإبرازه من القول إلى الفعل إلا إذا كان صحيحا تقوم به الحجة فكيف يتعبدهم بما انقدح في نفس فرد من أفرادهم على وجه لا يمكنه التعبير عنه ولا إبرازه إلى الخارج فإن هذا الذي انقدح في نفسه لا ندري ما هو ولا كيف هو فكيف يكون حجة على أحد من الناس وقد عجز صاحبه عن بيانه وعسرت عليه ترجمته فبالله العجب من هذا الهذيان وكيف استجاز قائله أن يحكم عليه وأنه دليل شرعي ويفترى على الشرع ما ليس منه وعلى الله سبحانه ما لم يقله وبالجملة تبيان فساد هذا لا يحتاج إلى إيضاح وإفهام البشر وإن بلغت في الضعف أي مبلغ وقاربت أفهام الدواب فهي لا تطلب البرهان على بطلان هذا الهذيان ولو احتاج محتاج إلى الاستدلال على بطلان هذا الباطل لزمه أن يدفع فرية كل مفتر على الله ولله در الإمام الشافعي حيث يقول من استحسن فقد شرع الاجتهاد وأما الاجتهاد فقد رسموه بأنه استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن يحكم شرعي ولا شك أن هذا الظن الكائن بعد الاستفراغ وإن تعبد الله به ذلك المستفرغ لكونه فرضه عند فقد الدليل كما تقدم البحث عن هذا والاستدلال عليه لكن الشأن في كون هذا الظن حجة على أحد من عباد الله ممن لم يقع له هذا الظن ولا تقدم له استفراغ الوسع فإن الحجة الشرعية ليست ظنون بعض المكلفين بالشرع المتعبدين به على البعض الآخر ولا جاء في الشريعة حرف واحد مما يفيد هذا ويدل عليه بل صرح الكتاب العزيز بالنهي عن اتباع الظن وأنه لا يغني من الحق شيئا وأن بعضه إثم وهذه الأدلة الكلية توجب على الإنسان أن لا يعمل بظنه في شئ كائنا ما كان إلا ما خصصه الشرع فكيف بظن غيره فيا معشر المقلدة اسمعوا وعوا فإنكم إنما تتبعون ظنونا خطرت لقوم الحجة من الله بما في كتابه وسنة نبيه قائمة عليهم كما هي قائمة عليكم وهم متعبدون بها كتعبدكم بها فما لكم ولهم وماذا عليكم من ظنونهم فقد أسفر الصبح لذي عينين وارتفع ما على قلوب قوم من الرين إن بقي للهداية مجال ولاستماع الصواب احتمال وقد كررت الكلام في المقام بما لا يحتاج معه إلى التطويل هنا= مفاسد أصابت دين الإسلام

وأعلم أن المفاسد الماحقة لبركة الله والمفرقة لكلمة المسلمين كثيرة جدا والإحاطة بها تتعسر وقد ذكرنا هنا ما حضر عند التحرير وأعظم ما أصيب به دين الإسلام من الدواهي الكبار والمفاسد التي لا يوقف لها في الضرر على مقدار أمران:

تعدد المذاهب
الاعتقادات الفاسدة في بعض الأموات
مفاسد بعض أدعياء التصوف
تعدد المذاهب

أحدها هذه المذاهب التي ذهبت ببهجة الإسلام وغيرت رونقه وجهمت وجهه وقد قدمنا في هذا ما يستغنى عن الزيادة إن بقي له فهم يرجع به إلى الحق ويخرج به من الباطل =

الاعتقادات الفاسدة في بعض الأموات

والأمر الثاني هذه الاعتقادات التي حدثت لهذه الأمة في صالحي الأموات حتى صار الرجل يقرن من يعتقده من الأموات بمن يقلده منهم فيقول إمامه في المذهب فلان وشيخه في الاعتقاد والمحبة فلان وهذا يقوله ظاهرا وهو لو كوشف ونطق بما في ضميره لقال وشيخه الذي يعول عليه في زعمه عند الشدائد في قضاء حاجاته ونيل مطالبه فلان وصمى صام من خلف وأمام فإن هذه الداهية الدهياء والمصيبة الصماء العمياء فقد كان أوائل المقلدة يعتمدون على أئمتهم في المسائل الشرعية ويعولون على آرائهم ويقفون عند اختياراتهم ويدعون نصوص الكتاب والسنة ولكنهم ا ينزلون حوائجهم بغير الله عز وجل ولا يناجون سواه ولا يرجون غيره ولا يعولون إلا عليه ولا يطلبون إلا منه فهم وإن خلطوا صومهم وصلاتهم وحجهم وزكاتهم وسائر عباداتهم ومعاملاتهم بآراء الرجال وقلدوا في كثير من تفاصيلها ما لم يأذن الله بتقليده وأخذوا دينهم على الوجه الذي لم يأمر الله به ولا ارتضاه لهم لكنهم لم يخلطوا في معنى لا إله إلا الله ولا تلاعبوا بالتوحيد ولا دخلوا في أدوار الشرك ومضايق الجحود وبلايا الجاهلية وما كانوا عليه وأما هؤلاء فعمدوا إلى جماعة من الأموات الذين لا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون فقصدوهم في المهمات وعكفوا على قبورهم ونذروا لهم النذور ونحروا لهم النحاير وفزعوا إليهم عند المهمات فتارة يطلبون منهم من الحاجات ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل وخصوهم بالنداء وأفردوهم بالطلب وتارة ينادونهم مع الله عز وجل ويصرخون بأسمائهم مع اسم الله سبحانه فيأتون بكلمات تقشعر لها جلود من يعلم معنى لا إله إلا الله ويعرف مدلول قل هو الله أحد وتلاعب بهم الشيطان في ذلك ونقلهم من مرتبة إلى مرتبة ومن منزلة إلى منزلة حتى استعظموا من جانب هؤلاء الأموات الذي خلقهم الله ورزقهم وأحياهم وأماتهم ما لا يستعظمونه من جانب بارئ البرية وخالق الخالق يستعظمون جل اسمه وتعالى قدره ولا إله غيره وأفضى ذلك إلى أن أحدهم يحلف بالله تعالى فاجرا ولا يحلف بمن يعتقده من الأموات ويقدم على المعصية في المساجد التي هي بيوت الله ولا يقدم عليها عند قبر من يعتقده وتزايد الشر وعظمت المحنة وتفاقمت المصيبة حتى صار كثير منهم ينسبون ما أصابهم من الخير في الأنفس والأموال والأهل إلى ذلك الميت وما أصابهم من الشر في ذلك إليه وقد صارت تحت أطباق الثرى وغيب عن أعين البشر وصار مشغولا عاجزا عن جر نفع إليه أو دفع ضر عنه منتظرا لما ينتظر له مثله من الأموات لا يدري ما نزل به من هؤلاء النوكاء ولا يشعر بما ألصقوه به ولو علم بذلك لجالدهم بالسيف ودفعهم بما يقدر عليه ومن أعظم الذرائع الشيطانية والوسائل الطاغوتية أنهم بالغوا في التأنق فين عمارة قبور من يعتقدونه من الصالحين ونصبوا عليها القباب وجعلوا على أبوابها الحجاب ووضعوا عليها من الستور العالية والآلات الرائعة ما يبهر الناظر إليه ويدخل الروعة في قلبه ويدعوه إلى التعظيم كما جبلت عليه طبائع العوام من دخول المهابة في قلوبهم والروعة في عقولهم بما يتعاطاه المريدون لذلك كما يفعله غالب ملوك الدنيا من المبالغة في تزيين منازلهم وتعظيمها والتألق في بنائها والاستكثار من الحجاب والخدم والصياح والجلبة وارتباط الأسود ونحوها من الحيوانات ولبس فاخر الثياب قاصدين بذلك تربية المهابة لهم والمخافة منهم وصنع هؤلاء القبوريون كصنعهم ففعلوا في الأموات من جوالب التعظيم وأسباب الهيبة ما يكون له من التأثير في قلوب من يزورهم من العامة ما لا يقادر قدره ثم يزيد ذلك قليلا قليلا حتى يحصل لهم من الاعتقاد في أولئك الأموات ما يقدح في إسلامهم ويخدش في توحيدهم ولو اتبع الناس ما أرشد إليه الشارع من تسوية القبور كما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي الهياج قال قال لي علي بن أبي طالب ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ أن لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته فانظر كيف بعث رسول الله ﷺ أميرا لهدم القبور المشرفة وطمس التماثيل هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم بعث علي أيام خلافته أميرا على ذلك هو أبو الهياج وأخرج أبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث جابر أن النبي ﷺ نهى أن يجصص القبور وأن يبني عليه وأن يكتب عليه وأن يوطئ وأخرجه مسلم في صحيحه بدون ذكر الكتابة قال الحاكم النهي عن الكتابة على شرط مسلم وهي صحيحة غريبة قال والعمل من أئمة المسلمين من المشرق إلى المغرب على خلاف ذلك يعني يقررون كتابة الاسم من دون إنكار انتهى وأقول لا حجة في أحد خالف السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ كائنا من كان قل عددهم أو كثر فليس لهم أن يشرعوا للناس غير ما شرعه الله بل يحملون على الخطأ وعدم العناية بأمر الشرع والتساهل في أمر الدين وما هذا بأول باب من أبواب الشرع أهمله الناس وخالفوا فيه السنن الواضحة والشرائع الثابتة ولا سميا بعد أن استعلى الجهل على العلم وغلبت آراء الرجال ما جاء في الكتاب والسنة وصار التقليد والتمذهب هو المعروف عند الجمهور وغيره المنكر ولا اعتبار بسكوت أهل العلم الذين هم أهله فإنهم مغلوبون مكثورون مخبوطون بسوط العامة الذين منهم السلاطين وجنودهم كما قدمنا الإشارة إلى هذا وأطباق أهل المشرق والمغرب على الكتابة هو كأطباقهم على رفع القبور وتجصيصها ووضع القباب عليها وجعلها مساجد فخالفوا ما تقدم عنه ﷺ مع مخالفتهم لما ثبت في الصحيح عنه ثبوتا لا يخالفه فيه مخالف من أن النبي ﷺ قال لا تجعلوا قبري مسجدا لا تجعلوا قبرى وثنا لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدا وكان هذا القول من آخر ما قاله في مرض موته كما ثبت أن آخر ما قاله ﷺ الأمر بإخراج اليهود من جزيرة العرب وتنفيذ جيش أسامة ثم كان الواقع من أمته بعد هذا التأكيد أنهم بنوا على قبره الشريف قبة ومازال ملوك الإسلام يبالغون في تحسينها وتزيينها ورفع سمكها ووضعوا القباب ورفعوا القبور وكانوا يفعلون هذا بأهل الصلاح ثم تزايد الشر وصاروا يفعلون ذلك لمن له رئاسة دنيوية وإن كان من أفجر الفجرة وقد يوصي الميت في وصيته بذلك وأعجب من هذا كله تصريح جماعة من أهل الفقه بأنه لا بأس بذلك إذا كان الميت فاضلا ودونوه في مصنفاتهم التي هي مدارس الطلبة وضربوا ما ذكرناه من الأدلة في وجه من جاء به ورموا بها خلف الحائط ولم يردعهم دين ولا وزعهم حياء وقابلوا بما أسلفنا بقولهم أنه قد استحسن رفع هذه القباب وتزيين هذه القبور بعض السلف فلا كثر الله في أهل العلم من أمثال من استحسن مخالفة الشرع من السلف الذين صرتم تقولون عليهم بما لم يقولوه فإنه إذا صح ما تزعمونه من أنه استحسن ذلك بعض السلف فلا حجة في استحسان من استحسن مخالفة الشرع كائنا من كان فإنه أو مبتدع ومخالف للشرع وعاص لله ولرسوله وللشريعة المطهرة ولقد تزلزل بهذا السبب أقدام كثير من العباد عن الإسلام وذهب بهذه الذريعة إيمان جماهير من الأنام فإنا لله وإنا إليه راجعون فإنها لو كانت القبور على الصفة التي شرعها الله وعلمها الأمة رسول الله لم يحدث من هذه الاعتقادات الفاسدة شئ ولا يشك عاقل أن أعظم ما أدخل فاسد الاعتقاد في صدور كثير من العباد هو هذا الأمر مع سكوت العلماء عن البيان الذي أمرهم الله به ومجاملتهم للعامة إما مع علمهم بما في هذا الأمر من الخطر أو مع غلبة العادات الطارئة عليهم لما عندهم من العلم حتى ذهب ذلك بما يعلمونه ومحق بركته وأبطل ثمرته ومما أحكيه لك أنه كان يبلغني وأنا في الطلب للعلم والاشتغال به ما يصنعه أهل القطر التهامي من الاجتماع لزيارة جمعة من المعتقدين لديهم وما يحدث منهم عند ذلك من النهيق الذي لا يعود صاحبه إلى الإسلام سالما مع عدم إنكار من بتلك الديار من العلماء بل كان الكثير منهم يحضرون تلك المجامع ويشهدون تلك الزيارات فتكون المنكرات وما يحدث من أنواع الشرك بمرأى منهم ومسمع فكتب رسالة إلى العلماء من أهل تلك الديار على يد رجل من أهل العلم الراحلين إلى هنالك فلما عاد أخبرني بما حصل من الاستنكار منهم لما كتبته إليهم وعدم الاعتداد به والالتفات إليه فقضيت من ذلك العجب ثم لما ولى القضاء ببعض البيادر التهامية بعض علماء صنعاء الأكابر وشاهد من هذه المنكرات ما حمله على أن يحرر إلي سؤالا فأجبته برسالة مطولة سميتها الدر النضيد في إخلاص التوحيد وأمرته أن يكتب نسخا ويرسلها إلى القضاة في تلك الديار ففعل ولم يؤثر ذلك شيئا بل كتب كثير من علماء تلك الديار على رسالتي مناقشات واعتراضات فلم تمض إلا أيام قلائل حتى نزل بهم السيف وهدم الله تلك الطواغيب وذهب بتلك الاعتقادات الفاسدة فهي الآن صافية عن تلك الأمور التي كان يتلوث بها أهلها فلا يقدر أحد منهم أن يستغيث بغير الله سبحانه أو ينادي ميتا من الأموات أو يجري ذكره على لسانه ولكنه لم يغسل أدرانهم ويذيب بالكدورات التي كانت تشوب صافي إسلامهم إلا السيف وهو الحكم العدل في من استحكمت عليه نزعات الشيطان الرجيم ولم تردعه قوارع آيات الرحمن الرحيم =

مفاسد بعض أدعياء التصوف

ويلتحق بالأمرين المذكورين أمر ثالث وإن لم تكن مفسدته كمفسدتهما ولا شموله كشمولهما وهو ما صار عليه هذه الطائفة المدعوة بالمتصوفة فقد كان أول هذا الأمر يطلق هذا الاسم على من بلغ في الزهد والعبادة إلى أعلا مبلغ ومشى على هدى الشريعة المطهرة وأعرض عن الدنيا وصد عن زينتها ولم يغتر ببهجتها ثم حدث أقوام جعلوا هذا الأمر طريقا إلى الدنيا ومدرجا إلى التلاعب بأحكام الشرع ومسلكا إلى أبواب اللهو والخلاعة ثم جعلوا لهم شيخا يعلمهم كيفية السلوك فمنهم من يكون مقصده صالحا وطريقته حسنة فيلقن أتباعه كلمات تباعدهم من الدنيا وتقربهم من الآخرة وينقلهم من رتبة إلى رتبة على أعراف يتعارفوها ولكنه لا يخلو غالب ذلك من مخالفة للشرع وخروج عن كثير من آدابه والخير كل الخير في الكتاب والسنة فما خرج عن ذلك فلا خير فيه وإن جاءنا أزهد الناس في الدنيا وأرغبهم في الآخرة وأتقاهم الله تعالى وأخشاهم له في الظاهر فإنه لا زهد لمن يمش على الهدى النبوي ولا تقوى ولا خشية لمن لم يسلك الصراط المستقيم فإن الأمور لا تكون طاعات بالتعب فيها والنصب وإيقاعها على أبلغ الوجوه بل إنما تكون طاعات خالصة محضة مباركة نافعة بموافقة الشرع والمشي على الطريقة المحمدية واعتبر بالخوارج فقد وصفهم النبي ﷺ بما وصف من تلك العبادات والمجاهدات التي لا تبلغ عبادتنا ولا مجاهدتنا إلى شئ منها ولا تعتبر بالنسبة إليها ومع هذا فقال إنها لا تجاوز تراقيهم وقال إنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية وقال إنهم كلاب النار فانظر كيف كانت مجاهداتهم وعباداتهم وقيامهم الليل وصيامهم النهار نقمة عليهم وبلية ومحنة لهم لم تعد عليه بنفع قط إلا ما أصيبوا به من الخسار والنكال والوبال فكانت تلك الطاعات الصورية من صلاة وصيام وتهجد وقيام هي نفس المعاصي الموجبة للنار وهكذا كل من رام أن يطيع اله على غير الوجه الذي شرعه لعباده وارتضاه لهم فإنه ربما يلحق بالخوارج بجامع وقوع ما أطاعوا الله به على غير ما شرعه لهم في كتابه وعلى لسان رسوله وإني أخشى أن يكون من هذا القبيل ما يقع من كثير من المتصوفة من تلك الأقوال والأفعال التي ظاهرها التنفير عن الدنيا والبعد عن أهلها والفرار عن زينتها مع تلك الوظائف التي يلازمونها من التخشع والإنكسار والتلهب والتأسف والصراخ تارة والهدوء تارة أخرى والرياضيات والمجاهدات ملازمة أذكار يذكرون بها لم ترد في الشرع على صفات لم يأذن الله بها مع ملازمة تلك الثياب الخشنة الدرنة والقعود في تلك المساطب القذرة وما ينضم إلى ذلك من ذلك الهيام والشطح والأحوال التي لو كان فيها خير لكانت لرسول الله ﷺ وأصحابه الذين هم خير القرون ولا أنكر أن في هذه الطائفة من قد بلغ في تهذيب نفسه وغسلها من الطواغيب الباطنة والأصنام المستورة عن الناس كالحسد والكبر والعجب والرياء ومحبة الثناء والشرف والمال والجاه مبلغا عظيما وارتقى مرتقا جسيما ولكني أكره له أن يتداوى بغير الكتاب والسنة وأن يتطبب بغير الطب الذي اختاره الله لعباده فإن في القوارع القرآنية والزواجر المصطفوية ما يغسل كل قذر ويرخص كل درن ويدمغ كل شهية ويدفع كل عارض من عوارض السوء فأنا أحب لكل عليل في الدين أن يتداوى بهذا الدواء فيعكف على تلاوة كتاب الله متدبرا له متفهما لمعانيه باحثا عن مشكلاته سائلا عن معضلاته ويستكثر من مطالعة السيرة النبوية ويتدبر ما كان يفعله رسول الله ﷺ في ليله ونهاره ويتفكر في أخلاقه وشمائله وهديه وسمته وما كان عليه أصحابه وكيف كان هديهم في عبادتهم ومعاملاتهم فإنه إذا تداوى بهذا الدواء ولاحظته العناية الربانية وجذبته الهداية الإلهية فاز بكل خير مع ماله من الأجر الكثير والثواب الكبير في مباشرة هذه الأسباب وإذا حال بينه وبين الانتفاع بهذه الأمور حائل ومنعه من الظفر بما يترتب عليها مانع فقد نال بتلك الأسباب التي باشرها أجرا عظيما لأنه طلب الخير من معدنه ورام نيل الرشد من موطنه فكان له في تلك الأشغال من الأجر ما لطلبة علم الشرع لأنه قد جهد نفسه في الأسباب ولم يفتح له باب فانظر كم بين هذين الأمرين من المسافة الطويلة فإن طالب الرشد بغير الأسباب الشرعية لا يأمن على نفسه بعد الوصول إلى مطلوبه من أن يكون صنعه كصنع الخوارج في خسرانهم بما ظنوه ربحا ووقوعهم في الظلمة وقد كانوا يظنون أنهم يلاقون صبحا لأنهم خالفوا الطريقة التي أرشد الله إليها عباده وأمرهم بسلوكها وإذا كان هذا الأمر مجوزا في طلبة الخير من غير طريق الشرع كصلحاء الصوفية اللذين لا رغبة لهم في غير تهذيب أخلاقهم على وجه يوجب زهدهم فيما ترغب النفوس إليه وتتهالك الطبائع البشرية عليه فما ظنك بمن كان من متصوفة الفلاسفة الذين يدورون بمرقعاتهم وأبدانهم القشفة وثيابهم الخشنة ووجوههم المصفرة حول ما يقوله الفلاسفة من تلك المقالات التي هي ضد الشرع وخلاف له وينهقون عند إدراك شئ من تلك المعارف الشيطانية نهيقا منكرا ويسمون ذلك حالا وهو عند التحقيق حال حائل عن طريق الدين وخيال مائل عن سبيل المؤمنين وللرد على هؤلاء جمعت الرسالة التي سميتها الصوارم الحداد هي من المجموعات التي جمعتها في أيام الحداثة وأوائل الشباب وبعد هذا كله فلست أجهل أن في رجال هذه الطائفة المسماة بالصوفية من جمع الله له بين الملازمة لهذه الشريعة المطهرة والمشي على الطريقة المحمدية والصراط الإسلامي مع كونه قد صار من تصفية باطنه من كدورات الكبر والعجب والحسد والرياء ونحوها بمحل يتقاصر عنه غيره ويعجز عنه سواه ولكني في هذا المصنف بسبب الإرشاد إلى العمل بالكتاب والسنة والتنفير عما عداهما كائنا ما كان فلست أحب لمن أراد القرب إلى الله والفوز بما لديه والظفر بما عنده أن يتسبب إلى ذلك بسبب خارج عنهما من رياضة أو مجاهدة أو خلوة أو مراقبة أو يأخذ عن شيخ من شيوخ الطريقة الصوفية شيئا من الاصطلاحات الموصلة إلى الله عندهم بل يطلب علم الكتاب والسنة ويأخذهما عن العلماء المتقنين لهما المؤثرين لهما على غيرهما المتجنبين لعلم الرأي وما يوصل إليه النافرين عن التقليد وما يحمل عليه فإنه إذا فعل ذلك سلك مسلك النبوة وظفر بهدى الصحابة وسلم من البدع كائنة ما كانت فعند ذلك يحمد مسراه ويشكر مسعاه ويفوز بخير أولاه وأخراه

تم بحمد الله =

=============

==============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مكتبات الكتاب الاسلامي

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أ...