مدونة استكمال مصنفات الإمامين ابن حزم والوكاني

الثلاثاء، 22 مارس 2022

المحلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب المعاملة في الثمار كتاب المعاملة في الثمار (مسألة 1343 - 1346)/كتاب إحياء الموات كتاب إحياء الموات (مسألة 1347 - 1354) ثم كتاب المرفق كتاب المرفق (مسألة 1355 - 1361)/ كتاب الوكالة (مسألة 1362 - 1366)/كتاب المضاربة (مسألة 1367 - 1377)/ كتاب الإقرار (مسألة 1378 - 1382) /كتاب اللقطة والضالة والآبق وفيه مسألة واحدة وهي*1383 . .....





كتاب المعاملة في الثمار
المحلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب المعاملة في الثمار
كتاب المعاملة في الثمار (مسألة 1343 - 1346)


فهارس كتاب المعاملة في الثمار

1343 - مسألة: حكم المعاملة في الثمار
1344 - مسألة: لا يجوز أن يشترط على صاحب الأرض في
1345 - مسألة: وكل ما قلناه في
1346 - مسألة: لا يجوز أن يشترط في



===




كتاب المعاملة في الثمار

1343 - مسألة : المعاملة فيها سنة ، وهي أن يدفع المرء أشجاره أي شجر كان من نخل ، أو عنب ، أو تين ، أو ياسمين ، أو موز ، أو غير ذلك ، لا تحاش شيئا مما يقوم على ساق ويطعم سنة بعد سنة لمن يحفرها ويزبلها ويسقيها - إن كانت مما يسقى بسانية ، أو ناعورة ، أو ساقية ، ويؤبر النخل ، ويزبر الدوالي ، ويحرث ما احتاج إلى حرثه ويحفظه حتى يتم ويجمع ، أو ييبس إن كان مما ييبس ، أو يخرج دهنه إن كان مما يخرج دهنه ، أو حتى يحل بيعه إن كان مما يباع كذلك ، على سهم مسمى من ذلك الثمر ، أو مما تحمله الأصول كنصف أو ثلث ، أو ربع ، أو أكثر ، أو أقل ، كما قلنا في " المزارعة " سواء سواء . برهان ذلك - : ما ذكرناه هنالك من فعل رسول الله ﷺ بخيبر . وروينا من طريق أبي داود نا أحمد بن حنبل نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد نا أبي عن محمد بن إسحاق حدثني نافع مولى ابن عمر عن عبد الله بن عمر قال : قال عمر بن الخطاب للناس " أيها الناس إن رسول الله ﷺ كان عامل يهود خيبر على أننا نخرجهم إذا شئنا ، فمن كان له مال فليلحق به ، فإني مخرج يهود ، فأخرجهم " . قال أبو محمد : وبهذا يقول جمهور الناس ، إلا أننا روينا عن الحسن ، وإبراهيم كراهة ذلك - ولم يجزه أبو حنيفة ، ولا زفر . وأجازه ابن أبي ليلى ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والشافعي ، ومالك ، وأحمد ، وأبو سليمان ، وغيرهم . وأجازه مالك في كل شجر قائم الأصل إلا فيما يخلف ويجنى مرة بعد أخرى كالموز ، والقصب ، والبقول ، فلم يجز فيها ، ولا أجاز ذلك أيضا في البقول إلا في السقي خاصة . ولم يجزه الشافعي في أشهر قوليه ، إلا في النخل ، والعنب فقط - ومن أصحاب أبي سليمان من لم يجز ذلك ، إلا في النخل فقط . قال أبو محمد : من منع من ذلك إلا في النخل وحده ، أو في النخل والعنب ، أو في بعض دون بعض ، أو في سقي دون بعل ، فقد خالف الحديث عن النبي ﷺ كما ذكرنا قبل ودخلوا في الذين أنكروا على أبي حنيفة فلا معنى لقولهم . واحتج بعض المقلدين لأبي حنيفة بأن قالوا : لا تجوز الإجارة إلا بأجرة معلومة . قال أبو محمد : ليست المزارعة ولا إعطاء الشجر ببعض ما يخرج منها : إجارة ، والتسمية في الدين إنما هي لرسول الله ﷺ عن ربه تعالى قال تعالى : { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } . ويقال لهم : هلا أبطلتم بهذا الدليل بعينه المضاربة ، وقلتم : إنها إجارة بأجرة مجهولة ؟ فإن قالوا : إن المضاربة متفق عليها ؟ قلنا : ودفع الأرض بجزء مما يخرج منها ، ودفع الشجر مما يخرج منها : متفق عليه بيقين من فعل رسول الله ﷺ وعمل جميع أصحابه رضي الله عنهم ، ولا تحاش منهم أحدا ، فما غاب منهم عن خيبر إلا معذور بمرض أو ضعف أو ولاية تشغله ، ومع ذلك فكل من غاب بأحد هذه الوجوه فقد عرف أمر خيبر ، واتصل الأمر فيها عاما بعد عام إلى آخر خلافة عمر - فهذا هو الإجماع المتيقن المقطوع عليه ، لا ما يدعونه من الباطل والظن الكاذب في الإجماع على المضاربة التي لا تروى إلا عن ستة من الصحابة رضي الله عنهم ، فاعترضوا في أمر خيبر بأن قالوا : لا يخلو أهل خيبر من أن يكونوا عبيدا أو أحرارا ، فإن كانوا عبيدا فمعاملة المرء لعبده بمثل هذا جائز ، وإن كانوا أحرارا فيكون الذي أخذ منهم بمنزلة الجزية ؛ لأنه لم يأت في شيء من الأخبار أنه عليه السلام قد أخذ منهم جزية ولا زكاة . قال أبو محمد : وهذا مما جروا فيه على الكذب والبهت والتوقح البارد - : أما قولهم : لا يخلو أهل خيبر من أن يكونوا عبيدا ، فكيف انطلقت ألسنتهم بهذا ، وهم أول مخالف لهذا الحكم ؟ فلا يختلفون في أن أهل العنوة أحرار ، وأنه إن رأى الإمام إرقاقهم فلا بد فيهم من التخميس ، والبيع لقسمة أثمانهم . ثم كيف استجازوا أن يقولوا : لعلهم كانوا عبيدا وقد صح أن عمر أجلاهم بحضرة الصحابة رضي الله عنهم عن عهد رسول الله ﷺ بإخراج اليهود عن جزيرة العرب ؟ فكيف يمكن أن يستجيز عمر تفويت عبيد المسلمين ، وفيهم حظ لليتامى والأرامل ؟ إن من نسب هذا إلى عمر لضال مضل ، بل إلى رسول الله ﷺ . وقد صح أنه عليه السلام أراد إجلاءهم فرغبوا في إقرارهم فأقرهم على أن يخرجهم إذا شاء المسلمون ، وهو عليه السلام لا يجوز أن ينسب إليه تضييع رقيق المسلمين . ومن المحال أن يكونوا عبيدا له عليه السلام خاصة ؛ لأنه عليه السلام ليس له من المغنم إلا خمس الخمس وسهمه مع المسلمين وقد قال قوم : والصفي ، ولم يقل أحد من أهل الإسلام : إن جميع من ملك عنوة عبيد له عليه السلام . ثم لو أمكن أن يكون ما زعموا من الباطل - وكانوا له عبيدا - لكان قد أعتقهم بلا شك - : كما روينا من طريق البخاري نا إبراهيم بن الحارث نا يحيى بن أبي بكير نا زهير - هو ابن معاوية الجعفي - نا أبو إسحاق - هو السبيعي - عن عمرو بن الحارث [ ختن رسول الله ] وأخي أم المؤمنين جويرية بنت الحارث قال { ما ترك رسول الله ﷺ عند موته دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا إلا بغلته البيضاء ، وسلاحه ، وأرضا جعلها صدقة } . وقد قسم عليه السلام من أخذ عنوة بخيبر - : كما روينا من طريق مسلم نا زهير بن حرب نا إسماعيل ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس { أن رسول الله ﷺ غزا خيبر } فذكر الحديث وفيه { : قال : فأصبناها عنوة ، وجمع السبي فجاءه دحية فقال : يا رسول الله أعطني جارية من السبي ؟ قال : اذهب فخذ جارية ، فأخذ صفية بنت حيي } وذكر الحديث . قال أبو محمد : وكانت الأرض كلها عنوة ، وصالح أهل بعض الحصون على الأمان ، فنزلوا ذمة أحرارا - وقد صح من حديث عمر قوله كما قسم رسول الله ﷺ خيبر ، فصح أن الباقين بها أحرار . وأما قولهم : إن ذلك المأخوذ منهم كان مكان الجزية ، فكلام من لا يتقي الله تعالى ، وكيف يجوز أن يكون ذلك النصف مكان الجزية ؟ وإنما كان حقوق أرباب الضياع المقسومة عليهم الذي عومل اليهود على كفايتهم العمل ، والذين خطبهم عمر كما ذكرنا وأمرهم أن يلحقوا بأموالهم فلينظروا فيها إذا أراد إجلاء اليهود عنها . والآثار بهذا متواترة متظاهرة كالمال الذي حصل لعمر بها فجعله صدقة وكقول ابن عمر في سبب إجلاء اليهود : خرجنا إلى خيبر فتفرقنا في أموالنا وكان إعطاء أمهات المؤمنين بعض الأرض والماء ، وبعضهن الأوساق ، وأن بقايا أبناء المهاجرين إليها إلى اليوم على مواريثهم ، فظهر هذيان هؤلاء النوكى . والعجب أنهم قالوا : لو كان إجماعا لكفر أبو حنيفة ، وزفر فقلنا : عذرا بجهلهما كما يعذر من قرأ القرآن فأخطأ فيه وبدله وزاد ونقص وهو يظن أنه على صواب ، وأما من قامت الحجة عليه وتمادى معاندا لرسول الله ﷺ فهو كافر بلا شك . وشغب أصحاب الشافعي بأن قالوا : لما صحت المساقاة في النخل وجب أن يكون أيضا في العنب ؛ لأن كليهما فيه الزكاة ، ولا تجب الزكاة في شيء من الثمار غيرهما . قال أبو محمد : وهذا فاسد وقياس بارد ، ويقال لهم : لما كان ثمر النخل ذا نوى وجب أن يقاس عليه كل ذي نوى ، أو لما كان ثمر النخل حلوا وجب أن يقاس عليه كل حلو ، وإلا فما الذي جعل وجوب الزكاة حجة في إعطائها بسهم من ثمارها ؟ وقال أيضا : إن ثمر النخل ظاهر يحاط به وكذلك العنب ؟ وقال علي : وكذلك التين ، والفستق ، وغير ذلك . وأما منع المالكيين من ذلك في الموز والبقل - فدعوى بلا دليل . فإن قالوا : لفظ " المساقاة " يدل على السقي ؟ فقلنا : ومن سمى هذا العمل " مساقاة " حتى تجعلوا هذه اللفظة حجة ؟ ما علمناها عن رسول الله ﷺ ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، وإنما نقولها معكم مساعدة فقط - وبالله تعالى التوفيق . وقد كان بخيبر بلا شك بقل وكل ما ينبت في أرض العرب من الرمان ، والموز ، والقصب ، والبقول ، فعاملهم عليه السلام على نصف كل ما يخرج منها - وبالله تعالى التوفيق .

1344 - مسألة : ولا يجوز أن يشترط على صاحب الأرض في " المزارعة " " والمغارسة " " والمعاملة في ثمار الشجر " لا أجير ، ولا عبد ، ولا سانية ، ولا قادوس ، ولا حبل ، ولا دلو ، ولا عمل ، ولا زبل ، ولا شيء أصلا وكل ذلك على العامل لشرط رسول الله ﷺ عليهم أن يعملوها من أموالهم فوجب العمل كله على العامل ، فلو تطوع صاحب الأصل بكل ذلك أو ببعضه فهو حسن لقول الله تعالى : { ولا تنسوا الفضل بينكم } .

1345 - مسألة : وكل ما قلناه في " المزارعة " فهو كذلك ههنا لا تحاش شيئا من تلك المسائل ، فأغنى عن تكرارها - وبالله تعالى التوفيق .

1346 - مسألة : ولا يجوز أن يشترط في " المزارعة " وإعطاء الأصول بجزء مسمى مما يخرج منها مشاع في جميعها على العامل : بناء حائط ، ولا سد ثلمة ، ولا حفر بئر ولا تنقيتها ، ولا حفر عين ولا تنقيتها ، ولا حفر سانية ولا تنقيتها ، ولا حفر نهر ولا تنقيته ، ولا عمل صهريج ولا إصلاحه ، ولا بناء دار ولا إصلاحها ، ولا بناء بيت ولا إصلاحه ، ولا آلة سانية ، ولا خطارة ، ولا ناعورة ؛ لأن كل ذلك شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل - فإن تطوع بشيء من ذلك بغير شرط جاز ؛ لأن السنة إنما وردت بأن الشرط عليهم أن يعتملوها بأموالهم ، وبأنفسهم فقط - : وكل هذا ليس من عمل الأرض ، ولا من عمل الشجر في شيء . وأما آلة الحرث ، والحفر كلها وآلة السقي كلها ، وآلة التقليم ، وآلة التزبيل ، والدواب ، والأجراء فكل ذلك على العامل ولا بد ؛ لأنه لا يكون العمل الواجب عليهم إلا بذلك ، فهو عليهم . وبالله تعالى التوفيق . [ تم " كتاب المعاملة في الثمار " والحمد لله رب العالمين ] .

========

كتاب إحياء الموات والإقطاع، والحمى، والصيد يتوحش ومن ترك ماله بمضيعة، أو عطب ماله في البحر
المحلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب إحياء الموات
كتاب إحياء الموات (مسألة 1347 - 1354)

فهارس كتاب إحياء الموات

1347 - مسألة: كل أرض لا مالك لها، فهي لمن سبق إليها وأحياها
1348 - مسألة: والإحياء هو قلع ما فيها من عشب
1349 - مسألة: ومن خرج في أرضه معدن فضة، أو ذهب فهو له
1350 - مسألة: ومن ساق ساقية، أو حفر بئرا، أو عينا فله ما سقى
1351 - مسألة: الشرب من نهر غير متملك، فالحكم أن السقي للأعلى
1352 - مسألة: من غرس أشجارا فله ما أظلت أغصانها عند تمامها
1353 - مسألة: ومن ترك دابته بفلاة ضائعة فأخذها إنسان فقام عليها فصلحت فلصاحبها الأول
1354 - مسألة: لا يلزم من وجد متاعه إذا أخذه أن يؤدي إلى الذي وجده عنده ما أنفق عليه


============


كتاب إحياء الموات والإقطاع والحمى والصيد يتوحش

1347 - مسألة : كل أرض لا مالك لها ولا يعرف أنها عمرت في الإسلام فهي لمن سبق إليها وأحياها - سواء بإذن الإمام فعل ذلك أو بغير إذنه - لا إذن في ذلك للإمام ولا للأمير - ولو أنه بين الدور في الأمصار - ولا لأحد أن يحمي شيئا من الأرض عمن سبق إليها بعد رسول الله ﷺ . فلو أن الإمام أقطع إنسانا شيئا لم يضره ذلك ، ولم يكن له أن يحميه ممن سبق إليه ؛ فإن كان إحياؤه لذلك مضرا بأهل القرية ضررا ظاهرا لم يكن لأحد أن ينفرد به لا بإقطاع الإمام ولا بغيره ، كالملح الظاهر ، والماء الظاهر ، والمراح ورحبة السوق والطريق ، والمصلى ، ونحو ذلك . وأما ما ملك يوما ما بإحياء أو بغيره ثم دثر وأشغر حتى عاد كأول حاله فهو ملك لمن كان له ، لا يجوز لأحد تملكه بالإحياء أبدا ، فإن جهل أصحابه فالنظر فيه إلى الإمام ، ولا يملك إلا بإذنه . وقد اختلف الناس في هذا : فقال أبو حنيفة : لا تكون الأرض لمن أحياها إلا بإذن الإمام له في ذلك . وقال مالك : أما ما يتشاح الناس فيه مما يقرب من العمران فإنه لا يكون لأحد إلا بقطيعة الإمام ، وأما حمى ما كان في الصحاري وغير العمران فهو لمن أحياه فإن تركه يوما ما حتى عاد كما كان ، فقد صار أيضا لمن أحياه وسقط عنه ملكه وهكذا قال في الصيد يتملك ثم يتوحش فإنه لمن أخذه ، فإن كان في أذنه شنف أو نحو ذلك فالشنف الذي كان له والصيد لمن أخذه . وقال الحسن بن حي : ليس الموات إلا في أرض العرب فقط . وقال أبو يوسف : من أحيا الموات فهو له ، ولا معنى لإذن الإمام ، إلا أن حد الموات عنده ما إذا وقف المرء في أدنى المصر إليه ثم صاح لم يسمع فيه ، فما سمع فيه الصوت لا يكون إلا بإذن الإمام . وقال عبد الله بن الحسن ، ومحمد بن الحسن ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأبو سليمان وأصحابه : كقولنا . فأما من ذهب مذهب أبي حنيفة فاحتجوا بخبر من طريق عمرو بن واقد عن موسى بن يسار عن مكحول عن جنادة بن أبي أمية قال : نزلنا دابق وعلينا أبو عبيدة بن الجراح فقتل حبيب بن مسلمة قتيلا من الروم فأراد أبو عبيدة أن يخمس سلبه فقال له حبيب : إن رسول الله ﷺ جعل السلب للقاتل ؟ فقال له معاذ بن جبل : مه يا حبيب إني سمعت رسول الله ﷺ يقول : { إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه } وقالوا : لما كان الموات ليس أحد أولى به من أحد أشبه ما في بيت المال ، ما نعلم لهم شبهة غير هذا . قال علي : أما الأثر فموضوع ؛ لأنه من طريق عمرو بن واقد وهو متروك باتفاق من أهل العلم بالآثار - ثم هو حجة عليهم ؛ لأنهم أول من خالفه فأباحوا الصيد لمن أخذه بغير إذن الإمام ، فإن ادعوا إجماعا كذبوا لأن في التابعين من منع من الصيد في دار الحرب وجعله من المغنم - ولا يعارض بمثل هذا الأثر الكاذب حكم رسول الله ﷺ بالسلب للقاتل ، وبالأرض لمن أحياها . وأما تشبيههم ذلك بما في بيت المال فهو قياس والقياس كله باطل ؛ لأن ما في بيت المال أموال مملوكة ، أخذت بجزية أو بصدقة أو من بيت مال كان له رب فلم يعرفه - ولا يجوز أن يشبه ما لم يعرف أكان له رب أم لم يكن له رب بما يوقن أنه كان له رب . لو كان الأمر بالقياس حقا لكان قياس الأرض الموات التي لم يكن لها رب بالصيد والحطب أولى وأشبه ، ولكن لا النصوص يتبعون ، ولا القياس يحسنون . ثم لو صح هذا الخبر الموضوع لكان حجة لنا ؛ لأن النبي ﷺ قد قضى بالموات لمن أحياه ، وهو عليه السلام الإمام الذي لا إمامة لمن لم يأتم به ، وهو الذي قال فيه تعالى : { يوم ندعو كل أناس بإمامهم } فهو إمامنا نشهد الله تعالى على ذلك وجميع عباده ، لا إمام لنا دونه ، ونسأل الله أن لا يدعونا مع إمام غيره فمن اتخذ إماما دونه عليه السلام يغلب - حكمه على حكمه عليه السلام فسيرد ويعلم - ونحن إلى الله منه برآء . وأما قول مالك - فظاهر الفساد ؛ لأنه قسم تقسيما لا نعلمه عن أحد قبله ، ولا جاء به قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قياس . وأعجب شيء فيه أنه لم يجعل الموات القريب الذي لم يكن له قط مالك لمن أحياه ، وقد جعله الله تعالى على لسان رسوله ﷺ ثم جعل المال المتملك الذي حرمه الله تعالى في القرآن ، وعلى لسان رسوله ﷺ إذ يقول { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فجعلها ملكا لمن أخذها كالقول الذي ذكرنا عنه في الموات يعمر ثم يتشغر ، ومثل الصيد يتوحش ، وما وجب سقوط الملك بالتوعر والتوحش لا بقرآن ، ولا بسنة ، ولا برواية سقيمة ، ولا بقياس ، ولا برأي له وجه . وأيضا فلا يخلو ما قرب من العمران أو تشاح فيه الناس من أن يكون فيه ضرر على أهل القرية والمصر ، أو لا ضرر فيه عليهم ، فإن كان فيه ضرر فما للإمام أن يقطعه أحدا ، ولا أن يضر بهم ، وإن كان لا ضرر فيه عليهم ، فأي فرق بينه وبين البعيد عن العمران ؟ فصح أن لا معنى للإمام في ذلك أصلا : وكذلك تقسيم أبي يوسف ، والحسن بن حي ففاسد أيضا ؛ لأنه قول بلا برهان ، فهو ساقط . قال أبو محمد : وبرهان صحة قولنا ما رويناه من طريق أحمد بن شعيب النسائي نا يونس بن عبد الأعلى نا يحيى - هو ابن بكير - عن الليث - هو ابن سعد - عن عبيد الله بن أبي جعفر عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل - هو أبو الأسود - عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين عن رسول الله ﷺ أنه قال : { من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد فهو أحق بها } . ومن طريق البخاري نا يحيى بن بكير نا الليث عن عبيد الله بن أبي جعفر عن محمد بن عبد الرحمن بن عروة عن عائشة عن النبي ﷺ قال : { من عمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها } قال عروة : وقضى به عمر بن الخطاب . قال أبو محمد : هذا الخبر هو نص قولنا ، وهو المبطل لقول من لم يجعل ذلك إلا بإذن غير النبي ﷺ إما عموما وإما في مكان دون مكان ، ولقول من قال : من عمر أرضا قد عمرت ثم أشغرت فهي للذي عمرها آخرا قال الله تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } . فصح أن كل قضية قضاها رسول الله ﷺ وكل عطية أعطاها عليه السلام فليس لأحد يأتي بعده لا إمام ولا غيره أن يعترض فيها ولا أن يدخل فيها حكما - وقد اتصل - كما ترى - أن عمر قضى بذلك ؛ ولا يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم . ومن طريق أبي داود نا محمد بن المثنى نا عبد الوهاب - هو ابن عبد المجيد الثقفي - نا أيوب - هو السختياني - عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل عن النبي ﷺ قال : { من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق } . ومن طريق أحمد بن شعيب نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب أخبرني حيوة بن شريح عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة بن الزبير أنه قال : العرق الظالم هو الرجل يعمر الأرض الخربة وهي للناس قد عجزوا عنها فتركوها حتى خربت . ومن طريق أحمد بن شعيب نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب أخبرني حيوة بن شريح عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة بن الزبير أنه قال : العرق الظالم هو الرجل يعمر الأرض الخربة وهي للناس قد عجزوا عنها فتركوها حتى خربت . قال أبو محمد : فهذا عروة سمى هذه الصفة عرق ظالم ، وصدق عروة وهذا [ هو ] الذي أباحه المالكيون . وروينا من طريق أحمد بن شعيب نا محمد بن يحيى بن أيوب ، وعلي بن مسلم ، قال محمد بن يحيى : نا عبد الوهاب - هو ابن عبد المجيد الثقفي - نا أيوب - هو السختياني - وقال علي بن مسلم : نا عباد بن عباد المهلبي ، ثم اتفق أيوب ، وعباد كلاهما عن هشام بن عروة عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال : { من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر ، وما أكلت العوافي منها فهو له صدقة } . قال علي : لا معنى لأخذ رأي الإمام في الصدقة ، ولا ما فيه أجر ، ولو أراد المنع من ذلك لكان عاصيا لله تعالى . ومن طريق أبي داود نا أحمد بن عبدة الآملي نا عبد الله بن عثمان نا عبد الله بن المبارك أنا نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة عن عروة بن الزبير قال { أشهد أن رسول الله ﷺ قضى أن الأرض أرض الله ، والعباد عباد الله ، ومن أحيا مواتا فهو أحق به ؟ جاءنا بهذا عن النبي ﷺ الذين جاءوا بالصلوات عنه } . ومن طريق أبي داود السرح نا ابن وهب أخبرني يونس - هو ابن يزيد - عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي أن رسول الله ﷺ قال { : لا حمى إلا لله ولرسوله } . فصح أن ليس للإمام أن يحمي شيئا من الأرض عن أن تحيا . ومن طريق أبي داود نا أحمد بن سعيد الدارمي نا وهب بن جرير بن حازم عن أبيه عن ابن إسحاق عن يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه { أن رجلا غرس نخلا في أرض غيره فقضى رسول الله ﷺ لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها } . قال عروة : حدثني رجل من أصحاب رسول الله ﷺ وأكبر ظني أنه أبو سعيد الخدري ، فأنا رأيت الرجل يضرب في أصول النخل . قال أبو محمد : هذا هو الحق الذي لا يجوز غيره ، وعروة لا يخفى عليه من صحت صحبته ممن لم تصح ، وقد اعتمر من مكة إلى المدينة مع عمر بن الخطاب ، وأدركه فمن دونه ، لا قول مالك : إنه إن لم ينتفع بالشجر إن قلعت كان لغارسها قيمتها مقلوعة أحب أم كره ، وتركت لصاحب الأرض أحب أم كره ، وما يزالون يقضون للناس بأموال الناس المحرمة عليهم بغير برهان ، والمتعدي وإن ظلم فظلمه لا يحل أن يظلم فيؤخذ من ماله ما لم يوجب الله تعالى ولا رسوله ﷺ أخذه { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } ومن طريق أبي عبيد حدثني أحمد بن خالد الحمصي عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : كان عمر بن الخطاب يخطب على هذا المنبر يقول : يا أيها الناس من أحيا أرضا ميتة فهي له ، وجاء أيضا عن علي - فهذا بحضرة الصحابة علانية لا ينكره أحد منهم . ومن طريق أبي عبيد نا أحمد بن عثمان عن عبد الله بن المبارك عن حكيم بن زريق قال : قرأت كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أبي : من أحيا أرضا ميتة ببنيان أو حرث ما لم تكن من أموال قوم ابتاعوها أو أحيوا بعضا وتركوا بعضا فأجاز للقوم إحياءهم وأما ما كان مكشوفا فلجميع المسلمين يأخذون منه الماء أو الملح ، أو يريحون فيه دوابهم ، فلأنهم قد ملكوه فليس لأحد أن ينفرد به . وروينا من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن يحيى بن قيس المازني عن أبيه عن أبيض بن حمال - هو المازني - قال { استقطعت رسول الله ﷺ معدن الملح الذي بمأرب ؟ فأقطعنيه ، فقيل له : إنه بمنزلة الماء العد قال : فلا إذا . } قال أبو محمد : فإن قيل : فقد أقطع رسول الله ﷺ وأقطع أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، ومعاوية فما معنى إقطاعهم ؟ قلنا : أما رسول الله ﷺ فهو الذي له الحمى والإقطاع ، والذي لو ملك إنسانا رقبة حر لكان له عبدا - وأما من دونه عليه السلام فقد يفعلون ذلك قطعا للتشاح والتنازع ، ولا حجة في أحد دونه عليه السلام . قال أبو محمد : وليس المرعى متملكا ، بل من أحيا فيه فهو له ، ويقال لأهل الماشية : أعزبوا وأبعدوا في طلب المرعى ، وإنما التملك بالإحياء فقط - وبالله تعالى التوفيق - والرعي ليس إحياء ، ولو كان إحياء لملك المكان من رعاه ، وهذا باطل متيقن في اللغة وفي الشريعة . واحتج بعض المالكيين لقولهم في الصيد المتوحش بأسخف معارضة سمعت ، وهو أنه قال : الصيد إذا توحش بمنزلة من أخذ ماء من بئر متملكة في وعائه فانهرق الماء في البئر ، أيكون شريكا بذلك في الماء الذي في البئر ؟ قال أبو محمد : البئر وأخذ الماء منها لا يخلو أن تكون مباحة أو متملكة ، فإن كانت مباحة فله أن يأخذ منها أضعاف ما انهرق له إن شاء ، وله أن يترك إن شاء ، كما يترك الناس ما لا قيمة له عندهم من أموالهم ويبيحونه لمن أخذه ، كالنوى ، والتبن ، والزبل ، ونحو ذلك . ولو أن صاحب كل ذلك لم يطلقه ، ولا أباح أخذه لأحد ، لكان ذلك له ، ولما حل لأحد أخذه ، فلا يحل مال أحد - قل أو كثر - إلا بإباحته له ، أو حيث أباحته الديانة عن الله تعالى . وقد نص رسول الله ﷺ على أن { من اقتطع بيمينه حق مسلم أوجب الله له النار ولو كان قضيبا من أراك } ، فأيما أكثر عندهم - وهم أصحاب قياس بزعمهم - قضيب أراك ، أو أيل ، أو حمار وحش ، يساوي كل واحد منها مالا ، أو أرض تساوي الأموال ، وإن كانت البئر متملكة ، فلا يخلو آخذ الماء منها من أن يكون محتاجا إلى ما أخذ أو غير محتاج ، فإن كان محتاجا فله أن يأخذ منها مثل ما انهرق له - أو أكثر أو أضعافه - إذا احتاج إليه ، وإن كان غير محتاج لم يجز له أخذ شيء من مائها - لا ما قل ولا ما كثر - فظهر هذر هذا الجاهل وتخليطه .

1348 - مسألة : والإحياء هو قلع ما فيها من عشب ، أو شجر ، أو نبات ، بنية الإحياء ، لا بنية أخذ العشب والاحتطاب فقط ، أو جلب ماء إليها من نهر ، أو من عين ، أو حفر بئر فيها لسقيها منه ، أو حرثها ، أو غرسها ، أو تزبيلها ، أو ما يقوم مقام التزبيل من نقل تراب إليها ، أو رماد ، أو قلع حجارة ، أو جرد تراب ملح عن وجهها حتى يمكن بذلك حرثها ، أو غرسها ، أو أن يختط عليها بحظير للبناء - فهذا كله إحياء في لغة العرب التي بها خاطبنا الله تعالى على لسان نبيه ﷺ فيكون له بذلك ما أدرك الماء في فوره وكثرته في جميع جهات البئر ، أو العين ، أو النهر ، أو الساقية ، قد ملكه واستحقه ؛ لأنه أحياه ولا خلاف في ضرورة الحس واللغة أن الاحتطاب وأخذ العشب للرعي ليس إحياء وما تولى المرء من ذلك بأجرائه وأعوانه ، فهو له ، لا لهم لقول رسول الله ﷺ : { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } .

1349 - مسألة : ومن خرج في أرضه معدن فضة ، أو ذهب ، أو نحاس أو حديد ، أو رصاص ، أو قزدير ، أو زئبق ، أو ملح ، أو شب ، أو زرنيخ ، أو كحل ، أو ياقوت ، أو زمرد ، أو بجادي ، أو رهوبي ، أو بلور ، أو كذان ، أو أي شيء كان فهو له ، ويورث عنه ، وله بيعه ، ولا حق للإمام معه فيه ، ولا لغيره - وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان . وقال مالك : تصير الأرض للسلطان . قال أبو محمد : وهذا باطل لقول الله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } ولقول رسول الله ﷺ : { من أحيا أرضا ميتة فهي له ولعقبه } . ولقوله عليه السلام { من غصب شبرا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين } ولقوله عليه السلام : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام . } فليت شعري بأي وجه تخرج أرضه التي ملك بإرث ، أو التي أحيا عن يده من أجل وجود المعدن فيها ؟ وما علمنا لهذا القول متعلقا لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا من قول أحد قبله نعلمه ، ولا من قياس ، ولا من رأي سديد ، ونسأله عن مسجد ظهر فيه معدن ، أو لو ظهر معدن في المسجد الحرام ، أو في مسجد رسول الله ﷺ أو في مقبرة للمسلمين ؟ أيكون للإمام أخذ المسجد الحرام ، وأخذ مسجد رسول الله ﷺ والمقبرة فيمنع الناس من كل ذلك ويقطعها من أراد ؟ أف أف لهذا القول وما قاد إليه .

1350 - مسألة : ومن ساق ساقية ، أو حفر بئرا ، أو عينا فله ما سقى كما قدمنا . ولا يحفر أحد بحيث يضر بتلك العين ، أو بتلك البئر ، أو بتلك الساقية ، أو ذلك النهر ، أو بحيث يجلب شيئا من مائها عنها فقط ، لا حريم لذلك أصلا غير ما ذكرنا ؛ لأنه إذا ملك تلك الأرض فقد ملك ما فيها من الماء فلا يجوز أخذ ماله بغير حق . وروينا من طريق إسماعيل ابن علية عن رجل عن سعيد بن المسيب . ومن طريق محمد بن مسلم الطائفي عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله ﷺ قال : { حريم البئر المحدثة خمس وعشرون ذراعا ، وحريم البئر العادية خمسون ذراعا } . وعن سعيد بن المسيب ، ويحيى بن سعيد الأنصاري من قولهما مثل ذلك . وعن أبي هريرة ، والشعبي ، والحسن : حريم البئر أربعون ذراعا لأعطان الإبل ، والغنم . وعن ابن المسيب : حريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع . قال الزهري : سمعت الناس يقولون : حريم العين خمسمائة ذراع . وعن عكرمة : حريم ما بين العينين مائتا ذراع - وليس عند مالك في ذلك حد . وقال أبو حنيفة : حريم بئر العطن أربعون ذراعا ، وحريم بئر الناضح ستون ذراعا من كل جهة إلا أن يكون حبلهما أطول ، وحريم العين خمسمائة ذراع . ولا يعلم لأبي حنيفة سلفا في قول في بئر الناضح ، وقد خالف المرسل في هذا الحكم . وقال يحيى بن سعيد في قوله المذكور : هو السنة ، والمالكيون يحتجون في أصابع المرأة بقول سعيد بن المسيب : هي السنة - فهلا احتجوا ههنا بقول يحيى بن سعيد : هي السنة ؟

1351 - مسألة : وأما الشرب من نهر غير متملك ، فالحكم أن السقي للأعلى فالأعلى لاحق للأسفل حتى يستوفي الأعلى حاجته ، وحق ذلك أن يغطي وجه الأرض حتى لا تشربه ويرجع للجدار أو السياج ، ثم يطلقه ولا يمسكه أكثر ، وسواء كان الأعلى أحدث ملكا أو إحياء من الأسفل ، أو مساويا له ، أو أقدم منه ، ولا يتملك شرب نهر غير متملك أصلا ، ولا شرب سيل ، وتبطل الدول والقسمة فيها - وإن تقدمت - إلا أن يكون قوم حفروا ساقية وبنوها ، فلهم أن يقتسموا ماءها بقدر حصصهم فيها . برهان ذلك - : ما رويناه من طريق أبي داود نا أبو الوليد - هو الطيالسي - أنا الليث - هو ابن سعد - عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عبد الله بن الزبير قال { خاصم الزبير رجلا في شراج الحرة التي يسقون بها ، فقال الأنصاري للزبير : سرح الماء يمر ؟ فأبى عليه الزبير فقال رسول الله ﷺ للزبير : اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك ؟ فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله إن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله ﷺ ثم قال : اسق ثم احتبس الماء حتى يرجع إلى الجدر . }

1352 - مسألة : ومن غرس أشجارا فله ما أظلت أغصانها عند تمامها ، فإن انتثرت على أرض غيره أخذ بقطع ما انتثر منها على أرض غيره . روينا من طريق أبي داود نا محمود بن خالد أن محمد بن عثمان حدثهم قال : نا عبد العزيز بن محمد - هو الدراوردي - عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري قال : { اختصم إلى رسول الله ﷺ رجلان في حريم نخلة فأمر عليه السلام بجريدة من جريدها فذرعت فقضى بذلك } يعني بمبلغها . وأما انتثارها على أرض غيره فلقول رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فلا يحل لأحد الانتفاع بمال غيره إلا ما دامت نفسه له طيبة بذلك - وبالله تعالى التوفيق .

1353 - مسألة : ومن ترك دابته بفلاة ضائعة فأخذها إنسان فقام عليها فصلحت ، أو عطب في بحر أو نهر فرمى البحر متاعه فأخذه إنسان أو غاص عليه إنسان فأخذه ، فكل ذلك لصاحبه الأول ولا حق فيه لمن أخذ شيئا منه ، لقول رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } . وقد جاء في ذلك خلاف - : كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا منصور - هو ابن المعتمر - عن عبيد الله بن حميد الحميري قال : سمعت الشعبي يقول : من قامت عليه دابته فتركها فهي لمن أحياها : فقلت له : عمن يا أبا عمرو ؟ قال : إن شئت عددت لك كذا وكذا من أصحاب رسول الله ﷺ . ومن طريق سعيد بن منصور نا خالد - هو ابن عبد الله الطحان الواسطي - أنا مطرف - هو ابن طريف - عن الشعبي في رجل سيب دابته فأخذها رجل فأصلحها ؟ فقال الشعبي : هذا قد قضى فيه إن كان سيبها في كلأ ، وأمن ، وماء ، فصاحبها أحق بها ، وإن كان سيبها في مخافة أو مفازة فالذي أخذها أحق بها . ومن طريق ابن أبي شيبة نا أبو أسامة عن عثمان بن غياث قال : سئل الحسن عمن ترك دابته بأرض قفر فأخذها رجل فقام عليها حتى صلحت ؟ قال : هي لمن أحياها . قال : وسئل الحسن عن السفينة تغرق في البحر فيها متاع لقوم شتى ؟ فقال : ما ألقى البحر على ساحله ، ومن غاص على شيء فاستخرجه فهو له . قال أبو محمد : وهو قول الليث ولقد كان يلزم من شنع بقول الصاحب لا يعرف له مخالف أن يقول بقول الشعبي ، والحسن ؛ لأنه عن جماعة من الصحابة لا يعرف له مخالف منهم .

1354 - مسألة : ولا يلزم من وجد متاعه إذا أخذه أن يؤدي إلى الذي وجده عنده ما أنفق عليه ، لأنه لم يأمره بذلك ، فهو متطوع بما أنفق . وروينا من طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا داود بن أبي هند عن الشعبي أن رجلا أضل بعيرا له نضوا فأخذه رجل فأنفق عليه حتى صلح وسمن ، فوجده صاحبه عنده فخاصمه إلى عمر بن عبد العزيز ؟ فقضى له بالنفقة ورد الدابة إلى صاحبها - قال الشعبي : أما أنا فأقول : يأخذ ماله حيث وجده سمينا أو مهزولا ، ولا شيء عليه .

===========




كتاب المرفق
المحلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب المرفق
كتاب المرفق (مسألة 1355 - 1361)


فهارس كتاب المرفق

1355 - مسألة: لكل أحد أن يفتح ما شاء في حائطه من كوة أو باب
1356- مسألة: ليس لأحد أن يرسل ماء سقفه أو داره على أرض جاره أصلا
1357 - مسألة: لا يجوز لأحد أن يدخن على جاره
1358 - مسألة: لا يحل لأحد أن يمنع جاره من أن يدخل خشبا في جداره
1359 - مسألة: وكل من ملك ماء في نهر حفره فهو أحق بالماء
1360 - مسألة: وما غلب عليه الماء من نهر، أو نشع، أو سيل، فاستغار فهو لصاحبه
1361 - مسألة: لا تكون الأرض بالإحياء إلا لمسلم


===========




كتاب المرفق

1355 - مسألة : ولكل أحد أن يفتح ما شاء في حائطه من كوة أو باب ، أو أن يهدمه إن شاء في دار جاره ، أو في درب غير نافذ أو نافذ ، ويقال لجاره : ابن في حقك ما تستر به على نفسك ؟ إلا أنه يمنع من الاطلاع فقط . وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان . وقال مالك : يمنع من كل ذلك . قال أبو محمد : وهذا خطأ ؛ لأن كل ذي حق أولى بحقه . ولا يحل للجار أن ينتفع بحائط جاره إلا حيث جاء النص بذلك . ولا فرق بين أن يهدم حائطه فلا يكلف بنيانه ويقول لجاره : استر على نفسك إن شئت ، وبين أن يهدم هو حائط نفسه . ولا فرق بين السقف والاطلاع منه وبين قاع الدار والاطلاع منه - ولا فرق بين فتح كوة للضوء وبين فتحها هكذا وكلا الأمرين ، يمكن الاطلاع منه ، ولم يأت قط قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول صاحب يمنع المرء من أن يفتح في حقه وفي حائطه ما شاء . فإن احتجوا بالخبر { لا ضرر ولا ضرار } هذا خبر لا يصح ؛ لأنه إنما جاء مرسلا ، أو من طريق فيها زهير بن ثابت - وهو ضعيف - إلا أن معناه صحيح . ولا ضرر أعظم من أن يمنع المرء من التصرف في مال نفسه مراعاة لنفع غيره فهذا هو الضرر حقا . وأما الاطلاع فمنعه واجب - : لما روينا من طريق البخاري نا علي بن عبد الله بن المديني نا سفيان بن عيينة نا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال أبو القاسم ﷺ : { لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بعصا ففقأت عينه لم يكن عليك جناح } ورويناه أيضا من طريق أخرى { بحصاة } هو أصح .

1356 - مسألة : وليس لأحد أن يرسل ماء سقفه أو داره على أرض جاره أصلا ، فإن أذن له كان له الرجوع متى شاء لقول رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فإطلاقه ماء داره على أرض جاره تصرف منه في مال غيره - وهو عليه حرام - والإذن في ذلك إنما هو ما دام إذنا ؛ لأنه لم يملكه الرقبة ، والإذن في شيء ما اليوم غير ما لم يؤذن له فيه غدا بلا شك - وبالله التوفيق .

1357 - مسألة : ولا يجوز لأحد أن يدخن على جاره ؛ لأنه أذى ، وقد حرم الله تعالى أذى المسلم . ولكل أحد أن يعلي بنيانه ما شاء - وإن منع جاره الريح والشمس - لأنه لم يباشر منعه بغير ما أبيح له . ولكل أحد أن يبني في حقه ما شاء من حمام ، أو فرن ، أو رحى ، أو كمر أو غير ذلك ، إذ لم يأت نص بالمنع من شيء من ذلك .

1358 - مسألة : ولا يحل لأحد أن يمنع جاره من أن يدخل خشبا في جداره ويجبر على ذلك - أحب أم كره - إن لم يأذن له ، فإن أراد صاحب الحائط هدم حائطه كان له ذلك ، وعليه أن يقول لجاره : دعم خشبك أو انزعه فإني أهدم حائطي ، ويجبر صاحب الخشب على ذلك - : لما روينا من طريق مالك عن ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره } ثم يقول أبو هريرة : مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم فهذا قول أبي هريرة ولا يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم - وهو قول أصحابنا . وقال أبو حنيفة ، ومالك : ليس له أن يضع خشبه في جدار جاره . قال أبو محمد : وهذا خلاف مجرد للخبر وما نعلم لهم حجة أصلا ، إلا أن بعضهم ذكر قول رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } . قال علي : الذي قال هذا هو الذي قال ذلك ، وقوله كله حق وعن الله تعالى ، وكله واجب علينا السمع له والطاعة ، وليس بعضه معارضا لبعض قال الله تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } والذي قضى بالشفعة وإسقاط الملك بعد تمامه ، وإبطال الشراء بعد صحته وقضى بالعاقلة ، وأن يغرموا ما لم يجنوا ، وأباح أموالهم في ذلك - أحبوا أم كرهوا - هو الذي قضى بأن يغرز الجار خشبه في جدار جاره ، ونهى عن منعه من ذلك . ولو أنهم استعملوا هذا الحكم حيث أباحوا ثمر النخل ، وكراء الدار المغصوبة - : كل ذلك لمن اشتراه من الغاصب بالباطل لكان أولى بهم ، والواجب استعمال جميع السنن . فنقول : أموالنا حرام على غيرنا ، إلا حيث أباحها الذي حرمها . وقال بعضهم : قد روي هذا الخبر { خشبة } بالنصب على أنها واحدة ؟ فقلنا : فأنتم لا تجيزون له لا واحدة ولا أكثر من واحدة ، فأي راحة لكم في هذه الرواية ؟ وكل خشبة في العالم فهي خشبة ، وليس للجار منع جاره من أن يضعها في جداره ، فالحكم واحد في كلتا الروايتين - وبالله تعالى التوفيق .

1359 - مسألة : وكل من ملك ماء في نهر حفره ، أو ساقية حفرها ، أو عين استخرجها ، أو بئر استنبطها - فهو أحق بماء كل ذلك ما دام محتاجا إليه ، ولا يحل له منع الفضل ، بل يجبر على بذله لمن يحتاج إليه ، ولا يحل له أخذ عوض عنه ، لا ببيع ولا غيره - : لما روينا من طريق جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : { لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ } . ومن طريق أبي داود ، نا النفيلي نا داود بن عبد الرحمن العطار عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال عن إياس بن عبد قال { نهى رسول الله ﷺ عن بيع فضل الماء }

1360 - مسألة : وما غلب عليه الماء من نهر ، أو نشع ، أو سيل ، فاستغار فهو لصاحبه كما كان ، فإن انتقل عنه يوما ما - ولو بعد ألف عام - فهو له ولورثته ، وما رمى النهر من أحد عدوتيه إلى أخرى فهو باق بحسبه كما كان لمن كان له . وقال المالكيون : بخلاف ذلك - وهذا باطل لأن تبدل مجرى الماء لا يسقط ملكا عن مالكه ، ولا يحل مالا محرما لمن حرمه الله تعالى عليه ، وهذا حكم في الدين بلا برهان ، قال رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } .

1361 - مسألة : ولا تكون الأرض بالإحياء إلا لمسلم ، وأما الذمي فلا ، لقول الله تعالى : { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده } وقوله تعالى : { أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } ونحن أولئك لا الكفار ، فنحن الذين أورثنا الله تعالى الأرض - فله الحمد كثيرا .

=======

كتاب الوكالة المحلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب الوكالة كتاب الوكالة (مسألة 1362 - 1366) فهارس كتاب الوكالة 1362 - مسألة: حكم الوكالة 1363 - مسألة: لا تجوز وكالة على طلاق ولا على عتق ولا على تدبير 1364 - مسألة: لا يجوز للوكيل تعدي ما أمره به موكله 1365 - مسألة: فعل الوكيل لازم فيما أمر به الموكل 1366 - مسألة: تبطل الوكالة بالموت


كتاب الوكالة

1362 - مسألة : الوكالة جائزة في القيام على الأموال ، والتذكية ، وطلب الحقوق وإعطائها ، وأخذ القصاص في النفس فما دونها ، وتبليغ الإنكاح ، والبيع ، والشراء ، والإجارة ، والاستئجار - : كل ذلك من الحاضر ، والغائب سواء ، ومن المريض والصحيح سواء ، وطلب الحق كله واجب بغير توكيل ، إلا أن يبرئ صاحب الحق من حقه . برهان ذلك - : { بعثة رسول الله ﷺ الولاة لإقامة الحدود ، والحقوق على الناس ، ولأخذ الصدقات وتفريقها } . وقد كان بلال على نفقات رسول الله ﷺ وقد كان له نظار على أرضه بخيبر ، وفدك ؛ وقد روينا في " كتاب الأضاحي " من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر الجهني { عن رسول الله ﷺ أنه أعطاه غنما يقسمها بين أصحابه } . وذكرنا في " الحج " من طريق سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي قال : أمرني رسول الله ﷺ أن أقوم على بدنه وأن أقسم جلودها وجلالها ومن طريق أبي داود نا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد نا [ عمي - هو يعقوب بن إبراهيم ] نا أبي - هو إبراهيم بن سعد - عن محمد بن إسحاق عن أبي نعيم وهب بن كيسان : سمعت جابر بن عبد الله يقول : أردت الخروج إلى خيبر فقال لي رسول الله ﷺ : { إذا أتيت وكيلي بخيبر فخذ منه خمسة عشر وسقا فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته } . وفي هذا الخبر تصديق الرسول إذا علم الوالي بصدقه بغير بينة . ومن طريق مسلم نا سلمة بن شبيب نا الحسن بن أعين نا معقل عن أبي قزعة الباهلي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري فذكر حديث التمر ، وأن رسول الله ﷺ قال : { بيعوا تمرها واشتروا لنا من هذا } . ومن طريق أبي داود نا حجاج بن أبي يعقوب الثقفي حدثنا معلى بن منصور نا عبد الله بن المبارك حدثنا معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن أم حبيبة أم المؤمنين أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة فزوجها النجاشي النبي ﷺ وأمهرها عنه أربعة آلاف وبعث بها إلى رسول الله ﷺ مع شرحبيل بن حسنة - وهذا خبر منقول نقل الكافة . { وأمر عليه السلام بأخذ القود ، وبالرجم ، والجلد ، وبالقطع } . ومن طريق أبي داود نا عبيد الله بن عمر بن ميسرة نا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة ، ورافع بن خديج { أن محيصة بن مسعود ، وعبد الله بن سهل انطلقا إلى خيبر فتفرقا في النخل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل وابنا عمه حويصة ومحيصة إلى رسول الله ﷺ فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وهو أصغرهم فقال رسول الله ﷺ : الكبر الكبر أو قال : ليبدأ الأكبر ؟ فتكلما في أمر صاحبهما } . وقال أبو حنيفة : لا أقبل توكيل حاضر ، ولا من كان غائبا على أقل من مسيرة ثلاث ، إلا أن يكون الحاضر ، أو من ذكرنا مريضا ، إلا برضى الخصم - وهذا خلاف السنة وتحديد بلا برهان وقول لا نعلم أحدا قال قبله . وقال المالكيون : لا نتكلم في الحقوق إلا بتوكيل صاحبها - وهذا باطل لما ذكرنا - ولقول الله تعالى : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله } . وقوله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } فواجب بما ذكرنا إنكار الظلم ، وطلب الحق لحاضر وغائب ، ما لم يترك حقه الحاضر - سواء بتوكيل أو بغير توكيل . وطلب الحق قد وجب ، ولا يمنع من طلبه قول القائل : لعل صاحبه لا يريد طلبه ، ويقال له : قد أمر الله تعالى بطلبه ، فلا يسقط هذا اليقين ما يتوقعه بالظن .

1363 - مسألة : ولا تجوز وكالة على طلاق ، ولا على عتق ، ولا على تدبير ، ولا على رجعة ، ولا على إسلام ، ولا على توبة ، ولا على إقرار ، ولا على إنكار ، ولا على عقد الهبة ، ولا على العفو ، ولا على الإبراء ، ولا على عقد ضمان ، ولا على ردة ، ولا على قذف ، ولا على صلح ، ولا على إنكاح مطاق بغير تسمية المنكحة والناكح ؛ لأن كل ذلك إلزام حكم لم يلزم قط ، وحل عقد ثابت ، ونقل ملك بلفظ . فلا يجوز أن يتكلم أحد عن أحد إلا حيث أوجب ذلك نص ، ولا نص على جواز الوكالة في شيء من هذه الوجوه . والأصل أن لا يجوز قول أحد على غيره ، ولا حكمه على غيره لقول الله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } وكل ما ذكرنا كسب على غيره وحكم بالباطل يمضيه أحد على أحد - وبالله تعالى التوفيق .

1364 - مسألة : ولا يحل للوكيل تعدي ما أمره به موكله فإن فعل لم ينفذ فعله فإن فات ضمن لقول الله تعالى : { ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } ولقوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } فوجب من هذا أن من أمره موكله بأن يبتاع له شيئا بثمن مسمى ، أو يبيعه له بثمن مسمى ، فباعه أو ابتاعه بأكثر أو بأقل - ولو بفلس - فما زاد لم يلزم الموكل ، ولم يكن البيع له أصلا ، ولم ينفذ البيع ؛ لأنه لم يؤمر بذلك . فلو وكله على أن يبيع له أو يبتاع له ، فإن ابتاع له بما يساوي ، أو باع بذلك لزم ، وإلا فهو مردود - وكذلك من ابتاع لآخر ، أو باع له بغير أن يأمره لم يلزم في البيع أصلا ، ولا جاز للآخر إمضاؤه ؛ لأنه إمضاء باطل لا يجوز ، وكان الشراء لازما للوكيل - وما عدا هذا فقول بلا برهان ، وحكم بالباطل . واحتج قوم في إجازة ذلك بحديث عروة البارقي ، وحكيم بن حزام { أن رسول الله ﷺ أمر كل واحد منهما بأن يبتاع له شاة بدينار فابتاع شاتين فباع أحدهما بدينار وأتى به إلى النبي ﷺ وبالشاة } وهما خبران منقطعان لا يصحان .

1365 - مسألة : وفعل الوكيل نافذ فيما أمر به الموكل لازم للموكل ما لم يصح عنده أن موكله قد عزله ، فإذا صح ذلك عنده لم ينفذ حكمه من حينئذ ويفسخ ما فعل . وأما كل ما فعل مما أمره به الموكل من حين عزله إلى حين بلوغ الخبر إليه فهو نافذ طالت المدة بين ذلك أو قصرت . وهكذا القول في عزل الإمام للأمير ، وللوالي ، وللقاضي ، وفي عزل هؤلاء لمن جعل إليهم أن يولوه ولا فرق - لأنه عزله بغير أن يعلمه بعد أن ولاه وأطلقه على البيع ، وعلى الابتياع ، وعلى التذكية ، والقصاص ، والإنكاح لمسماة ومسمى - : خديعة وغش ، قال الله تعالى : { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم } وقال رسول الله ﷺ : { من غشنا فليس منا } فعزله له باطل إلا أن يقول ، أو يكتب إليه أو يوصي إليه : إذا بلغك رسولي فقد عزلتك - فهذا صحيح ؛ لأن له أن يتصرف في حقوق نفسه كما يشاء ، فإذا بلغه فقد صح عزله ، وليس للخصم أن يمنع من يخاصمه من عزل وكيله وتولية آخر ؛ لأن التوكيل في ذلك قد صح ، ولا برهان على أن للخصم منعه من عزل من شاء وتولية من شاء . فإن قيل : إن في ذلك ضررا على الخصم ؟ قلنا : لا ضرر عليه في ذلك أصلا ، بل الضرر كله هو المنع من تصرف المرء في طلب حقوقه بغير قرآن أوجب ذلك ، ولا سنة - وهذا هو الشرع الذي لم يأذن الله تعالى به .

1366 - مسألة : والوكالة تبطل بموت الموكل بلغ ذلك إلى الوكيل ، أو لم يبلغ بخلاف موت الإمام ، فإنه إن مات فالولاة كلهم نافذة أحكامهم حتى يعزلهم الإمام الوالي ، وذلك لقول الله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } والمال قد انتقل بموت الموكل إلى ورثته ، فلا يجوز في مالهم حكم من لم يوكلوه ، وليس كذلك الإمام ؛ لأن المسلمين لا بد لهم ممن يقوم بأمرهم ، { وقد قتل أمراء رسول الله ﷺ ورضي عنهم بمؤتة كلهم فتولى الأمر خالد بن الوليد من غير أن يؤمره رسول الله ﷺ حتى رجع بالمسلمين وصوب عليه السلام ذلك } وقد مات عليه السلام وولاته باليمن ، ومكة ، والبحرين ، وغيرها ، فنفذت أحكامهم قبل أن يبلغهم موته عليه السلام - ولم يختلف في ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم - وبالله تعالى التوفيق .

===========


كتاب المضاربة المحلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب المضاربة كتاب المضاربة (مسألة 1367 - 1377) فهارس كتاب المضاربة 1367- مسألة: القراض كان في الجاهلية وأقره الشرع 1368 - مسألة: القراض إنما هو بالدنانير والدراهم 1369 - مسألة: لا يجوز القراض إلى أجل مسمى 1370 - مسألة: لا يجوز القراض إلا بأن يسميا السهم الذي تقارضا عليه 1371 - مسألة: لا يحل للعامل أن يأكل من المال شيئا 1372 - مسألة: كل ربح ربحاه فلهما أن يتقاسماه 1373 - مسألة: لا ضمان على العامل فيما تلف من المال 1374 - مسألة: أيهما ترك العمل فله ذلك 1375 - مسألة: إذا تعدى العامل فربح 1376- مسألة: وأي واحد من المتضاربين مات بطل القراض 1377 - مسألة: حكم إذا اشترى العامل جارية من القراض فوطئها




كتاب المضاربة وهي القراض

1367 - مسألة : القراض كان في الجاهلية ، وكانت قريش أهل تجارة لا معاش لهم من غيرها وفيهم الشيخ الكبير الذي لا يطيق السفر ، والمرأة والصغير ، واليتيم ، فكانوا وذوو الشغل والمرض يعطون المال مضاربة لمن يتجر به بجزء مسمى من الربح فأقر رسول الله ﷺ ذلك في الإسلام وعمل به المسلمون عملا متيقنا لا خلاف فيه ، ولو وجد فيه خلاف ما التفت إليه ؛ لأنه نقل كافة بعد كافة إلى زمن رسول الله ﷺ وعلمه بذلك . { وقد خرج ﷺ في قراض بمال خديجة رضي الله عنها } .

1368 - مسألة : والقراض إنما هو بالدنانير والدراهم - ولا يجوز بغير ذلك ، إلا بأن يعطيه العرض فيأمره ببيعه بثمن محدود ، وبأن يأخذ الثمن فيعمل به قراضا ، لأن هذا مجمع عليه ، وما عداه مختلف فيه ولا نص بإيجابه ، ولا حكم لأحد في ماله إلا بما أباحه له النص . وممن منع من القراض بغير الدنانير ، والدراهم : الشافعي ، ومالك ، وأبو حنيفة ، وأبو سليمان ، وغيرهم .

1369 - مسألة : ولا يجوز القراض إلى أجل مسمى أصلا إلا ما جاء به نص ، أو إجماع . ولا يجوز أن يشترط عبدا يعمل معه ، أو أجيرا يعمل معه ، أو جزءا من الربح لفلان ؛ لأنه شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل . وأما المالكيون ، والشافعيون : فتناقضوا ههنا فقالوا في القراض كما قلنا ، وقالوا في " المساقاة " لا تجوز ألبتة إلا إلى أجل مسمى . وكذلك قالوا في " المزارعة " في الموضع الذي أجازوها فيه - ولا فرق بين شيء من ذلك مع خلافهم في " المزارعة " و " المساقاة " السنة الواردة في ذلك ، وتركوا القياس أيضا - وبالله تعالى التوفيق .

1370 - مسألة : ولا يجوز القراض إلا بأن يسميا السهم الذي يتقارضان عليه من الربح ، كسدس ، أو ربع ، أو ثلث ، أو نصف ، أو نحو ذلك ، ويبينا ما لكل واحد منهما من الربح ؛ لأنه إن لم يكن هكذا لم يكن قراضا ولا عرفا ما يعمل العامل عليه فهو باطل - وبالله تعالى التوفيق .

1371 - مسألة : ولا يحل للعامل أن يأكل من المال شيئا ولا أن يلبس منه شيئا ، لا في سفر ولا في حضر . روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن هشام بن حسان عن ابن سيرين قال : ما أكل المضارب فهو دين عليه . وصح عن إبراهيم ، والحسن : أن نفقته من جميع المال - قال إبراهيم : وكسوته كذلك قال ابن سيرين ليس كذلك . وقولنا ههنا هو قول الشافعي ، وأحمد ، وأبي سليمان . وقال أبو حنيفة ، ومالك : أما في الحضر فكما قلنا ، وأما في السفر فيأكل منه ويكتسي منه ويركب منه بالمعروف - إذا كان المال كثيرا - وإلا فلا ، إلا أن مالكا قال : له في الحضر أن يتغذى منه بالأفلس . وهذا تقسيم في غاية الفساد ؛ لأنه بلا دليل ، وليت شعري ما مقدار المال الكثير الذي أباحوا هذا فيه ؟ وما مقدار القليل الذي منعوه فيه ؟ وهذا كله باطل لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فلا يجوز اشتراطه - فإن لم يشترط فهو أكل مال بالباطل . ثم أيضا يعود المال إلى الجهالة فلا يدري ما يخرج منه ؟ ولا ما يبقى منه ؟ وقليل الحرام حرام - ولو أنه مقدار ذرة ، وكثير الحلال حلال - ولو أنه الدنيا وما فيها . فإن قالوا هو ساع في مصلحة المال ؟ قلنا : نعم ، فكان ماذا ؟ وإنما هو ساع لربح يرجوه ، فإنما يسعى في حظ نفسه .

1372 - مسألة : وكل ربح ربحاه فلهما أن يتقاسماه ، فإن لم يفعلا وتركا الأمر بحسبه ثم خسر في المال فلا ربح للعامل ، وأما إذا اقتسما الربح فقد ملك كل واحد منهما ما صار له ، فلا يسقط ملكه عنه ؛ لأنهما على هذا تعاملا ، وعلى أن يكون لكل واحد منهما حظ من الربح ، فإذا اقتسماه فهو عقدهما المتفق على جوازه ، فإن لم يقتسماه فقد تطوعا بترك حقهما وذلك مباح .

1373 - مسألة : ولا ضمان على العامل فيما تلف من المال - ولو تلف كله - ولا فيما خسر فيه ، ولا شيء له على رب المال ، إلا أن يتعدى أو يضيع فيضمن ، لقول رسول الله ﷺ { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } .

1374 - مسألة : وأيهما أراد ترك العمل فله ذلك ويجبر العامل على بيع السلع معجلا - خسر أو ربح - لأنه لا مدة في القراض ، فإذ ليس فيه مدة فلا يجوز أن يجبر الآبي منهما على التمادي في عمل لا يريده أحدهما في ماله ، ولا يريده الآخر في عمله ، ولا يجوز التأخير في ذلك ؛ لأنه لا يدري كم يكون التأخير ؟ وقد تسمو قيمة السلع ، وقد تنحط ، فإيجاب التأخير في ذلك خطأ ، ولا يلزم أحدا أن يبيح ماله لغيره ليموله به . والعجب ممن ألزم ههنا إجبار صاحب المال على الصبر حتى يكون للسلع سوق ليمول بذلك العامل من مال غيره ، وهو لا يرى إجباره على تدارك من يموت جوعا من ذوي رحمه ، أو غيرهم ، بما يقيم رمقه ، وهذا عكس الحقائق - وبالله تعالى التوفيق .

1375 - مسألة : وإن تعدى العامل فربح ، فإن كان اشترى في ذمته ووزن من مال القراض فحكمه حكم الغاصب - وقد صار ضامنا للمال إن تلف أو لما تلف منه بالتعدي ، ويكون الربح له ، لأن الشرى له . وإن كان اشترى بمال القراض نفسه فالشرى فاسد مفسوخ ، فإن لم يوجد صاحبه البائع منه فالربح للمساكين ؛ لأنه مال لا يعرف له صاحب . وهذا قول النخعي ، والشعبي ، وحماد بن أبي سليمان ، وابن شبرمة ، وأبي سليمان - وبالله تعالى التوفيق .

1376 - مسألة : وأيهما مات بطل القراض - : أما في موت صاحب المال فلأن المال قد صار للورثة ، وقد قال رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } . أما في موت العامل ، فلقول الله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } وعقد الذي له المال إنما كان مع الميت لا مع وارثه ، إلا أن عمل العامل بعد موت صاحب المال ليس تعديا ، وعمل الوارث بعد موت العامل إصلاح للمال . وقد قال الله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } فلا ضمان على العامل ، ولا على وارثه إن تلف المال بغير تعد ، ويكون الربح كله لصاحب المال ، أو لوارثه ، ويكون للعامل ههنا أو لورثته أجر مثل عمله فقط ، لقوله تعالى : { والحرمات قصاص } فحرمة عمله يجب له أن يقاص بمثلها ؛ لأنه محسن معين على بر - وبالله تعالى التوفيق .

1377 - مسألة : وإن اشترى العامل من مال القراض جارية فوطئها فهو زان عليه حد الزنا ؛ لأن أصل الملك لغيره ، وولده منها رقيق لصاحب المال . وكذلك ولد الماشية ، وممر الشجر ، وكرى الدور ؛ لأنه شيء حدث في ماله ، وإنما للعامل حظه من الربح فقط ، ولا يسمى ربحا إلا ما نما بالبيع فقط - وبالله تعالى التوفيق .

============


كتاب الإقرار المحلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب الإقرار كتاب الإقرار (مسألة 1378 - 1382) فهارس كتاب الإقرار 1378 - مسألة: فيمن أقر لآخر أو لله بحق في مال أو دم 1379 - مسألة: الاختلاف في حكم من أقر مرة في حد أو قتل 1380 - مسألة: حكم إقرار المريض في مرض موته 1381 - مسألة: حكم من قال هذا الشيء كان لفلان ووهبه لي 1382 - مسألة: حكم من قال لفلان عندي مائة دينار دين ولي عنده مائة قفيز





كتاب الإقرار

1378 - مسألة : من أقر لآخر ، أو لله تعالى بحق في مال ، أو دم ، أو بشرة - وكان المقر عاقلا بالغا غير مكره - وأقر إقرارا تاما ، ولم يصله بما يفسده - : فقد لزمه ، ولا رجوع له بعد ذلك ، فإن رجع لم ينتفع برجوعه وقد لزمه ما أقر به على نفسه من دم ، أو حد ، أو مال . فإن وصل الإقرار بما يفسده بطل كله ولم يلزمه شيء ، لا من مال ، ولا قود ، ولا حد - : مثل أن يقول : لفلان علي مائة دينار ، أو يقول : قذفت فلانا بالزنى ، أو يقول زنيت ، أو يقول : قتلت فلانا ، أو نحو ذلك - : فقد لزمه ، فإن رجع عن ذلك لم يلتفت . فإن قال : كان لفلان علي مائة دينار وقد قضيته إياها ، أو قال : قذفت فلانا وأنا في غير عقلي ، أو قتلت فلانا ؛ لأنه أراد قتلي ولم أقدر على دفعه عن نفسي ، أو قال : زنيت وأنا في غير عقلي ، أو نحو هذا ، فإن هذا كله يسقط ولا يلزمه شيء ، والحر ، والعبد ، والذكر ، والأنثى - ذات الزوج ، والبكر ذات الأب ، واليتيمة فيما ذكرنا سواء - وإنما هذا كله إذا لم تكن بينة فإذا كانت البينة فلا معنى للإنكار ، ولا للإقرار - : روينا من طريق مسلم نا هداب بن خالد نا همام - هو ابن يحيى - نا قتادة عن أنس : { أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين ، فسألوها من صنع هذا بك ؟ فلان ؟ فلان ؟ حتى ذكروا يهوديا فأومأت برأسها ، فأخذ اليهودي فأقر فأمر به رسول الله ﷺ أن يرض رأسه بالحجارة . } ومن طريق مسلم نا محمد بن رمح نا الليث - هو ابن سعد - عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني ، فذكر الحديث ، وفيه قول القائل : { إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته ، وإني أخبرت أن على ابني الرجم ، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة ؟ فقال رسول الله ﷺ : والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله : الوليدة والغنم رد ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، اغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ، فغدا عليها فاعترفت ، فأمر بها رسول الله ﷺ فرجمت } فقتل عليه السلام بالإقرار ورجم به ، ورد به المال ممن كان بيده إلى غيره . وأما إذا وصل به ما يفسده فلم يقر بشيء ، ولا يجوز أن يلزم بعض إقراره ولا يلزم سائره ؛ لأنه لم يوجب ذلك قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع . وقد تناقض ههنا المخالفون فقالوا : إن قال : له علي دينار إلا ربع دينار فهو كما قال - وإن قال : ابتعت منه داره بمائة دينار ، فأنكر الآخر البيع وقال : قد أقر لي بمائة دينار وادعى ابتياع داري ، فإنهم لا يقصون عليه بشيء أصلا - وهذا تناقض ظاهر . وقال مالك : من قال : أحسن الله جزاء فلان فإنه أسلفني مائتي دينار ، وأمهلني حتى أديتها كلها إليه ، فإنه لا يقضي لذلك الفلان عليه بشيء إن طلبه بهذا الإقرار . ولا يختلفون فيمن قال : قتلت رجلا مسلما الآن أمامكم ، أو قال : أخذت من هذا مائة دينار الآن بحضرتكم ، فإنه لا يقضي عليه بشيء - ولم يقولوا : إن أقر ، ثم ندم ، ولا أخذوا ببعض قول دون بعض ، وهذا تناقض ظاهر - : روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد بن ، أبي بكر الصديق أن رجلا استضاف ناسا من هذيل فأرسلوا جارية تحتطب فأعجبت الضيف فتبعها فأرادها فامتنعت ، فعاركها فانفلتت فرمته بحجر ففضت كبده فمات ، فأتت أهلها فأخبرتهم ، فأتوا عمر بن الخطاب فأخبروه ؟ فقال عمر : قتيل الله لا يودى والله أبدا ؟ ومن طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني ، وحميد ، ومطرف ، كلهم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : غزا رجل فخلف على امرأته رجل من يهود ، فمر به رجل من المسلمين عند صلاة الفجر وهو يقول : وأشعث غره الإسلام مني جلوت بعرسه ليل التمام أبيت على ترائبها ويمسي على جرداء لاحقة الحزام كأن مجامع الربلات منها قيام ينهضون إلى فئام فدخل عليه فضربه بسيفه حتى قتله فجاءت اليهود يطلبون دمه فجاء الرجل فأخبره بالأمر ، فأبطل عمر بن الخطاب دمه . ومن طريق محمد بن المثنى نا عبد الله بن إدريس الأودي نا عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي موسى الأشعري قال أتيت وأنا باليمن بامرأة فسألتها ؟ فقالت : ما تسأل عن امرأة حبلى ثيب من غير بعل ، أما والله ما خاللت خليلا ولا خادنت خدنا ، مذ أسلمت ، ولكني بينما أنا نائمة بفناء بيتي ، فوالله ما أيقظني إلا الرجل حين ركبني وألقى في بطني مثل الشهاب ؟ فقال : فكتبت فيها إلى عمر بن الخطاب فكتب إلي : أن وافني بها وبناس من قومها ؟ فوافيته بها في الموسم ، فسأل عنها قومها ؟ فأثنوا خيرا ، وسألها ؟ فأخبرته كما أخبرتني ، فقال عمر : شابة تهامية تنومت قد كان ذلك يفعل ، فمارها عمر وكساها ، وأوصى بها قومها خيرا - هذا خبر في غاية الصحة . ومن طريق حماد بن سلمة عن عامر بن أبي الحكم عن الحسن : أن رجلا رأى مع امرأته رجلا فقتله ، فارتفعوا إلى عثمان بن عفان فأبطل دمه . ومن طريق حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، قالا جميعا : إن رجلا أتى امرأة ليلا فجعلت تستصرخ فلم يصرخها أحد ، فلما رأت ذلك قالت : رويدك حتى أستعد وأتهيأ ، فأخذت فهرا فقامت خلف الباب ، فلما دخل ثلغت به رأسه فارتفعوا إلى الضحاك بن قيس ، فأبطل دمه . ومن طريق حماد بن سلمة أخبرنا أبو عقبة أن رجلا ادعى على رجل ألف درهم ولم تكن له بينة فاختصما إلى عبد الملك بن يعلى فقال : قد كانت له عندي ألف درهم فقضيته فقال : أصلحك الله قد أقر ؟ فقال له عبد الملك بن يعلى : إن شئت أخذت بقوله أجمع ، وإن شئت أبطلته أجمع - /126 L475 عبد الملك بن يعلى /126 من التابعين - ولي قضاء البصرة . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه قال : من أقر بشيء في يده فالقول قوله . ومن طريق حماد بن سلمة عن إياس بن معاوية قال : كل من كان في يده شيء فالقول فيه قوله - وقولنا فيما ذكرنا هو قول عثمان البتي ، وأبي سليمان ، وأحد قولي الشافعي . وأما - الرجوع عن الإقرار : فكلهم متفق على ما قلنا ، إلا في الرجوع عن الإقرار بما يوجب الحد ، فإن الحنفيين ، والمالكيين ، قالوا : إن رجع لم يكن عليه شيء - وهذا باطل ، والقوم أصحاب قياس بزعمهم ، فهلا قاسوا الإقرار بالحد على الإقرار بالحقوق سواء ؟ وأيضا - فإن الحد قد لزمه بإقراره ، فمن ادعى سقوطه برجوعه فقد ادعى ما لا برهان له به ؛ واحتجوا بشيئين : أحدهما : حديث ماعز . والثاني : أن قالوا : إن الحدود تدرأ بالشبهات . قال علي : أما حديث ماعز - فلا حجة لهم فيه أصلا ، لأنه ليس فيه : أن ماعزا رجع عن الإقرار ألبتة ، لا بنص ، ولا بدليل - ولا فيه : أن رسول الله ﷺ قال : إن رجع عن إقراره قبل رجوعه أيضا ألبتة ، فكيف يستحل مسلم أن يموه على أهل الغفلة بخبر ليس فيه شيء مما يزعم ؟ وإنما روي عن بعض الصحابة أنه قال : كنا نتحدث أن ماعزا ، والغامدية لو رجعا بعد اعترافهما ، أو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما - : هكذا رويناه من طريق أبي أحمد الزبيري عن بشير بن المهاجر عن ابن بريدة عن أبيه أنه قال هذا القول - وهذا ظن ، والظن لا يجوز القطع به ، وقول القائل : لو فعل فلان كذا لفعل رسول الله ﷺ أمرا كذا - : ليس بشيء ، إذ لم يفعل ذلك الفلان ، ولا غيره ذلك الفعل قط ولا فعله عليه السلام قط ، وقد قال جابر : أنا أعلم الناس بأمر ماعز إنما { قال رسول الله ﷺ : هلا تركتموه وجئتموني به } ؟ ليستثبت رسول الله ﷺ منه ، فأما لترك حد فلا - : هذا نص كلام جابر ، فهو أعلم بذلك ، ولم يرجع ماعز قط عن إقراره ، وإنما قال : ردوني إلى رسول الله ﷺ فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي ، وأخبروني أن رسول الله ﷺ غير قاتلي - هكذا روينا كل ما ذكرنا من طريق أبي داود نا عبيد الله بن عمر بن ميسرة نا يزيد بن زريع عن محمد بن إسحاق : أن عاصم بن عمر بن قتادة قال : حدثني حسن بن محمد بن علي بن أبي طالب : أن جابر بن عبد الله قال له : كل ما ذكرنا على نصه - فبطل تمويههم بحديث ماعز . وأما " ادرءوا الحدود بالشبهات " فما جاء عن النبي ﷺ قط من طريق فيها خير ، ولا نعلمه أيضا جاء عنه عليه السلام أيضا ، لا مسندا ، ولا مرسلا وإنما هو قول روي عن ابن مسعود ، وعمر ، فقط - ولو صح لكانوا أول مخالف له ؛ لأن الحنفيين ، والمالكيين لا نعلم أحدا أشد إقامة للحدود بالشبهات منهم . فالمالكيون يحدون في الزنى بالرجم والجلد بالحبل فقط - وهي منكرة - وقد تستكره وتوطأ بنكاح صحيح لم يشتهر ، أو وهي في غير عقلها ، ويقتلون بدعوى المريض : أن فلانا قتله ، وفلان منكر ولا بينة عليه . ويحدون في الخمر بالرائحة ، وقد تكون رائحة تفاح ، أو كمثرى شتوي . ويقطعون في السرقة من يقول : صاحب المنزل بعثني في هذا الشيء - وصاحب المنزل مقر له بذلك . ويحدون في القذف بالتعريض - وهذا كله هو إقامة - الحدود بالشبهات . وأما الحنفيون فإنهم يقطعون من دخل مع آخر في منزل إنسان للسرقة فلم يتول أخذ شيء ولا إخراجه ، وإنما سرق الذي دخل فيه فقط ، فيقطعونهما جميعا - في كثير لهم من مثل هذا قد تقصيناه في غير هذا المكان . فمن أعجب شأنا ممن يحتج بقول قائل دون رسول الله ﷺ ثم هو أول مخالف لما احتج به من ذلك ، وأما تسويتنا بين الحر ، والعبد ، والذكر ، والأنثى ذات الأب البكر ، وغير البكر ، واليتيمة ، وذات الزوج فلأن الدين واحد على الجميع ، والحكم واحد على الجميع ، إلا أن يأتي بالفرق بين شيء من ذلك : قرآن أو سنة - ولا قرآن ، ولا سنة ، ولا قياس ، ولا إجماع على الفرق بين شيء مما ذكرنا وبلا خلاف من أحد من أهل الأرض من المسلمين في أن الله تعالى خاطب كل من ذكرنا خطابا قصد به إلى كل واحد منهم في ذات نفسه بقوله تعالى : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } فكل من ذكرنا مأمور بالإقرار بالحق على نفسه ، ومن الباطل المتيقن أن يفترض عليهم ما لا يقبل منهم . وقد قال قوم : إقرار العبد بما يوجب الحد لا يلزم ؛ لأنه مال فإنما هو مقر في مال سيده ، والله تعالى يقول : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } قال علي : هو وإن كان مالا فهو إنسان تلزمه أحكام الديانة ، وهذه الآية حجتنا في ذلك ؛ لأنه كاسب على نفسه بإقراره . وقد وافقونا : لو أن أجيرا أقر على نفسه بحد للزمه ، وفي إقراره بذلك إبطال إجارته إن أقر بما يوجب قتلا أو قطعا وليس بذلك كاسبا على غيره وبالله تعالى التوفيق .

1379 - مسألة : وبإقراره مرة يلزم كل ما ذكرنا من حد ، أو قتل ، أو مال - وقال الحنفيون : لا يلزم الحد في الزنى إلا بإقرار أربع مرات . وقال أبو يوسف : لا يلزم في السرقة إلا بإقرار مرتين ، وأقاموا ذلك مقام الشهادة - وقال مالك ، والشافعي ، وأبو سليمان كقولنا واحتج الحنفيون بأن رسول الله ﷺ { رد ماعزا أربع مرات } . قال علي : قد صح هذا وجاء أنه رده أقل ، وروي أكثر - إنما رده عليه السلام لأنه اتهم عقله ، واتهمه أنه لا يدري ما الزنى ؟ هكذا في نص الحديث أنه قال : استنكهوه هل شرب خمرا ؟ أو كما قال عليه السلام ؟ { وأنه عليه السلام بعث إلى قومه يسألهم عن عقله } ؟ وأنه عليه السلام قال له : { أتدري ما الزنى ؟ لعلك غمزت أو قبلت } ؟ فإذ قد صح هذا كله ، ولم يأت قط في رواية صحيحة ، ولا سقيمة أنه عليه السلام قال : لا يحد حتى يقر أربع مرات ، فلا يجوز أن يزاد هذا الشرط فيما تقام به حدود الله تعالى ، والقوم أصحاب قياس بزعمهم ، فيلزمهم إذ أقاموا الإقرار مقام البينة في بعض المواضع أن يقيموه مقامها في كل موضع ، فلا يقضوا على أحد أقر بمال حتى يقر مرتين - وهم لا يفعلون هذا ، وقد { قتل رسول الله ﷺ اليهودي الذي قتل الجارية } بإقرار غير مردد ، والقتل أعظم الحدود وبالله تعالى التوفيق .

1380 - مسألة : وإقرار المريض في مرض موته ، وفي مرض أفاق منه لوارث ولغير وارث - نافذ من رأس المال كإقرار الصحيح ولا فرق . روينا من طريق عبد الرزاق نا بعض أصحابنا عن الليث بن سعد عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر قال : إذا أقر المريض في مرضه بدين لرجل فإنه جائز - فعم ابن عمر ولم يخص . ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن علية عن ليث عن طاوس قال : إذا أقر لوارث بدين جاز - يعني في المرض - . وبه إلى ابن علية عن عامر الأحول قال : سئل الحسن عنه ؟ فقال : أحملها إياه ولا أتحملها عنه . ومن طريق ابن أبي شيبة نا زيد بن الحباب نا حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء فيمن أقر لوارث بدين ، قال : جائز . ومن طريق ابن أبي شيبة نا عمر بن أيوب الموصلي عن جعفر - هو ابن برقان - عن ميمون هو ابن مهران - إذا أقر بدين في مرضه ، فأرى أن يجوز عليه ؛ لأنه لو أقر به - وهو صحيح - جاز وأصدق ما يكون عند موته - وهذا هو قول الشافعي ، وأبي سليمان ، وأصحابهما . وقالت طائفة : لا يجوز إقرار المريض أصلا ، كما روينا عن ابن أبي شيبة نا وكيع عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء قال : لا يجوز إقرار المريض بالدين ، وهو قول ياسين الزيات إلا أنه قال : هو من الثلث . وقسمت طائفة - : كما روينا عن شريح أنه كان يجيز اعتراف المريض عند موته بالدين لغير الوارث ، ولا يجيزه للوارث إلا ببينة - وهو قول إبراهيم ، وابن أذينة - صح ذلك عنهما . ورويناه أيضا عن الحكم ، والشعبي - وهو قول أبي حنيفة - إلا أن دين الصحة عنده مقدم على دين المرض . واتفقوا على أن إقرار الصحيح للوارث ولغير الوارث بالدين جائز من رأس المال - كان له ولد أو لم يكن - . وقال مالك ، وأبو حنيفة : إن أقر المريض لوارث فأفاق من مرضه فهو لازم له من رأس ماله . واختلف عن مالك في ذلك إن مات من ذلك المرض فرواية ابن القاسم عنه : أنه لا يجوز ذلك الإقرار - وروى أبو قرة عن مالك : لا يجوز إلا في الشيء اليسير الذي يرى أنه لا يؤثر به لتفاهته . وروي عن مالك أيضا : أنه إن أقر لوارث بإربه لم يجز إقراره له ، فإن أقر لوارث عاق جاز إقراره له كالأجنبي . وقال في إقراره لزوجته بدين أو مهر : فإنه إن كان له ولد من غيرها ولم يعرف له انقطاع إلى الزوجة ، ولا ميل إليها فإقراره لها جائز من رأس المال ، فإن عرف له ميل إليها - وكان بينه وبين ولده من غيرها تفاقم - لم يجز إقراره لها . قال : وليس سائر الورثة في ذلك كالزوجة ؛ لأنه لا يتهم في الزوجة إذا لم يكن له إليها ميل أن يصرف ماله عن ولده إليها ، قال : فإن ورثه بنون أو إخوة لم يجز إقراره لبعضهم دون بعض في مرضه ، فإن لم يترك إلا ابنة ، وعصبة ، فأقر لبعض العصبة جاز ذلك . وقال : ولا يجوز إقراره لصديقه الملاطف إذا ورثه أبواه أو عصبته ، فإن ورثه ولد أو ولد ولد : جاز إقراره له . قال أبو محمد : هذه أقوال مبنية - بلا خلاف - على الظنون الزائغة وعلى التهمة الفاسدة وقد قال رسول الله ﷺ : { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } . وقال الله تعالى : { إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } . وكل هذه الأقوال لا تحفظ عن أحد قبله . ولا يخلو إقرار المريض عندهم إذا اتهموه فيه من أن يكون عندهم هبة أو يكون وصية - : فإن كان هبة ، فالهبة عندهم لبعض الورثة دون بعض جائزة من رأس المال وما جاء قط فرق بين هبة مريض ولا هبة صحيح . وإن كان وصية : فوصية الصحيح ، والمريض ، سواء لا تجوز إلا من الثلث - فظهر أن تفريقهم فاسد . فإن ذكروا حديث عتق الستة الأعبد ، وإقراع النبي ﷺ بينهم ، فأعتق اثنين وأرق أربعة ، فليس هذا من الإقرار في شيء أصلا - والإقرار إنما هو إخبار بحق ذكره - وليس عطية أصلا ، ولا وصية - وحديث الستة الأعبد سنذكره إن شاء الله تعالى في " العتق " بإسناده مبينا وبالله تعالى التوفيق .

1381 - مسألة : ومن قال : هذا الشيء - لشيء في يده - كان لفلان ، ووهبه لي ، أو قال : باعه مني - : صدق ، ولم يقض عليه بشيء ، لما ذكرنا قبل ، ولأن الأموال ، والأملاك بلا شك منتقلة من يد إلى يد : هذا أمر نعلمه يقينا . فلو قضي عليه ببعض إقراره هنا دون سائره لوجب إخراج جميع أملاك الناس عن أيديهم ، أو أكثرها ؛ لأنك لا تشك في الدور ، والأرضين ، والثياب المجلوبة والعبيد ، والدواب : أنها كانت قبل من هي بيده لغيره بلا شك ، وإن أمكن في بعض ذلك أن ينتجه فإن الأم وأم الأم - بلا شك - كانت لغيره . وكذلك الزريعة مما بيده مما ينبت - فظهر فساد هذا القول جملة . فإن قامت بينة في شيء مما بيده مما أقر به ، أو مما لم يقر به : أنه كان لغيره قضى به لذلك الغير حينئذ ، ولم يصدق على انتقال ما قامت به البينة لإنسان بعينه ألبتة إلا ببينة - وهذا متفق عليه ، { وقد حكم رسول الله ﷺ وقضى بالبينة للمدعي }

1382 - مسألة : ومن قال : لفلان عندي مائة دينار دين ولي عنده مائة قفيز قمح ، أو قال : إلا مائة قفيز تمر ، أو نحو ذلك ، أو إلا جارية - ولا بينة عليه بشيء ولا له - قوم القمح الذي ادعاه ، فإن ساوى المائة الدينار التي أقر بها ، أو ساوى أكثر : فلا شيء عليه - وإن ساوى أقل : قضي بالفضل فقط للذي أقر له . برهان ذلك - : أنه لم يقر له قط إقرارا تاما ، بل وصله بما أبطل به أول كلامه ، فلم يثبت له قط على نفسه شيئا . ولو جاز أن يؤخذ ببعض كلامه دون بعض لوجب أن يقتل من قال : لا إله إلا الله ؛ لأن نصف كلامه إذا انفرد - : كفر صحيح - وهو قوله " لا إله " فيقال له : كفرت ، ثم ندمت - وهو قول فاسد جدا ولوجب أيضا أن يبطل الاستثناء كله بمثل هذا ؛ لأنه إبطال لما أثبته بأول كلامه قبل أن يستثني ما استثنى . وقد قال قوم : إنما يجوز الاستثناء من نوع ما قبله لا من نوع غيره قال أبو محمد : وهذا باطل لأن الله تعالى يقول : { إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم } . وقال تعالى : { فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس } فاستثنى إبليس من الملائكة وليس منهم ، بل من الجن الذين ينسلون ، والملائكة لا تنسل ، واستثنى تعالى : { من ظلم } من المرسلين ، وليسوا من أهل صفتهم ، وقال الشاعر : وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس وليس " اليعافير " و " العيس " من " الأنيس " وقد استثناهم الشاعر العربي الفصيح .

===========

كتاب اللقطة والضالة والآبق وفيه مسألة واحدة وهي*1383 - مسألة: أحكام اللقطة والضالة والآبق


كتاب اللقطة والضالة والآبق

1383 - مسألة : من وجد مالا في قرية - أو مدينة ، أو صحراء في أرض العجم ، أو أرض العرب العنوة أو الصلح مدفونا أو غير مدفون إلا أن عليه علامة أنه من ضرب مدة الإسلام - أو وجد مالا - قد سقط - أي مال كان - : فهو لقطة ، وفرض عليه أخذه ، وأن يشهد عليه عدلا واحدا فأكثر ، ثم يعرفه ولا يأتي بعلامته ، لكن تعريفه هو أن يقول في المجامع الذي يرجو وجود صاحبه فيها أو لا يرجو : من ضاع له مال فليخبر بعلامته ، فلا يزال كذلك سنة قمرية ، فإن جاء من يقيم عليه بينة ، أو من يصف عفاصه ويصدق في صفته ، ويصف وعاءه ويصدق فيه ، ويصف رباطه ويصدق فيه ، ويعرف عدده ويصدق فيه ، أو يعرف ما كان له من هذا . أما العدد ، والوعاء ، إن كان لا عفاص له ولا وكاء ، أو العدد إن كان منثورا في غير وعاء - : دفعها إليه - كانت له بينة أو لم تكن . ويجبر الواجد على دفعه إليه ولا ضمان عليه بعد ذلك . ولو جاء من يثبته ببينة فإن لم يأت أحد يصدق في صفته بما ذكرنا ولا بينة فهو عند تمام السنة مال من مال الواجد - غنيا كان أو فقيرا يفعل فيه ما شاء ، ويورث عنه ، إلا أنه متى قدم من يقيم فيه بينة أو يصف شيئا مما ذكرنا فيصدق ضمنه له - إن كان حيا ، أو ضمنه له الورثة - إن كان الواجد له ميتا . فإن كان ما وجد شيئا واحدا كدينار واحد ، أو درهم واحد ، أو لؤلؤة واحدة ، أو ثوب واحد ، أو أي شيء كان كذلك لا رباط له ، ولا وعاء ، ولا عفاص - : فهو للذي يجده من حين يجده ويعرفه أبدا طول حياته ، فإن جاء من يقيم عليه بينة قط : ضمنه له فقط - هو أو ورثته بعده - وإلا فهو له ، أو لورثته يفعل فيه ما شاء من بيع أو غيره ، وكذلك ورثته بعده ولا يرد ما أنفذوا فيه . فإن كان ذلك في حرم مكة حرسها الله تعالى ، أو في رفقة قوم ناهضين إلى العمرة أو الحج : عرف أبدا ، ولم يحل له تملكه ، بل يكون موقوفا - فإن يئس بيقين عن معرفة صاحبه فهو في جميع مصالح المسلمين . برهان ذلك - : ما رويناه من طريق مسلم نا إسحاق بن منصور نا عبيد الله بن موسى العبسي عن شيبان عن يحيى - هو ابن أبي كثير - أخبرني أبو سلمة - هو ابن عبد الرحمن بن عوف - أخبرني أبو هريرة قال { : خطب رسول الله ﷺ عام فتح مكة فقال : إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها نبيه والمؤمنين ، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، ألا وإنها أحلت لي ساعة من النهار ، ألا وإنها ساعتي هذه حرام ، لا يخبط شوكها ، ولا يعضد شجرها ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد } . قال أبو محمد : مكة هي الحرم كله فقط ، وهي ذات الحرمة المذكورة ، لا ما عدا الحرم بلا خلاف - . ورويناه أيضا عن ابن عباس عن النبي ﷺ أيضا . ومن طريق مسلم ني أبو الطاهر نا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي : أن رسول الله ﷺ { نهى عن لقطة الحاج } قال أبو محمد : الحج في اللغة هو القصد ، ومنه سميت المحجة محجة ، فالقاصد من بيته إلى الحج أو العمرة هو فاعل للقصد الذي هو الحج إلى أن يتم جميع أعمال حجه أو عمرته لقول رسول الله ﷺ : { دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة } فإذا تمت فليس حاجا ، لكنه كان حاجا ، وقد حج - وبالله تعالى التوفيق . وروينا هذا عن عمر بن الخطاب ، وابن المسيب . روينا من طريق الحجاج بن المنهال نا الأسود بن شيبان عن أبي نوفل - هو ابن أبي عقرب - عن أبيه أنه أصاب بدرة بالموسم على عهد عمر بن الخطاب فعرفها فلم يعرفها أحد فأتى بها عمر عند النفر وقال له : قد عرفتها فأغنها عني قال : ما أنا بفاعل قال : يا أمير المؤمنين فما تأمرني ؟ قال : أمسكها حتى توافي بها الموسم قابلا ففعل ، فعرفها فلم يعرفها أحد ، فأتى بها عمر فأخبره : أنه قد وافاه بها كما أمره ، وعرفها فلم يعرفها أحد ، وقال له : أغنها عني ؟ قال له عمر : ما أنا بفاعل ، ولكن إن شئت أخبرتك بالمخرج منها ، أو سبيلها : إن شئت تصدقت بها ، فإن جاء صاحبها خيرته ، فإن اختار المال رددت عليه المال ، وكان الأجر لك ، وإن اختار الأجر كان لك نيتك فهذا فعل عمر في لقطة الموسم . وفعل في لقطة غير الموسم ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية أن معاوية بن عبد الله بن بدر الجهني أخبره ، أن أباه عبد الله - قال إسماعيل : وقد سمعت أن له صحبة - أقبل من الشام فوجد صرة فيها ذهب مائة فأخذها ، فجاء بها إلى عمر بن الخطاب ؟ فقال له عمر : انشدها الآن على باب المسجد ثلاثة أيام ، ثم عرفها سنة ، فإن اعترفت ، وإلا فهي لك ، قال : فعلت فلم تعرف ، فقسمتها بين امرأتين لي . ومن طريق الحجاج بن المنهال نا أبو عوانة عن قتادة قال : كنت أطوف بالبيت فوطئت على ذهب ، أو فضة ، فلم آخذه ، فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب ؟ فقال : بئس ما صنعت ، كان ينبغي لك أن تأخذه تعرفه سنة ، فإن جاء صاحبه رددته إليه ، وإلا تصدقت به على ذي فاقة ممن لا تعول .

وقال في لقطة غير الحرم ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية : أن زيد بن الأخنس الخزاعي أخبره أنه قال لسعيد بن المسيب : وجدت لقطة أفأتصدق بها ؟ قال : لا تؤجر أنت ولا صاحبها ، قلت : أفأدفعها إلى الأمراء ؟ قال : إذا يأكلونها أكلا سريعا قلت : وكيف تأمرني ؟ قال : عرفها سنة ، فإن اعترفت وإلا فهي لك كمالك فهذا سعيد بن المسيب يقول : بإيجاب أخذ اللقطة ولا بد ، ويراها بعد الحول قد صارت من مال الملتقط ، إلا لقطة مكة . وقولنا في لقطة مكة هو قول عبد الرحمن بن مهدي ، وأبي عبيد ، نا بذلك أحمد بن محمد بن الجسور قال : نا محمد بن عيسى بن رفاعة نا علي بن عبد العزيز نا أبو عبيد عن عبد الرحمن بن مهدي بذلك - وعن أبي عبيد من قوله . وأما ما عدا لقطة الحرم ، والحاج ، فلما روينا من طريق أبي داود نا مسدد نا خالد - هو الحذاء - عن أبي العلاء - هو يزيد بن عبد الله بن الشخير - عن مطرف - هو ابن عبد الله بن الشخير - عن عياض بن حمار المجاشعي قال : قال رسول الله ﷺ { من أخذ لقطة فليشهد ذا عدل ، أو ذوي عدل ، ولا يكتم ، ولا يغيب ، فإن وجد صاحبها فليردها عليه ، وإلا فهو مال الله عز وجل يؤتيه من شاء } . ورويناه من طريق هشيم عن خالد الحذاء بإسناده فقال : { فليشهد ذوي عدل } . قال أبو محمد : وزاد مسدد كما ذكرنا وليس شكا ، ولا يجوز أن يحمل شيء مما روي عن النبي ﷺ على أنه شك إلا بيقين أنه شك ، وإلا فظاهره الإسناد . ومن طريق حماد عن ربيعة عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني أن رسول الله ﷺ { سئل عن اللقطة فقال : اعرف عفاصها وعدتها ووعاءها ، فإن جاء صاحبها فعرفها فادفعها إليه وإلا فهي لك } . ومن طريق مسلم حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح نا ابن وهب نا الضحاك بن عثمان عن أبي النضر - هو مولى عمر بن عبيد الله - عن بسر بن سعيد عن زيد بن خالد الجهني قال { سئل رسول الله ﷺ عن اللقطة ؟ فقال : عرفها سنة فإن لم تعترف فاعرف عفاصها ووكاءها ، ثم كملها فإن جاء صاحبها فأدها إليه } . ومن طريق حماد بن سلمة نا سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة أن أبي بن كعب قال له : أنه سأل النبي ﷺ عن اللقطة ؟ فقال له رسول الله ﷺ : { اعرف عددها ، ووكاءها ، ووعاءها ، ثم استمتع بها ، فإن جاء صاحبها فعرف عددها ووكاءها ووعاءها فأعطها إياه وإلا فهي لك } وأما الشيء الواحد الذي لا وكاء له ، ولا عفاص ، ولا وعاء فلأن رسول الله ﷺ إنما أمر بتعريف السنة فيما له عدد ، وعفاص ، ووكاء ، أو بعض هذه - فأما ما لا عفاص له ، ولا وعاء ، ولا وكاء ، ولا عدد : فهو خارج من هذا الخبر ، وحكمه في حديث عياض بن حمار : فحكمه أن ينشد ذلك أبدا لقوله عليه السلام { لا يكتم ولا يغيب } ولقوله عليه السلام { هو مال الله يؤتيه من يشاء } فقد آتاه الله واجده روينا من طريق أحمد بن شعيب نا محمد بن رافع نا حجين بن المثنى نا عبد العزيز - هو ابن أبي سلمة - الماجشون عن عبد الله بن الفضل عن سلمة بن كهيل قال : كان سويد بن غفلة ، وزيد بن صوحان وثالث معهما في سفر فوجد أحدهم - هو سويد بلا شك - سوطا فأخذه ، فقال له صاحباه : ألقه فقال : أستمتع به فإن جاء صاحبه أديته إليه خير من أن تأكله السباع - فلقي أبي بن كعب فذكر ذلك له فقال : أصبت وأخطآ - ففي هذا أن أبي بن كعب رأى وجوب أخذ اللقطة . قال أبو محمد : فيما ذكرنا اختلاف ، فمن ذلك أن قوما قالوا : لا تؤخذ اللقطة أصلا ، وقال آخرون : مباح أخذها وتركها مباح ، فأما من نهى عن أخذها فلما ذكرنا آنفا . وكما روينا عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن جعفر بن ربيعة أن الوليد بن سعد حدثه قال : كنت مع ابن عمر فرأيت دينارا فذهبت لآخذه فضرب ابن عمر يدي وقال : ما لك وله اتركه . ومن طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس لا ترفع اللقطة لست منها في شيء ، تركها خير من أخذها . ومن طريق سفيان الثوري عن إبراهيم بن عبد الأعلى سئل سعيد بن جبير عن الفاكهة توجد في الطريق ؟ قال : لا تؤكل إلا بإذن ربها . وعن الربيع بن خيثم أنه كره أخذ اللقطة . وعن شريح أنه مر بدرهم فتركه . وقال أبو حنيفة ، ومالك : كلا الأمرين مباح ، والأفضل أخذها . وقال الشافعي مرة : أخذها أفضل - ومرة قال : الورع تركها . قال أبو محمد : أما من أباح كلا الأمرين فما نعلم له حجة أصلا ، فإن حملوا أمره عليه السلام بأخذها على الندب ؟ قيل لهم : فاحملوا أمره بتعريفها على الندب ولا فرق . فإن قالوا : أموال الناس محرمة ؟ قلنا : وإضاعتها محرمة ولا فرق . وأما من منع من أخذها ؟ فإنهم احتجوا بقول رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فقلنا لهم : نعم ، وما أمرناه باستحلالها أصلا ، لكن أمرناه بالمفترض عليه من حفظها وترك إضاعتها المحرمة عليه ، ثم جعلناها له حيث جعلها له الذي حرم أموالنا علينا إلا بما أباحها لنا ، لا يجوز ترك شيء من أوامره ﷺ فهو أولى بنا من أنفسنا ، وقد كفر من وجد في نفسه حرجا مما قضى . واحتجوا أيضا بحديث المنذر بن جرير عن أبيه عن النبي ﷺ : { لا يأوي الضالة إلا ضال } وبحديث أبي مسلم الجرمي - أو الحرمي - عن الجارود عن النبي ﷺ قال : { ضالة المسلم حرق النار } . وهذان خبران لا يصحان ؛ لأن المنذر بن جرير ، وأبا مسلم الجرمي أو الحرمي - غير معروفين ، لكن { ضالة المسلم حرق النار } قد صح من طريق أخرى وهذا لفظ مجمل فسره سائر الآثار - وهو خبر رويناه من طريق حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أنه سأل رسول الله ﷺ عن ضوال الإبل ؟ فقال عليه السلام : { ضالة المسلم حرق النار } وهم أول مخالف ، فأمروا بأخذ ضوال الإبل ، ثم لو صحا لما كان لهم فيهما حجة ؛ لأن إيواء الضالة بخلاف ما أمر به النبي ﷺ حرق النار ، وضلال بلا شك ، وما أمرناه قط بإيوائها مطلقا ، لكن بتعريفها وضمانها في الأبد ، وقد جاء بهذا حديث أحسن من حديثهم : كما روينا من طريق ابن وهب حدثني عمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة عن أبي سالم الجيشاني عن زيد بن خالد الجهني عن رسول الله ﷺ [ أنه قال ] : { من أخذ لقطة فهو ضال ما لم يعرفها } .

ومنها مدة التعريف ، وقد روينا عن عمر رضي الله عنه التعريف ثلاثة أيام على باب المسجد ، ثم سنة - وبه يقول الليث بن سعد . ويحتج لهذا القول بما روينا من طريق أحمد بن شعيب نا يزيد بن محمد بن عبد الصمد نا علي بن عياش نا الليث - هو ابن سعد - حدثني من أرضى عن إسماعيل بن أمية عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن رجل من أصحاب رسول الله ﷺ عن النبي ﷺ أنه قال - وقد سئل عن الضالة - : { اعرف عفاصها ووكاءها ، ثم عرفها ثلاثة أيام على باب المسجد ، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه ، وإن لم يأت فعرفها سنة ، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها } . وهذا حديث هالك ؛ لأن الليث لم يسم من أخذ عنه وقد يرضى الفاضل من لا يرضى ، هذا سفيان الثوري يقول : لم أر أصدق من جابر الجعفي - وجابر مشهور بالكذب . ثم هو خطأ ؛ لأنه قال فيه : عن عبد الله بن يزيد وإنما هو عن يزيد لا عن عبد الله بن يزيد . ووجه آخر كما روينا من طريق حماد بن سلمة نا يحيى بن سعيد - هو الأنصاري - عن معاوية بن عبد الله بن بدر قال : وجد أبي في مبرك بعير مائة دينار فسأل عمر بن الخطاب عن ذلك ؟ فقال له : عرفها عاما ، فعرفها عاما فلم يجد لها عارفا ؟ فقال له عمر : عرفها ثلاثة أعوام ، فلم يجد لها عارفا ، فقال له عمر : هي لك . ويحتج لهذا بما رويناه من طريق أحمد بن شعيب نا محمد بن قدامة نا جرير عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة قال : قال لي أبي بن كعب : { التقطت صرة فيها مائة دينار فأتيت بها رسول الله ﷺ فقال : عرفها حولا فعرفتها حولا ، فقلت : يا رسول الله قد عرفتها حولا فقال : عرفها سنة أخرى فعرفتها سنة أخرى ثم قلت : يا رسول الله عرفتها سنة فقال : عرفها سنة أخرى فعرفتها سنة أخرى ثم أخبرته عليه السلام بذلك ، فقال : انتفع بها واعرف وكاءها وخرقتها واحص عددها فإن جاء صاحبها } قال جرير : لم أحفظ ما بعد هذا . وهكذا رويناه من طريق زيد بن أبي أنيسة ، وعبيد الله بن عمر الرقيين كلاهما عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ . قال أبو محمد : هذا حديث ظاهره صحة السند ، إلا أن سلمة بن كهيل أخطأ فيه بلا شك ؛ لأننا رويناه من طريق حماد بن سلمة عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ فقال فيه : فلم أجد لها عارفا عامين أو ثلاثة . وروينا من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عبد الله بن الفضل عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ فقال فيه : { عرفها عاما } قال : فعرفتها ، فلم تعترف ، فرجعت فقال : { عرفها عاما مرتين أو ثلاثا } فهذا شك من سلمة بن كهيل . ثم رويناه من طريق مسلم بن الحجاج قال : حدثني أبو بكر بن نافع نا غندر نا شعبة عن سلمة بن كهيل قال : سمعت سويد بن غفلة قال : لقيت أبي بن كعب فذكر . الحديث وأن رسول الله ﷺ قال له : { عرفها حولا ، فعرفتها فلم أجد من يعرفها ، ثم أتيته فقال : عرفها حولا ، فلم أجد من يعرفها ثم أتيته فقال : عرفها حولا فلم أجد من يعرفها } ، وذكر باقي الحديث : قال شعبة : فلقيته بعد ذلك بمكة فقال : لا أدري ثلاثة أحوال أو حول واحد فهذا تصريح من سلمة بن كهيل بالشك ، والشريعة لا تؤخذ بالشك . ورويناه أيضا من طريق مسلم حدثني عبد الرحمن بن بشر العبدي نا بهز - هو ابن أسد - نا شعبة نا سلمة بن كهيل قال : سمعت سويد بن غفلة فاقتص الحديث - قال شعبة : فسمعته بعد عشر سنين يقول : عرفها عاما واحدا . فصح أن سلمة بن كهيل تثبت واستذكر ، فثبت على عام واحد ، بعد أن شك ، فصح أنه وهم ثم استذكر ، فشك ثم استذكر فتيقن ، وثبت وجوب تعريف العام وبطل تعريف ما زاد - والحمد لله رب العالمين . قال أبو محمد : وههنا أثران آخران - أحدهما : رويناه من طريق عبد الرزاق عن أبي بكر - هو ابن أبي ميسرة - عن شريك بن عبد الله عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري { أن عليا جاء إلى رسول الله ﷺ بدينار وجده في السوق فقال النبي ﷺ عرفه ثلاثا ففعل فلم يجد أحدا يعترفه فقال له النبي ﷺ : كله فذكر الحديث كله - وفي آخره فجعل أجل الدينار وشبهه ثلاثة أيام } لهذا الحديث قال أبو محمد : لا ندري من كلام من هذه الزيادة ، وهذا خبر سوء لأنه من طريق ابن أبي سبرة وهو مشهور بوضع الحديث والكذب ، عن شريك وهو مدلس يدلس المنكرات عن الضعفاء إلى الثقات . وروي من طريق إسرائيل عن عمر بن عبد الله بن يعلى عن جدته حكيمة عن أبيها أن رسول الله ﷺ قال : { من التقط لقطة يسيرة درهما أو حبلا أو شبه ذلك فليعرفه ثلاثة أيام ، فإن كان فوق ذلك فليعرفه ستة أيام } وهذا لا شيء : إسرائيل ضعيف ، وعمر بن عبد الله مجهول ، وحكيمة عن أبيها أنكر وأنكر ، ظلمات بعضها فوق بعض . قال أبو محمد : روينا عن مالك ، والشافعي ، وأبي سليمان ، والأوزاعي تعريف اللقطة سنة - وهو القول الظاهر عن أبي حنيفة ، وقد روي عنه خلافه . وروي عن عمر بن الخطاب أيضا : تعريف اللقطة ثلاثة أشهر . وروي أيضا عنه من طريق شريك عن أبي يعقوب العبدي عن أبي شيخ العبدي عن زيد بن صوحان العبدي أن عمر أمر أن يعرف قلادة التقطها أربعة أشهر ، فإن جاء من يعرفها وإلا وضعها في بيت المال - فهذه عن عمر رضي الله عنه خمسة أقوال . وروى أبو نعيم عن سفيان الثوري من التقط درهما فإنه يعرفه أربعة أيام وقال الحسن بن حي ، وأبو حنيفة في رواية هشام بن عبيد الله الرازي عن محمد بن الحسن عنه : أن ما بلغ عشرة دراهم فصاعدا فإنه يعرف سنة . واختلفا فيما كان أقل فقال الحسن بن حي : يعرف ثلاثة أيام . وقال أبو حنيفة : يعرف على قدر ما يرى الملتقط - وهذه آراء فاسدة كما ترى ، ومنها : دفع اللقطة إلى من عرف العفاص ، والوكاء ، والعدد ، والوعاء فقال مالك ، وأبو سليمان كما قلنا . وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا يدفعها إليه بذلك ، فإن فعل ضمنها ؛ لأنه قد يسمع صاحبها يصفها فيعرف صفتها فيأتي بها - . واحتجوا في ذلك بأن رسول الله ﷺ أوجب البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ، ونهى عن أن يعطى أحد بدعواه . وقال عليه السلام : { شاهداك أو يمينه ليس لك غير ذلك } . قال أبو محمد : هذا كله حق ، والذي قاله هو الذي أمر بأن تعطى اللقطة من عرف العفاص ، والوكاء ، والعدد ، والوعاء ، وليس كلامه متعارضا ، ولا حكمه متناقضا ، ولا يحل ضرب بعضه ببعض ، ولا ترك بعضه وأخذ بعض ، فكله حق ، وكله وحي من عند الله عز وجل ، وهم مجمعون معنا على أن المدعى عليه إن أقر قضي عليه بغير بينة ، فقد جعلوا للمدعي شيئا غير الشاهدين أو يمين المدعى عليه . فإن قالوا : قد صح الحكم بالإقرار ؟ قلنا : وقد صح دفع اللقطة بأن يصف المدعي وكاءها ، وعددها ، وعفاصها ووعاءها ، ولا فرق ، وليس كل الأحكام توجد في خبر واحد ، ولا تؤخذ من خبر واحد ، ولكن تضم السنن بعضها إلى بعض ويؤخذ بها كلها ، ولو أن الحنفيين اعترضوا أنفسهم بهذه الاعتراضات في قبولهم امرأة واحدة في عيوب النساء ، والولادة ، ولو عارضوا أنفسهم بهذا في حكمهم للزوجين يختلفان في متاع البيت أن ما أشبه أن يكون للرجال كان للرجل مع يمينه ، وما أشبه أن يكون للنساء كان للمرأة بيمينها بغير بينة ، ولا يحكمون بذلك في الأخت والأخ يختلفان في متاع البيت الذي هما فيه ، ولو عارضوا أنفسهم بهذا الاعتراض في قولهم : إن من ادعى لقيطا هو وغيره فأتى بعلامات في جسده قضي له به ، ولا يقضون بذلك فيمن ادعى مع آخر عبدا فأتى أحدهما بعلامات في جسده ؟ وفي قولهم : لو أن مستأجر الدار تداعى مع صاحب الدار في جذوع موضوعة في الدار وأحد مصراعين في الدار : أن تلك الجذوع إن كانت تشبه الجذوع التي في البناء والمصراع القائم كان كل ذلك لصاحب الدار بلا بينة - وسائر تلك التخاليط التي لا تعقل ، ثم لا يبالون بمعارضة أوامر رسول الله ﷺ بآرائهم الفاسدة . وأما الشافعي فإنه قضى في القتيل يوجد في محلة أقوام أعداء له أن المدعين بقتله عليه يحلفون خمسين يمينا ثم يقضى لهم بالدية فأعطاهم بدعواهم . فإن قالوا : إن السنة جاءت بهذا ؟ قلنا لهم : والسنة جاءت بدفع اللقطة إلى من عرف عفاصها ، ووكاءها ، وعددها ، ووعاءها - ولا فرق . وقالوا : قد قال رسول الله ﷺ { فإن جاء صاحبها فأدها إليه } قلنا : نعم ، وصاحبها هو الذي أمر عليه السلام بدفعها إليه إذا وصف ما ذكرنا . وأما قولهم : قد يسمعها متحيل ؟ فيقال لهم : وقد تكذب الشهود ولا فرق . وقالوا : قد قال أبو داود السجستاني : هذه الزيادة - فإن عرف عفاصها ووكاءها ، وعددها ، فادفعها إليه - : غير محفوظة . قال أبو محمد : وهذا لا شيء ، ولا يجوز أن يقال فيما رواه الثقات مسندا : هذا غير محفوظ - ولا يعجز أحد عن هذه الدعوى فيما شاء من السنن الثوابت . وقد أخذ الحنفيون بزيادة جاءت في حديث حماد بن سلمة في الزكاة - وهي ساقطة غير محفوظة - ولو صح إسنادها ما قلنا فيه : غير محفوظ . وأخذوا بخبر الاستسعاء ، وقد قال من هو أجل من أبي داود : وليس الاستسعاء محفوظا وإنما هو من كلام ابن أبي عروبة . وأخذوا بالخبر { من ملك ذا رحم محرمة فهو حر } وجمهور أصحاب الحديث يقولون : إنه غير محفوظ . وأخذ الشافعي في زكاة الفطر باللفظة التي ذكرها من لا يعتد به { ممن تعولون } وهي بلا شك ساقطة غير محفوظة - ولو صحت من طريق الإسناد ما استحللنا أن نقول فيها : غير محفوظة . ثم نقول : أخطأ أبو داود في قوله : هي غير محفوظة - بل هي محفوظة ؛ لأنها لو لم يروها إلا حماد بن سلمة وحده لكفى ، لثقته وإمامته - وكيف وقد وافقه عليها سفيان الثوري عن ربيعة عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني عن النبي ﷺ . وسفيان أيضا عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ فبطل قول من قال : هي غير محفوظة ، بل هي مشهورة محفوظة .

--------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مكتبات الكتاب الاسلامي

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أ...