مدونة استكمال مصنفات الإمامين ابن حزم والوكاني

الاثنين، 21 مارس 2022

المحلى ابن حزم - المجلد الثالث كتاب العقيقة {1114 فقط} + المحلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب النذور {من 1115 الي 1126.}

كتاب العقيقة

1114 - مسألة : العقيقة فرض واجب يجبر الإنسان عليها إذا فضل له عن قوته مقدارها . وهو أن يذبح عن كل مولود يولد له حيا أو ميتا بعد أن يكون يقع عليه اسم غلام أو اسم جارية . إن كان ذكرا فشاتان وإن كان أنثى فشاة واحدة . يذبح كل ذلك في اليوم السابع من الولادة ولا تجزئ قبل اليوم السابع أصلا - فإن لم يذبح في اليوم السابع ذبح بعد ذلك متى أمكن فرضا . ويؤكل منها ويهدى ويتصدق ، هذا كله مباح لا فرض . ويعد في الأيام السبعة التي ذكرنا يوم الولادة ولو لم يبق منه إلا يسير . ويحلق رأسه في اليوم السابع ، ولا بأس بأن يمس بشيء من دم العقيقة ، ولا بأس بكسر عظامها . ولا يجزئ في العقيقة إلا ما يقع عليه اسم شاة - إما من الضأن ، وإما من الماعز فقط - ولا يجزئ في ذلك من غير ما ذكرنا لا من الإبل ولا من البقر الإنسية ، ولا من غير ذلك . ولا تجزئ في ذلك جذعة أصلا ، ولا يجزئ ما دونها مما لا يقع عليه اسم شاة . ويجزى الذكر والأنثى من كل ذلك ؛ ويجزئ المعيب سواء كان مما يجوز في الأضاحي أو كان مما لا يجوز فيها ، والسالم أفضل . ويسمى المولود يوم ولادته ، فإن أخرت تسميته إلى اليوم السابع فحسن . ويستحب أن يطعم أول ولادته التمر ممضوغا وليس فرضا . والحر ، والعبد في كل ما ذكرنا سواء ، والمؤمن ، والكافر كذلك . وهي في مال الأب أو الأم إن لم يكن له أب ، أو لم يكن للمولود مال ، فإن كان له مال فهي في ماله . وإن مات قبل السابع عق عنه كما ذكرنا ولا بد - لما روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن المثنى نا عفان بن مسلم نا حماد بن سلمة أنا أيوب هو السختياني - وحبيب هو ابن الشهيد - ويونس هو ابن عبيد - وقتادة كلهم عن محمد بن سيرين عن سلمان بن عامر الضبي أن رسول الله ﷺ قال : { في الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما ، وأميطوا عنه الأذى } . ورويناه أيضا من طريق البخاري وغيره إلى حماد بن زيد ، وجرير بن حازم ، كلاهما عن أيوب عن ابن سيرين عن سلمان بن عامر عن النبي ﷺ بنحوه . ومن طريق الرباب عن ابن سلمان بن عامر عن النبي ﷺ بنحوه . وبالسند المذكور إلى أحمد بن شعيب نا أحمد بن سليمان نا عفان نا حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن طاوس ، ومجاهد عن أم كرز الخزاعية أن رسول الله ﷺ قال : { عن الغلام شاتان مكافأتان وعن الجارية شاة } . نا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا محمد بن إسماعيل الترمذي نا الحميدي نا سفيان بن عيينة نا عمرو بن دينار أنا عطاء بن أبي رباح أن حبيبة بنت ميسرة الفهرية مولاته من فوق أخبرته أنها سمعت أم كرز الخزاعية تقول سمعت { رسول الله ﷺ يقول في العقيقة : عن الغلام شاتان مكافأتان ، وعن الجارية شاة } فسر عطاء المكافأتان بأنهما المثلان . وفسره أحمد بن حنبل أنهما المتقاربتان أو المتساويتان . ومن طريق سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه عن سباع بن ثابت عن أم كرز قالت : سمعت رسول الله ﷺ يقول : { عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة لا يضركم ذكرانا كن أو إناثا } . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا عمرو بن علي نا يزيد هو ابن زريع - عن سعيد هو ابن أبي عروبة - نا قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب عن رسول الله ﷺ قال : { كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق رأسه ويسمى } . ومن طريق أبي داود نا حفص بن عمر النمري نا همام هو ابن يحيى - نا قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي ﷺ قال : { كل غلام رهينة بعقيقته حتى تذبح عنه يوم السابع ويحلق رأسه ويدمى } فكان قتادة إذا سئل عن الدم كيف يصنع ؟ قال : إذا ذبحت العقيقة أخذت منها صوفة فاستقبلت بها أوداجها ، ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط ، ثم يغسل رأسه بعد ويحلق " . قال أبو داود : أخطأ همام إنما هو يسمى . قال أبو محمد : بل وهم أبو داود ؛ لأن هماما ثبت وبين أنهم سألوا قتادة عن صفة التدمية المذكورة فوصفها لهم . ومن طريق البخاري نا عبد الله بن أبي الأسود نا قريش بن أنس حبيب بن الشهيد قال : أمرني ابن سيرين أن أسأل الحسن ممن سمع حديث العقيقة ؟ فسألته ؟ فقال : من سمرة بن جندب . قال علي : لا يصح للحسن سماع من سمرة إلا حديث العقيقة وحده - فهذه الأخبار نص ما قلنا - وهو قول جماعة من السلف - : روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني يوسف بن ماهك أنه دخل على حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر وقد ولدت للمنذر بن الزبير غلاما فقلت لها : هلا عققت جزورا على ابنك ؟ قالت : معاذ الله كانت عمتي عائشة تقول : على الغلام شاتان ، وعلى الجارية شاة . ومن طريق أبي الطفيل عن ابن عباس : عن الغلام شاتان ، وعن الجارية شاة - وهو قول عطاء بن أبي رباح . ومن طريق ابن الجهم نا جعفر بن محمد الصائغ نا عفان نا عبد الوارث هو ابن سعيد التنوري - عن عطاء بن السائب عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال : يحلق رأسه ويلطخه بالدم ، ويذبح يوم السابع ويتصدق بوزنه فضة . ومن طريق مكحول : بلغني عن ابن عمر أنه قال : المولود مرتهن بعقيقته . وعن بريدة الأسلمي : إن الناس يعرضون يوم القيامة على العقيقة كما يعرضون على الصلوات الخمس - ومثله عن فاطمة بنت الحسين . ومن طريق الحسن البصري يصنع بالعقيقة ما يصنع بالأضحية . وعن عطاء قال : يأكل أهل العقيقة ويهدونها أمر ﷺ بذلك - زعموا - وإن شاء تصدق . قال أبو محمد : أمره عليه السلام بالعقيقة فرض كما ذكرنا لا يحل لأحد أن يحمل شيئا من أوامره عليه السلام على جواز تركها إلا بنص آخر وارد بذلك ، وإلا فالقول بذلك كذب وقفو لما لا علم لهم به . وقد قال عليه السلام : { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } . وممن قال بوجوبها : أبو سليمان ، وأصحابنا . وممن قال : بالشاتين عن الذكر ، وشاة عن الأنثى : الشافعي ، وأبو سليمان - ولا تسمى " السخلة " شاة . وقد ذكرنا في " الأضاحي " قول النبي ﷺ : { لا تجزي جذعة عن أحد بعدك } فهذا عموم لا يخص منه إلا ما خصه نص . واسم الشاة يقع على الضانية والماعزة بلا خلاف إطلاقا بلا إضافة - وقال الأعشى يصف ثورا وحشيا : فلما أضاء الصبح ثار مبادرا وكان انطلاق الشاة من حيث خيما وقال ذو الرمة يخاطب ظبية : أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا أأنت أم أم سالم فأجابه أخو هشام وكلاهما عربي أعرابي فصيح : فلو تحسن التشبيه والشعر لم تقل لشاة النقا أأنت أم أم سالم وقال زهير بن أبي سلمى يصف حمير وحش : فبينا نبغي الوحش جاء غلامنا يدب ويخفي شخصه ويضائله فقال شياه رائعات بقفرة بمستأسد القريان حو مسائله ثلاث كأقواس السراء ومسحل قد اخضر من لس الغمير جحافله وقد خرم الطراد عنه جحاشه فلم يبق إلا نفسه وحلائله ثم مضى في الوصف إلى أن قال : فتبع آثار الشياه وليدنا كشؤبوب غيث يحفش الأكم وابله فرد علينا العير من دون إلفه على رغمه يدمى نساه وفائله فسمى " الشياه " ثم فسرها بأن لها " مسحلا وجحاشا " وأنها عير وأتانه . فإن قال قائل : فهلا قلتم بإيجاب الزكاة فيها وبأخذ ذلك في زكاة الغنم وزكاة الإبل ، وفي العقيقة ، والنسك ؟ قلنا : لم يجز ذلك ؛ لأن النص في الزكاة إنما جاء كما أوردنا في " كتاب الزكاة عنه ﷺ نص كتابه { في صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة } . وفي الحديث الآخر { في الغنم في كل أربعين شاة شاة } . وفي حديث أبي بكر عن النبي ﷺ : { في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة } . واسم الغنم لا يقع في اللغة إلا على الضأن والماعز فقط ، فوجب بالأحاديث الواردة في الزكاة أن لا يأخذ إلا من الغنم ، ولا يعطي في زكاة الإبل إلا الغنم . وأما المأخوذ من الغنم فالله تعالى يقول : { خذ من أموالهم صدقة } . وهذا اللفظ يقتضي بظاهره أخذ الصدقة من نفس المال الذي يجب فيه الصدقة ، والذي هي مأخوذة منه ، فثبت أن المأخوذ في الصدقة إنما هو من الأموال التي تؤخذ منها الصدقة ، فلا تجزئ من غيرها إلا ما جاء النص بأنه يجزي كزكاة الإبل من الغنم ، وزكاة الغنم من غنم يأتي بها من حيث شاء - وبالله تعالى التوفيق . وأما العقيقة ، والنسك - فقد قلنا : لا يقع اسم شاة بالإطلاق في اللغة أصلا على غير الضأن والمعز وإنما يطلق ذلك على الظباء ، وحمر الوحش ، وبقر الوحش ، استعارة ، وبيانا وإضافة ، لا على الإطلاق أصلا - وليس الاقتصار على الضأن والماعز إجماعا في العقيقة . روينا من طريق ابن وهب عن مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي قال : سمعت أنه يستحب العقيقة ولو بعصفور - وقد رأى بعضهم في ذلك الجزور وإنما أتينا بهذا لئلا يدعى علينا الإجماع في ذلك . فإن قيل : فهلا أجزتم أن يعق بما شاء متى شاء ؟ لحديث سلمان بن عامر { أريقوا عنه دما } ؟ قلنا : ذلك خبر مجمل ، فسره الذي فيه { عن الغلام شاتان ، وعن الجارية شاة ، تذبح يوم السابع } ، فكانت هذه الصفة واجبة ، وكان من عق بخلافها مخالفا لهذا النص ، وهذا لا يجوز ولا يحل ، وكان من عق بهذه الصفة موافقا سلمان بن عامر غير خارج عنه وهذا هو الذي لا يحل سواه . فإن قيل : فمن أين أجزتم الذبح بعد السابع ؟ قلنا : لأنه قد وجب الذبح يوم السابع ولزم إخراج تلك الصفة من المال فلا يحل إبقاؤها فيه فهو دين واجب إخراجه - وبالله تعالى التوفيق . وأما التسمية : فروينا من طريق مسلم نا محمد بن حاتم نا بهز بن أسد نا سليمان بن المغيرة عن ثابت هو البناني - { عن أنس بن مالك أن أم سليم أمه ولدت غلاما فقالت له : يا أنس لا يرضعه أحد حتى تغدو به على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : فلما أصبحت انطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : لعل أم سليم ولدت ؟ قلت : نعم ، فوضعته في حجره ودعا عليه السلام بعجوة من عجوة المدينة فلاكها في فيه ثم قذفها في في الصبي فجعل الصبي يتلمظها فمسح وجهه وسماه عبد الله } . وقد روينا من طريق ابن أيمن نا إبراهيم بن إسحاق السراج نا عمرو بن محمد الناقد أنا الهيثم بن جميل نا عبد الله بن المثنى بن أنس نا ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عق عن نفسه بعدما جاءته النبوة } وروينا عن ابن سيرين أنه كان لا يبالي أن يذبح العقيقة قبل السابع أو بعده - ولا نقول بهذا ، ولا يجزي قبل السابع ؛ لأنه خلاف النص ولم تجب العقيقة بعد . ومن طريق وكيع عن الربيع بن صبيح عن الحسن البصري إذا لم يعق عنك فعق عن نفسك وإن كنت رجلا . فإن قيل : قد روي عن عمرو بن شعيب { أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالعقيقة يوم سابع المولود وتسميته } . قلنا : هذا مرسل ولم يصح في المنع من كسر عظامها شيء . فإن قيل : قد رويتم { عن عائشة أم المؤمنين وقد قيل لها في العقيقة بجزور ، فقالت : لا ، بل السنة أفضل ، عن الغلام شاتان مكافأتان ، وعن الجارية شاة تقطع جدولا ولا يكسر لها عظم فيأكل ويطعم ويتصدق ، وليكن ذلك يوم السابع ، فإن لم يكن ففي أربعة عشر ، فإن لم يكن ففي إحدى وعشرين } . قلنا : هذا لا يصح ؛ لأنه من رواية عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي - ثم لو كان صحيحا لما كانت فيه حجة ؛ لأنه عمن دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم - : وعن عطاء كانوا يستحبون أن لا يكسر لها عظم ، فإن أخطأهم أن يعقوا يوم السابع فأحب إلي أن يؤخره إلى السابع الآخر - وليس هذا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . فإن قيل : فقد رويتم عن ابن أبي شيبة عن حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه { أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث من عقيقة الحسن والحسين إلى القابلة برجلها ، وقال : لا تكسروا منها عظما } قلنا : هذا مرسل ولا حجة في مرسل ، ويلزم من قال بالمرسل أن يقول بهذا لا سيما مع قول أم المؤمنين ، وعطاء ، وغيرهما بذلك . روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا معن بن عيسى عن ابن أبي ذئب عن الزهري في العقيقة قال : تكسر عظامها ورأسها ولا يمس الصبي بشيء من دمها . وروينا عن عطاء من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عنه في العقيقة تطبخ بماء وملح آرابا ، وتهدى في الجيران ، والصديق ، ولا يتصدق منها بشيء . ومن طريق وكيع عن الربيع عن الحسن البصري قال : يعق عن الغلام ولا يعق عن الجارية - ومن طريق ابن أبي شيبة عن جرير ، وسهل بن يوسف ، قال سهل : عن عمرو عن محمد بن سيرين أنه كان لا يرى على الجارية عقيقة - وقال جرير عن المغيرة بن مقسم عن أبي وائل هو شقيق بن سلمة - قال : لا يعق عن الجارية ولا كرامة . وهذه أقوال لا يلزم منها شيء ، لا حجة إلا في وحي عن الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } ولم يعرف أبو حنيفة العقيقة ، فكان ماذا ؟ ليت شعري إذ لم يعرفها أبو حنيفة ما هذا بنكرة فطالما لم يعرف السنن . واحتج من لم يرها واجبة برواية واهية عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين نسخ الأضحى كل ذبح كان قبله وهذا لا حجة فيه ؛ لأنه قول محمد بن علي ولا يصح دعوى النسخ إلا بنص مسند إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وبما رويناه من طريق سفيان ، وسفيان عن زيد بن أسلم عن رجل عن أبيه ، قال الثوري : من بني ضمرة ، وقال ابن عيينة : أو عن عمه { عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد سئل عن العقيقة ؟ لا أحب العقوق ، من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فليفعل } . وقال ابن عيينة : أو عن عمه شهدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وهذا لا شيء ؛ لأنه عن رجل لا يدرى من هو في الخلق . وقال الشافعي ، والنخعي ليست واجبة واحتجوا برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده { سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن العقيقة ؟ فقال : لا أحب العقوق ، من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل : عن الغلام شاتان مكافأتان ، وعن الجارية شاة } . قال أبو محمد : وهذا صحيفة ، ولو صح لكان حجة لنا عليهم ؛ لأن فيه إيجاب ذلك على الغلام والجارية ، وأن ذلك يلزم الأب إلا أن يشأ - هذا نص الخبر ومقتضاه ، فهي كالزكاة ، وزكاة الفطر في هذا ولا فرق وقال مالك : العقيقة ليست واجبة ، لكنها شاة عن الذكر والأنثى سواء تذبح يوم السابع ، ولا يعد فيها يوم ولادته ، فإن لم يعقوا في السابع عقوا في الثاني - فإن لم يفعلوا لم يعقوا بعد ذلك - : وما نعلم لهم سلفا في أن لا يعد يوم الولادة ، ولا في الاقتصار على السابع الثاني فقط - ولا ندري أحدا قال هذين القولين قبله . وأما القول بشاة عن الذكر والأنثى ؛ فقد روي عن طائفة من السلف - : منهم عائشة أم المؤمنين ، وأسماء أختها ولا يصح ذلك عنهما ؛ لأنها عن ابن لهيعة - وهو ساقط - أو عن سلافة مولاة حفصة - وهي مجهولة - أو عن أسامة بن زيد الليثي - وهو ضعيف - أو عن مخرمة بن بكير عن أبيه ، وهي صحيفة - وإنما الصحيح عن أم المؤمنين ما ذكرنا عنها قبل ، لكنه عن ابن عمر صحيح . واحتج من رأى هذا بما روينا من طريق ابن أيمن نا أحمد بن محمد البرتي نا أبو معمر عبد الله بن عمرو الرقي نا عبد الوارث بن سعيد التنوري نا أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عق عن الحسن كبشا وعن الحسين كبشا } . ومن طريق ابن الجهم نا محمد بن غالب التمتام نا الحارث بن مسكين نا ابن وهب عن جرير بن حازم عن قتادة عن أنس { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عق عن الحسن والحسين شاتين } . قال أبو محمد : وهذان عندنا أثران صحيحان إلا أنه لا حجة فيهما لهم ، لوجوه - : أولها : أن حديث أم كرز زائد على ما في هذين الخبرين والزيادة من العدل لا يحل تركها . والثاني : أننا روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا قتيبة نا سفيان هو ابن عيينة - عن عبيد الله بن أبي يزيد عن سباع بن ثابت عن أم كرز قالت : { أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية أسأله عن لحوم الهدي ؟ فسمعته يقول : على الغلام شاتان ، وعلى الجارية شاة ، لا يضركم ذكرانا كانت أم إناثا } . ولا خلاف في أن مولد الحسن رضي الله عنه كان " عام أحد " وأن مولد الحسين رضي الله عنه كان في العام الثاني له وذلك قبل الحديبية بسنتين ، فصار الحكم لقول المتأخر ، لا لفعله المتقدم الذي إنما كان تطوعا منه عليه السلام . والوجه الثالث : أننا روينا من طريق ابن الجهم نا معاذ نا القعنبي نا سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ، عن أبيه عن جده " أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عقت عن الحسن والحسين حين ولدتهما شاة شاة " . قال أبو محمد : لا شك في أن الذي عقت به فاطمة رضي الله عنها هو غير الذي عق به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاجتمع من هذين الخبرين أنه عليه السلام عق عن كل واحد منهما بكبش وعقت فاطمة رضي الله عنها عن كل واحد منهما بشاة ، فحصل عن كل واحد منهما كبش وشاة ، كبش وشاة . وقد روينا أيضا خبرا لو ظفروا بمثله لاستبشروا - : كما روينا من طريق أحمد بن شعيب نا أحمد بن حفص بن عبد الله حدثني أبي نا إبراهيم بن طهمان عن الحجاج بن الحجاج عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال { عق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحسن والحسين رضي الله عنهما بكبشين كبيرين } . وروينا أيضا مثل هذا من طريق ابن جريج عن أم المؤمنين عائشة وهو منقطع - والعجب أن سفيان الثوري روى ذلك الخبر عن أيوب عن عكرمة { أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عق عن الحسن والحسين بكبش كبش } . وكذلك أيضا أرسله عن أيوب - وبأقل من هذا يتعللون في رد الأخبار ويدعون أنه اضطراب ، ونحن لا نراعي هذا ، وإنما معتمدنا على ما ذكرنا من الأخذ بالزائد والآخر - وبالله تعالى التوفيق .

===============

كتاب النذور محلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب النذور

فهارس كتاب النذور
1115 - مسألة: كراهة النذر
1116 - مسألة: من قال: لله تعالى علي عتق رقبة
1117 - مسألة: من قال في النذر اللازم الذي قدمنا: إلا أن يشاء الله
1118 - مسألة: ونذر الرجل، والمرأة البكر ذات الأب
1119- مسألة: نذر الرجل، والمرأة البكر ذات الأب
1120 - مسألة: من نذر في حالة كفره طاعة لله عز وجل ثم أسلم لزمه الوفاء
1121 - مسألة: من نذر لله صوم يوم يقدم فيه فلان
1122 - مسألة: من نذر صياما، أو صلاة، أو صدقة
1123 - مسألة: من قال: لله علي صدقة، أو صيام، أو صلاة
1124 - مسألة: ومن مات وعليه نذر
1125- مسألة: قول علي: ومن تعمد النذور ليلزمها من بعده، فهي غير لازمة، لا له، ولا لمن بعده
الوعد
1126 - مسألة: ومن وعد آخر بأن يعطيه مالا معينا أو غير معين


=================

اول كتاب النذور




كتاب النذور

1115 - مسألة : نكره النذر وننهى عنه ؛ لكن مع ذلك من نذر طاعة لله عز وجل لزمه الوفاء بها فرضا إذا نذرها تقربا إلى الله عز وجل مجردا أو شكرا لنعمة من نعم الله تعالى ؛ أو إن أراه الله تعالى أملا لا ظلم فيه لمسلم ، ولا لمعصية - : مثل أن يقول : لله علي صدقة كذا وكذا ، أو يقول : صوم كذا وكذا فأكثر ، أو حج ، أو جهاد ، أو ذكر لله تعالى ، أو رباط ، أو عيادة مريض ، أو شهود جنازة ، أو زيارة قبر نبي ، أو رجل صالح ، أو المشي أو الركوب ، أو النهوض إلى مشعر من مشاعر مكة ، أو المدينة ، أو إلى بيت المقدس ، أو عتق معين ، أو غير معين ، أو أي طاعة كانت - : فهذا هو التقرب المجرد . أو يقول : لله علي إذا خلصني من كذا ، أو إذا ملكني أمر كذا ، أو إذا جمعني مع أبي ، أو فلان صديقي ، أو مع أهلي صدقة ، أو ذكر شيئا من القرب التي ذكرنا . أو يقول : علي لله إن أنزل الغيث ، أو إن صححت من علتي ، أو إن تخلصت ، أو إن ملكت أمر كذا ، أو ما أشبه هذا . فإن نذر معصية لله ، أو ما ليس طاعة ولا معصية : لم يلزم الوفاء بشيء من ذلك - : مثل أن ينشد شعرا ، أو أن يصبغ ثوبه أحمر ، أو ما أشبه هذا - وكذلك من نذر طاعة إن نال معصية ، أو إذا رأى معصية - مثل أن يقول : لله علي صوم إن قتل فلان ، أو إن ضرب ، وذلك الفلان لا يستحق شيئا من ذلك . أو قال : لله علي صدقة إذا أراني مصرع فلان - وذلك الفلان مظلوم - : فكل هذا لا يلزم الوفاء بشيء منه ولا كفارة في شيء منه وليستغفر الله تعالى فقط . وكذلك من أخرج نذره مخرج اليمين ، فقال علي المشي إلى مكة إن كلمت فلانا ، أو علي عتق خادمي فلانة إن كلمت فلانا ، أو إن زرت فلانا ، فكل هذا لا يلزم الوفاء به ، ولا كفارة فيه إلا الاستغفار فقط . فإن قال : لله علي ولم يسم شيئا فليس عليه إلا كفارة يمين فقط . وقال قوم : ما خرج من هذا مخرج اليمين فعليه الوفاء به . وقال آخرون : ما خرج من هذا مخرج اليمين فليس فيه إلا كفارة يمين . قال أبو محمد : برهان صحة قولنا - : أما المنع من النذر فلما رويناه من طريق سفيان وشعبة ، كلاهما عن منصور عن عبد الله بن مرة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم { أنه نهى عن النذر ، وقال : إنه لا يرد شيئا ولكن يستخرج به من البخيل } هذا لفظ سفيان . ولفظ شعبة إنه لا يأتي بخير مكان { إنه لا يرد شيئا ، وإنه يستخرج به من البخيل } واتفقا في غير ذلك . وصح أيضا مسندا من طريق أبي هريرة . وروينا من طريق سفيان بن عيينة عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري " أنه سمع أبا هريرة يقول : لا أنذر أبدا " وهذا يوجب ما قلنا : من أنه منهي عنه فإذا وقع لزم واستخرج به من البخيل . وأيضا قول الله تعالى : { يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا } . وقوله تعالى { : يا أيها الذين آمنو أوفوا بالعقود } { : ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } . وقوله تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق } . فصح بهذا كله أن كل ما نهى الله تعالى عنه فلا يحل لأحد أن يفعله - فصح من هذا أن من نذره فقد نذر أن يعصي الله عز وجل وقد نهاه الله تعالى عن معصيته . فقد صح يقينا أن النذور والعقود التي أمر الله تعالى بالوفاء بها إنما هي نذر الطاعة فقط ، وليس نذر الطاعة إلا ما ذكرنا ولا مزيد ، وبالضرورة يدري كل أحد أن من نذر طاعة إن رأى معصية أو إن تمكن من معصية ، أو إذ رأى معصية سرورا بها - فإن كل ذلك منه عصيان لله تعالى ، لا يشك في شيء من هذا مسلم . فصح أنه كله نذر معصية فلا يحل الوفاء به . وأما ما لا طاعة فيه ولا معصية ، فإن ناذره موجب ما لم يوجبه الله تعالى ولا ندب إليه ، ومن فعل هذا فقد تعدى حدود الله تعالى ، ففعله لذلك معصية ، فلا يلزمه الوفاء بما لم يلزمه الله تعالى من ذلك . روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا أبو كريب محمد بن العلاء نا ابن إدريس هو عبد الله - عن عبيد الله بن عمر عن طلحة بن عبد الملك عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن عائشة أم المؤمنين قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [ يقول ] : { من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله تعالى فلا يعصه } . قال أحمد : طلحة بن عبد الملك ثقة ثقة ثقة . ومن طريق البخاري نا موسى بن إسماعيل نا وهيب بن خالد نا أيوب هو السختياني - عن عكرمة عن ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينما هو يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه ؟ فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى صلى الله عليه وآله وسلم : مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه } . وهذا كله هو نفس قولنا ولله الحمد ، أمره عليه السلام بالوفاء بالصوم الذي هو طاعة ونهاه عن الوفاء بما ليس طاعة ولا معصية من الوقوف وترك الاستظلال وترك الكلام . وقد قال أبو ثور : يلزمه ترك الكلام واحتج له بقوله تعالى : { إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا } . وبقوله تعالى { : آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا } . قال علي : هذه شريعة زكريا ، ومريم عليهما السلام ولا يلزمنا شريعة غير نبينا صلى الله عليه وآله وسلم مع أن شأنهما آية من آيات النبوة ، وليست الآيات لنا ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ترك الكلام كما ذكرنا . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد الله بن طاوس قال : سمعت أبي يقول مذ عقلت لا نذر في معصية الله ، لا نذر إلا فيما تملك . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر قال : سألت الزهري عن النذر ينذره الإنسان ؟ فقال : إن كان طاعة لله فعليه وفاؤه ، وإن كان معصية لله فليتقرب إلى الله تعالى بما شاء . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أبان عن ابن عباس : أن رجلا أتاه فقال : إني نذرت إن نجا أبي من الأسر أن أقوم عريانا ، وأن أصوم يوما ؟ فقال له ابن عباس : البس ثيابك ، وصم يوما ، وصل قائما وقاعدا . وعن أبي الزبير : أنه سمع جابرا يقول : لا وفاء لنذر في معصية الله تعالى . وعن عكرمة عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب : أن رجلا نذر أن لا يأكل مع بني أخيه يتامى ؟ فقال له عمر : اذهب فكل معهم . وعن قيس بن أبي حازم أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أمر امرأة نذرت أن تحج ساكتة بأن تتكلم . وعن مسروق ، والشعبي : لا وفاء في نذر معصية ، ولا كفارة . ومن طريق مسلم نا قتيبة نا إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار : أنه سمع ابن عمر يقول قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله } . ومن طريق مالك عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في حديث : { من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت } . فأبطل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل يمين إلا بالله عز وجل ونهى عنها ، فمن حلف بغير الله فقد عصى الله تعالى ، ولا وفاء لنذر في معصية الله . قال أبو محمد : وقال أبو حنيفة ، ومالك : من أخرج نذره مخرج اليمين مثل من قال علي المشي إلى مكة إن كلمت فلانا ، فإن كلمه فعليه الوفاء بذلك . وقال الشافعي : كفارة يمين فقط إلا في العتق المعين وحده . وقال أبو ثور : كفارة يمين في كل ذلك العتق المعين وغيره . وقال المزني : لا شيء في ذلك إلا في العتق المعين وحده ففيه الوفاء به . قال علي : أما من قال بقول أبي حنيفة ، ومالك ؛ فإنهم احتجوا بأنه نذر طاعة فعليه الوفاء به - وقالوا : قسناه على الطلاق . قال أبو محمد : وهذا خطأ ظاهر ؛ لأن النذر ما قصد ناذره الرغبة في فعله والتقرب إلى الله تعالى به ، واستدعى من الله عز وجل تعجيل تبليغه ما يوجب عليه ذلك العمل ، وهذا بخلاف ذلك ، لأنه إنما قصد الامتناع من ذلك البر ، وإبعاده عن نفسه جملة ومنع نفسه مما يوجب عليها ذلك العمل . فصح يقينا أنه ليس ناذرا ، وإذ ليس ناذرا ، فلا وفاء عليه بما قال . وأيضا فإنه عاص الله عز وجل في ذلك الالتزام إذ أخرجه مخرج اليمين ، وقد حرم الله تعالى عليه أن يحلف بغيره فصار معصية ولا وفاء لنذر معصية . فصح يقينا أن كل ما ذكرنا ليس نذر طاعة فيجب الوفاء به ، وليس يمينا لله تعالى فيجب فيه كفارة يمين - فبطل أن يجب في ذلك شيء ، إذ لم يوجبه قرآن ؛ ولا سنة - والأموال محظورة محرمة إلا بنص . وأما قياسهم إياه على الطلاق : فالخلاف أيضا في الطلاق غير المعين أشهر من أن يجهل - فظهر بطلان هذا القول . وأما من أوجب في ذلك كفارة يمين ، فباطل أيضا ، لأنه لا يمين إلا بالله تعالى ، ولم يوجب عز وجل كفارة في غير اليمين به ، فلا كفارة في يمين بغيره عز وجل . وأما من فرق بين العتق المعين وغيره فخطأ ، وحجتهم في ذلك أنه عتق بصفة - وليس كما قالوا - بل هو يمين بالعتق فهو باطل أيضا لا يلزم . وقالوا : قسنا العتق المعين على الطلاق المعين ؟ فقلنا : القياس كله باطل ، ثم لا يصح قولكم في الطلاق المعين إذا قصد به اليمين ، لا من قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع . فإن احتجوا بالخبر الذي رويناه من طريق الزهري عن أبي سلمة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : { لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين } . وهذا خبر لم يسمعه الزهري من أبي سلمة ، إنما رواه عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة - وسليمان بن أرقم مذكور بالكذب . وخبر آخر : من طريق طلحة بن يحيى الأنصاري عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن كريب عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال { : من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين } . وطلحة بن يحيى الأنصاري ضعيف جدا . وروينا من طريق سعيد بن منصور نا حماد بن زيد بن درهم عن محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه عن عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : { لا نذر في غضب ، وكفارته كفارة يمين } . وخبر : من طريق عبد الوارث بن سعيد عن محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه عن عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم { : لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين } محمد بن الزبير الحنظلي في غاية الضعف وزيادة : - فقد روينا من طريق ابن أبي شيبة عن المعتمر بن سليمان التيمي عن محمد بن الزبير الحنظلي عن عمران بن الحصين ، فذكر هذا الحديث نفسه . قال المعتمر : فقلت لمحمد بن الزبير أحدثكه من سمعه من عمران فقال : لا ولكن حدثنيه رجل عن عمران بن الحصين ، فبطل جملة . وآخر : من طريق إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه عن داود بن الحصين عن بكير بن الأشج عن كريب عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل حديث طلحة بن يحيى الأنصاري الذي ذكرنا . وابن أبي أويس ضعيف . ومن طريق عبد الرزاق بن روح عن سلام بن سليمان عن محمد بن الفضل بن عطية عن عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طرفة عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم { : من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين } . سلام بن سليمان هالك . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر ، وابن جريج قال معمر : عن يحيى بن أبي كثير عن رجل من بني حنيفة ؛ وقال ابن جريج : حدثت عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة ثم اتفقا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم { : لا نذر في غضب ولا في معصية الله وكفارته كفارة يمين } . أحدهما مرسل ومنقطع ، والآخر مرسل وعمن لا يدرى من هو . وروينا عن ابن مسعود ، وابن عباس : لا وفاء لنذر في معصية وكفارته كفارة يمين - ولا يصح شيء من ذلك ؛ لأنه عن ابن مسعود من طريق ابنه أبي عبيدة ولم يسمع منه شيئا - وعن ابن عباس من طريق إبراهيم بن أبي يحيى ، وهو مذكور بالكذب . وروينا أيضا من طريق أبي سفيان عن جابر : لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين ، وأبو سفيان ساقط . قال أبو محمد : ثم كل هذا على فساده فإن أبا حنيفة ، والشافعي : مخالفان له - : أما أبو حنيفة فلا يرى فيمن أخرج النذر مخرج اليمين إلا الوفاء به وهو نذر معصية وإنما يرى كفارة نذر المعصية كفارة يمين في موضعين فقط - : أحدهما - إذا قال : أنا كافر إن فعلت كذا وكذا ، وإذا قال : لله علي إن قتل اليوم فلان ، وأراد اليمين ، ولم ير على من نذر أن يزني ، أو أن يقتل ، أو أن يكفر ، أو أن يلوط ، أو أن يشرب الخمر كفارة يمين أصلا ، فخالف كل ما ذكرنا إلى غير سلف يعرف . وأما الشافعي فلم ير في شيء من النذور في المعصية كفارة يمين إلا فيمن نذر طاعة أخرجه مخرج اليمين ؛ فكلاهما مخالف لكل ما ذكرنا ، فبطل أن يكون لهم متعلق بشيء أصلا - وقولنا هو قول طائفة من السلف - : كما روينا من عبد الرزاق عن المعتمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن بكر بن عبد الله المزني أخبرني أبو رافع قال : قالت لي مولاتي ليلى بنت العجماء : كل مملوك لها حر ، وكل مال لها هدي ، وهي يهودية ، أو نصرانية إن لم تطلق امرأتك ؛ فأتيت زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين فجاءت معي إليها ، فقالت : يا زينب جعلني الله فداءك إنها قالت : كل مملوك حر وهي يهودية ؟ فقالت لها زينب : يهودية ونصرانية خل بين الرجل وبين امرأته : فكأنها لم تقبل فأتيت حفصة أم المؤمنين فأرسلت معي إليها فقالت : يا أم المؤمنين جعلني الله فداءك إنها قالت : كل مملوك حر ، وكل مال لها هدي وهي يهودية أو نصرانية ؛ فقالت أم المؤمنين : يهودية ونصرانية خل بين الرجل وبين امرأته . ومن طريق عائشة أم المؤمنين فيمن قال لغريمه : إن فارقتك فما لي عليك في المساكين صدقة ، ففارقه ، إن هذا لا شيء يلزمه فيه . وصح هذا أيضا عن الحكم بن عتيبة ، وحماد بن أبي سليمان من طريق شعبة عنهما وهو قول الشعبي والحارث العكلي ، وسعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد وأبي سليمان ، وأصحابنا . فإن قالوا : قد أفتى ابن عمر في ذلك بكفارة يمين ؟ قلنا : نعم ، وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في ذلك على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى ، فما الذي جعل قول بعضهم أولى من قول بعض بلا برهان ؟ وصح عن عائشة ، وأم سلمة أمي المؤمنين .
 
= وعن ابن عمر أنه جعل قول ليلى بنت العجماء : كل مملوك لها حر ، وكل مال لها هدي ، وهي يهودية أو نصرانية إن لم تطلق امرأتك كفارة يمين واحدة . وعن عائشة أم المؤمنين أنها قالت فيمن قال في يمين : مالي ضرائب في سبيل الله ، أو قال : مالي كله في رتاج الكعبة كفارة يمين . وعن أم سلمة ، وعائشة أمي المؤمنين فيمن قال علي المشي إلى بيت الله إن لم يكن كذا كفارة يمين . ومن طريق محمد بن عبد الله الأنصاري عن أشعث الحمراني عن بكر بن عبد الله المزني عن أبي رافع عنهما . وروينا عن حماد بن عبد الله : النذر كفارته كفارة يمين . وعن ابن عباس مثل هذا - وعن عمر بن الخطاب نحوه . وعن عكرمة ، والحسن ، فيمن قال : مالي كله في رتاج الكعبة كفارة يمين - وصح عن طاوس ، وعطاء ، أما طاوس فقال : الحالف بالعتاق ، ومالي هدي ، وكل شيء لي في سبيل الله ، وهذا النحو كفارة يمين . وأما عطاء فقال فيمن قال علي ألف بدنة ، أو قال علي ألف حجة ، أو قال : مالي في المساكين : كل ذلك يمين . وهو قول قتادة وسليمان بن يسار ، وسالم بن عبد الله بن عمر . قال أبو محمد : كل هذا خلاف لقول أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ؛ لأن الشافعي أخرج من ذلك العتق المعين - والذي ذكرنا عمن ذكرنا من الصحابة ، والتابعين هو قول عبيد الله بن الحسن ، وشريك ، وأبي ثور ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد - وبه يقول الطحاوي ، وذكر أنه قول زفر بن الهذيل - وأحد قولي محمد بن الحسن . وقد روينا من طريق ثابتة عن ابن القاسم صاحب مالك أنه أفتى ابنه في المشي إلى مكة بكفارة يمين ، وقال له : إن عدت أفتيتك بقول مالك - وهذا عجب جدا ؟ - : حدثني بذلك حمام بن أحمد قال ثنا عبد الله بن محمد الباجي نا عمر بن أبي تمام نا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : حدثني بذلك عبد الصمد بن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه . وروينا عن ابن عمر قولا آخر وهو أن ابن عمر سئل عن النذر ؟ فقال : أفضل الأيمان ، فإن لم تجد ، فالتي تليها يقول : العتق ، ثم الكسوة ، ثم الإطعام ، إلا أنها من طريق أبي معشر - وهو ضعيف . وروينا مثل تفريق الشافعي أيضا بخلاف قوله أيضا عن ابن عباس وابن عمر من طريق إسماعيل بن أمية عن عثمان بن أبي حاضر قال : حلفت امرأة : مالي في سبيل الله ، وجاريتي حرة إن لم تفعل كذا ؟ فقال ابن عباس ، وابن عمر : أما الجارية فتعتق ، وأما قولها : مالي في سبيل الله ، فيتصدق بزكاة مالها . وروينا مثل قول أبي حنيفة عن ابن عمر من طريق لا تصح . وقد خالفوه أيضا فيها - : كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا أبو معاوية نا جميل بن زيد عن ابن عمر قال : من حلف على يمين إصر فلا كفارة له والإصر أن يحلف بطلاق ، أو عتاق ، أو نذر ، أو مشي ، ومن حلف على يمين غير ذلك فليأت الذي هو خير فهو كفارته . جميل بن زيد - ساقط . ولو صح لكانوا قد خالفوه في هذا الخبر نفسه ؛ لأنه لم يجعل فيمن أتى خيرا مما حلف أن يفعله كفارة ، إلا فعله ذلك فقط . فإن قالوا : قد أمر النبي ﷺ في هذا بالكفارة ؟ قلنا : نعم وقد نهى النبي ﷺ عن الحلف بغير الله تعالى ونهى عن الوفاء بنذر المعصية ، فإن كان قوله يمينا فهو معصية ، وإن كان نذرا فهو معصية ، إذ لم يقصد به قصد القربة إلى الله تعالى ، فلا وفاء فيه ، ولا كفارة - فحصل قول هؤلاء القوم خارجا عن أقوال جميع السلف .



ومما ذكرنا مسائل فيها خلاف قديم ، وهي - : من نذر الصدقة بجميع ماله ، ومن نذر أن ينحر نفسه ، ومن نذر المشي إلى مسجد المدينة ، أو مسجد إيلياء ، أو الركوب ، أو النهوض إلى مكة ، أو إلى موضع سماه من الحرم ، ومن نذر عتق عبده إن باعه ، أو عتق عبد فلان إن ملكه . فأما الصدقة بجميع المال فقد ذكرنا من قال : لا شيء في ذلك من الصحابة والتابعين إذا خرج مخرج اليمين - وهو قولنا . وقالت طائفة : من نذر أن يتصدق بجميع ماله في المساكين فعليه أن يتصدق به كله ، صح ذلك من طريق عبد الرزاق عن معمر عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رجلا سأله فقال جعلت مالي في سبيل الله ؟ فقال ابن عمر : فهو في سبيل الله . وروينا عن سالم ، والقاسم بن محمد ، أنهما قالا في هذه المسألة : يتصدق به على بعض بناته . وصح عن الشافعي ، والنخعي ، أنهما كانا يلزمانه ما جعل على نفسه - وهو قول عثمان البتي ، والشافعي ، والطحاوي ، وأبي سليمان ، قال هؤلاء : فإن أخرجه مخرج اليمين فكفارته كفارة يمين إلا أبا سليمان فقال : لا شيء في ذلك . وقالت طائفة : يتصدق بجميعه حاشا قوت شهر فإذا أفاد شيئا تصدق بما كان أبقى لنفسه - وهو قول زفر بن الهذيل ، ورأى فيه إذا أخرجه مخرج اليمين كفارة يمين . وقالت طائفة : يتصدق بثلث ماله ويجزيه - : روينا ذلك عن ابن لهيعة عن يزيد بن حبيب عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب - وصح نحوه عن الزهري - وهو قول الليث بن سعد . وقالت طائفة : فيه كفارة يمين - : روينا ذلك أيضا عن عكرمة ، والحسن ، وعطاء . وروينا ذلك قبل عن عائشة أم المؤمنين ، وعمر ، وجابر ، وابن عباس وابن عمر - وهو قول الأوزاعي . وقالت طائفة - كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن جابر بن زيد أنه سئل عمن جعل ماله هديا في سبيل الله عز وجل ؟ فقال : إن الله تعالى لم يرد أن يغتصب أحدا ماله ، فإن كان كثيرا فليهد خمسه وإن كان وسطا فسبعه ، وإن كان قليلا فعشره . قال قتادة : الكثير ألفان ، والوسط ألف ، والقليل خمسمائة . وقالت طائفة - ما روينا بالسند المذكور إلى قتادة ، قال : يتصدق بخمسه . وقالت طائفة : يتصدق بربع العشر - كما روينا ذلك آنفا عن ابن عباس وابن عمر وهو قول ربيعة ، وسوى بين من حلف بصدقة جميع ماله أو بصدقة جزء منه سماه وإنما روينا ذلك عنهم في اليمين بذلك . وروينا عن عبد العزيز بن الماجشون أنه استحسن قول ربيعة هذا . وقالت طائفة - كما روينا من طريق ابن جريج ، وعمر بن ذر ، كلاهما عن عطاء فيمن قال : إبلي نذر ، أو هدي ، أنه يجزيه بعير منها . قال ابن جريج عنه : لعله يجزيه إن كانت إبله كثيرة . وقال ابن ذر عنه : يهدي جزورا ثمينا ، ويمسك بقية إبله . وأما المتأخرون فلهم أقوال غير هذا كله - : قال أبو حنيفة : من نذر أن يتصدق بجميع ماله نذرا ، أو على سبيل اليمين ، فإنه يلزمه أن يتصدق من ماله بكل نوع تجب فيه الزكاة فقط ، كالمواشي ، والذهب والفضة ، سواء كان معه من ذلك نصاب تجب في مثله الزكاة ، أو كان أقل من النصاب - ولا شيء عليه في سائر أمواله . قال أبو محمد : ولا ندري ما قولهم في الحبوب وما يزرع ، والثمار ، والعسل ؟ فإن الزكاة في كل هذا عنده نعم ، وفي كل عرض إذا كان للتجارة وهو قول أبي يوسف ، ومحمد بن الحسن - وهذا قول في غاية الفساد ولا يعرف عن أحد قبل أبي حنيفة ولا متعلق له بقرآن ولا بسنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول سلف ، ولا قياس ، وموه بعضهم بأن قال : المال هو الذي فيه الزكاة لقول الله تعالى { خذ من أموالهم صدقة } . قال أبو محمد : الصدقة المأخوذة إنما هي من جملة ما يملك المرء ، وما اختلف قط عربي ، ولا لغوي ، ولا فقيه ، أن الحوائط ، والدور تسمى : مالا ، وأموالا - وأن من حلف أنه لا مال له وله حمير ، ودور ، وضياع ، فإنه حانث عندهم ، وعند غيرهم - : وقال أبو طلحة لرسول الله ﷺ أحب أموالي إلي بيرحاء { وقال رسول الله ﷺ لكعب بن مالك أمسك عليك بعض مالك ؟ فقال : إني أمسك سهمي الذي بخيبر } . ويلزم على قولهم الفاسد أن لا تجزئ صدقة أصلا إلا بمال فيه زكاة أو بمقدار الزكاة فقط . وقال مالك : سواء نذر ذلك أو أخرجه مخرج اليمين إن قال : مالي كله صدقة على المساكين أجزأه ثلثه ، فإن قال : دوري كلها صدقة على المساكين وضياعي كلها صدقة على المساكين ، وثيابي كلها صدقة على المساكين ، ورقيقي كلهم صدقة على المساكين ، فلم يزل هكذا حتى سمى نوعا نوعا حتى أتى على كل ما يملك - : لزمه أن يتصدق بكل ذلك أوله عن آخره ، لا يجزيه منه الثلث إلا أنه يؤمر ولا يجبر . فلو قال مكان المساكين على إنسان بعينه - : لزمه أن يتصدق عليه بكل ذلك ويجبر على ذلك . وقالوا : فلو نذر ، أو حلف أن يتصدق بماله كله ، إلا دينارا أنه تلزمه الصدقة بجميعه إلا دينارا - : وهذا قول في غاية الفساد ، لأنه لا قرآن يعضده ، ولا سنة ، ولا رواية ضعيفة ، ولا قول نعلمه عن أحد قبله ولا قياس ، ولا رأي له وجه ؛ بل هو مخالف لكل ذلك . ونسألهم عمن نذر أن يتصدق بماله كله إلا نصف دينار ، أو درهما حتى نبلغهم إلى الفلس ، وحبة الخردلة ؟ وقال ابن وهب : إن كان ماله كثيرا تصدق بثلثه ، وإن كان يسيرا فربع عشره ، وإن كان علقة قليلة ، فكفارة يمين - وهذا أيضا قول لا وجه له . قال أبو محمد ليس لشيء من هذه الأقوال متعلق يحتاج إلى ذكره إلا قول من قال من قال : يتصدق بجميعه ؛ وقول من قال : يتصدق بثلثه ، وقول من قال : كفارة يمين فقط . فأما من قال : كفارة يمين ، فإنهم احتجوا بالخبر الثابت عن النبي ﷺ من قوله { كفارة النذر كفارة يمين } . قال علي : وهذا خبر لا حجة لهم فيه لأن النبي ﷺ قال { : من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه } ؛ فلا يخلو النذر بصدقة المال كله من أن يكون طاعة لله تعالى فيلزم الوفاء به ، أو يكون معصية فلا يلزمه أصلا إلا أن يأتي نص صحيح في ذلك بحكم ما فيوقف عنده ، فبطل تعلقهم بقوله عليه السلام { : كفارة النذر كفارة يمين } - ولهذا الخبر وجه ظاهر نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى . وأما من قال : يتصدق بجميعه فإنهم قالوا : هو نذر طاعة فعليه الوفاء به . قال أبو محمد : وليس كما قالوا ، بل ليس هو نذر طاعة على ما نبين إن شاء الله تعالى ؟ وأما من قال : يجزيه الثلث ، فإنهم احتجوا بخبر : رويناه من طريق أبي داود نا محمد بن يحيى نا الحسن بن الربيع نا ابن إدريس قال : قال ابن إسحاق : حدثني الزهري عن { عبد الرحمن بن عبد الله بن مالك عن جده في قصته إذ تخلف عن تبوك قال : قلت : يا رسول الله إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم صدقة قال : لا ، قلت : فنصفه ، قال : لا ، قلت : فثلثه ؟ قال : نعم ، قلت : فإني أمسك سهمي من خيبر } . وبخبر : رويناه من طريق ابن شهاب : أن حسين بن السائب بن أبي لبابة أخبره { أن أبا لبابة قال : يا رسول الله إن من توبتي إلى الله - عز وجل - أن أهجر دار قومي ، وأساكنك ، وأنخلع من مالي صدقة لله ولرسوله ؟ قال : يجزي عنك الثلث } . ومن طريق ابن شهاب - : أخبرني بعض بني السائب بن أبي لبابة عن أبي لبابة بمثله . ومن طريق الزهري أخبرني ابن المسيب فذكر الحديث ، وفيه { أن أبا لبابة قال : يا رسول الله ، وأن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله ؟ قال : يجزي عنك الثلث } . قال أبو محمد : هذا كل ما احتجوا به ، وكله لا حجة لهم فيه ؛ لأنها كلها مراسيل ، والأول منقطع ؛ لأن ابن إدريس يذكر أنه سمعه من ابن إسحاق . وأما تمويه المالكيين بالاحتجاج بهذا الخبر فعار عظيم عليهم ؛ لأنهم مخالفون له كله بتلك التقاسيم الفاسدة ، وبأنهم يرون عليه الوفاء بصدقة نصف ماله إذا نذره - وفي هذا الخبر خلاف ذلك ، والتسوية بين النذر بصدقة جميعه ، وصدقة نصفه - فبطل أن يكون لهذا القول متعلق . قال علي : فإذا بطلت هذه الأقوال إلا قول من قال : يتصدق بجميعه ؛ لأنه طاعة منذورة - فههنا نتكلم معهم إن شاء الله تعالى ، فنقول - : قال الله تعالى { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا } . وقال تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا } . وقال تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } فلام الله تعالى ولم يحب من تصدق بكل ما يملك . ومن طريق البخاري نا أحمد بن صالح نا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك قال : سمعت { كعب بن مالك - فذكر حديث تخلفه عن تبوك - وأنه قال لرسول الله : إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله ؟ فقال رسول الله ﷺ أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك } . ومن طريق مسلم عن أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السرح عن ابن وهب بإسناده مثله ، وزاد فيه فقلت : إن أمسك سهمي الذي بخيبر . ومن طريق أبي هريرة عن رسول الله ﷺ : { أن خير الصدقة ما ترك غنى ، أو تصدق عن غنى ، وابدأ بمن تعول } . ومن طريق أبي هريرة عن النبي ﷺ : { ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء ، فهكذا وهكذا } . والأحاديث ههنا كثيرة جدا . ومن طريق حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الظفري عن محمود بن لبيد عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : { كنا عند رسول الله ﷺ إذ جاءه رجل بمثل بيضة من ذهب فقال : يا رسول الله أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ، ما أملك غيرها ؟ فأعرض النبي ﷺ عنه مرارا - وهو يردد كلامه هذا - ثم أخذها عليه السلام فحذفه بها ، فلو أنها أصابته لأوجعته أو لعقرته وقال عليه السلام : يأتي أحدكم بما يملك فيقول : هذه صدقة ثم يقعد فيتكفف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى } . ومن طريق عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق بإسناده نحوه ، وفي آخره : أنه عليه السلام قال : { خذ عنا مالك ، لا حاجة لنا به } . ومن طريق سفيان بن عيينة بن عجلان عن عياض بن عبد الله بن سعد أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول : { دخل رجل المسجد فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس أن يطرحوا ثيابا فطرحوا فأمر له منها بثوبين ، ثم حث عليه السلام على الصدقة فطرح الرجل أحد الثوبين فصاح به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال خذ ثوبك } . ومن طريق حكيم بن حزام ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : { أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى } . فهذه آثار متواترة متظاهرة بإبطال الصدقة بما زاد على ما يبقي غنى ، وإذا كان الصدقة بما أبقى غنى خيرا وأفضل من الصدقة بما لا يبقي غنى ؛ فبالضرورة يدري كل أحد أن صدقته بتلك الزيادة لا أجر له فيها ، بل حطت من أجره فهي غير مقبولة ، وما تيقن أنه يحط من الأجر ، أو لا أجر فيه من إعطاء المال فلا يحل إعطاؤه فيه ؛ لأنه إفساد للمال وإضاعة له وسرف حرام ، فكيف ورده عليه السلام الصدقة بذلك بيان كاف ؟ فإن ذكروا قول الله تعالى { : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } . وقوله عليه السلام إذ سئل { أي الصدقة أفضل ؟ فقال : جهد المقل } . وقوله عليه السلام { سبق درهم مائة ألف كان لرجل درهمان تصدق بأجودهما } . وبقوله تعالى { : والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم } . وبحديثي أبي مسعود { كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرنا بالصدقة ؛ فينطلق أحدنا فيتحامل فيجيء بالمد ، وصدقة أبي عقيل بصاع تمر } فهذا كله صحيح وحجة لنا لا لهم . وأما قول الله تعالى { : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } فليس فيه أنهم لم يبقوا لأنفسهم معاشا ، إنما فيه أنهم كانوا مقلين ، ويؤثرون من بعض قوتهم . وأما قوله تعالى : { والذين لا يجدون إلا جهدهم } فمثل هذا أيضا . وأما قولهم " جهد المقل " ففي حديث أبي هريرة هذه اللفظة الموصولة بقوله عليه السلام { : وابدأ بمن تعول } فبين هذا القول أنه جهده بعد كفاف من تعول . وكذلك حديثا أبي مسعود أيضا ، وإنما كان لرجل درهمان فتصدق بأجودهما ، فكذلك أيضا ، وقد يكون له ضيعة أو له غلة تقوم به فتصدق بأحد درهمين كانا له ولم يقل عليه السلام : إنه لم يكن له غيرهما ؟ فإن ذكروا صدقة أبي بكر بما يملكه ؟ قلنا : هذا لا يصح ؛ لأنه من طريق هشام بن سعد ، وهو ضعيف عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : سمعت { عمر يقول : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصدقة ، فوافق ذلك مالا عندي فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما قال : فجئت بنصف مالي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ قلت : مثله ، وأتى أبو بكر بكل ما عنده ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله } . قال أبو محمد : ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة ؛ لأنه بلا شك كانت له دار بالمدينة معروفة ودار بمكة - وأيضا : فإن مثل أبي بكر لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليضيعه فكان في غنى . فصح بما ذكرنا أن من نذر أن يتصدق بجميع ماله مجملا ، أو منوعا على سبيل القربة إلى الله تعالى ، لم يلزمه أن يتصدق منه إلا بما أبقى لنفسه ، ولأهله غنى ، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كعب بن مالك وغيره . فإن ذكروا حديث سعد في الوصية ؟ قلنا : هو عليكم ؛ لأن أمر الوصية غير أمر الصدقة المنفذة في الحياة باتفاق منا ومنكم - وأيضا فقد منعه عليه السلام من الصدقة بنصفه ، وأنتم لا تقولون هذا ، وليس لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث ؛ ولو ترك ألف ألف دينار أو أكثر - ويرد ما زاد على ذلك ، وأنتم لا تقولون : برد ما نفذ من الصدقة بأكثر من ثلثه في حياته - وبالله تعالى التوفيق .

وأما من نذر نحر نفسه أو ابنه - : فروينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج : أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري قال : سمعت القاسم بن محمد بن أبي بكر يقول : سئل ابن عباس عمن نذر أن ينحر ابنه ؟ فقال : لا ينحر ابنه ، وليكفر عن يمينه ، فقيل لابن عباس : كيف تكون في طاعة الشيطان كفارة ؟ فقال ابن عباس { الذين يظاهرون } ثم جعل فيه من الكفارة ما رأيت . قال أبو محمد : لا حجة لابن عباس في هذه الآية . أول ذلك - : أنه لم يجعل هو في طاعة الشيطان التي شبهها بطاعته في الظهار ، الكفارة التي في الظهار ويكفي هذا - ثم لو طرد هذا القول لوجبت في كل معصية كفارة يمين - وهذا لا يقوله هو ولا غيره . وقد صح عنه فيمن قال لامرأته : أنت علي حرام ، أنها لا تحرم بذلك ، ولم يجعل فيه كفارة - وهذا أصح أقواله - : وقد روينا عنه غير هذا من طريق ابن جريج عن عطاء ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال له : نذرت لأنحرن نفسي ؟ فقال ابن عباس { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } { وفديناه بذبح عظيم } فأمره بكبش ، قال عطاء : يذبح الكبش بمكة ، قال ابن جريج : فقلت لعطاء : نذر لينحرن فرسه أو بغلته ؟ فقال : جزور أو بقرة ؟ فقلت له : أمره ابن عباس بكبش في نفسه ، وتقول في الدابة جزور ؟ فأبى عطاء إلا ذلك . قال أبو محمد : وليس في هذه الآية أيضا حجة لابن عباس ؛ لأن إبراهيم عليه السلام لم ينذر ذبح ولده ، لكن أمره الله تعالى بذبحه فكان فرضا عليه أن يذبحه ، وكان نذر الناذر نحر ولده أو نفسه معصية من كبار المعاصي ، ولا يجوز أن تشبه الكبائر بالطاعات . وأيضا - فإننا لا ندري ما كان ذلك الذبح الذي فدي به إسماعيل عليه السلام ، فبطل هذا التشبيه - وروينا عنه قولا ثالثا أيضا - : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أنه قال في رجل نذر أن ينحر نفسه ، قال : ليهد مائة ناقة . ومن طريق شعبة عن عمرو بن مرة قال : سمعت سالم بن أبي الجعد قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال له : إني كنت أسيرا في أرض العدو فنذرت إن نجاني الله أن أفعل كذا ، وأن أنحر نفسي ، وإني قد فعلت ذلك ؟ قال وفي عنقه قد فأقبل ابن عباس على امرأة سألته وغفل عن الرجل ، فانطلق لينحر نفسه ، فسأل ابن عباس عنه ؟ فقيل له : ذهب لينحر نفسه ، فقال علي بالرجل ؟ فجاء ، فقال : لما أعرضت عني انطلقت أنحر نفسي ؟ فقال له ابن عباس : لو فعلت ما زلت في نار جهنم ، انظر ديتك فاجعلها في بدن فأهدها في كل عام شيئا ، ولولا أنك شددت على نفسك لرجوت أن يجزيك كبش - وهذه آثار في غاية الصحة . ومن طريق قتادة عن ابن عباس : أنه أفتى رجلا نذر أن ينحر نفسه ، فقال له : أتجد مائة بدنة ؟ قال : نعم ، قال : فانحرها ، فلما ولى الرجل قال ابن عباس : أما لو أمرته بكبش لأجزأ عنه . ومن طريق ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار : أن عكرمة أخبره أن رجلا أتى إلى ابن عباس فقال له : لقد أذنبت ذنبا لئن أمرتني لأنحرن الساعة نفسي والله لا أخبركه فقال له ابن عباس : بلى ، لعلي أن أخبرك بكفارة ، قال فأبى ، فأمره بمائة ناقة - وهذا أيضا إسناد صحيح . وروينا من طريق ساقطة فيها ابن حبيب الأندلسي : أن عليا ، وابن عباس ، وابن عمر أفتوا فيمن نذر أن يهدي ابنه ؟ أن يهدي مائة من الإبل قال ابن حبيب : وحدثني ابن المغيرة عن الثوري عن إسماعيل بن أمية عن عثمان بن حاضر أنهم ثلاثتهم سئلوا عن ذلك بعد ذلك ؟ فقالوا : ينحر بدنة ، فإن لم يجد فكبشا . قال أبو محمد : فهذه أقوال عن ابن عباس صحاح ليس بعضها أولى من بعض ولا حجة في أحد غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن عباس وغيره لم يعصم من الخطأ ، ومن قلدهم فقد خالف أمر الله تعالى في أن لا نتبع ما أنزل إلينا ، ولكل واحد من الصحابة رضي الله عنهم فضائل ومشاهد تعفو عن كل تقصير وليس ذلك لغيرهم . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني قال : سأل رجل سعيد بن المسيب عن رجل نذر نذرا لا ينبغي له ذكر ؛ لأنه معصية ؟ فأمره أن يوفيه - ثم سأل عكرمة ؟ فنهاه عن الوفاء به ، وأمره بكفارة يمين فرجع إلى سعيد بن المسيب فأخبره ؟ فقال سعيد : لينتهين عكرمة أو ليوجعن الأمراء ظهره ، فرجع إلى عكرمة فأخبره ؟ فقال له عكرمة : إذ بلغتني فبلغه ، أما هو فقد ضربت الأمراء ظهره ، وأوقفوه في تبان شعر ، وسله عن نذرك أطاعة لله هو أم معصية ؟ فإن قال : معصية لله ، فقد أمرك بالمعصية ؟ وإن قال هو طاعة لله ، فقد كذب على الله ، إذ زعم أن معصية الله طاعة له ؟ قال أبو محمد : وروينا من طريق عبد الرزاق عن يحيى بن العلاء عن رشدين بن كريب مولى ابن عباس { أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني نذرت أن أنحر نفسي ؟ فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يهدي مائة ناقة ، وأن يجعلها في ثلاث سنين ، قال : فإنك لا تجد من يأخذه منك بعد أن سأله : ألك مال ؟ فقال : نعم } . وقد خالف الحنفيون ، والمالكيون ما روي عن الصحابة في هذا ، فلا ما يوهمون من اتباع الصحابة التزموا ، ولا النص المفترض عليهم اتبعوا ، ولا بالمرسل أخذوا ، وهم يقولون : إن المرسل والمسند سواء - : وأما أبو حنيفة فقال : من نذر نحر ولده ، أو نحر نفسه ، أو نحر غلامه ، أو نحر والده ، أو نحر أجنبي ، أو إهداءه ، أو إهداء ولده ، أو إهداء والده - فلا شيء عليه في كل ذلك ، إلا في ولده خاصة ، فيلزمه فيه هدي شاة - وهذا من التخليط الذي لا نظير له - ووافقه على كل ذلك محمد بن الحسن ، إلا أنه قال : وعليه في عبده أيضا شاة . واضطرب قول مالك ، فمرة قال : من حلف فقال : أنا أنحر ابني إن فعلت كذا ، فحنث ، فعليه كفارة يمين - : ومرة قال : إن كان نوى بذلك الهدي فعليه هدي ، وإن كان لم ينو هديا فلا شيء عليه ، لا هدي ولا كفارة . ومرة قال : إن نذر ذلك عند مقام إبراهيم ، فعليه هدي ، وإن لم يقل عند مقام إبراهيم ، فكفارة يمين . وقال ابن القاسم صاحبه : إن نذر أن ينحر أباه ، أو أمه ، إن فعلت كذا وكذا ، فالحكم في ذلك كالحكم المذكور في الابن أيضا . وكذلك إن نذر ذلك بمنى ، أو بين الصفا والمروة ، فكما لو نذره عند مقام إبراهيم - وهذه أقوال في غاية الفساد وخلاف للسلف . وقال الليث بن سعد : من قال : أنا أنحر ابني عند البيت ، فعليه أن يحج ، ويحج بابنه ويهدي هديا . وقال الحسن بن حي : من قال : أنا أنحر فلانا عند الكعبة ، فإنه يحجه ، أو يعمره ، ويهدي ، إلا أن ينوي أحد ذلك فيلزمه ما نوى فقط - : وهذه أقوال لا برهان عليها ، فلا وجه للاشتغال بها . وقال أبو يوسف ، والشافعي ، وأبو سليمان : لا شيء عليه في كل ذلك إلا الاستغفار فقط . قال أبو محمد : وهذا هو الحق لقول الله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } . وقال تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } . وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { : من نذر أن يعصي الله فلا يعصه } ولم يأمره في ذلك بكفارة ، ولا هدي { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } . { وما كان ربك نسيا } . روينا من طريق ابن جريج قال : سمعت سليمان بن موسى يحدث عطاء أن رجلا أتى إلى ابن عمر فقال له : نذرت لأنحرن نفسي ؟ فقال له ابن عمر : أوف ما نذرت ، فقال له الرجل : أفأقتل نفسي ؟ قال له إذن تدخل النار ، قال له : ألبست علي قال : أنت ألبست على نفسك ؟ قال أبو محمد : وبهذا كان يفتي ابن عمر ، صح أن آتيا أتاه فقال : نذرت صوم يوم النحر ؟ فقال له ابن عمر : أمر الله تعالى بوفاء النذر ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صوم يوم النحر . وأن امرأة سألته ؟ فقالت : نذرت أن أمشي حاسرة ؟ فقال : أوفي بنذرك ، واختمري . وقد ذكرنا قبل عن ابن عباس : سقوط نذر المعصية جملة وبهذا نقول .



قال أبو محمد : وأما من نذر نحر فرسه أو بغلته ، فلينحرهما لله ، وكذلك ما يؤكل ؛ لأنه نذر طاعة - وبالله تعالى التوفيق .

قال أبو محمد : وأما من نذر المشي إلى مسجد المدينة ، أو مسجد بيت المقدس ، أو إلى مكان سماه من الحرم ، أو إلى مسجد من سائر المساجد ، فإنه إن نذر مشيا ، أو ركوبا ، أو نهوضا إلى مكة ، أو إلى موضع من الحرم لزمه ؛ لأنه نذر طاعة ، والحرم كله مسجد على ما ذكرنا في " كتاب الحج " فأغنى عن إعادته . وكذلك إن نذر مشيا ، أو نهوضا ، أو ركوبا إلى المدينة ، لزمه ذلك . وكذلك إلى أثر من آثار الأنبياء عليهم السلام ، فإن نذر مشيا ، أو ركوبا ، أو اعتكافا ، أو نهوضا إلى بيت المقدس لزمه . فإن نذر صلاة فيه كان مخيرا بين أمرين - : أحدهما - وهو الأفضل أن ينهض إلى مكة فيصلي فيها ويجزيه . والثاني - أن ينهض إلى بيت المقدس ، فإن نذر مشيا ، ونهوضا ، أو ركوبا إلى مسجد من مساجد الأرض غير هذه ، لم يلزمه شيء أصلا . برهان ذلك - : { أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد فقط ، المسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، والمسجد الأقصى } . روينا من طريق البزار نا محمد بن معمر نا روح هو ابن عبادة - نا محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { : إنما الرحلة إلى ثلاثة مساجد : مسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، ومسجد إيلياء } فصار القصد إلى ما سواها معصية ، والمعصية لا يجوز الوفاء بها . ولا يجوز أن يلزم ما لم ينذره من صلاة في غير المسجد الذي سمى . ولا فرق بين النهوض ، والذهاب ، والمشي ، والركوب ، إلا أن المشي طاعة ، والركوب أيضا طاعة ؛ لأن فيه نفقة زائدة في بر . وأما من نذر الصلاة في بيت المقدس أو في غيرها مكة ، أو مسجد المدينة ، فإن كان نذر صلاة تطوع هنالك لم يلزمه شيء من ذلك . فإن نذر أن يصلي صلاة فرض في أحد هذه المساجد لزمه ؛ لأن كونه في هذه المساجد طاعة لله عز وجل يلزمه الوفاء بها . وإنما قلنا : لا يلزمه ذلك في نذره صلاة تطوع فيها للأثر الثابت { عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ربه - عز وجل - أنه قال ليلة الإسراء إذ فرض - عز وجل - الخمس الصلوات : هن خمس ، وهن خمسون ما يبدل القول لدي } فآمنا بقوله تعالى : { لا يبدل القول لدي } أن تكون صلاة مفترضة ، غير الخمس لا أقل من خمس ، ولا أكثر من خمس ، معينة على إنسان بعينه أبدا . وليس ذلك في غير الصلاة إذ لم يأت نص في شيء من الأعمال بمثل هذا - وبهذا أسقطنا وجوب الوتر فرضا مع ورود الأمر ، ووجوب الركعتين فرضا على الداخل المسجد قبل أن يجلس . فإن قيل : قد قلتم فيمن نذر صلاة في بيت المقدس ما قلتم ؟ قلنا : نعم ، يستحب له أن يصليها بمكة ، لما روينا من طريق أبي داود نا موسى بن إسماعيل نا حماد بن سلمة نا حبيب المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله { أن رجلا قام يوم الفتح فقال : يا رسول الله إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة ، أن أصلي في بيت المقدس ركعتين ؟ فقال له رسول الله عليه السلام : صل ههنا ، فأعادها عليه ، فقال : صل ههنا ، ثم أعادها ، فقال : شأنك إذا } . ومن طريق محمد بن عبد الملك بن أيمن نا علي بن عبد العزيز نا أبو عبيد القاسم بن سلام نا محمد بن كثير عن حماد بن سلمة عن حبيب المعلم عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال : { قال رجل يوم الفتح : يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك أن أصلي في بيت المقدس ؟ قال : صل ههنا ، فأعاد الرجل مرتين ، أو ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فشأنك إذا } . قال أبو محمد : ولم يأت مثل هذا فيمن نذر اعتكافا في مسجد إيلياء ، وإنما جاء فيمن نذر صلاة فيه فقط : { وما كان ربك نسيا } . فإن عجز ركب لقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ولا شيء عليه . قال علي : لما أخبر الرجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه نذر الصلاة في بيت المقدس فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صل ههنا - يعني بمكة - تبين بذلك أنه ليس عليه وجوب نذره أن يصلي في بيت المقدس . وصح أنه ندب مباح وكان في ظاهر الأمر لازما له أن يصلي بمكة ، { فلما راجع بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال عليه السلام : فشأنك إذا } تبين وصح أن أمره عليه السلام له بأن يصلي بمكة ندب لا فرض أيضا ، هذا ما لا يمكن سواه ، ولا يحتمل الخبر غيره - فصار كل ذلك ندبا فقط . فإن قيل : فإنكم توجبون صلاة الجنازة فرضا ؟ قلنا : نعم ، على الكفاية لا متعينا على أحد بعينه . ونسأل من خالف هذا عمن نذر ركعتين في الساعة الثالثة من كل يوم ، فإن ألزمه ذلك كانت صلاة سادسة ؟ وبدل القول الذي أخبر تعالى أنه لا يبدل لديه . فإن لم يلزمه ذلك سألناه : ما الفرق ؟ ولا سبيل إلى فرق أبدا - وبالله تعالى التوفيق . فلو نذر النهوض إلى مكة أو المدينة أو بيت المقدس ليصلي فيها لزمه النهوض إليها ولا بد فقط ؛ لأنه طاعة لله عز وجل ثم يلزمه من صلاة الفرض هنالك ما أدركه وقته ، ويستحب له فيها من التطوع ما يستحب لمن هو هنالك . وروينا من طريق محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن عبد الكريم الجزري عن سعيد بن المسيب : أن رجلا أراد أن يأتي بيت المقدس فقال له عمر بن الخطاب : اذهب فتجهز ؟ فتجهز ، ثم أتاه فقال له عمر : اجعلها عمرة . وقد روي نحو هذا عن أم سلمة أم المؤمنين في امرأة نذرت أن تصلي في بيت المقدس فأمرتها بأن تصلي في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وصح عن سعيد بن المسيب أنه قال : من نذر أن يعتكف في مسجد إيلياء فاعتكف بمسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة أجزأ عنه . ومن نذر أن يعتكف في مسجد المدينة فاعتكف في المسجد الحرام أجزأ عنه . ومن نذر أن يعتكف على رءوس الجبال فإنه لا ينبغي له ذلك وليعتكف في مسجد جماعة - : رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن ابن المسيب . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قلت لعطاء : رجل نذر أن يمشي إلى بيت المقدس من البصرة قال : إنما أمرتم بهذا البيت ، وكذلك في الجوار قلت : فأوصى في أمر فرأيت خيرا منه ؟ قال : افعل الذي هو خير ما لم تسم لإنسان شيئا ، ولكن إن قال : للمساكين ، أو في سبيل الله ، فرأيت خيرا من ذلك فافعل الذي هو خير - ثم رجع عطاء عن هذا وقال : ليفعل الذي قال ولينفذ أمره . قال ابن جريج : وقوله الأول أحب إلي ، وقال ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه : أنه كان من قال له : نذرت مشيا إلى بيت المقدس ، أو زيارة بيت المقدس ؟ قال له طاوس : عليك بمكة مكة . وقال أبو حنيفة وأصحابه : من نذر المشي إلى مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة أو إلى بيت المقدس ، أو إتيان بيت المقدس ، أو إتيان مسجد المدينة لم يلزمه شيء أصلا . وكذلك من نذر صلاة في المسجد الحرام بمكة ، أو في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة أو بيت المقدس فإنه لا يلزمه شيء من ذلك ، لكن يلزمه أن يصلي في مسكنه من البلاد حيث كان إلا أنه قد روي عن أبي يوسف : أنه إن نذر صلاة في موضع فصلى في أفضل منه أجزأه ، وإن صلى في دونه لم يجزه . وقال مالك : إذا قال : لله علي أن أمشي إلى المدينة ، أو قال إلى بيت المقدس لم يلزمه ذلك ، إلا أن ينوي صلاة هنالك فعليه أن يذهب راكبا ، والصلاة هنالك ؛ فإن قال علي المشي إلى مسجد المدينة ، أو قال : إلى مسجد بيت المقدس ، فعليه الذهاب إلى ما هنالك راكبا والصلاة هنالك ؟ قال : فإن نذر المشي إلى عرفة ، أو إلى مزدلفة لم يلزمه ، فإن نذر المشي إلى مكة لزمه . وقال الليث : من نذر أن يمشي إلى مسجد من المساجد مشى إلى ذلك المسجد - وقال الشافعي : من نذر أن يصلي بمكة لم يجزه إلا فيها ، فإن نذر أن يصلي بالمدينة ، أو بيت المقدس أجزأه أن يصلي بمكة ، أو في المسجد الذي ذكر لا فيما سواه ، فإن نذر صلاة في غير هذه الثلاثة المساجد لم يلزمه ، لكن يصلي حيث هو ، فإن نذر المشي إلى مسجد المدينة ، أو بيت المقدس أجزأه الركوب إليهما . قال أبو محمد : أما قول أبي حنيفة ففي غاية الفساد ، وخلاف السنة الواردة فيمن نذر طاعة ، وفي أن صلاة في مسجد المدينة أفضل من ألف صلاة فيما سواه ، وإن صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد المدينة عموما لا يخص منه نافلة من فرض ، وهذه طاعة عظيمة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { من نذر أن يطيع الله فليطعه } فقالوا : لا يطعه . وأما قول أبي يوسف ففاسد أيضا ؛ لأنه يجب على قوله من نذر صوم يوم فجاهد فإنه يجزيه من الصوم ؛ لأنه قد فعل خيرا مما نذر ، وإن من نذر أن يتصدق بدرهم فتصدق بثوب ، أنه يجزيه - وهذا خطأ ؛ لأنه لم يف بنذره . وأما قول مالك فخطأ لائح أيضا ؛ لأنه أسقط وجوب المشي عن من نذره إلى المدينة وأوجبه على من نذره إلى مكة - وهذا عجب جدا ، لا سيما مع قوله : إن المدينة أفضل من مكة ثم تخصيصه فيمن نذر المشي إلى بعض المشاعر ، كمزدلفة ، أو عرفة ، فلم يوجب ذلك ، وأوجبه إلى مكة ، وإلى الكعبة ، وإلى الحرم ؛ وهذا كله تحكم بلا برهان . وكذلك قول الشافعي أيضا فإنه ينتقض بما ينتقض به قول أبي يوسف .

وأما من نذر عتق عبد فلان إن ملكه ، أو أوجب على نفسه عتق عبده إن باعه ، فإن من أخرج ذلك مخرج اليمين فهو باطل لا يلزم لما ذكرنا قبل ، فإن أخرج ذلك مخرج النذر لم يلزمه أيضا شيء ؛ لأنه إذا قال : عبدي حر إن بعته ، أو قال : ثوبي هذا صدقة إن بعته فباعه فقد سقط ملكه عنه ، وإذا سقط ملكه عنه ، فمن الباطل أن ينفذ عتقه في عبد لا يملكه هو وإنما يملكه غيره ، وصدقته كذلك . ومن قال : إن ابتعت عبد فلان فهو حر ، أو إن ابتعت دار فلان فهي صدقة ، ثم ابتاع كل ذلك لم يلزمه عتق ولا صدقة - : لما روينا من طريق مسلم نا علي بن حجر السعدي نا إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية - نا أيوب هو السختياني - عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : { لا وفاء لنذر في معصية الله ، ولا فيما لا يملك العبد } . ومن طريق أبي داود السجستاني نا داود بن رشيد نا شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبو قلابة نا ثابت بن الضحاك - هو من أصحاب الشجرة - { أن رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نذر أن ينحر إبلا ببوانة فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا ، قال : هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ قالوا : لا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم } ففي هذا الخبر نص ما قلنا : من أنه لا يلزم المرء وفاء نذره فيما لا يملكه ، وفيه إيجاب الوفاء بنذر نحر الإبل في غير مكة - وهو قولنا - ولله الحمد . وقال الناس في هذا : أقوالا : فاختلفوا في رجل قال : إن بعت عبدي هذا فهو حر وقال آخر : إن اشتريته منك فهو حر ، ثم باعه منه ؟ فإن أبا حنيفة ، وعبد العزيز بن الماجشون قالا : يعتق على المشتري ، لا على البائع . وقال مالك ، والشافعي : يعتق على البائع لا على المشتري . وقال أبو سليمان : لا يعتق على واحد منهما - وهو الحق لما ذكرنا - والمذكورون قبل قد نقضت كل طائفة أصلها ؛ لأنهم على اختلافهم متفقون على أن من قال : إن بعت عبدي فهو حر ، فباعه : أنه يعتق عليه ، وعلى أنه إن قال : إن اشتريت عبد فلان فهو حر فاشتراه ، فإنه حر - فمن أين غلبت كل طائفة منهما في اجتماعهما في بيعه وابتياعه أحد الناذرين على الآخر ؟ فكان الأولى بهم أن يعتقوه عليهما جميعا ، فهذا نقض واحد . وأما قول مالك : يعتق على البائع - فخطأ ظاهر ؛ لأنه لا يخلو من أن يكون باعه ، أو لم يبعه ، ولا سبيل إلى قسم ثالث . فإن كان باعه فقد ملكه غيره فبأي حكم تفسخ صفقة مسلم قد تمت ؟ وبأي حكم يعتق زيد عبد عمرو ؟ إن هذا لعجب وإن كان لم يبعه - فما يلزمه عتقه ؛ لأنه إنما نذر عتقه إن باعه - وهو لم يبعه - وهذا نفسه لازم للشافعي سواء سواء فظهر فساد أقوالهم - ولله الحمد . وقال ابن أبي ليلى : من قال : إن دخل غلامي دار زيد فهو حر - ثم باعه - ثم دخل الغلام دار زيد بعد مدة ، فإنه يفسخ البيع فيه ، ويعتق على بائعه . ولعمري ما قول مالك ، والشافعي ببعيد من قول ابن أبي ليلى ؛ لأنهم كلهم قد اعتقوه عليه بعد خروجه عن ملكه ، وأبطلوا صفقة المشتري وصحة ملكه - وليت شعري ماذا يقول ابن أبي ليلى إن أعتقه المشتري قبل أن يدخل الغلام دار زيد ؟ أيفسخ عتقه ثم يعتقه على بائعه ؟ أو كانت أمة فأولدها المشتري ، ثم دخلت الدار ؟



1116 - مسألة : وهذا بخلاف من قال : لله تعالى علي عتق رقبة ، أو قال : بدنة ، أو قال : مائة درهم ، أو شيء من البر ، هكذا لم يعينه - : فإن هذا كله نذر لازم ؛ لأنه لم ينذر شيئا من ذلك في شيء لا يملكه ؛ لأن الذي نذر ليس معينا فيكون مشارا إليه مخبرا عنه ، فإنما نذر عتقا في ذمته ، أو صدقة في ذمته . برهان هذا - : قول الله تعالى : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن } ثم لامهم عز وجل إذ لم يفوا بذلك إذ آتاهم من فضله - : فخرج هذا على ما التزم في الذمة جملة ، وخرج نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن النذر فيما لا يملك على ما نذر في معين لا يملكه . ويدخل في القسم اللازم من نذر عتق أول عبد يملكه ، أو أول ولد تلده أمته ، وفي هذا نظر ؟ ومن طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة نا عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه { أن حكيم بن حزام أعتق في الجاهلية مائة رقبة وحمل على مائة بعير ثم أعتق في الإسلام مائة رقبة ، وحمل على مائة بعير قال حكيم : فقلت : يا رسول الله أشياء كنت أفعلها في الجاهلية فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسلمت على ما أسلفت لك من الخير ؟ قال حكيم : قلت : فوالله لا أدع شيئا صنعته في الجاهلية إلا فعلت في الإسلام مثله } فهذا نذر من حكيم في عتق مائة رقبة ، وعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فلم ينكره كما أنكر نذر الأنصارية نحر الناقة التي لم تملكها - فصح أن ذلك النهي إنما هو في المعين ، وأن الجائز هو غير المعين ، وإن لم يكن في ملكه حينئذ ؛ لأنه في ذمته . وأما من قال علي نذر ولم يسم شيئا فكفارة يمين ولا بد ، لا يجزيه غير ذلك - : لما روينا من طريق ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن كعب بن علقمة عن عبد الرحمن بن شماسة عن أبي الخير عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : { كفارة النذر كفارة يمين } . قال أبو محمد : قد ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم { : من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه } وقوله صلى الله عليه وآله وسلم { : لا وفاء لنذر في معصية الله } . وأمره من نذر أن يصوم ولا يستظل ولا يقعد ولا يتكلم : بأن يصوم ويطرح ما سوى ذلك - ونهيه عن اليمين بغير الله تعالى ولم نجد نذرا في العالم يخرج عن هذه الوجوه . وقد بين عليه السلام لكل وجه حكمه ، فكان من استعمل في أحد تلك الوجوه كفارة يمين فقد أخطأ ؛ لأنه زاد في ذلك ما لم يأت به نص في ذلك الوجه ، فوجب حمل هذا الخبر على ما لا يحال به حكم تلك النصوص عن أحكامها - : فوجدناه إذا حمل على ظاهره صح حكمه ، وهو من نذر نذرا فقط كما في نص الخبر ولم يجز أن يلزم شيئا من أعمال البر لم يلتزمها ولا جاء بالتزامه إياها نص - وبالله تعالى التوفيق . وسواء قال علي نذر ، أو قال : إن تخلصت مما أنا فيه فعلي نذر ، وسواء تخلص أو لم يتخلص : عليه كل ذلك كفارة يمين ولا بد - وبالله تعالى التوفيق . وروينا من طريق سعيد بن منصور نا أبو عوانة عن منصور بن المعتمر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الرجل يقول : علي حرام ، علي نذر ؟ قال : اعتق رقبة ، أو صم شهرين متتابعين ، أو أطعم ستين مسكينا . قال سعيد : ونا سفيان هو ابن عيينة - عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : النذر أغلظ اليمين ، وفيها أغلظ الكفارة : عتق رقبة - وكلاهما صحيح عن ابن عباس ، ولا نعلم له مخالفا من الصحابة . وممن قال : فيه يمين كقولنا : الشعبي ، رويناه عن طريق سفيان بن عيينة : عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي ، ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

1117 - مسألة : ومن قال في النذر اللازم الذي قدمنا : إلا أن يشاء الله ، أو إن شاء الله ، أو إلا أن يشاء الله ، أو ذكر الإرادة مكان المشيئة ، أو إلا إن بدل الله ما في نفسي ، أو إلا أن يبدو لي أو نحو هذا من الاستثناء ووصله بكلامه ، فهو استثناء صحيح ، ولا يلزمه ما نذر ، لقول الله تعالى { : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } ولأنه إذا علق نذره بكل ما ذكرنا فلم يلتزمه ؛ لأن الله تعالى لو شاء تمامه لأنفذه دون استثناء . وقد علمنا أنه إذا لم يكن فإن الله تعالى لم يرد كونه . وهو لم يلتزمه إلا إن أراد الله تعالى كونه ، فإذ لم يرد الله تعالى كونه فلم يلتزمه ، وكذلك إن بدا له - وبالله تعالى التوفيق

1118 - مسألة : ونذر الرجل ، والمرأة البكر ذات الأب ، وغير ذات الأب ، وذات الزوج ، وغير ذات الزوج ، والعبد ، والحر ، سواء في كل ما ذكرنا ؛ لأن أمر الله تعالى بالوفاء بالنذر وأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك عموم لم يخص من ذلك أحد من أحد { وما كان ربك نسيا } . ومن الباطل الممتنع أن يكون الله تعالى يريد تخصيص بعض ما ذكرنا فلا يبينه لنا ، هذا أمر قد أمناه - ولله الحمد - إلا الصيام وحده فليس للمرأة أن تصوم غير الذي فرضه الله تعالى عليها إلا بإذن زوجها على ما ذكرنا في " كتاب الصيام " وبالله تعالى التوفيق .

1119 - مسألة : ومن نذر ما لا يطيق أبدا لم يلزمه ، لقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . وكذلك من نذر نذرا في وقت محدود فجاء ذلك الوقت - وهو لا يطيقه - فإنه غير لازم له ، لا حينئذ ، ولا بعد ذلك .

1120 - مسألة : ومن نذر في حالة كفره طاعة لله عز وجل ثم أسلم لزمه الوفاء به لقول الله تعالى : { فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا } فحض الله تعالى على فعل الخير ، وأوجبه لفاعله ، ثم على الإيمان ، وعلى فعل الخير فيه أيضا ، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { : من نذر أن يطيع الله فليطعه } . وهو عليه السلام مبعوث إلى الجن والإنس ، وطاعته فرض على كل مؤمن وكافر ، من قال غير هذا فليس مسلما - : وهذه جملة لم يختلف فيها أحد ممن يدعي الإسلام - ثم نقضوا في التفصيل - : روينا من طريق مسلم نا حسن الحلواني نا يعقوب هو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف - نا أبي عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب أنا عروة بن الزبير { أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أي رسول الله أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة ، أو عتاقة ، أو صلة رحم ، أفيها أجر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أسلمت على ما أسلفت من خير } . نا يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري نا سعيد بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا أبو بكر بن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر { عن عمر قال : نذرت نذرا في الجاهلية فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما أسلمت فأمرني أن أوفي بنذري } . نا حمام نا أبو محمد الباجي نا عبد الله بن يونس المرادي نا بقي بن مخلد نا أبو بكر بن أبي شيبة نا حفص هو ابن غياث - عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن { عمر قال : نذرت نذرا في الجاهلية ثم أسلمت فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمرني أن أوفي بنذري } . فهذا حكم لا يسع أحدا الخروج عنه . وقال مالك : لا يلزمه - واحتج له مقلدوه بقول الله تعالى { : لئن أشركت ليحبطن عملك } وقوله تعالى { : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } . قال أبو محمد : لا حجة لهم في هذا ؛ لأن هذا كله إنما نزل فيمن مات كافرا بنص كل آية منهما قال تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم } . ثم هم أول من ينقض هذه الحجة فيجيزون : بيعهم ، وابتياعهم ، ونكاحهم ، وهباتهم ، وصدقاتهم ، وعتقهم - وبالله تعالى التوفيق . ومن طريق مسلم نا قتيبة بن سعيد نا ليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري أنه سمع أبا هريرة يقول : { بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له : ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد وذكر الحديث . وفيه أن ثمامة أسلم بعد أن أطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال : يا محمد ، والله ما كان على الأرض من دين أبغض إلي من دينك ، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي وإن خيلك أخذتني ، وأنا أريد العمرة فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمره أن يعتمر } . فهذا كافر خرج يريد العمرة فأسلم فأمره عليه السلام بإتمام نيته . وروينا عن طاوس من نذر في كفره ، ثم أسلم فليوف بنذره - وعن الحسن ، وقتادة نحوه - وبهذا يقول الشافعي ، وأبو سليمان ، وأصحابهما .

1121 - مسألة : ومن نذر لله صوم يوم يقدم فيه فلان ، أو يوم يبرأ أو ينطلق فكان ذلك ليلا أو نهارا لم يلزمه في ذلك اليوم شيء ؛ لأنه إن كان ليلا فلم يكن ما نذر فيه ، وإن كان نهارا فقد مضى وقت الدخول في الصوم إلا أن يقول : لله علي صوم اليوم الذي أنطلق فيه ، أو أن يكون كذا في الأبد ، أو مدة يسميها ، فيلزمه صيام ذلك اليوم في المستأنف - وبالله تعالى التوفيق .

1122 - مسألة : ومن نذر صياما ، أو صلاة ، أو صدقة ، ولم يسم عددا ما : لزمه في الصيام صوم يوم ولا مزيد ، وفي الصدقة ما طابت به نفسه مما يسمى صدقة ، ولو شق تمرة ، أو أقل مما ينتفع به المتصدق عليه ، ولزمه في الصلاة ركعتان ؛ لأن كل ما ذكرنا أقل مما يقع عليه الاسم المذكور ، فهو اللازم بيقين ولا يلزمه زيادة ؛ لأنه لم يوجبها شرع ، ولا لغة - وبالله تعالى التوفيق .

1123 - مسألة : ومن قال : لله علي صدقة ، أو صيام ، أو صلاة ، هكذا جملة : لزمه أن يفعل أي ذلك شاء ، ويجزيه ؛ لأنه نذر طاعة ، فعليه أن يطيع . وكذلك لو قال : لله علي عمل بر : فيجزيه تسبيحة ، أو تكبيرة ، أو صدقة ، أو صوم ، أو صلاة ، أو غير ذلك من أعمال البر . وسواء قال علي ذلك نذرا ، أو علي عهد الله ، أو قال : على الله كذا وكذا ، كل ذلك سواء - ولا يجزي في ذلك لفظ دون نية ، ولا نية دون لفظ لقول رسول الله ﷺ : { الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى } . فلم يفرد عليه السلام نية دون عمل ولا عملا دون نية - وبالله تعالى التوفيق

1124 - مسألة : ومن مات وعليه نذر ففرض أن يؤدى عنه من رأس ماله قبل ديون الناس كلها ، فإن فضل شيء كان لديون الناس لقول الله تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } فعم تعالى ولم يخص . وقال رسول الله ﷺ ما قد ذكرناه في " كتاب الصيام " " وكتاب الحج " { دين الله أحق أن يقضى } . ومن طريق البخاري نا أبو اليمان هو الحكم بن نافع - أنا شعيب هو ابن أبي حمزة - عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن عباس أخبره { أن سعد بن عبادة الأنصاري استفتى رسول الله ﷺ في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأفتاه عليه السلام أن يقضيه عنها } فكانت سنة بعده . قال أبو محمد : إن من رغب عن فتيا رسول الله ﷺ وسارع إلى قبول فتيا أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي : لمخذول محروم من التوفيق - ونعوذ بالله من الضلال . والعجب من احتجاجهم في أن في ثلاثة أصابع تقطع للمرأة ثلاثين من الإبل ، وفي أربع أصابع تقطع لها عشرين من الإبل ، لقول سعيد بن المسيب تلك السنة - ثم لا يرى قول ابن عباس ههنا ، أو عبيد الله بن عبد الله ، أو الزهري - فكانت سنة حجة لبعيد من القول بالحق . روينا من طريق ابن أبي شيبة نا أبو الأحوص عن إبراهيم بن مهاجر عن عامر بن مصعب أن عائشة أم المؤمنين اعتكفت عن أخيها بعدما مات . ومن طريق حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أمه نذرت اعتكافا فماتت ولم تعتكف فقال له ابن عباس : اعتكف عن أمك . ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس إذا مات وعليه نذر قضاه عنه وليه ، وهو قول طاوس ، وغيره . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : سألت عطاء عمن نذر جوارا أو مشيا فمات ولم ينفذ ؟ قال : ينفذه عنه وليه ، قلت : فغيره من ذوي قرابته ؟ قال : نعم ، وأحب إلينا الأولياء . قال أبو محمد : فإن كان نذر صلاة صلاها عنه وليه ، أو صوما كذلك ، أو حجا كذلك ، أو عمرة كذلك ، أو اعتكافا كذلك ، أو ذكرا كذلك ، وكل بر كذلك - فإن أبى الولي استؤجر من رأس ماله من يؤدي دين الله تعالى قبله - وهو قول أبي سليمان وأصحابنا - وبالله تعالى التوفيق .

1125 - مسألة : قال علي : ومن تعمد النذور ليلزمها من بعده ، فهي غير لازمة ، لا له ولا لمن بعده ؛ لأن النذر اللازم الوفاء به هو نذر الطاعة كما قدمنا ، وهو الآن نذر معصية لا نذر طاعة ؛ لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى ، وإنما قصد إدخال المشقة على مسلم ، فهو نذر معصية - وبالله تعالى التوفيق .

1126 - مسألة : ومن وعد آخر بأن يعطيه مالا معينا أو غير معين ، أو بأن يعينه في عمل ما - حلف له على ذلك أو لم يحلف - لم يلزمه الوفاء به ، ويكره له ذلك ، وكان الأفضل لو وفى به . وسواء أدخله بذلك في نفقة أو لم يدخله كمن قال : تزوج فلانة وأنا أعينك في صداقها بكذا وكذا ، أو نحو هذا - وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان . وقال مالك : لا يلزمه شيء من ذلك إلا أن يدخله بوعده ذلك في كلفة ، فيلزمه ويقضي عليه . وقال ابن شبرمة الوعد كله لازم ، ويقضي به على الواعد ويجبر . فأما تقسيم مالك : فلا وجه له ولا برهان يعضده ، لا من قرآن ، ولا سنة ، ولا قول صاحب ، ولا قياس . فإن قالوا قد أضر به إذ كلفه من أجل وعده عملا ونفقة ؟ قلنا : فهبكم أنه كما تقولون من أين وجب على من أضر بآخر ، وظلمه وغره أن يغرم له مالا ؟ ما علمنا هذا في دين الله تعالى إلا حيث جاء به النص فقط { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } . وأما من ذهب إلى قول ابن شبرمة فإنهم احتجوا بقول الله تعالى { : كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } . والخبر الصحيح من طريق عبد الله بن عمرو عن رسول الله ﷺ : { أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر } . والآخر : الثابت من طريق أبي هريرة عن النبي ﷺ { : من علامة النفاق ثلاثة - وإن صلى ، وصام ، وزعم أنه مسلم : - إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان } . فهذان أثران في غاية الصحة ، وآثار أخر لا تصح - : أحدها : من طريق الليث عن ابن عجلان أن رجلا من موالي عبد الله بن عامر بن ربيعة العدوي حدثه { عن عبد الله بن عامر قالت لي أمي هاه تعال أعطك ؟ فقال لها رسول الله ﷺ ما أردت أن تعطيه ؟ فقالت : أعطيه تمرا ، فقال عليه السلام : أما أنك لو لم تعطيه شيئا ، كتبت عليك كذبة } هذا لا شيء ؛ لأنه عمن لم يسم . وآخر : من طريق ابن وهب أيضا عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم { أن رسول الله ﷺ قال : وأي المؤمن حق واجب } . هشام بن سعد ضعيف وهو مرسل . ومن طريق ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق أن رسول الله ﷺ قال : { ولا تعد أخاك وعدا فتخلفه ، فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة } . وهذا مرسل ، وإسماعيل بن عياش ضعيف . ومن طريق ابن وهب أخبرني الليث بن سعد عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : { من قال لصبي : تعال هاه لك ، ثم لم يعطه شيئا فهي كذبة } . ابن شهاب كان إذ مات أبو هريرة ابن أقل من تسع سنين لم يسمع منه كلمة . وأبو حنيفة ، ومالك : يرون المرسل كالمسند ، ويحتجون بما ذكرنا - فيلزمهم أن يقضوا بإنجاز الوعد على الواعد ولا بد ، وإلا فهم متناقضون ، فلو صحت هذه الآثار لقلنا بها . وأما الحديثان اللذان صدرنا بهما فصحيحان إلا أنه لا حجة فيهما علينا ؛ لأنهما ليسا على ظاهرهما ؛ لأن من وعد بما لا يحل ، أو عاهد على معصية ، فلا يحل له الوفاء بشيء من ذلك ، كمن وعد بزنى ، أو بخمر ، أو بما يشبه ذلك . فصح أن ليس كل من وعد فأخلف ، أو عاهد فغدر : مذموما ، ولا ملوما ، ولا عاصيا ، بل قد يكون مطيعا مؤدي فرض ؛ فإذ ذلك كذلك فلا يكون فرضا من إنجاز الوعد والعهد ، إلا على من وعد بواجب عليه ، كإنصاف من دين ، أو أداء حق فقط . وأيضا : فإن من وعد وحلف واستثنى فقد سقط عنه الحنث بالنص والإجماع المتيقن ، فإذا سقط عنه الحنث لم يلزمه فعل ما حلف عليه ، ولا فرق بين وعد أقسم عليه وبين وعد لم يقسم عليه . وأيضا : فإن الله تعالى يقول : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } فصح تحريم الوعد بغير استثناء ، فوجب أن من وعد ولم يستثن فقد عصى الله تعالى في وعده ذلك . ولا يجوز أن يجبر أحد على معصية ، فإن استثنى فقال : إن شاء الله تعالى ، أو إلا أن يشاء الله تعالى ، أو نحوه مما يعلقه بإرادة الله عز وجل ، فلا يكون مخلفا لوعده إن لم يفعل ؛ لأنه إنما وعده أن يفعل إن شاء الله تعالى - وقد علمنا أن الله تعالى لو شاءه لأنفذه فإن لم ينفذه ، فلم يشأ الله تعالى كونه . وقول الله تعالى { : كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } على هذا أيضا مما يلزمهم ، كالذي وصف الله تعالى عنه إذ يقول : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه } . فصح ما قلنا ؛ لأن الصدقة واجبة ، والكون من الصالحين واجب ، فالوعد والعهد بذلك فرضان : فرض إنجازهما - وبالله تعالى التوفيق . وأيضا : فإن هذا نذر من هذا الذي عاهد الله تعالى على ذلك ، والنذر فرض - وبالله تعالى نتأيد .

قلت المدون هذا اخر كتاب النذور في فقه المحلي لابن حزم === يليه بمشيئة الرحمن كتاب {{{{الأيمان}}}

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مكتبات الكتاب الاسلامي

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أ...