محلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب الصيد
كتاب الصيد (مسألة 1068 - 1082) | كتاب الصيد (مسألة 1083 - 1084) | كتاب الصيد (مسألة 1085 - 1098)
💥💥💥💥💥💥💥💥💥💥💥💥💥
فهارس كتاب الاشربة {{كتاب الأشربة (مسألة 1099)
كتاب الأشربة (تتمة 1 مسألة 1099)
كتاب الأشربة (تتمة 2 مسألة 1099)
كتاب الأشربة (تتمة 3 مسألة 1099)
كتاب الأشربة (مسألة 1100 - 1102)
كتاب الأشربة (مسألة 1103 - 1113)}}
========
اول عرض كتاب الصيد
كتاب الصيد
1068 - مسألة : ما شرد فلم يقدر عليه من حيوان البر كله - وحشيه وأنيسه - لا تحاش شيئا ، لا طائرا ولا ذا أربع مما يحل أكله فإن ذكاته أن يرمى بما يعمل عمل الرمح ، أو عمل السهم ، أو عمل السيف ، أو عمل السكين حاشا ما ذكرنا أنه لا تحل التذكية به ، فإن أصيب بذلك ، فمات قبل أن تدرك ذكاته فأكله حلال ، فإن أدرك حيا إلا أنه في سبيل الموت السريع فإن ذبح ، أو نحر فحسن ، وإلا فلا بأس بأكله ، وإن كان لا يموت سريعا لم يحل أكله إلا بذبح أو نحر ، أو بأن يرسل عليه سبع من سباع الطير ، أو ذوات الأربع ، لا ذكاة له إلا بأحد هذين الوجهين - : لما روينا من طريق شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال { سألت رسول الله ﷺ عن المعراض ؟ فقال : إذا أصاب بحده فكل وإذا أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل } . ومن طريق مسلم نا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - أنا جرير هو ابن عبد الحميد - عن منصور هو ابن المعتمر - عن إبراهيم النخعي عن همام بن الحارث عن عدي بن حاتم أن رسول الله ﷺ قال له : { إذا رميت بالمعراض فخرق فكله ، وإن أصاب بعرضه فلا تأكله } . وقد اختلف الناس في هذا - : كما روينا عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن المسيب عن عمار بن ياسر قال : إذا رميت بالحجر أو البندقة ثم ذكرت اسم الله فكل . ورويناه أيضا عن سلمان الفارسي - وهو قول أبي الدرداء ، وفضالة بن عبيد ، وابن عمر . ومن طريق سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب قال : كل وحشية قتلتها بحجر ، أو بخشبة ، أو ببندقة فكلها وإذا رميت فنسيت أن تسمي فكل . ومن طريق سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن حرملة سمعت سعيد بن المسيب يقول : كل وحشية قتلتها بحجر ، أو ببندقة ، أو بمعراض فكل ، وإن أبيت أن تأكل فأتني به - وهو قول مكحول ، والأوزاعي . وروينا خلاف هذا عن عمر كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : لا يحذفن أحدكم الأرنب بعصاه أو بحجر ، ثم يأكلها وليذك لكم الأسل : النبل ، والرماح . وبه يقول أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو سليمان . واحتج من ذهب إلى قول عمار ، وسلمان ، وسعيد بقول الله تعالى { ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } . وبحديث رويناه من طريق مسلم عن هناد بن السري نا عبد الله بن المبارك عن حيوة بن شريح قال : سمعت ربيعة بن يزيد الدمشقي يقول : أنا أبو إدريس عائذ الله الخولاني قال سمعت { أبا ثعلبة الخشني يقول : قال لي رسول الله ﷺ : وأما ما ذكرت من أنك بأرض صيد فما أصبت بقوسك فاذكر اسم الله عليه وكل } . قال أبو محمد : ولا حجة لهم في هذين النصين ، لأن حديث عدي بن حاتم الذي ذكرنا فرض أن يضاف إليهما فيستثنى منهما ما استثنى فيه ، فإنه لا يحل ترك نص لنص . ولا خلاف في أن هذين من الصيد ليسا على عمومهما ، لأنه قد تنال فيه اليد الميتة ، وقد تصاب بالقوس المقدور عليه فلا يكون ذكاة بلا خلاف . وهذا مما تناقض فيه الحنفيون لأنهم أخذوا بخبر عدي بن حاتم ، وهو زائد على ما في القرآن ، وقد امتنعوا من مثل هذا في إسقاط الزكاة فيما دون خمسة أوسق ، وغير ذلك - وبالله تعالى التوفيق . وأما قولنا : إن أدرك حيا إلا أنه في سبيل الموت السريع فلا بأس بنحره وذبحه ولا بأس بتركه ، فلأن رسول الله ﷺ أمر بأكل ما خزق ، ولم ينه عن ذبحه ، أو نحره ولا أمر به فهو حلال مذكى على كل حال ، وأما إذا كان لا يموت من ذلك موت المذكى فلا يحل أكله إلا بذكاة ، لأن حكم الذكاة إراحة المذكى ، وتعجيل الموت كما ذكرنا من أمر النبي ﷺ بذلك وسنذكر إن شاء الله تعالى حكم إرسال الجارح .
1069 - مسألة : وكل ما ذكرنا أنه لا يجوز التذكية به فلا يحل ما قتل به من الصيد ، وكل من قلنا : إنه لا يحل أكل ما ذبح أو نحر لم يحل أكل ما قتل من الصيد كغير الكتابي والصبي ، ومن تصيد بآلة مأخوذة بغير حق . وكل من قلنا : إنه يحل أكل ما ذبح أو نحر أكل ما قتل من الصيد كالكتابي ، والمرأة ، والعبد ، وغيرهم ، ولا يحل أكل ما لم يسم الله تعالى عليه مما قتل من الصيد بعمد ، أو بنسيان لأن الصيد ذكاة ، وقد ذكرنا برهان ذلك - : في كلامنا في كتاب التذكية آنفا والحمد لله رب العالمين . وكره بعض الناس أكل ما قتله الكتابيون من الصيد - وهذا باطل لأن الصيد ذكاة ، وقد أباح الله تعالى لنا ما ذكوا ولم يخص ذبيحة من نحيرة من صيد { وما كان ربك نسيا } . وقد قال تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } ولم يفصل لنا تحريم هذا ، فلو كان حراما لفصل لنا تحريمه ، فإذ لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال محض . فإن موهوا بقول الله تعالى : { تناله أيديكم ورماحكم } . قلنا : وقد قال تعالى : { إلا ما ذكيتم } فحرموا بهذه الآية أكل ما ذبحوا إذا ، وإلا فقد تناقضتم وقوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } زائد على ما في هاتين الآيتين ، فالأخذ به واجب . وقولنا ههنا - هو قول عطاء ، والليث ، والأوزاعي ، والثوري ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان ، وأصحابهم . والقول الآخر - هو قول مالك ، ولا نعلم له سلفا في هذا أصلا ؛ ولا جاء عن أحد من الصحابة ولا التابعين التفريق بين ذبائح أهل الكتاب وبين صيدهم . وروينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : أيرسل المجوسي بازي ؟ قال : نعم ، إذا أرسل المجوسي كلبك فقتل فكل وهو قول أبي ثور ، وغيره - وبالله تعالى التوفيق . وقال بعض الناس : قد علمنا أن النصراني إذا سمى الله تعالى فإنما يعني به المسيح ، فسواء أعلن باسم المسيح أو لم يعلن - وهذا باطل ، لأننا إنما نتبع ما أمرنا الله تعالى به ، ولا نعترض عليه بآرائنا . وقد قال الله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } فحسبنا إذا سمى الله تعالى فقد أتى بالصفة التي أباح الله تعالى لنا بها أكل ما ذكى ولا نبالي ما عنى ، لأن الله تعالى لم يأمرنا بمراعاة نيته الخبيثة { وما كان ربك نسيا } وإذا لم يذكر الله تعالى ، أو ذكر غير الله تعالى ، فقد أتى بالصفة التي حرم الله تعالى علينا الأكل مع وجودها ، لأنه أهل لغير الله به ، ولا نبالي بنيته الخبيثة ، إذ لم يأمر الله تعالى بذلك إلا كل أحد في نفسه خاصة .
1070 - مسألة : ووقت تسمية الذابح الله تعالى في الذكاة هي مع أول وضع ما يذبح به أو ينحر في الجلد قبل القطع ولا بد . ووقتها في الصيد مع أول إرسال الرمية أو مع أول الضربة ، أو مع أول إرسال الجارح لا تجزي قبل ذلك ولا بعده ، لأن هذه مبادئ الذكاة فإذا شرع فيها قبل التسمية فقد مضى منها شيء قبل التسمية فلم يذك كما أمر ، وإذا كان بين التسمية وبين الشروع في التذكية مهلة فلم تكن الذكاة مع التسمية كما أمر ، فلم يذك كما أمر . ولا فرق بين قليل المهلة وبين كثيرها ، ولو جاز أن يفرق بينهما بطرفة عين جاز أن يفرق بينهما بطرفتين وثلاث إلى أن يبلغ الأمر إلى العام وأكثر . روينا من طريق مسلم نا الوليد بن شجاع السكوني أنا علي بن مسهر عن عاصم الأحول عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال : قال [ لي ] ، رسول الله ﷺ { إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله ثم ذكر كلاما وفيه وإن رميت سهمك فاذكر اسم الله } . ومن طريق شعبة عن الحكم بن عتيبة عن سعيد بن مسروق نا الشعبي قال : سمعت عدي بن حاتم وكان لي جارا ودخيلا وربيطا بالنهرين ، أنه سأل رسول الله ﷺ فقال : { أرسل كلبي فأجد مع كلبي آخر قد أخذ لا أدري أيهما أخذ ؟ قال : فلا تأكل إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره } فلم يجعل النبي ﷺ الإرسال ، إلا مع التسمية بلا مهلة ، وحرم أكل ما لم يسم عليه . وقد روينا خلاف هذا عن ابن عباس كما روينا من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الله بن الحكم البلوي أخبره أنه سأل ابن عباس ؟ فقال : إني أخرج إلى الصيد فأذكر اسم الله حين أخرج فربما مر بي الصيد حثيثا فأعجل في رميه قبل أن أذكر اسم الله تعالى ؟ فقال له ابن عباس : إذا خرجت قانصا لا تريد إلا ذلك فذكرت اسم الله حين تخرج فإن ذلك يكفيك - ولا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ فكيف ورواية ابن لهيعة وهو ساقط - ثم عن عبد الله بن الحكم البلوي وهو مجهول .
1071 - مسألة : وكل ما ضرب بحجر ، أو عود ، أو فرى مقاتله سبع بري أو طائر كذلك ، أو وثني ، أو من لم يسم الله تعالى فأدركت فيه بقية من الحياة ذكي بالذبح أو النحر ، وحل أكله ، لأنه مما قال فيه تعالى { إلا ما ذكيتم } وقد تقصينا هذا " فيما يحل أكله ويحرم " من كتابنا هذا . وبالله تعالى التوفيق .
1072 - مسألة : فلو وضع اثنان فصاعدا أيديهم على شفرة ، أو رمح فذكوا به حيوانا بأمر مالكه وسمى الله تعالى أحدهم أو كلهم فهو حلال . وكذلك ، لو رمى جماعة سهاما وسمى الله تعالى أحدهم أو كلهم فأصابوا صيدا فأكله حلال وهو بينهم إذا أصابت سهامهم مقتله سمى الله تعالى جميعهم وإذا لم يصب أحدهم مقتله ، فلا حق له فيه ، فإن كان الذي لم يصب مقتله هو وحده الذي سمى الله تعالى فهو ميتة لا يحل أكله فإن لم يسم الله تعالى أحد ممن أصاب مقتله فلا حق له فيه ، وهو كله الذي سمى الله تعالى - بخلاف القول في المقدور عليه المتملك ، وذلك لأن التسمية صحت عليه فهو حلال ، فأما الصيد فلا يملك إلا بالتذكية أو بأن يقدر عليه قبل موته فهذا لم يذكه ، لكن جرحه فلم يملكه وإنما ملكه الذي ذكاه بالتسمية ، وأما المتملك قبل أن يذكى فهو مذكى بتسمية من سمى ، والملك باق لمن سلف له فيه ملك كما كان - وبالله تعالى التوفيق .
1073 - مسألة : ومن رمى صيدا فأصابه وغاب عنه يوما أو أكثر أو أقل ، ثم وجده ميتا ، فإن ميز سهمه وأيقن أنه أصاب مقتله حل له أكله وإلا فلا يحل له . وكذلك لو رماه فأصابه ، ثم تردى من جبل أو في ماء ، فإن ميز أيضا سهمه وأيقن أنه أصاب مقتله حل له أكله وإلا فلا - : لما روينا من طريق أحمد بن حنبل نا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة حدثني عاصم الأحول عن الشعبي عن عدي بن حاتم عن النبي ﷺ قال { : إذا وقعت رميتك في ماء فغرق فمات فلا تأكل } . ومن طريق أحمد بن حنبل نا غندر نا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن { عدي بن حاتم قال سألت رسول الله ﷺ فقال : إذا عرفت سهمك تعلم أنه قتله لم تر فيه أثرا لغيره فكل } .
1074 - مسألة : وسواء أنتن أم لم ينتن ، ولا يصح الأثر الذي فيه في الذي يدرك صيده بعد ثلاث فكله ما لم ينتن ، لأنه من طريق معاوية بن صالح ، ولا الخبر الذي فيه { يا رسول الله أفتني في قوسي ؟ قال : كل ما ردت عليك قوسك ذكي وغير ذكي - وإن تغيب عنك - ما لم يضل أو تجد فيه أثرا غير سهمك } لأنه من عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مسندا ، ولا الأثر الذي فيه { كل ما أصميت ولا تأكل ما أنميت } . وتفسير الإصماء أن تقعصه والإنماء أن يستقل بسهمه حتى يغيب عنه فيجده بعد ذلك ميتا بيوم أو نحوه - وهكذا روينا تفسيره عن ابن عباس : لأن راوي المسند في ذلك محمد بن سليمان بن مسمول - وهو منكر الحديث - عن عمرو بن تميم عن أبيه - وهو منكر الحديث وأبوه مجهول . ولا الخبر الذي فيه { : أن رجلا قال : يا رسول الله رميت صيدا فتغيب عني ليلة فقال عليه السلام : إن هوام الليل كثيرة } لأنه مرسل . ولا الخبر الذي فيه أنه عليه السلام قال { لو أعلم أنه لم يعن على قتله دواب المعار لأمرتك بأكله } لأنه مرسل ، وفيه الحارث بن نبهان وهو ضعيف . ولا الخبر الذي فيه { أنه عليه السلام قال في الصيد ، إذا غاب مصرعه عنك كرهه } لأنه مرسل . وروينا عن ابن عباس فيمن رمى الصيد فوجد فيه سهمه من الغد قال : لو أعلم أن سهمك قتله لأمرتك بأكله ، ولكنه لعله قتله ترديه أو غيره . وعن ابن مسعود إذا رمى أحدكم طائرا وهو على جبل فخر فمات فلا تأكله فإني أخاف أن يقتله ترديه أو وقع في ماء فمات فلا تأكله ، فإني أخاف أن يكون قتله الماء . ومثله عن طاوس ، وعكرمة قال : إذا وقع في الماء قبل أن تذكيه . وعن الشعبي أنه لم يأكل من لحم طير رمي فوقع في ماء فمات . وعن عطاء في صيد رمي فلم يزل ينظر إليه حتى مات قال : كله فإن توارى عنك بالهضاب أو الجبال فلا تأكله إذا غاب عنك مصرعه فإن تردى أو وقع في ماء وأنت تراه فلا تأكله . وأما المتأخرون فإن أبا حنيفة قال : إذا توارى عنك الصيد والكلب وهو في طلبه فوجدته وقد قتله جاز أكله ، فلو ترك الرجل الكلب واشتغل بصلاة أو عمل ما ثم رجع إلى الكلب فوجد الصيد مقتولا والكلب عنده كره أكله . وقال مالك : إذا أرسل كلبه أو سهمه فأدركه من يومه فوجده ميتا وفيه جراحة أكله ، فإن بات عنه لم يأكله . وقال الشافعي : القياس إذا غاب عنه أن يأكله . قال أبو محمد : هذه أقوال ساقطة إذ لا دليل على صحة شيء منها ، والمفترض طاعته هو رسول الله ﷺ [ إذ ] يقول ما رويناه من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا عبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى الثعلبي - عن داود بن أبي هند عن الشعبي أن { عدي بن حاتم قال يا رسول الله أحدنا يرمي الصيد فيقتفي أثره اليومين والثلاثة ، ثم يجده ميتا وفيه سهمه أيأكل ؟ قال رسول الله ﷺ نعم ، إن شاء ، أو قال : يأكل إن شاء } . ومن طريق أحمد بن حنبل نا هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير { عن عدي بن حاتم سألت رسول الله ﷺ ؟ فقلت : يرمي أحدنا الصيد فيغيب عنه ليلة أو ليلتين فيجده وفيه سهمه فقال رسول الله ﷺ إذا وجدت سهمك ولم تجد فيه أثرا غيره وعلمت أن سهمك قتله فكله } . قال علي : إذا وجد سهمه قد أنفذ مقتله فقد علم أنه قتله - وبالله تعالى التوفيق .
1075 - مسألة : ومن رمى صيدا فأصابه فمنعه ذلك الأمر من الجري أو الطيران ولم يصب له مقتلا أو أصاب فهو له ، ولا يكون لمن أخذه لأنه قد جعله مقدورا عليه غير ممتنع فملكه بذلك - وبالله تعالى التوفيق .
1076 - مسألة : ومن رمى صيدا فقطع منه عضوا ، أي عضو كان فمات منه بيقين موتا سريعا كموت سائر الذكاة ، أو بطيئا إلا أنه لم يدركه إلا وقد مات ، أو هو في أسباب الموت الحاضر : أكله كله ، وأكل أيضا العضو البائن . فلو لم يمت منه موتا سريعا وأدركه حيا وكان يعيش منه أكثر من عيش المذكى ، ذكاه وأكله ، ولم يأكل العضو البائن ، أي عضو كان ؛ لأنه إذا مات منه كموت الذكاة فهو ذكي كله . فلو لم يدركه حيا فهو ذكي متى مات مما أصابه وهو مذكى كله ، وما كان بخلاف ذلك فهو غير مذكى ، وقال عليه السلام ، { إذا خزق فكل } فهذا عموم لا يجوز تعديه . وإذا أدرك حيا فذكاته فرض لأنه مأمور بإحسان القتلة والإراحة . وأما إذا وجده في أسباب الموت العاجل فلا معنى لذبحه حينئذ ولا لنحره لأنه ليس إراحة بل هو تعذيب ، وهو بعد مذكى ، فهو حلال . وروي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، وإبراهيم ، وعطاء ، وأبي ثور : إذا رمى الصيد فغدا حيا وقد سقط منه عضو ، فإنه يؤكل سائره حاشا ذلك العضو ، فإن مات حين ذلك أكل كله . وقال أبو حنيفة ، ومالك ، وسفيان ، والأوزاعي : إن قطعه نصفين أكل النصفين معا ، فإن كانت إحداهما أقل من الأخرى ، فإن كانت القطعة التي في الرأس هي الصغرى أكل كلتاهما ، وإن كانت التي فيها الرأس هي الكبرى أكلت هي ولم تؤكل الأخرى . وقال الشافعي : إن قطع منه ما يموت به موت المنحور أو المذبوح أكلا معا ، وإن قطع منه ما يعيش بعده ساعة فأكثر ، ثم أدركه فذكاه أكل ، حاشا ما قطع منه . وما نعلم لمن حد الحدود التي حدها أبو حنيفة ، ومالك متعلقا أصلا - وبالله تعالى التوفيق .
1077 - مسألة : ومن رمى جماعة صيد ، وسمى الله تعالى ونوى أيها أصاب ، فأيها أصاب حلال لقول رسول الله ﷺ الذي ذكرناه آنفا { إذا أصاب بحده فكل } . وقوله عليه السلام : { إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله فإن غاب عنك يوما فلم تجد إلا أثر سهمك فكل } فعم رسول الله ﷺ ولم يخص أن يقصد صيدا من الجملة بعينه { وما كان ربك نسيا }
1078 - مسألة : فلو لم ينو إلا واحدا بعينه فإن أصابه فهو حلال ، وإن أصاب غيره فإن أدرك ذكاته فهو حلال ، فإن لم يدرك ذكاته لم يحل أكله . وكذلك لو رمى وسمى الله تعالى ولم ينو صيدا فأصاب صيدا لم يحل أكله إلا أن يدرك ذكاته . وكذلك لو أراد ذبح حيوان متملك بعينه فذبح غيره مخطئا لم يحل أكله لأنه لم يسم الله تعالى عليه قاصدا إليه ، وقد قال رسول الله ﷺ : { إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى } .
1079 - مسألة : ولو أن امرأ رمى صيدا فأثخنه وجعله مقدورا عليه ، ثم رماه هو أو غيره فسمى الله تعالى فقتله فهو ميتة فلا يحل أكله ، لأنه إذ قدر عليه لم تكن ذكاته إلا بالذبح أو النحر ، فلم يذكه كما أمر ، فهو غير مذكى ، وعلى قاتله إن كان غيره ضمان مثله للذي أثخنه ، لأنه قد ملكه بالإثخان وخروجه عن الامتناع ، فقاتله معتد عليه ، وقد قال تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } . ولو جرحه إلا أنه ممتنع بعد ، فهو لمن أخذه ، لأنه لا يملكه إلا بالخروج عن الامتناع ، فما دام ممتنعا فهو غير مملوك بعد - وبالله تعالى التوفيق .
1080 - مسألة : ومن نصب فخا ، أو حبالة ، أو حفر زبية كل ذلك للصيد ، فكل ما وقع في شيء من ذلك فهو له ولا يحل لأحد سواه ؛ فإن نصبها لغير الصيد فوقع فيها صيد فهو لمن أخذه . وكذلك من وجد صيدا قد صاده جارح أو فيه رمية قد جعلته غير ممتنع فلا يحل له أخذه ، لقول رسول الله ﷺ : { إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى } . وإذا نوى الصيد فقد ملك كل ما قدر عليه مما قصد تملكه ، وإذا لم ينو الصيد فلم يتملك ما وقع فيها فهو باق على حاله لكل من تملكه - وكذلك ما عشش في شجرة أو جدران داره هو لمن أخذه إلا أن يحدث له تملكا - : روينا من طريق مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنا محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله عن عمير بن سلمة الضمري أخبره عن البهزي { أن رسول الله ﷺ مر بالروحاء فإذا حمار وحش عقير فقال رسول الله ﷺ : دعوه فإنه يوشك أن يأتي صاحبه ، ثم مضى فلما كان بالأثاية إذا ظبي حاقف في ظل وفيه سهم فأمر ﷺ رجلا يثبت عنده لا يريبه أحد من الناس } . قال أبو محمد : وهذا يبطل قول أبي حنيفة فيمن رمى صيدا فوقع بحضرة قوم فلم يذكوه حتى مات ، فهو حرام ، لأنه عليه السلام لم يأمر بتذكية ذلك الظبي وتركه لصاحبه الذي رماه ، وهذا البهزي هو كان صاحب ذلك الحمار العقير .
1081 - مسألة : فلو مات في الحبالة ، أو الزبية ، لم يحل أكله سواء جعل هنالك حديدة أم لم يجعل ، لأنه لم يقصد تذكيته كما أمر أن يذكيه به من رمي أو قتل جارح ، والحيوان كله حرام في حال حياته ، فلا ينتقل إلى التحليل إلا بنص ولا نص في هذا . وقد أباحه بعض السلف - : روينا من طريق معمر عن جابر الجعفي قال : سألت الشعبي عمن وضع منجله فيمر به طائر فيقتله ؟ فكره أكله - وسألت عنه سالم بن عبد الله فلم ير به بأسا . ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا يونس عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا بصيد المناجل ، وقال : سم إذا نصبتها . ومن طريق سعيد بن مسروق نا هشيم أنا حصين هو ابن عبد الرحمن ابن أخي مسروق - سأل ابن عمر عن صيد المناجل ؟ فقال ابن عمر : أما ما بان منه وهو حي فلا تأكل وكل ما سوى ذلك ، ولا يعرف له من الصحابة مخالف ، قد خالفه الحنفيون ، والمالكيون وهم يشنعون هذا على غيرهم .
1082 - مسألة : وكل من ملك حيوانا وحشيا حيا أو مذكى أو بعض صيد الماء كذلك فهو له كسائر ماله بلا خلاف ، فإن أفلت وتوحش وعاد إلى البر أو البحر فهو باق على ملك مالكه أبدا ، ولا يحل لسواه إلا بطيب نفس مالكه ، وكذلك كل ما تناسل من الإناث من ذلك أبدا . لقول الله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } . ولقول رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } . وهذا مال من ماله بإجماع المخالفين معنا فلا يحل لسواه إلا بما يحل به سائر ماله . وهو قول جمهور الناس . وقال مالك : إذا توحش فهو لمن أخذه - وهذا قول بين الفساد مخالف للقرآن ، والسنة ، والنظر ، وهم لا يختلفون في أنهم إن أفلت فأخذ من يومه ، أو من الغد فلا يحل لغير مالكه فليبينوا لنا الحد الذي إذا بلغه خرج به عن ملك مالكه ولا سبيل له إليه . ويسألون عمن ملك وحشيا فتناسل عنده ثم شرد نسلها ؟ فإن قالوا : يسقط ملكه عنه - لزمهم ذلك في كل حيوان في العالم ، لأن جميعها في أول خلق الله تعالى لها كانت غير متملكة ثم ملكت وكذلك القول في حمام الأبراج ، والنحل كل ما ميز فهو ونسله لمالكه أبدا لما ذكرنا . وقول مالك الذي ذكرنا ، وقول الليث : من ترك دابته بمضيعة فهي لمن وجدها لا ترد إلى صاحبها - وكقول الليث ، أو غيره من نظرائه : ما عطب في البحر من السفن فرمى البحر متاعا مما غرق فيها فهو لمن أخذه لا لصاحبه ، ولو قامت له بكل ذلك بينة عدل وهذه أقوال فاسدة ظاهرة البطلان ، لأنه إيكال مال مسلم ، أو ذمي بالباطل .
=
1083 - مسألة : وأما حكم إرسال الجارح ، فلا يخلو ذلك الجارح من أن يكون معلما أو غير معلم فالمعلم هو الذي لا ينطلق حتى يطلقه صاحبه ، فإذا أطلقه انطلق ، وإذا أخذ وقتل ولم يأكل من ذلك الصيد شيئا ، فإذا تعلم هذا العمل ، فبأول مدة يقتل ولا يأكل منه شيئا فهو معلم حلال أكل ما قتل مما أطلقه عليه صاحبه وذكر اسم الله تعالى عند إطلاقه . وسواء قتله بجرح أو برض ، أو بصدم ، أو بخنق كل ذلك حلال . فإن قتله وأكل من لحمه شيئا فذلك الصيد حرام لا يحل أكل شيء منه . وسواء في كل ما ذكرنا الكلب ، وغيره من سباع دواب الأربع ، والبازي وغيره من سباع الطير ولا فرق . فأما الفرق بين المعلم وغير المعلم فهو قول الله تعالى : { وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم } . وما سنذكره بعد هذا من كلام النبي ﷺ إن شاء الله فلم يبح لنا عز وجل إلا ما أمسك علينا جوارحنا المعلمة . وأما قولنا في التعليم : فإن الله تعالى لم يبح لنا كما ذكرنا إلا ما أمسك علينا جوارحنا المعلمة ، وبالضرورة ندري أن سباع الطير ، وذوات الأربع تعلم التصيد بطبعها لأنفسها ومعاشها فلا بد من شيء زائد تعلمه لم تكن تعلمه إلا أن تعلمه لا بد من هذا ضرورة ، وإلا فكل جارح فهو معلم - وهذا خلاف القرآن ، والسنن ، ولا يقوله أحد ، فإذ لا بد من هذا فليس ههنا شيء يمكن أن تعلمه إلا ما ذكرناه . وقد اختلف المتقدمون في هذا فقال أبو حنيفة ، والشافعي : إذا أمسك ولم يأكل وفعل ذلك مرة بعد مرة فهو معلم يؤكل ما قتل بعد تلك المرار ، ولم يحدا في ذلك حدا . وقال أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن : إذا أمسك ولم يأكل ثلاث مرات فهو معلم يؤكل ما قتل في الرابعة ولا يؤكل ما قتل في تلك الثلاث مرات . وقال أبو سليمان : إذا أمسك فلم يأكل مرة فهو معلم ويؤكل ما قتل في الثانية ولا يؤكل ما قتل في الأولى . وقال أبو ثور : إذا أمسك ولم يأكل فأول مرة يفعل ذلك يؤكل ما قتل . قال أبو محمد : أما قول أبي حنيفة ، والشافعي فظاهر الخطأ لأنهما لم يبينا متى يحل أكل ما قتل ومتى لا يحل ، وما كان هكذا فالسكوت عنه أولى لأنه إشكال محض ، لا بيان فيه ولا دليل عليه ، ودين الله تعالى بين لائح قد فصل لنا ما حرم علينا مما لم يحرم - ولله تعالى الحمد - فسقط هذا القول بيقين . وأما قول أبي يوسف ، ومحمد فأظهر فسادا من القول الأول لأنهما حدا حدا لم يأت به نص من قرآن ، ولا سنة ، ولا قول صاحب ، ولا معقول ولا فرق بين من حد بثلاث مرات وبين من حد بأربع ، أو خمس ، أو بمرتين ، أو بما زاد - وكل ذلك ، شرع في الدين لم يأذن به الله تعالى فبطل هذا القول بيقين . وأما قول أبي سليمان فإنه احتج بأننا لم نعلم أنه معلم إلا بتلك الفعلة الأولى فبها علمنا أنه قد تعلم فهو في الثانية معلم يؤكل ما قتل . قال علي : فقلنا : صدقتم ، إنه بتلك الفعلة الأولى علمنا أنه معلم ، ولا شك أنه قبلها لم يكن معلما ، فلما صح أنه معلم بتلك الفعلة صح يقينا أنه صاد تلك المرة وهو معلم ، ولو لم يكن معلما لما أتى بشروط التعليم ، فإذ صادها وهو معلم فحلال أكل ما صاد فيها . وهذا قول أبي ثور : وهذا القول الصحيح بلا شك . وأما مالك : فلم يراع أكل الجارح وهو خطأ لما نذكر إن شاء الله تعالى . وأما جواز أكل ما قتل كيفما قتل فإن قوما قالوا : لا يؤكل إلا ما جرح لا ما قتل بخنق ، أو صدم ، أو رض ، أو غم - واحتجوا بقول الله تعالى : { من الجوارح } . قال علي : وهذا جهل منهم ، لأن الجارح الكاسب قال الله تعالى : { ويعلم ما جرحتم بالنهار } وحتى لو كان مراد الله تعالى بقوله : ( الجوارح ) من الجراح لما كان لهم فيه حجة ، لأن الله تعالى سماهن جوارح ، وهن جوارح ، وقواتل ، بلا شك ، ولم يقل تعالى : ( لا تأكلوا إلا مما ولدن فيه جراحة ) بل قال تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } ولم يذكر تعالى بجراحة ، ولا بغير جراحة ، { وما كان ربك نسيا } . وقال بعضهم : قسنا الجارح على المعراض إن خزق أكل وإن رض لم يؤكل . قال أبو محمد : وهذا باطل لأنه قياس . ثم لو صح القياس لكان هذا باطلا لأنه لا قياس عندهم مع نص والنص جاء في المعراض بما ذكروا ، وفي الجارح بغير ذلك كما ذكرنا من قول الله تعالى . وكما روينا من طريق مسلم نا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - نا جرير هو ابن عبد الحميد - عن منصور عن إبراهيم النخعي عن همام بن الحارث عن عدي بن حاتم أن رسول الله ﷺ قال له : { إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ، قلت : وإن قتلن ؟ قال : وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس معها } . ومن طريق البخاري نا أبو نعيم هو الفضل بن دكين - نا زكريا هو ابن أبي زائدة - عن الشعبي عن { عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله ﷺ عن أخذ الكلب ؟ فقال : كل ما أمسك عليك فإن أخذ الكلب ذكاة } . ومن طريق مسلم نا محمد بن عبد الله بن نمير نا أبي نا زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن الشعبي عن { عدي بن حاتم قال سألت رسول الله ﷺ عن صيد الكلب ؟ فقال : ما أمسك عليك ولم يأكل منه فكله فإن ذكاته أخذه } فأمره عليه السلام بأكل ما قتل الكلب المعلم وأخبر أنه ذكاة ولم يشترط عليه السلام بجراحة من غيرها ، فاشتراط ذلك باطل لا يجوز . وقولنا هو قول أبي الحسن بن المغلس ، وغيره . وأما تحريم أكل الصيد إذا أكل منه الجارح فلقول الله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } فلم يبح لنا الله تعالى ما أمسكن فقط ولا ما أمسكن على أنفسهن بل ما أمسكن علينا فقط ، وبالمشاهدة ندري أنه إذا أكل منه فعلى نفسه أمسك ولها صاد فهو حرام . وأيضا قول الله تعالى : { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم } والكلب سبع بلا خلاف فتحريم ما أكل منه حرام بنص القرآن فلا يحل إلا حيث أحله النص فقط . ومن طريق البخاري نا آدم نا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن عدي بن حاتم أن رسول الله ﷺ قال له : { إذا أرسلت كلبك وسميت فأخذ فقتل فأكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه } . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا سويد بن نصر أنا عبد الله بن المبارك عن عاصم هو الأحول - عن الشعبي عن عدي بن حاتم أن رسول الله ﷺ قال له : { إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه فإن أدركته لم يقتل فاذبح واذكر اسم الله عليه ، فإن أدركته قد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسكه عليك وإن وجدته قد أكل منه فلا تطعم منه شيئا فإنما أمسك على نفسه } وذكر باقي الخبر - وبهذا يقول جماعة من السلف - : صح من طريق معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس إذا أكل الكلب المعلم فلا تأكل منه فإنما أمسك على نفسه . وعن سعيد بن منصور نا سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه . نا حمام نا الباجي أبو محمد نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا أحمد بن مسلم نا أبو ثور نا علي بن الحسن بن شقيق نا عبد الله بن المبارك نا نصر بن إدريس عن عمه قال : سألت أبا هريرة عن كلب أرسله ؟ فقال لي وذمه فإذا أرسلته فسم الله تعالى فإن أكل فلا تأكل - ومن طريق وكيع نا سفيان الثوري عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر قال : إذا أكل فليس بمعلم . وهو قول أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ، والشعبي ، والنخعي ، وعكرمة ، وعطاء صح عنه من طريق وكيع عن الربيع بن صبيح عن عطاء قال في الصقر والبازي يأكل ؟ قال : لا تأكل ، ومثله عن عكرمة - وهو قول سعيد بن جبير ، وسويد بن غفلة ، وحماد بن أبي سليمان . ومنع الشعبي من أكل الصيد إذا شرب الجارح من دمه . وهو قول سفيان الثوري ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي ثور ، وأحمد بن حنبل ، وأبي سليمان ، وجميع أصحابهم . وقال مالك : يؤكل وإن أكل منه ، واحتج له من قلده بما روينا من طريق أبي داود أنا محمد بن عيسى نا هشيم نا داود بن عمرو عن بسر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة قال : قال رسول الله ﷺ : { إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه } . ومن طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده { أن النبي ﷺ قال لأبي ثعلبة : إن كان لك كلاب مكلبة فكل مما أمسكن عليك ، وإن أكل منه كل ما ردت عليك قوسك ، وإن تغيب عنك ما لم يضل } . ومن طريق عبد الملك بن حبيب نا أسد بن موسى عن ابن أبي زائدة عن الشعبي { عن عدي بن حاتم قلت : يا رسول الله إنا بأرض صيد ولنا كلاب نرسلها فتأخذ الصيد ؟ فقال عليه السلام : كل مما أمسكن عليك إلا أن يخالطها كلب من غيرها ؟ قلت : يا رسول الله وإن قتلت ، قال : وإن قتلت ، قلت : وإن أكلت ، قال : وإن أكلت } . ومن طريق سفيان الثوري عن سماك بن حرب عن مري بن قطري عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله ﷺ : { ما كان من كلب ضار أمسك عليك فكل ، قلت : وإن أكل ؟ قال : نعم } . ومن طريق محمد بن جرير الطبري حدثني الحارث نا محمد بن سعيد نا محمد بن عمر الواقدي نا محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري عن أبي عمير الطائي عن أبي النعمان عن أبيه - وهو من سعد هذيم - قال : قلت : يا رسول الله إنا أصحاب قنص فقال له رسول الله ﷺ : { إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فقتل فكل ، قلنا وإن أكل نأكل ؟ قال : نعم } . واعترضوا على القول بأن الكلب له نية في الإمساك على مرسله أو على نفسه بالإنكار لذلك - وصح عن ابن عمر : كل مما أكل منه كلبك المعلم وإن أكل . وروي أيضا عن سعد بن أبي وقاص كل وإن لم يبق إلا بضعة . ومن طريق حماد بن سلمة عن داود عن الشعبي عن أبي هريرة إذا أرسلت كلبك فأكل ثلثيه فكل . ومن طريق شعبة ، وحماد بن سلمة قال شعبة : عن قتادة عن سعيد بن المسيب ، وقال حماد : عن حميد عن بكر بن عبد الله المزني ثم اتفق بكر ، وسعيد كلاهما عن سلمان الفارسي : أن يؤكل من صيد الكلب وإن أكل ثلثيه . وروي عن علي من طريق من لا يعرف من هو ولا سمي أيضا وهو قول الزهري ، وربيعة - واختلف فيه عن الحسن . وعطاء . قال أبو محمد : هذا كل ما شغبوا به قد تقصيناه لهم وكله لا حجة لهم فيه . أما الآثار عن النبي ﷺ فكلها ساقطة لا تصح - : أما حديث أبي ثعلبة فمن طريق داود بن عمر . وهو ضعيف ، ضعفه أحمد بن حنبل وقد ذكر بالكذب ، فإن لجوا وقالوا : بل هو ثقة ؟ قلنا : لا عليكم إن وثقتموه ههنا فخذوا روايته التي رويناها من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه نا هشيم أنا داود بن عمر عن بسر بن عبيد الله إدريس الخولاني عن عوف بن مالك الأشجعي { أن رسول الله ﷺ أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام للمسافر وليالهن ويوم وليلة للمقيم } فهذه تلك الطريق بعينها . ومن الكبائر في دين الله تعالى الاحتجاج بها إذا اشتهيتم ووافقت أهواءكم ورأي من قلدتموه دينكم ، وإطراحها إذا خالفت أهواءكم ورأي من قلدتموه هذه الصفة التي ذكرها الله تعالى عن قوم يقولون { إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا } وفي هذا كفاية لمن عقل . وأما نحن فما نحتج به أصلا ، ولا نقبله حجة . وأما حديث عمرو بن شعيب فصحيفة ، فإن أبوا إلا تصحيحها ؛ قلنا : لا عليكم خذوا بروايته عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ : { من قتل خطأ فديته مائة من الإبل : ثلاثون بنت مخاض ، وثلاثون بنت لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون ابن لبون ذكر ، وعلى أهل البقر مائتا بقرة } { وأن رسول الله ﷺ وأبا بكر ، وعمر : حرقوا متاع الغال وضربوه } ، وغير هذا كثير مما خالفوه ولم يردوه إلا بتضعيف روايته عن أبيه عن جده فهي صحيحة ، وحجة في دين الله تعالى ومنسوبة إلى النبي ﷺ إذا اشتهوا ووافقت أهواءهم ، ورأي من قلدوه ، وهي مردودة مطرحة غير مصدقة إذا خالفت أهواءهم ، ورأي من قلدوه ، ألا ذلك هو الضلال المبين ، وما ندري كيف تنبسط نفس مسلم لمثل هذا ؟ وأما الخبر : عن عدي بن حاتم - : فأحد : طريقيه من رواية عبد الملك بن حبيب الأندلسي . وقد روى الكذب المحض عن الثقات عن أسد بن موسى وهو منكر الحديث . والأخرى : من طريق سماك بن حرب وهو يقبل التلقين عن مري بن قطري وهو مجهول . وكم رواية لأسد ، وسماك ، اطرحوها إذا خالفت أهواءهم ؟ وأما حديث أبي النعمان : فمصيبة ، فيه الواقدي مذكور بالكذب عن ابن أخي الزهري - وهو ضعيف - عن أبي عمير الطائي ولا يدرى من هو عن أبي النعمان وهو مجهول - فسقط كل ما تعلقوا به . وأما عن الصحابة : فهو عن سعد لا يصح ، لأنه من طريق حميد بن مالك بن الأختم وليس بالمشهور ، وعن علي كذلك ، وعن سلمان كذلك ، لأننا لا نعلم لسعيد بن المسيب ، ولا لبكر بن عبد الله سماعا من سلمان ولا كانا ممن يعقل ؛ إذ مات سلمان رضي الله عنه أيام عمر بل إنه صحيح عن أبي هريرة ، وابن عمر ، وقد اختلف عنهما في ذلك كما أوردنا . وقد صح عن ابن عمر ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر قال : ما يصاد به من البيزان وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فكل وما لا فلا تطعم . وأما الكلب المعلم فكل مما أمسك عليك وإن أكل منه ، فإن كان ابن عمر حجة في بعض قوله ، فهو حجة في سائره ، وإلا فهو تلاعب بالدين . وأما إنكارهم مراعاة نيات الكلاب فقولهم هذا هو المنكر نفسه حقا ، لأنه اعتراض على القرآن ، وعلى رسول الله ﷺ وحسب المحروم هذا - ونعوذ بالله منه . وروي عن ربيعة أنه قال : لو كان أكل الجارح يحرم منه ما بقي لم يحل لأحد أن يبادر إلى الضاري حتى يدري أيأكل منه أم لا ؟ قال أبو محمد : وهذا [ قول ] في غاية السقوط لأن بأول دقيقة يمكن الجارح أن يأكل مما قتل فإن لم يفعل علمنا أنه على مرسله أمسك لا على نفسه فكيف ولم نكلف قط هذا ؟ إنما أمر عليه السلام أن لا نأكل إذا أكل ، وأف أو تف لكل عقل يعترض على الله تعالى وعلى رسوله ﷺ . فسقط هذا القول وبطل جملة - وبالله تعالى التوفيق . وأما جواز أكل كل ما قتله المعلم من غير الكلاب فقد اختلف في هذا فروينا عن ابن عمر ما رويناه عنه آنفا من أنه لا يحل أكل صيد قتله شيء من الجوارح إلا المعلم من الكلاب وحده - وصح أيضا عن مجاهد . وصح عن ابن عباس : كل ما علم فصاد فأكل ما قتل جائز . واحتج من منع ذلك بأن الأخبار الثابتة عن رسول الله ﷺ إنما جاءت في الكلب فقط ، قالوا : وقول الله تعالى : { وما علمتم من الجوارح مكلبين } إشارة إلى الكلاب قالوا : وسباع الطير ، وسباع البر ، لا يمكن فيها تعليم أصلا حاشا الكلاب فقط . قال أبو محمد : أما الأخبار الثابتة عن النبي ﷺ فكما قالوا إلا أن الآية أعم من تلك الأحاديث لقول الله تعالى : { من الجوارح } فعم كل جارح ، وهذا لا يجوز تركه لخبر فيه بعض ما في الآية . وأما قوله تعالى : { مكلبين } فليس فيه دليل على أنه لا يؤكل ما قتله غير الكلب من الصيد أصلا ، لا بنص ، ولا بدليل ، بل فيه بيان بأن صيد غير الكلاب جائز بقوله تعالى : { مكلبين } لأنها لا تحتمل هذه اللفظة ألبتة إلا أن يجعلها في حال الكلاب - فصح أنها غير الكلاب أيضا . وأما قولهم : إن ما عدا الكلاب لا يقبل التعليم المذكور أصلا ، فالواجب أن ينظر في ذلك ، فإن وجد منها نوع يقبل التعليم فلا ينطلق حتى يطلقه صاحبه ، وإذا صاد لم يأكل فهو معلم يؤكل ما قتل وإن لم يوجد ذلك أصلا فلا يجوز أكل شيء مما قتلت إلا ما أدركت ذكاته وهو حي بعد - وبالله تعالى التوفيق . وقد قال قوم : يؤكل صيد البازي وإن أكل - وهو قول أبي حنيفة . قال أبو محمد : وهذا باطل لأن الله تعالى لم يبح لنا أن نأكل إلا مما أمسكن علينا ، لا مما أمسكن جملة ، ولا مما أمسكن على أنفسهن وقولنا هو قول الشافعي ، وهو أيضا قول عطاء ، وعكرمة كما ذكرنا قبل وعن ابن عباس ما أكلت الجوارح فلا تأكل - وبالله تعالى التوفيق .
1084 - مسألة : وإن شرب الجارح الكلب أو غيره من دم الصيد لم يضر ذلك شيئا وحل أكل ما قتل لأن النبي ﷺ إنما حرم علينا أكل ما قتل إذا أكل ، ولم ينهنا عن أكل ما قتل إذا ولغ في الدم { وما كان ربك نسيا } وإذا لم يأكل من الصيد فقد أمسكه على مرسله - وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي - وبالله تعالى التوفيق .
=
كتاب الصيد
1085 - مسألة : فإن أكل من الرأس ، أو الرجل ، أو الحشوة ، أو قطعة انقطعت منه ، فكل ذلك سواء ، ولا يحل أكل ما قتل ، لأنه أكل من الصيد .
1086 - مسألة : فإن كان الجارح معلما كما ذكرنا ثم إنه عاد فأكل مما قتل لم يسقط بذلك عن أن يكون معلما ، لكن يحرم أكل الذي قتل وأكل منه فقط ، ولا يحرم أكل ما قتل ولم يأكل منه . وقال أبو حنيفة : قد بطل تعليمه وعاد غير معلم ، فلا يؤكل ما قتل وإن لم يأكل منه حتى يفعل ذلك مرة بعد مرة فيعود معلما . وقال أصحابنا : لا يبطل بذلك تعليمه ، لكن يضرب ويؤدب حتى لا يأكل - وهذا هو الصواب ، لأن النبي ﷺ قال كما روينا من طريق أبي داود نا هناد بن السري نا ابن فضيل عن بيان عن الشعبي { عن عدي بن حاتم أن رسول الله ﷺ قال له : إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله عليها ، فكل مما أمسكن عليك ، وإن قتل ، إلا إن أكل الكلب فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه } فقد سماها عليه السلام معلمة ولم يسقط حكم التعليم بأكل ما أكل منها ، بل نهى عن أكل ما أكل منه فقط . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : إذا أكل الكلب المعلم فلا تأكل منه ، فإنما أمسك على نفسه فسماه ابن عباس معلما وإن أكل - وقد روينا عن ابن عباس أيضا : أنه إذا أكل فبئس ما علمته ليس بعالم - وبالله تعالى التوفيق .
1087 - مسألة : فإن أدركه مرسله حتى قتله وهو يريد الأكل منه فأخذه والجارح ينازعه إلى الأكل منه ، لم يحل أكله أصلا ، وهو ميتة ، لأننا على يقين حينئذ من أنه إنما أمسك على نفسه لا على مرسله ، وهذه الصفة التي حرم الله تعالى بها ورسوله ﷺ الأكل مما قتله الجارح علينا .
1088 - مسألة : فلو قتله ولم يأكل منه شيئا وهو قادر على الأكل منه ثم أكل منه فباقيه حلال ، لأننا على يقين من أنه إذا لم يأكل منه - وهو قادر على الأكل منه - فلم يمسك على نفسه وإنما أمسك على مرسله ، وما كان بهذه الصفة فهو حلال بنص القرآن والسنة . وإذ قد صح تحليله بذلك وتمت ذكاته فلا يضره أن يأكل منه بعد ذلك لأنه قد بدا له أن يأكل مما قد صح أنه أمسكه على مرسله - وقد يحدث له جوع يأكل به ما وجد ، وإنما المراعى إمساكه على سيده فيؤكل ، وإن قتل ، أو إمساكه على نفسه فلا يؤكل ما قتل فقط ، كما أمر الله تعالى على لسان رسوله ﷺ في القرآن ، والسنن الثابتة - وبالله تعالى التوفيق .
1089 - مسألة : فلو قتل ولم يأكل ؛ ثم أخذه مرسله فقطع له قطعة فأكلها أو خلاه بين يده يأكله فأكل منه فالباقي حلال ، لما ذكرنا من أنه قد صح إمساكه على مرسله فتمت ذكاته بذلك .
1090 - مسألة : وأما غير المعلم فسواء كان متملكا أو بريا من سباع الطير أو دواب الأربع غير متملك أرسل أو لم يرسل كل ذلك سواء ، وحكمه أن لا يؤكل ما قتل أصلا ، فإن أدرك فيه بقية من الروح وذكى حل أكله لقول الله تعالى : { إلا ما ذكيتم } فاستثنى تعالى ما ذكينا من كل ما حرم من قبل ذلك . ولما رويناه من طريق البخاري نا عبد الله بن يزيد أنا حيوة هو ابن شريح - أخبرني ربيعة بن يزيد الدمشقي عن أبي إدريس الخولاني { عن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله ﷺ قال له : وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل ، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل } فلم يستثن عليه السلام رجاء حياة من غيرها ، فاستثناء ذلك باطل وخلاف لرسول الله ﷺ
1091 - مسألة : وإذا انطلق الجارح المعلم أو غير المعلم من غير أن يطلقه صاحبه لم يحل أكل ما قتل إلا أن تدرك فيه بقية من الروح فيذكى ويؤكل لقول رسول الله ﷺ { إذا أرسلت كلبك وسميت الله } فلم يجعل عليه السلام الذكاة إلا بإرساله مع تسمية الله تعالى ، والذكاة لا تكون إلا بنية من الإنسان المذكي وقصد لقوله عليه السلام : { ولكل امرئ ما نوى } . وصح بالنص أنه إذا أرسل جارحه المعلم وسمى الله تعالى فقتل الجارح فهي ذكاة صحيحة - ولم يصح في كون ما دون ذلك ذكاة نص . روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أنه قال لرجل سأله عن إنسان كان يعلم صقرا له ؟ فبينما هو يحوم حوله إذ رأى طائرا فانقض نحوه وسمى الرجل الله عز وجل ؟ قال قتادة : لا يأكله لأنه لم يرسله هو ، إلا أن يدرك ذكاته .
1092 مسألة : وكل من رمى بسهم مسموم فوجد الصيد ميتا لم يحل أكله إلا إن كان السهم أنفذ مقاتله إنفاذا كأن يموت منه لو لم يكن مسموما لأن ما قتل بالسم فهو ميتة ؛ لأنه لم يأت نص بأنه ذكاة إلا أن تدرك فيه بقية روح فيذكى فيحل - وبالله تعالى التوفيق .
1093 - مسألة : وكل جارح معلم فحلال أكل ما قتل كما ذكرنا سواء علمه وثني أو مسلم ، وكذلك الصيد بسهم صنعه وثني أو مسلم لقول رسول الله ﷺ : { إذا أرسلت كلبك المعلم } ولم يخص عليه السلام تعليم مسلم من تعليم وثني . وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأبي سليمان . وقال قوم : لا يؤكل صيد جارح علمه من لا يحل أكل ما ذكى - : روينا من طريق وكيع نا جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم عن علي بن أبي طالب أنه كره صيد بازي المجوسي وصقره ؛ وصيد المجوسي للسمك كرهه أيضا . ومن طريق عبد الرزاق عن حميد بن رومان عن الحجاج عن أبي الزبير عن جابر قال : لا تأكل صيد كلب المجوسي ولا ما أصاب بسهمه . وقد روينا هذا أيضا من طريق سعيد بن منصور نا عتاب بن بشير أنا خصيف قال : قال ابن عباس : لا تأكل ما صدت بكلب المجوس وإن سميت فإنه من تعليم المجوسي قال الله تعالى : { تعلمونهن مما علمكم الله } . وجاء هذا القول عن عطاء ، ومجاهد ، والنخعي ، ومحمد بن علي - وهو قول سفيان الثوري واحتج أهل هذه المقالة بقول الله تعالى : { وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله } قالوا : فجعل التعليم لنا . قال علي : ولا حجة لهم في هذا ، لأن خطاب الله تعالى بأحكام الإسلام لازم لكل أحد - وبالله تعالى التوفيق . وهذا مما خالفوا فيه الرواية عن صحابة لا يعرف لهم من الصحابة رضي الله عنهم مخالف - وبالله تعالى التوفيق .
1094 - مسألة : ومن تصيد بجارح أخذ بغير حق فلا يحل أكل ما قتل لقول الله تعالى : { ولا تعتدوا } وهذا معتد فلا يكون التعدي ذكاة أصلا . فلو أدرك حيا ، أو نصب المرء حبالة مأخوذة بغير حق ، أو رمى بآلة مأخوذة بغير حق ، فأدرك كل ذلك فيه بقية حياة ذكاها وهي له حلال ، وعليه أجرة مثل ذلك الجارح ، وذلك السهم ، والرمح ، وتلك الحبالة لصاحب كل ذلك ، لأن الصيد الذي لا ملك لأحد عليه هو لمن أخذه ولم يملكه صاحب الآلة ، والحبالة ، والجارح ؛ لأنه لم ينصب ذلك ولا أرسله قاصدا لتملك ما أصاب بذلك ، ولا يكون التملك لما لم يتقدم فيه ملك إلا بنية - وبالله تعالى التوفيق .
1095 - مسألة : ومن وجد مع جارحه جارحا آخر أو سبعا لم يدر أيهما قتل الصيد ؟ فهو ميتة لا يحل أكله إلا أن تدرك ذكاته فيذكى فيحل - : كما روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا سويد بن نصر نا عبد الله بن المبارك عن عاصم عن الشعبي عن عدي بن حاتم عن النبي ﷺ فذكر الحديث وفيه : { فإن خالط كلبك كلابا فقتلن فلم يأكلن فلا تأكل منه شيئا فإنك لا تدري أيها قتل ؟ } .
1096 - مسألة : ولا يحل إمساك كلب أسود بهيم أو ذي نقطتين لا لصيد ولا لغيره ، ولا يحل تعليمه ، ولا أكل ما قتل من الصيد أصلا ، إلا أن تدرك ذكاته ؛ ولا اتخاذ كلب سوى ذلك أصلا إلا لزرع ، أو ماشية ، أو صيد ، أو ضرورة خوف - : لما روينا من طريق مسلم حدثني إسحاق بن منصور نا روح بن عبادة نا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول { أمرنا رسول الله ﷺ بقتل الكلاب ثم نهى عن قتلها وقال : عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه الشيطان } . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا عمران بن موسى نا يزيد بن زريع نا يونس بن عبيد عن الحسن عن عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله ﷺ { لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها الأسود البهيم وأيما قوم اتخذوا كلبا ليس بكلب حرث ، أو صيد ، أو ماشية ، فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراط } وقال تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } فإذا حرم عليه السلام آنفا الأسود البهيم أو ذا النقطتين فلا يحل اتخاذه ، وإذ لا يحل اتخاذه فاتخاذه معصية ، والذكاة بالجارح طاعة ، ولا تنوب المعصية لله تعالى عن طاعته والعاصي لم يذك كما أمر فهي ميتة . وروينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال : أكره صيد الكلب الأسود البهيم ، لأن رسول الله ﷺ أمر بقتله . ومن طريق وكيع نا سفيان الثوري عن يونس بن عبيد عن الحسن أنه كره صيد الكلب الأسود البهيم . ومن طريق وكيع نا سعيد بن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم النخعي قال : كيف نأكل صيد الكلب الأسود البهيم وقد أمرنا بقتله ؟ وهو قول أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه . قال أحمد : ما أعلم أحدا رخص في أكل ما قتل الكلب الأسود من الصيد - وقد أدرك أحمد من أهل العلم أمما . قال أبو محمد : سواء حيث كانت النقطتان من جسده فإن كانت نقطة واحدة أو أكثر من اثنتين لم يجز قتله ، لأنه لا يسمى في اللغة ذا نقطتين .
1097 - مسألة : ومن خرج بجارحه فأرسله وسمى ونوى ما أصاب من الصيد - فسواء فعل كل ذلك من منزله أو في الصحراء - ما أصاب في ذلك الإرسال من الصيد ؛ فقتله فأكله حلال ، لأن النبي ﷺ قال : { إذا أرسلت كلبك المعلم } ولم يخص : وأنت ترى صيدا من أن لا تراه . وروينا من طريق سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش عن عمر بن محمد بن زيد عمن حدثه عن أبي هريرة قال : إن غدا بكلاب معلمة فذكر اسم الله حين يغدو كان كل شيء صاده إلى الليل حلالا . ومن طريق وكيع نا سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن أبي إياس قال : إنا كنا نخرج بكلابنا إلى الصيد فنرسلها ، ولا نرى شيئا فنأكل ما أخذت . قال أبو محمد : وقال أبو حنيفة : من رمى كلبا أو خنزيرا إنسيا فأصاب صيدا لم يحل أكله ، فلو رمى أسدا أو ذئبا أو خنزيرا بريا فأصاب صيدا حل له أكله ، فلو أرسل جارحه على صيد بعينه فأصاب غيره حل أكله - فلو أرسله على سمكة فأصاب صيدا لم يحل أكله . قال علي : هذه تخاليط لا تعقل ولا يقبل مثلها إلا ممن لا يسأل عما يفعل - وكل ما ذكر فسواء - لا يحل شيء منه لأنه لم يسم الله تعالى ، ولا أرسل جارحه ، ولا سهمه على الذي أصاب ، فهو غير مذكى - وبالله تعالى التوفيق .
1098 - مسألة : ولا يحل بيع كلب أصلا لا المباح اتخاذه ولا غيره ؛ لصحة نهي النبي ﷺ عنه وسنذكره في كتاب البيوع إن شاء الله تعالى فمن اضطر إليه فله أخذه ممن يستغني عنه بلا ثمن ، وإن لم يتمكن له ، فله ابتياعه - والثمن حرام على البائع باق على ملك المشتري - وإنما هو كالرشوة في المظلمة ، وفداء الأسير ، لأنه أخذ مال بالباطل - وبالله تعالى التوفيق .
قلت المدون التالي بمشيئة الله كتاب الاشربة
-----------------------------------------
كتاب الأشربة
كتاب الأشربة
محلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب الأشربة
كتاب الأشربة (مسألة 1099) | كتاب الأشربة (تتمة 1 مسألة 1099) | كتاب الأشربة (تتمة 2 مسألة 1099) | كتاب الأشربة (تتمة 3 مسألة 1099) | كتاب الأشربة (مسألة 1100 - 1102) | كتاب الأشربة (مسألة 1103 - 1113)
فهارس كتاب الأشربة
1099 - مسألة: كل شيء أسكر كثيره أحدا من الناس فالنقطة منه فما فوقها إلى أكثر
1100 - مسألة: حد الإسكار
1101 - مسألة: إن نبذ تمر، أو رطب، أو زهو، أو بسر، أو زبيب مع نوع منها أو نوع من غيرها
1102 - مسألة: الأنتباذ في الحنتم
1103 - مسألة: إباحة الخمر لمن اضطر إليها
1104 - مسألة: الخمر لا يحل شربه فلا يحل بيعه، ولا إمساكه، ولا الأنتفاع
1105 - مسألة: لا يحل كسر أواني الخمر، ومن كسرها من حاكم أو غيره فعليه ضمانها
1106 - مسألة: فرض على من أراد النوم ليلا أن يوكي قربته، ويخمر آنيته ولو بعود يعرضه عليها
1107 - مسألة: لا يحل الشرب من فم السقاء
1108 - مسألة: لا يحل الشرب قائما، وأما الأكل قائما فمباح
1109 - مسألة: لا يحل النفخ في الشرب ويستحب أن يبين الشارب الإناء عن فمه ثلاثا
1110 - مسألة: والكرع مباح، وهو أن يشرب بفمه من النهر، أو العين، أو الساقية
1111 - مسألة: الشرب من ثلمة القدح مباح
1112 - مسألة: من شرب فليناول الأيمن منه فالأيمن
1113 - مسألة: ساقي القوم آخرهم شربا
كتاب الأشربة
1099 - مسألة : كل شيء أسكر كثيره أحدا من الناس فالنقطة منه فما فوقها إلى أكثر المقادير : خمر حرام - : ملكه ، وبيعه ، وشربه ، واستعماله على أحد - وعصير العنب ، ونبيذ التين ، وشراب القمح ، والسيكران ، وعصير كل ما سواها ونقيعه ، وشرابه - طبخ كل ذلك أو لم يطبخ - ذهب أكثره أو أقله سواء في كل ما ذكرنا ولا فرق . وهو قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبي سليمان وغيرهم - وفي هذا اختلاف قديم وحديث بعد صحة الإجماع على تحريم الخمر قليلها وكثيرها - : فروينا عن طائفة أنها قالت : شراب البسر وحده خمر محرمة . وقالت طائفة : الرطب ، والبسر إذا خلطا ، فشرابهما خمر محرمة ، وكذلك التمر والبسر إذا خلطا . وقالت طائفة : عصير العنب إذا أسكر ، ونقيع الزبيب إذا أسكر ، ولم يطبخا : هي الخمر المحرمة قليلها وكثيرها ، [ وكل ] ما عدا ذلك حلال ما لم يسكر منه . وقالت طائفة : لا خمر إلا عصير العنب إذا أسكر ما لم يطبخ حتى يذهب ثلثاه فهو حرام قليله وكثيره ، فإذا طبخ كذلك فليس خمرا بل هو حلال أسكر أو لم يسكر . وأما كل شراب ما عدا عصير العنب المذكور فهو حلال أسكر أو لم يسكر كنقيع الزبيب وغيره طبخ كل ذلك أو لم يطبخ إلا أن السكر منه حرام . وقالت طائفة : كل ما عصر من العنب ، ونبيذ الزبيب ، ونبيذ التمر ، والرطب ، والبسر ، والزهو ، فلم يطبخ ، فكل خمر محرمة قليلها وكثيرها ، فإن طبخ عصير العنب حتى ذهب ثلثاه وطبخ سائر ما ذكرنا فهو حلال أسكر أو لم يسكر ، إلا أن السكر منه حرام . وكل نبيذ وعصير ما سوى ما ذكرنا فحلال أسكر أو لم يسكر طبخ أو لم يطبخ والسكر أيضا منه ليس حراما . فأما من رأى شراب البسر وحده خمرا - : فروينا من طريق أحمد بن شعيب أنا أحمد بن سليمان نا يزيد [ قال ] أنا حميد عن عكرمة عن ابن عباس قال : البسر وحده حرام قال أحمد بن شعيب : وأنا أبو بكر بن علي المقدمي نا القواريري هو عبيد الله بن عمر - نا حماد هو ابن زيد - نا أيوب هو السختياني - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نبيذ البسر بحتا لا يحل - وروي هذا القول أيضا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وجابر بن زيد . وروي عن ابن عباس أنه كان يجلد فيه كما يجلد في الخمر - وما نعلم لهذا القول حجة أصلا ، بل قد صح عن النبي ﷺ إبطاله - : كما روينا من طريق عبد الله بن المبارك عن إسماعيل بن مسلم العبدي نا أبو المتوكل عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ { من شربه منكم فليشرب كل واحد منه فردا ، تمرا فردا ، أو بسرا فردا ، أو زبيبا فردا } . والقول الثاني - رويناه من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن محارب بن دثار قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : البسر ، والرطب : خمر - يعني إذا جمعا . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا سويد بن نصر أنا عبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري ، وشعبة ، كليهما عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال : البسر ، والتمر : خمر وحجة هذا القول هو صحة نهي النبي ﷺ عن خلط البسر مع التمر ، أو مع الرطب . قال أبو محمد : ولا حجة لهم في هذا الخبر ، لوجهين - : أحدهما : أن النبي ﷺ قد نهى عن الجمع بين غير هذه الأنواع ، فلا معنى لتخصيص هذه خاصة بالتحريم دون سائر ما نهى عليه السلام عنه . روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن ابن جريج أخبرني عطاء عن جابر قال { إن النبي ﷺ نهى عن خليط التمر ، والزبيب ، والبسر ، والرطب } . ومن طريق الليث بن سعد عن عطاء عن جابر قال { نهى رسول الله ﷺ أن ينبذ الزبيب والتمر جميعا ، وأن ينبذ البسر والتمر جميعا } . ونهى أيضا عليه السلام عن أن يجمع غير هذه كما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى . ووجه آخر - : وهو أنه ليس كل محرم خمرا ، الدم حرام ، وليس خمرا ، ولبن الخنزير حرام وليس خمرا ، والبول حرام وليس خمرا ، فهذان اللذان نهى النبي ﷺ عن جمعهما حرام وليست خمرا إلا أن تسكر ، ولا معنى لتسميتهما إذا جمعا خمرا . فإن قيل : فقد صح عن النبي ﷺ { الزبيب والتمر هو الخمر } فما قولكم فيه ؟ قلنا : قد صح بالنص والإجماع المتيقن إباحة التمر وإباحة الزبيب ، وإباحة نبيذهما غير مخلوطين ، كما ذكرنا آنفا وأن ذلك لم ينسخ قط . فصح أن هذا الخبر ليس على ظاهره ، فإذ لا شك في هذا فإنما يكون خمرا إذا جاء نص مبين لهذه الجملة ، وليس ذلك إلا إذا أسكر نبيذهما كما بين عليه السلام في خبر نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى { إن كل مسكر خمر } فسقط هذا القول أيضا . والقول الثالث : من تخصيص عصير العنب ونبيذ الزبيب بالتحريم ما لم يطبخا دون سائر الأنبذة والعصير فقول صح عن أبي حنيفة - وهو الأشهر عنه - إلا أنه لا يعتمد مقلدوه عليه ، ولا يشتغلون بنصره ، ولا نعلم له أيضا حجة أصلا ، لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا رواية ضعيفة ، ولا دليل إجماع ، ولا قول صاحب ، ولا رأي ، ولا قياس - فسقط - ولله الحمد . والقول الرابع : من تخصيص عصير العنب بالتحريم ما لم يطبخ ، فهو قول اختاره أبو جعفر الطحاوي . واحتج من ذهب إليه بأخبار أضيفت إلى النبي ﷺ وأخبار عن الصحابة ، ودعوى إجماع - فأما الأخبار عن النبي ﷺ فكلها لا خير فيها - على ما نبين إن شاء الله تعالى . ثم لو صحت لما كان شيء منها موافقا لهذا القول ؛ فلاح أن إيرادهم لها تمويه محض - وكذلك الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ، إلا أن منها ما لا يصح ولا يوافق ما ذهبوا إليه فإيرادهم لها تمويه .
ومنها شيء يصح ويظن من لا ينعم النظر أنه يوافق ما ذهبوا إليه - على ما نورد إن شاء الله تعالى - ولا حجة في قول صاحب قد خالفه غيره منهم . وأما دعوى الإجماع فإنهم قالوا : قد صح الإجماع على تحريم عصير العنب إذا أسكر ، واختلف فيما عداه - فلا يحرم شيء باختلاف . قال أبو محمد : وهذا قول في غاية الفساد لأنه يبطل عليهم جمهور أقوالهم ، ويلزمهم أن لا يوجبوا زكاة إلا حيث أوجبها إجماع ، ولا فريضة حج أو صلاة إلا حيث صح الإجماع على وجوبها ، وأن لا يثبتوا الربا إلا حيث أجمعت الأمة على أنه ربا - ومن التزم هذا المذهب خرج عن دين الإسلام بلا شك لوجهين - : أحدهما : أنه مذهب مفترى لم يأمر الله تعالى به قط ولا رسوله عليه السلام ؛ وإنما أمر الله تعالى باتباع القرآن ، وسنة النبي ﷺ وأولي الأمر باتباع الإجماع ، ولم يأمر تعالى قط بأن لا يتبع إلا الإجماع ، ولا قال تعالى قط ، ولا رسوله عليه السلام : لا تأخذوا مما اختلف فيه إلا ما أجمع عليه - ومن ادعى هذا فقد افترى على الله الكذب وأتى بدين مبتدع وبالضلال المبين . إنما قال تعالى : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } وقال تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } . وقال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } ولم يقل تعالى : فردوه إلى الإجماع ، فمن رد ما تنوزع فيه إلى الإجماع لا إلى نص القرآن والسنة فقد عصى الله تعالى ورسوله عليه السلام ، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى . وأما نحن فنتبع الإجماع فيما صح أنهم أجمعوا عليه ولا نخالفه أصلا ، ونرد ما تنوزع فيه إلى القرآن ، والسنة ، فنأخذ ما فيهما وإن لم يجمع على الأخذ به - وبهذا أمر الله تعالى في القرآن ورسوله ﷺ وعليه أجمع أهل الإسلام وما نعلم أحدا قال قط : لا ألتزم في شيء من الدين إلا ما أجمع الناس عليه ؛ فقد صاروا بهذا الأصل مخالفين للإجماع بلا شك . والوجه الثاني : أنه مذهب يقتضي أن لا يلتفت للقرآن والسنن إذا وجد الاختلاف في شيء من أحكامهما ، وليس هذا من دين الإسلام في شيء مع أنه في أكثر الأمر كذب على الأمة وقول بلا علم . وأيضا فإنهم لا يلتزمون هذا الأصل الفاسد إلا في مسائل قليلة جدا - وهو مبطل لسائر مذاهبهم كلها فعاد عليهم - وبالله تعالى التوفيق . وأما الأخبار : فمنها خبر صح عن ابن عباس قال : حرمت الخمر بعينها القليل منها والكثير والمسكر من كل شراب - : ورويناه من طريق قاسم بن أصبغ نا أحمد بن زهير نا أبو نعيم الفضل بن دكين عن مسعر عن أبي عون عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس - ولا حجة لهم فيه ، لأننا رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا الحسين بن منصور نا أحمد بن حنبل نا محمد بن جعفر غندر نا شعبة عن مسعر عن أبي عون عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس قال : حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها ، والمسكر من كل شراب وشعبة بلا خلاف أضبط وأحفظ من أبي نعيم . وقد روى فيه زيادة على ما روى أبو نعيم ، وزيادة العدل لا يحل تركها ، وليس في رواية أبي نعيم ما يمنع من تحريم غير ما ذكرنا في روايته إذا جاء بتحريمه نص صحيح . وقد صح من طريق ابن عباس تحريم المسكر جملة - وصح عنه كما ذكرنا آنفا تحريم نبيذ البسر بحتا فسقط تعلقهم بهذا الخبر . ومنها : خبر رويناه من طريق ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه { فانتبذوا فيها - يعني في الظروف - فإن الظروف لا تحل شيئا ولا تحرم ولا تسكروا } وأن عمر قال له { يا رسول الله ما قولك : كل مسكر حرام ؟ قال : اشرب ، فإذا خفت فدع } . وخبر : من طريق أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ { اشربا ولا تسكرا } وكلاهما لا حجة لهم فيه . وأما خبر ابن عباس : فإنه من طريق المشمعل بن ملحان وهو مجهول عن النضر بن عبد الرحمن خزاز بصري يكنى أبا بكر - منكر الحديث ضعفه البخاري وغيره ، وقال فيه ابن معين : لا تحل الرواية عنه - ولو صح لم يكن لهم فيه حجة ، لأن فيه النهي عن السكر ويكون قوله { فإذا خفت فدع } أي إذا خفت أن يكون مسكرا - فسقط التعلق به . وأما خبر أبي موسى : فلا يصح لأنه من طريق شريك عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي ﷺ وشريك مدلس وضعيف فسقط . وقد رواه الثقات بخلاف هذا - : كما روينا من طريق عمر بن دينار ، وزيد بن أبي أنيسة ، وشعبة بن الحجاج ، كلهم عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ قال { : كل مسكر حرام ، كل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام ، أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة } فهذا هو الحق الثابت لا رواية كل ضعيف ، ومدلس ، وكذاب ، ومجهول . وخبر رويناه عن أبي بردة عن النبي ﷺ { اشربوا في الظروف ولا تسكروا } - وهذا لا يصح لأنه من رواية سماك بن حرب عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بردة وسماك يقبل التلقين شهد عليه بذلك شعبة ، وغيره . ثم لو صح لما كانت لهم فيه حجة لأنه إنما فيه النهي عن السكر وليس فيه مانع من تحريم ما يصح تحريمه مما لم يذكر في هذا الخبر . وقد صح تحريم كل ما أسكر كما ذكرنا من أصح طريق ولله الحمد . وخبر : من طريق سوار بن مصعب ، وسعيد بن عمارة ، قال سوار : عن عطية العوفي عن أبي سعيد ، وقال سعيد : عن الحارث بن النعمان عن أنس ، ثم اتفق أبو سعيد وأنس قالا عن النبي ﷺ : { حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب } وسوار مذكور بالكذب ، وعطية هالك ، والحارث ، وسعيد مجهولان لا يدرى من هما ثم لو صح لم تكن فيه حجة لأن رواية شعبة عن مسعر عن أبي عون عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس التي ذكرنا آنفا زائدة على هذه الرواية ، وزيادة العدل لا يجوز ردها . وخبر : روي فيه { أنه عليه السلام قال لعبد القيس اشربوا ما طاب لكم } رويناه من طريق ابن أبي شيبة عن ملازم بن عمرو عن عجيبة بن عبد الحميد عن عمه قيس بن طلق عن أبيه طلق بن علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وهذا لا حجة فيه لوجوه - : أولها : أنه من رواية عجيبة بن عبد الحميد وهو مجهول لا يدرى من هو - ثم لو صح لما كانت لهم فيه حجة لأن ما طاب لنا هو ما أحل لنا كما قال تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } فليس في شيء من هذا إباحة ما قد صح تحريمه . وخبر : رويناه من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ : أنه { نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء } وقال : { كل مسكر حرام } قالوا : فقد فرق عليه السلام بين الكوبة ، والغبيراء ، والخمر ، فليسا خمرا . قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه بل هو حجة عليهم لأنه من طريق الوليد بن عبدة وهو مجهول - وأما كونه حجة عليهم فإنه لو صح لكان عليه السلام قد ساوى بين كل ذلك في النهي والخمر وسائر الأشربة سواء في النهي عنها وهذا خلاف قولهم . وأيضا : فليس التفريق في بعض المواضع في الذكر دليلا على أنهما شيئان متغايران فقد قال تعالى : { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال } لم يكن هذا موجبا أنهما عليهما السلام ليسا من الملائكة . وهكذا إذا صح أن الخمر هي كل مسكر لم يكن ذكر الخمر والكوبة والغبيراء مانعا من أن تكون الكوبة والغبيراء خمرا - وقد صح { أن كل مسكر خمرا } وأيضا : ففي آخر هذا الحديث { كل مسكر حرام } وهذا خلاف قولهم - فما رأينا أقبح مجاهرة من احتجاجهم بما هو حجة عليهم ؟ وخبر : رويناه من طريق { ابن عمر أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بنبيذ فوجده شديدا فرده فقيل : أحرام هو ؟ قال : فاسترده ثم دعا بماء فصبه فيه مرتين ثم قال : إذا اغتلمت عليكم هذه الأوعية فاكسروا متونها بالماء } . ومن طريق ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله ، وفيه أنه عليه السلام قال : { إذا اشتد عليكم فاكسروه بالماء } ومثله من طريق أبي مسعود وكل هذا لا حجة لهم فيه ، بل هو حجة عليهم ، لأن خبر ابن عمر هو من طريق عبد الملك بن نافع وعبد الملك ابن أخي القعقاع كلاهما عن ابن عمر مسندا ، وكلاهما مجهول وضعيف سواء كانا اثنين أو كانا إنسانا واحدا ، ثم هو عنهما من طريق أسباط بن محمد القرشي ، وليث بن أبي سليم ، وقرة العجلي ، والعوام ؛ وكلهم ضعيف . وأما خبر ابن عباس : فهو من طريق يزيد بن أبي زياد عن عكرمة عن ابن عباس - ويزيد ضعيف ، وقد روينا عنه في الروايات السود خبرا موضوعا على النبي ﷺ ليس فيه أحد يتهم غيره - وقد ضعفه شعبة ، وأحمد ، ويحيى . وأما خبر أبي مسعود فهو من طريق يحيى بن يمان ، وعبد العزيز بن أبان وكلاهما متفق على ضعفه - ثم لو صحت لكانت أعظم حجة عليهم ، لأن فيها كلها أن النبي ﷺ مزجه بالماء ثم شربه - وهذا لا يخلو ضرورة من أحد وجهين - : إما أن لا يكون ذلك النبيذ مسكرا فهي كلها موافقة لقولنا . وإما أن يكون مسكرا كما يقولون ، فإن كان مسكرا فصب الماء على المسكر عندهم لا يخرجه عندهم عن التحريم إلى التحليل ، ولا ينقله عن حاله أصلا إن كان قبل صب الماء حراما فهو عندهم بعد صبه حرام . وإن كان قبل صبه حلالا فهو بعد صبه حلال ، وإن كان قبل صبه مكروها فهو بعد صبه مكروه ، فقد خالفوه كلها وجعلوا فعل النبي ﷺ الذي حققوه عليه باطلا عندهم ولغوا لا معنى له ، وهذا كما ترى . وإن كان صب الماء نقله عن أن يكون مسكرا إلى أن لا يكون مسكرا فلا متعلق لهم فيه حينئذ أصلا ، لأنه إذا لم يكن مسكرا فلا نخالفهم في أنه حلال - فعاد عليهم جملة . وخبر : من طريق أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : { اشربوا ما طاب لكم فإذا خبث فذروه } وهذا لا حجة لهم فيه بل هو حجة عليهم لأنه من طريق عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب - وكلاهما ساقط . ثم لو صح لكان حجة قاطعة عليهم ؛ لأن معنى " إذا خبث " إذا أسكر ، لا يحتمل غير هذا أصلا ، وإلا فليعرفونا ما معنى { إذا خبث فذروه } . وخبر : من طريق علي { عن النبي ﷺ : أنه أتي بمكة بنبيذ فذاقه فقطب ورده ؟ فقيل له : يا رسول الله هذا شراب أهل مكة ؟ قال : فرده فصب عليه الماء حتى رغا ، قال : حرمت الخمر بعينها ، والسكر من كل شراب } . وهذا لا حجة لهم فيه ، لأنه من طريق محمد بن الفرات الكوفي - وهو ضعيف باتفاق - مطرح - ثم عن الحارث - وهو كذاب . ومن طريق شعيب بن واقد وهو مجهول عن قيس بن قطن ولا يدرى من هو - ثم لو صح لكان حجة عليهم ، لأن الكلام فيه كالكلام فيه من طريق ابن عباس وقد ذكرناه . وخبر : من طريق سمرة { عن النبي ﷺ أنه أذن في النبيذ بعدما نهى عنه } - ولا حجة فيه لأنه من طريق المنذر أبي حسان - وهو ضعيف - ثم لو صح لكان معناه أذن في النبيذ في الظروف بعدما نهى عنه ، وهذا حق وليس فيه أنه عليه السلام نهى عن الخمر ، ثم أذن فيها - وقد صح أنه عليه السلام قال : { كل مسكر خمر } فبطل تعلقهم به - ولله الحمد . وخبر : عن ابن عباس { أن رسول الله ﷺ قال : كل مسكر حرام فقال له رجل : إن هذا الشراب إذا أكثرنا منه سكرنا ؟ قال : ليس كذلك إذا شرب تسعة فلم يسكر لا بأس وإذا شرب العاشر فسكر فذلك حرام } وهذا لا حجة لهم فيه لأنه فضيحة الدهر موضوع بلا شك - : رواه أبو بكر بن عياش : ضعيف - عن الكلبي : كذاب مشهور - عن أبي صالح : هالك . وخبر : فيه النهي عن النبيذ في الجرار الملونة والأمر بأن ينبذ في السقاء فإذا خشي فليسجه بالماء - فهذا من طريق أبان وهو الرقاشي ، وهو ضعيف - ثم لو صح لما كانت لهم فيه حجة ، بل هو حجة عليهم ، لأن فيه إذا خشي فليسجه بالماء ، ومعناه إذا خشي أن يسكر بإجماعهم معنا - لا يحتمل غير هذا أصلا ، فإذا سج بالماء بطل إسكاره - وهذا لا نخالفهم فيه وليس فيه أن بعد إسكاره يسج إنما فيه " إذا خشي " وهذا بلا شك قبل أن يسكر . وخبر مرسل : من طريق سعيد بن المسيب أن النبي ﷺ قال : { الخمر من العنب ، والسكر من التمر ، والمزر من الحنطة ، والبتع من العسل ، وكل مسكر حرام ، والمكر والخديعة في النار ، والبيع عن تراض } ، وهذا لا شيء ، لأنه لا حجة في مرسل - ثم هو أيضا من طريق إبراهيم بن أبي يحيى وهو مذكور بالكذب ، ثم لو صح لكان حجة عليهم لأن فيه { كل مسكر حرام } وهو خلاف قولهم وليس في قوله { إن الخمر من العنب } مانع من أن تكون من غير العنب أيضا إذا صح بذلك نص . وقد صح قوله عليه السلام { كل مسكر خمر } فسقط تعلقهم به . وخبر : من طريق سفيان الثوري عن علي بن بذيمة عن قيس بن حبتر النهشلي عن ابن عباس { أن النبي ﷺ نهى عن الدباء والمزفت ، وأمر بأن ينبذ في الأسقية ، قالوا : فإن اشتد في الأسقية يا رسول الله قال : فصبوا عليه الماء ، وقال لهم في الثالثة أو الرابعة : أهريقوه فإن الله حرم الخمر ، والميسر ، والكوبة ، وكل مسكر حرام } ، فهذا من طريق قيس بن حبتر - وهو مجهول ثم لو صح لكان أعظم حجة لنا عليهم ، لأنه مخالف كله لقولهم ، موافق لقولنا في الأمر بهرقه ، وقوله { وكل مسكر حرام } كفاية لمن كان له مسكة عقل فاعجبوا لقوم يحتجون بما هو نص مخالف لقولهم إن الحياء ههنا لعدم ؟ وخبر من طريق أبي القموص زيد بن علي عن رجل من عبد القيس - نحسب أن اسمه قيس بن النعمان أن النبي ﷺ قال : { اشربوا في الجلد الموكى عليه فإن اشتد فاكسروه بالماء فإن أعياكم فأهريقوه } أبو القموص مجهول - ثم لو صح لكان حجة قاطعة موافقة لقولنا مفسدة لقولهم بما فيه من الأمر بهرقه إن لم يقدر على إبطال شدته بالماء .
وخبر : من طريق سعيد بن منصور نا إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية - حدثني الجريري سعيد بن إياس عن أبي العلاء بن الشخير قال : انتهى أمر الأشربة أن رسول الله ﷺ قال : { اشربوا ما لا يسفه أحلامكم ولا يذهب أموالكم } وهذا مرسل ثم لو انسند لكان حجة لنا ، لأنه نهى عن النوع الذي من طبعه أن يسفه الحلم ، ويذهب المال ، لا يحتمل غير ذلك أصلا ؛ إذ ليس شيء منه ينفرد بذلك دون سائره . وخبر : من طريق علقمة { سألت ابن مسعود عن قول النبي ﷺ في المسكر ؟ قال : الشربة الآخرة } وهذا لا حجة لهم فيه ؛ لأنه من طريق الحجاج بن أرطاة - وهو هالك - روينا عنه أنه كان لا يصلي مع المسلمين في المسجد فقيل له في ذلك ؟ فقال : أكره مزاحمة البقالين ، لا ينبل الإنسان حتى يدع الصلاة في الجماعة - وأنه أنكر السلام على المساكين ، وقال : علي مثل هؤلاء لا يسلم - : وهذه جرح ظاهرة ؛ ثم الأظهر فيه أن قوله " الشربة الآخرة " من قول ابن مسعود تأويل منه - وهو أيضا فاسد من التأويل لما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى . وخبر مرسل : من طريق مجاهد فيه { أنه عليه السلام شرب من نبيذ سقاية زمزم فشد وجهه ، ثم صب عليه الماء مرة بعد مرة ، ثم شرب منه } - وهذا لا شيء ؛ لأنه عن ابن جريج عمن لم يسمه عن مجاهد فهو مقطوع ومرسل معا - ثم هو مخالف لقولهم كما ذكرنا من أن صب الماء لا ينقله عندهم من تحليل إلى تحريم ولا من تحريم إلى تحليل ولا له عندهم فيه معنى ، فإن نقله إلى أن لا يسكر فهو قولنا في أنه حلال إذا لم يسكر . هذا كل ما موهوا به عن النبي ﷺ قد تقصيناه بأجمعه وبينا أنه لا حجة لهم في شيء منه ، وأن أكثر ما أوردوا حجة عليهم لنا . وذكروا عن الصحابة رضي الله عنهم آثارا - : منها : عن أبي عوانة عن سماك بن حرب عن قرصافة - امرأة منهم - عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت : اشربوا ولا تسكروا - وسماك ضعيف ، وقرصافة مجهولة - ثم لو صح لما كان فيه إباحة ما أسكر . وروينا من طريق إسرائيل بن يونس عن سماك بن حرب عن قرصافة عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت لها : اشربي ولا تشربي مسكرا - فسماك عن قرصافة مرة [ قال ] لنا عليهم ، ومرة لا لنا ولا لهم ؟ ومن طريق سمية عن عائشة أم المؤمنين قالت : إن خشيت من نبيذك فاكسره بالماء - ولا حجة لهم في هذا لأنه إذا خشي إسكاره كسره بالماء ، والثابت عن أم المؤمنين تحريم كل ما أسكر كثيره ، وعن سعيد بن ذي حدان أو ابن ذي لعوة : أن رجلا شرب من سطيحة لعمر بن الخطاب فسكر ، فأتي به عمر ، فقال : إنما شربت من سطيحتك ؟ فقال له عمر : إنما أضربك على السكر ، ابن ذي حدان أو ابن ذي لعوة مجهولان . ومن طريق أبي إسحاق السبيعي عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول : إنا نشرب من هذا النبيذ شرابا يقطع لحوم الإبل ، قال عمرو بن ميمون : وشربت من شرابه فكان كأشد النبيذ - وفي بعض طرقه " إنا لنشرب هذا الشراب الشديد لنقطع به لحوم الإبل في بطوننا أن تؤذينا فمن رابه من شرابه شيء فليمزجه بالماء " وهذا خبر صحيح ولا حجة لهم فيه ، لأن النبيذ الحلو اللفيف الشديد للفته الذي لا يسكر يقطع لحوم الإبل في الجوف ، ليس في هذا الخبر : أن عمر شرب من ذلك الشراب الذي شرب منه عمرو بن ميمون ، فإذ ليس فيه ذلك ، فلا متعلق لهم بهذا الخبر أصلا ؟ ومنها : خبر من طريق حفص بن غياث نا الأعمش نا إبراهيم هو النخعي - عن همام بن الحارث أن عمر أتي بشراب من زبيب الطائف فقطب وقال : إن نبيذ الطائف له عرام ثم ذكر شدة لا أحفظها ثم دعا بماء فصبه فيه ثم شرب - وهذا خبر صحيح ، إلا أنه لا حجة لهم فيه لأنه ليس فيه : أن ذلك النبيذ كان مسكرا ، ولا أنه كان قد اشتد وإنما فيه إخبار عمر بأن نبيذ الطائف له عرام وشدة وأنه كسر هذا بالماء ثم شربه ، فالأظهر فيه أن عمر خشي أن يعرم ويشتد فتعجل كسره بالماء - وهذا موافق لقولنا لا لقولهم أصلا . ولا يصح لهم مما ذكرنا إلا هذان الخبران فقط . وخبر : رويناه من طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم حدثني عقبة بن فرقد قال : قدمت على عمر فأتي بنبيذ قد كاد يصير خلا ، فقال لي : اشرب ؟ قال : فما كدت أن أسيغه ثم أخذه عمر ، ثم قال لي : إنا نشرب هذا النبيذ الشديد ليقطع لحوم الإبل في بطوننا أن تؤذينا قال أبو محمد : ما بلغ مقاربة الخل فليس مسكرا . ومن طريق سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد الأنصاري سمع سعيد بن المسيب يقول : إن ثقيفا تلقت عمر بشراب فلما قربه إلى فيه كرهه ، ثم كسره بالماء ، وقال : هكذا فافعلوا - وهذا مرسل . وخبر : من طريق ابن جريج عن إسماعيل أن رجلا عب في نبيذ لعمر فسكر فلما أفاق حده ، ثم أوجع النبيذ بالماء فشرب منه - وهذا مرسل . وخبر : من طريق ابن أبي مليكة حدثني وهب بن الأسود قال : أخذنا زبيبا فأكثرنا منه في أداوانا وأقللنا الماء فلم نلق عمر حتى عدا طوره فأخبرناه أنه قد عدا طوره وأريناه إياه فذاقه فوجده شديدا فكسره بالماء ، ثم شرب - وهب بن الأسود لا يدرى من هو . وخبر : من طريق معمر عن الزهري أن عمر أتي بسطيحة فيها نبيذ قد اشتد بعض الشدة فذاقه ، ثم قال : بخ بخ اكسره بالماء - وهذا مرسل . وخبر : من طريق سعيد بن منصور نا إسماعيل هو ابن علية - عن خالد الحذاء عن أبي المعدل أن ابن عمر قال له : إن عمر ينبذ له في خمس عشرة قائمة ؟ فجاء فذاقه فقال : إنكم أقللتم عكره - أبو المعدل مجهول . ومن طريق ابن أبي شيبة عن عبيدة بن حميد عن أبي مسكين عن هذيل بن شرحبيل أن عمر استسقى أهل الطائف من نبيذهم فسقوه ، فقال لهم : يا معشر ثقيف إنكم تشربون من هذا الشراب الشديد فأيكم رابه من شرابه شيء فليكسره بالماء ؟ وهذا لو صح حجة ظاهرة لنا لأنه ليس فيه : أنه شرب مسكرا ، بل فيه النهي عن الشراب الشديد المريب ، والأمر بأن يغير بالماء عن حاله تلك حتى يفارق الشدة والإرابة - ليس لهم عن عمر إلا هذا - وكل هذا لا حجة لهم فيه لما ذكرنا قبل من أن كسر النبيذ بالماء لا ينقله عندهم من تحريم إلى تحليل ، وأنه عندهم قبل كسره بالماء وبعده سواء وأنه إن كان الماء يخرجه عن الإسكار فهو حينئذ عندنا حلال ، فلو صحت لكان ما فيها موافقا لقولنا - وقد صح عن عمر تحريم قليل ما أسكر كثيره على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى . وخبر : من طريق علي أن رجلا شرب من إداواته فسكر فجلده علي الحد - وهذا لا يصح لأنه عن شريك - وهو مدلس ضعيف - عن فراس عن الشعبي عن علي - والشعبي لم يسمع عليا . ثم لو صح لكان لا حجة لهم فيه لأنه ليس فيه أن عليا شرب من تلك الإداوة بعد ما أسكر ما فيها - فلا متعلق لهم به . وخبر : من طريق هشيم عن مجالد عن الشعبي أن رجلا سكر من طلاء فضربه علي الحد فقال له الرجل : إنما شربت ما أحللتم ؟ فقال له علي : إنما ضربتك لأنك سكرت - وهذا منقطع - ومجالد ضعيف جدا . وخبر : عن أبي هريرة أنه قال : إذا أطعمك أخوك المسلم طعاما فكل وإذا سقاك شرابا فاشرب فإن رابك فأسججه بالماء ، وهذا خبر صحيح عنه رويناه من طريق سفيان بن عيينة عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة ، ولا حجة لهم فيه لأنه ليس فيه إباحة نبيذ المسكر لا بنص ولا بدليل . ولا إباحة ما حرم الله من المأكل كالخنزير وغيره ، ولا إباحة الخمر وإنما فيه أن لا تفتش على أخيك المسلم وأن يسج النبيذ إذا خيف أن يسكر بالماء وهم لا يقولون بهذا - وهو موافق لقولنا إذا كان الماء يحيله عن الشدة إلى إبطالها - وقد صح عن أبي هريرة تحريم المسكر جملة . وخبر : من طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن إسماعيل بن خالد عن عثمان بن قيس أنه خرج مع جرير بن عبد الله البجلي إلى حمام له بالعاقول فأكلوا معه ثم أوتوا بعسل وطلاء فقال : اشربوا العسل أنتم : وشرب هو الطلاء ، وقال : إنه يستنكر منكم ولا يستنكر مني قال : وكانت رائحته توجد من هنالك ، وأشار إلى أقصى الحلقة عثمان بن قيس مجهول . وخبر : من طريق ابن مسعود قال : " إن القوم يجلسون على الشراب ، وهو لهم حلال فما يقومون حتى يحرم عليهم ، وهذا لا حجة لهم فيه ، لأنه عن سعيد بن مسروق عن شماس بن لبيد عن رجل عن ابن مسعود - شماس ولبيد مجهولان ، ورجل أجهل وأجهل . ثم لو صح لما كان فيه دليل على قولهم ، ويقال لهم : ما معناه إلا أنهم يقعدون عليه قبل أن يغلي ، وهو حلال فلا يقومون حتى يأخذ في الغليان فيحرم - فهذه دعوى كدعوى بل هذه أصح من دعواهم لأن قولهم : إن الشراب لا يحرم أصلا ، وإنما يحرم المسكر وليس في الحديث إلا أن الشراب نفسه يحرم - فصح تأويلنا وبطل تأويلهم . وخبر : من طريق أبي وائل كنا ندخل على ابن مسعود فيسقينا نبيذا شديدا - وهذا لا يصح لأنه من طريق أبي بكر بن عياش وهو ضعيف . وخبر : عن ابن مسعود رويناه من طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن علقمة قال : أكلت مع ابن مسعود فأتينا بنبيذ شديد نبذته سيرين في جرة خضراء فشربوا منه سيرين هي أم أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود - وهذا خبر صحيح وليس في شيء مما أوردوا لقولهم وفاق إلا هذا الخبر وحده إلا أنه يسقط تعلقهم به بثلاثة وجوه - : أحدها : أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله ﷺ . والثاني : أنه قد صح عن ابن مسعود تحريم كل ما قل أو كثر مما يسكر كثيره ، وعن غيره من الصحابة أيضا فإذا اختلف قوله وخالفه غيره من الصحابة رضي الله عنهم فليس بعضهم أولى من بعض ، وهذا تنازع يجب به ما أوجبه الله تعالى من الرد عند التنازع إلى القرآن ، والسنة . والثالث : أنه قد يحتمل أن يكون قول علقمة نبيذا شديدا أي خاثرا لفيفا حلوا - فهذا ممكن أيضا . وخبر : عن عيسى بن أبي ليلى أنه مضى إلى أنس فأبصر عنده طلاء شديدا - وهذا لا حجة لهم فيه لأنه عن ابن أبي ليلى - وهو سيئ الحفظ - عن أخيه عيسى ، ويمكن أن يكون أراد بقوله " شديدا " أي خاثرا لفيفا ، وهذه صفة الرب المطبوخ الذي لا يسكر . وروى بعضهم عن الحسن بن علي أنه أباح المسكر ، ما لم يسكر منه ، ولا يصح هذا عن الحسن أصلا ، لأنه من رواية سماك وهو يقبل التلقين كما قلنا عن رجل لم يسمه - ولا يعرف من هو - عن الحسن بن علي اشرب فإذا رهبت أن تسكر فدعه . ثم لو صح لكان ظاهره اشرب الشراب ما لم يسكر فإذا رهبت أن تشربه فتسكر منه فدعه - هكذا رويناه من طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن الحسن بن صالح عن سماك بن حرب عن رجل أنه سأل الحسن بن علي عن النبيذ ؟ فقال : اشرب فإذا رهبت أن تسكر فدعه . وخبر : عن ابن عمر من طريق عبد الملك بن نافع قال : سألت ابن عمر عن نبيذ في سقاء لو نكهته لأخذ مني ؟ فقال : إنما البغي على من أراد البغي ثم ذكر الحديث الذي صدرنا به عن النبي ﷺ من صبه الماء على النبيذ - وعبد الملك بن نافع قد قدمنا أنه مجهول لا يدرى من هو . وأيضا فليس في هذا اللفظ إباحة لشرب المسكر . ومن طريق ابن أبي شيبة عن مروان بن معاوية عن النضر بن مطرف عن قاسم بن عبد الرحمن عن أبيه قال : كان عبد الله بن مسعود ينبذ له في جر ويجعل له فيه عكر - وهذا باطل ، لأن النضر مجهول ، ثم هو منقطع . وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى من طريق أبي فروة أنه شرب معه نبيذ جر فيه دردي . وعن أبي وائل مثله - وعن النخعي ، والشعبي ، وعن الحسن : أنه كان يجعل في نبيذه عكر ، وقد خالف هؤلاء : ابن سيرين ، وابن المسيب - وصح عن هؤلاء المنع من العكر - وقال ابن المسيب هو : خمر . وأخبار صحاح عن ابن عمر - : منها : ما رويناه من طريق البخاري نا الحسن بن الصباح نا محمد بن سابق نا مالك بن مغول عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء . وآخر : من طريق عبد الرزاق عن عقيل عن معقل أن همام بن منبه أخبره أن ابن عمر قال له : أما الخمر فحرام لا سبيل إليها ، وأما ما سواها من الأشربة فكل مسكر حرام . ومن طريق عبد الرزاق نا معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : شرب أخي عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب وشرب معه أبو سروعة بن عقبة بن الحارث بمصر في خلافة عمر فسكرا فلما أصبحا انطلقا إلى عمرو بن العاص أمير مصر فقالا له : طهرنا فإنا قد سكرنا من شراب شربناه ، فجلدهما عمرو بن العاص ، قالوا : فهذا عبد الله قد فرق بين الخمر وبين سائر الأشربة المسكرة فلم يجعلها خمرا ، وهذا أخوه عبد الرحمن - وله صحبة - وأبو سروعة - وله صحبة - وعمرو بن العاص رأوا الحد في السكر من شراب شرباه ، وصح عن ابن عباس ما قدمنا قبل : حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والمسكر من كل شراب . ففرقوا كلهم بين الخمر وبين سائر الأشربة المسكرة فلم يروها خمرا ، وراموا بهذا أن يثبتوا أن الخمر ليست إلا من العنب فقط ؟ قال أبو محمد : وكل هذا عليهم لا لهم ، لأن ابن عمر ، وابن عباس قد أثبتا أن كل مسكر حرام - وهذا خلاف قولهم - وليس في خبر عبد الرحمن ، وأبي سروعة ، وعمرو بن العاص شيء يمكن أن يتعلقوا به . وقد يمكن أن يكونا شربا عصير عنب ظنا أنه لا يسكر فسكرا - وليس فيه شيء يدفع هذا ، فلم يبق لهم متعلق إلا أن يقولوا : إن الخمر هي عصير العنب فقط وما سواها فليس خمرا - فهذا مكان لا منفعة لهم فيه لو صح لهم إذا ثبت تحريم كل مسكر قل أو كثر ، وفي هذا نازعناهم لا في التسمية فقط ، فإذ لم يبق إلا هذا فقط فنحن نوجدهم عن الصحابة رضي الله عنهم أن كل مسكر خمر ، نعم ، وعن ابن عمر نفسه بأصح من هذه الرواية من طريق ثابتة أن الخمر من غير العنب أيضا - : كما روينا من طريق ابن أبي شيبة عن محمد بن بشر نا عبد العزيز هو الدراوردي - حدثني نافع عن ابن عمر قال : نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة خمسة أشربة كلها يدعونها الخمر ما فيها خمر العنب ؛ فهذا بيان خبرهم بما يبطل تعلقهم به ، فإذا أوجدناهم هذا فقد صح التنازع ، ووجب الرد للقرآن والسنة كما افترض الله تعالى علينا إن كنا مؤمنين . وقالوا أيضا : قد صح عن إبراهيم النخعي تحريم السكر وعصير العنب إذا أسكر وإباحة كل ما أسكر من الأنبذة .
ومن طريق ابن أبي شيبة عن محمد بن فضيل عن يزيد بن أبي زياد قال : رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى يشرب نبيذ الجر بعد أن يسكن غليانه - يزيد بن أبي زياد ضعيف . ومن طريق ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن الأعمش عن الحكم عن شريح أنه كان يشرب الطلاء الشديد - وهذا يخرج على أنه لفيف جدا - فلو كانت حراما ما خفي ذلك على من سلف ؟ قال أبو محمد : وهذا في غاية الفساد ؛ لأنهم يقولون بوضع الأيدي على الركب في الصلاة ، وقد خفي ذلك على ابن مسعود [ أبدا ] . ويقولون : بأن يتيمم الجنب إذا لم يجد الماء ، وقد خفي ذلك على عمر بن الخطاب ، وابن مسعود . وقد خفي على الأنصار قول النبي ﷺ { الأئمة من قريش } حتى ذكروا به - والأمر هنا يتسع ، وليس كل صاحب يحيط بجميع السنن . وقالوا أيضا : قد صح الإجماع على تكفير من لم يقل بتحريم الخمر ، ولا يكفر من لم يحرم ما سواها من الأنبذة المسكرة ؟ قال أبو محمد : وهذا لا شيء لأنه لو وجدنا إنسانا غاب عنه تحريم الخمر فلم يبلغه لما كفرناه في إحلالها حتى يبلغ إليه الأمر ، فحينئذ إن أصر على استحلال مخالفة رسول الله ﷺ كفر ، لا قبل ذلك . وكذلك مستحل النبيذ المسكر وكل ما صح عن النبي ﷺ تحريمه لا يكفر من جهل ذلك ولم تقم عليه الحجة به - فإذا ثبت ذلك عنده ، وصح لديه أن رسول الله ﷺ حرم ذلك فأصر على استحلال مخالفة النبي ﷺ فهو كافر ولا بد ، ولا يكفر جاهل أبدا حتى يبلغه الحكم من النبي ﷺ فإذا بلغه وثبت عنده فحينئذ يكفر إن اعتقد مخالفته عليه السلام ، ويفسق إن عمل بخلافه غير معتقد لجواز ذلك . قال الله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال تعالى : { لأنذركم به ومن بلغ } . قال أبو محمد : فسقط كل ما شغب به أهل هذه المقالة ، وأيضا : فإنه ليس في شيء مما أوردوا كله أوله عن آخره ولا لفظة واحدة موافقة لقولهم : أن الخمر المحرمة ليست إلا عصير العنب فقط دون نقيع الزبيب ، وكذلك أيضا ليس في شيء منه ولا كلمة واحدة موافقة لقول من قال : إن الخمر المحرمة ليست إلا نقيع الزبيب الذي لم يطبخ ، وعصير العنب إذا أسكر . فصح أنهما قولان فاسدان مبتدعان خارجان عن كل أثر ثبت أو لم يثبت وبالله تعالى التوفيق . والقول الخامس : هو الذي روي عن أبي حنيفة عن طريق محمد بن رستم عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة - وهو الذي ينصره المتأخرون من مقلديه - على أن ذلك التفسير لا يحفظ عن أبي حنيفة وإنما هو من آرائهم الخبيثة - والمحفوظ عن أبي حنيفة هو ما ذكره محمد بن الحسن في الجامع الصغير في كلامه في العتق الذي بين كلامه في الكراهة وكلامه في الرهن قال محمد : أنا يعقوب عن أبي حنيفة قال : الخمر قليلها وكثيرها حرام في كتاب الله ، والسكر عندنا حرام مكروه ونقيع الزبيب عندنا إذا اشتد وغلى عندنا حرام مكروه - والطلاء ما زاد على ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه فهو مكروه ، وما سوى ذلك من الأشربة فلا بأس به - وكان يكره دردي الخمر أن يشرب وأن تمتشط به المرأة ولا يحد من شربه إلا أن يسكر فإن سكر حد . هذا نص كلامهم هنالك ، ودردي الخمر هو العكر الذي يعقد منها في قاع الدن . وهو خمر بلا شك ، فاعجبوا لهذا الهوس وأما رواية محمد بن رستم عن محمد بن الحسن فإنما هي - : قال محمد : قال أبو حنيفة : الأنبذة كلها حلال إلا أربعة أشياء : الخمر ، والمطبوخ إذا لم يذهب ثلثاه وبقي ثلثه ، ونقيع التمر فإنه السكر ، ونقيع الزبيب . ولا خلاف عن أبي حنيفة في أن نقيع الدوشات عنده حلال وإن أسكر ، وكذلك نقيع الرب وإن أسكر - : والدوشات من التمر ، والرب من العنب . وقال أبو يوسف : كل شراب من الأنبذة يزداد جودة على الترك فهو مكروه وإلا أجيز بيعه ووقته عشرة أيام ، فإذا بقي أكثر من عشرة أيام فهو مكروه ، فإن كان في عشرة أيام فأقل فلا بأس ، به - وهو قول محمد بن الحسن . هذا كلامهم في الأصل الكبير ، ثم رجع أبو يوسف إلى قول أبي حنيفة ؛ . وقال محمد بن الحسن : ما أسكر كثيره مما عدا الخمر أكرهه ولا أحرمه . فإن صلى إنسان وفي ثوبه منه أكثر من قدر الدرهم البغلي بطلت صلاته وأعادها أبدا فاعجبوا لهذه السخافات لئن كان تعاد منه الصلاة أبدا فهو نجس ، فكيف يبيح شرب النجس ؟ ولئن كان حلالا فلم تعاد الصلاة من الحلال ؟ ونعوذ بالله من الخذلان . قال أبو محمد : فأول فساد هذه الأقوال أنها كلها أقوال ليس في القرآن شيء يوافقها ولا في شيء من السنن ، ولا في شيء من الروايات الضعيفة ، ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا صحيح ولا غير صحيح ، ولا عن أحد من التابعين ، ولا عن أحد من خلق الله تعالى قبل أبي حنيفة ، ولا أحد قبل أبي يوسف في تحديده عشرة الأيام فيا لعظيم مصيبة هؤلاء القوم في أنفسهم إذ يشرعون الشرائع في الإيجاب والتحريم والتحليل من ذوات أنفسهم ثم بأسخف قول وأبعده عن المعقول ؟ قال علي : وبقي مما موه به مقلدو أبي حنيفة أشياء نوردها إن شاء الله تعالى ونذكر بعون الله تعالى فسادها ، ثم نعقب بالسنن الثابتة في هذه المسألة عن النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم . قال علي : قالوا : قال الله تعالى : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا } . وقال تعالى : { كلوا واشربوا } . فاقتضى هذا إباحة كل مأكول ومشروب فلا يحرم بعد هذا إلا ما أجمع عليه أو جاء من مجيء التواتر ، لأنه زائد على ما في القرآن . قال أبو محمد : من هنا بدءوا بالتناقض وما خالفناهم قط لا نحن ولا أحد من المسلمين في أنه لم يحرم الخمر ، ولا الخنزير ، ولا الميتة حتى نزل تحريم كل ذلك ، فلما نزل التحريم حرم ما نزل تحريمه وهم أول من حرم نبيذ ثمر النخيل بخبر من أخبار الآحاد غير مجمع عليه ولا منقول نقل التواتر . ثم قالوا : صح عن النبي ﷺ قال : { الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة } فالخمر لا تكون إلا منهما هذا كل ما موهوا به ، ولا حجة لهم فيه بل هو حجة عليهم قاطعة . وهذا خبر رويناه من طرق كلها ترجع إلى الأوزاعي ، ويحيى بن أبي كثير قالا جميعا : نا أبو كثير أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله ﷺ { الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة } . أبو كثير اسمه يزيد بن عبد الرحمن . قال علي : فافترقوا في خلافه على وجهين - : فأما الطحاوي فإنه قال : ليس ذكره عليه السلام النخلة مع العنبة بموجب أن يكون الخمر من النخلة بل الخمر من العنبة فقط قال : وهذا مثل قول الله تعالى : { مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } . قال : فإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من أحدهما - : قال : ومثل قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } قال : وإنما الرسل من الإنس لا من الجن . قال أبو محمد : صدق الله وكذب الطحاوي ، وكذب من أخبره بما ذكر بل اللؤلؤ والمرجان خارجان من البحرين اللذين بينهما البرزخ فلا يبغيان ، ولقد جاءت الجن رسل منهم بيقين ، لأنهم بنص القرآن متعبدون موعودون بالجنة والنار . وقد صح ما روينا من طريق مسلم بن الحجاج نا قتيبة نا إسماعيل هو ابن جعفر - عن العلاء هو ابن عبد الرحمن - عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { فضلت على الأنبياء بست } فذكر منها { وأرسلت إلى الخلق كافة } . ومن طريق البخاري نا محمد بن سنان العوفي نا هشيم أنا سيار نا يزيد هو ابن صهيب الفقير أنا جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : { أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي } فذكر فيها { وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة } .
ومن طريق الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن ثابت البناني وحميد كليهما عن أنس أن رسول الله ﷺ قال : { أعطيت أربعا لم يعطها نبي قبلي ، أرسلت إلى كل أحمر وأسود } وذكر باقي الخبر . فصح بنقل التواتر أن رسول الله ﷺ بعث وحده إلى الجن والإنس وأنه لم يبعث نبي قبله قط إلا إلى قومه خاصة . وقال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } . وقال تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } . فصح يقينا أنهم مذ خلقوا مأمورون بعبادة الله تعالى . وصح بما ذكرنا من السنن القاطعة أنه لم يبعث إليهم نبي من الإنس قبل محمد عليه السلام ، والجن ليسوا قوم أحد من الإنس . فصح يقينا أنهم بعث إليهم أنبياء منهم ، وبطل تخليط الطحاوي بالباطل الذي رام به دفع الحق . وقال أيضا : وهذا من حديث عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ أنه قال : { بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوا في معروف ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه } قال : وإنما الكفارة والعفو فيما دون الشرك لا في الشرك ، وقد ذكر مع سائر ذلك . قال أبو محمد : وهذا جهل منه شديد لأن الكفارات في القرآن ، والسنن تنقسم أربعة أقسام - : أحدها : كفارة عبادة بغير ذنب أصلا قال تعالى : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } . وقد يكون الحنث أفضل من التمادي على اليمين وقال رسول الله ﷺ : { إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت } أو كما قال عليه السلام ، فقد نص عليه السلام [ على ] أن الحنث وفيه الكفارة قد يكون خيرا من الوفاء باليمين . والثاني : كفارة بلا ذنب باق لكن لذنب قد تقدم غفران الله تعالى له كالحد يقام على التائب من الزنى . والثالث : كفارة لذنب لم يتب منه صاحبه فترفعه الكفارة كحد الزاني والسارق اللذين لم يتوبا . والرابع : كفارة على ذنب لم يتب منه صاحبه ولا رفعته الكفارة ولا حطته كالعائد إلى قتل الصيد في الحرم عمدا مرة بعد مرة - قال تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه } . فهذه نقمة متوعد بها مع وجوب الكفارة عليه ، فالكفارة المذكورة في حديث عبادة على عمومها إما مسقطة للذنب وعقوبته في الآخرة في الزنى والقتل ، والبهتان المفترى ، والمعصية في المعروف ، وإما غير مسقطة للذنب ، وعقوبته في الآخرة ، وهي قتل المشرك على شركه . وأما قوله عليه السلام : { ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه } فليت شعري كيف خفي عليه أن هذا على عمومه ؟ وأن الملائكة والرسل ، والأنبياء ، والصالحين ، والفساق والكفار ، وإبليس ، وفرعون ، وأبا جهل ، وأبا لهب ، كلهم في مشيئة الله تعالى يفعل فيهم ما يشاء من عقوبة أو عفو ، إلا أنه تعالى قد بين أنه يعاقب الكفار ولا بد ، وإبليس ، وأبا لهب ، وأبا جهل ، وفرعون ، ولا بد - ويرضى عن الملائكة والرسل ، والأنبياء ، والصالحين ، ولا بد ، وكلهم في المشيئة ولا يخرج شيء من ذلك عن مشيئة الله تعالى ، من عاقبه الله تعالى فقد شاء أن يعاقبه ، ومن أدخله الجنة فقد شاء أن يدخله الجنة . أما علم الجاهل أن الله تعالى لو شاء أن يعذب الملائكة ، والرسل ، وينعم الكفار لما منعه من ذلك مانع ، لكنه تعالى لم يشأ ذلك . أما سمع قوله تعالى { يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } وقوله تعالى : { إن الله يغفر الذنوب جميعا } ثم استثنى الشرك جملة أبدية ، ومن رجحت كبائره وسيئاته حتى يخرجوا بالشفاعة . أما عقل أن قوله عليه السلام : { إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه } ليس فيه إيجاب لأحدهما ولا بد ، وأن ذلك مردود إلى سائر النصوص . فهل في الضلال أشنع ممن جعل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم { الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة } على غير الحقيقة ؟ بل على التدليس في الدين وإلا فأي وجه لأن يريد أن يبين علينا ما حرم علينا من أن الخمر من العنب فقط فيقحم في ذلك النخلة ، وهي لا تكون الخمر منها ؟ هل هذا إلا فعل الفساق والملغزين في الدين ، العابثين في كلامهم ؟ فسحقا فسحقا لكل هوى يحمل على أن ينسب إلى رسول الله ﷺ مثل مما يترفع عنه كل مجد لا يرضى بالكذب ، وسيردون ونرد ، ويعلمون ونعلم ، والله لتطولن الندامة على مثل هذه العظائم - والحمد لله على هداه لنا كثيرا { وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } . وهل بين ما حمل عليه الطحاوي قوله عليه السلام { الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة } من أنه إنما أراد العنبة فقط لا النخلة فذكر النخلة ؟ لا ندري لماذا فرق بينه وبين قول فاسق يقول : الكذب من هذين الرجلين محمد ومسيلمة ؟ فتأملوا ما حمله عليه الطحاوي ، وهذا القول تجدوه سواء سواء فتحكم الطحاوي بالباطل في هذا الخبر كما ترون وتحكم أصحابه فيه أيضا بباطلين آخرين - : أحدهما : أنهم قالوا : ليس الخمر من غيرهما ، وليس هذا في الخبر أصلا ؛ لأن النبي ﷺ لم يقل : ليس الخمر إلا من هاتين الشجرتين ، إنما قال { الخمر من هاتين الشجرتين } فأوجب أن الخمر منهما ، ولم يمنع أن تكون الخمر أيضا من غيرهما إن ورد بذلك نص صحيح ، بل قد جاء نص بذلك - : كما روينا من طريق أبي داود نا مالك بن عبد الواحد المسمعي نا المعتمر هو ابن سليمان - [ قال ] قرأت على الفضيل بن ميسرة عن أبي حريز قال : إن الشعبي حدثه أن النعمان بن بشير حدثه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : { إن الخمر من العصير ، والزبيب ، والتمر ، والحنطة ، والشعير ، والذرة ، وإني أنهاكم عن كل مسكر } - : أبو حريز هو عبد الله بن الحسين - قاضي سجستان روى عن عكرمة ، والشعبي ، وروى عنه الفضل بن ميسرة وغيره . فهذا نص كنصهم وزائد عليه ما لا يحل تركه . وقد صح عنه عليه السلام أنه قال : { كل مسكر خمر } . والثاني : أنهم قالوا : ليس ما طبخ من عصير العنب ونبيذ ثمر النخل إذا ذهب ثلثاه خمرا وإن أسكر ، فتحكموا في الخبر الذي أوهموا أنهم تعلقوا به تحكما ظاهر الفساد بلا برهان ، وبطل تعلقهم به إذ خالفوا ما فيه بغير نص آخر ، وخرج عن أن يكون لهم في شيء من جميع ذلك متعلق أو من الناس سلف - وبالله تعالى التوفيق . وموهوا في إباحة ما طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه من عصير العنب أسكر بعد ذلك أو لم يسكر بروايات - : منها : ما روينا من طرق ثابتة إلى إبراهيم عن سويد بن غفلة قال : كتب عمر إلى عماله أن يرزقوا الناس الطلاء ذهب ثلثاه وبقي ثلثه . وأخرى من طريق الشعبي عن حيان الأسدي أنه رأى عمارا قد شرب من العصير ما طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه وسقاه من حوله . ومن طريق قتادة أن أبا عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل ، كانا يشربان الطلاء ما طبخ حتى ذهب ثلثاه . وعن أبي الدرداء ، وأبي موسى مثل ذلك . وعن علي : أنه كان يرزق الناس طلاء يقع فيه الذباب فلا يستطيع أن يخرج منه . وعن جماعة من التابعين مثل هذا . واحتجوا في هذا بخبر عن ابن سيرين في مقاسمة نوح عليه السلام إبليس الزرجون : لإبليس الثلثان ، ولنوح الثلث . ومن طريق أنس بن مالك مثل هذا . قال أبو محمد : لم يدرك أنس ، ولا ابن سيرين نوحا بلا شك ، ولا ندري ممن سمعاه ، ولو سمعه أنس من النبي ﷺ ما استحل كتمان اسمه - فسقط الاحتجاج بهذا . ولو صح هذا لكان متى أهرق من العصير ثلثاه حل باقيه فلا فرق بين ذهاب ثلثيه بالطبخ وبين ذهابهما بالهرق وإنما المراعى السكر فقط كما حد النبي ﷺ . قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه - : أول ذلك : أنه لا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ ولا يحد الحدود في الديانة بالتحليل والتحريم أحد سواه . والثاني : أنه قد جاء عن طائفة من الصحابة غير هذا كما روينا من طريق ابن أبي شيبة : نا محمد بن فضيل ، وعبد الرحيم بن سليمان ، ووكيع ، ويحيى بن يمان ، قال ابن فضيل : عن حبيب بن أبي عمرة عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب ، وقال عبد الرحيم : عن عبيدة عن خيثمة عن أنس بن مالك ، قال يحيى بن يمان : عن أشعث عن جعفر بن أبزى ، وقال وكيع : عن طلحة بن جبر ، وجرير بن أيوب قال طلحة : رأيت أبا جحيفة السوائي ، وقال جرير : عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير أن جرير بن عبد الله البجلي ثم اتفق عن البراء ، وأبي جحيفة ، وجرير بن عبد الله وابن أبزى أنهم كانوا يشربون الطلاء على النصف . وبه إلى ابن أبي شيبة عن ابن فضيل ، ووكيع ، وعبد الرحيم بن سليمان قال ابن فضيل : عن دينار الأعرج عن سعيد بن جبير : أنه شرب الطلاء على النصف . وقال ابن فضيل أيضا : عن الأعمش عن يحيى أنه شرب الطلاء على النصف وقال وكيع عن الأعمش عن منذر الثوري عن ابن الحنفية : أنه كان يشرب الطلاء على النصف . وقال الأعمش عن الحكم : إن شريحا كان يشرب الطلاء على النصف . وقال الأعمش : وكان إبراهيم يشربه على النصف . وصح أيضا عن قيس بن أبي حازم - وروى عن الشعبي ، وأبي عبيدة ؛ فالعجب لقلة حياء هؤلاء القوم ما الذي جعل قول بعض الصحابة أولى من قول بعض ؟ والثالث : قد خالفوا عمر ، وعليا - : روينا من طريق قتادة أن عمر قال : لأن أشرب قمقما محمى أحرق ما أحرق وأبقى ما أبقى أحب إلي من أن أشرب نبيذ الجر . فإن قالوا : لم يدرك قتادة عمر ؟ قلنا : ولا أدرك معاذا ، ولا أبا عبيدة . ومن طريق سعيد بن منصور نا المعتمر بن سليمان التيمي عن أبيه أن أبا إسحاق السبيعي قال : إن عليا لما بلغه في نبيذ شربه أنه نبيذ جر تقيأه . الرابع : أنه ليس في شيء مما ذكرنا أنه كان مسكرا بل قد صح أنه لم يكن مسكرا كما ذكرنا في خبر علي أن الذباب كان يقع فيه فلا يستطيع الخروج منه . ورويناه من طريق حصين عن ابن أبي ليلى عن الشعبي : أن عمر كتب إلى عمار بن ياسر أني أتيت بشراب قد طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه فذهب منه شيطانه وريح جنونه وبقي طيبه وحلاله فمر المسلمين قبلك فليتوسعوا به في شرابهم ، فبطل تعلقهم بشيء من ذلك ، والعجب أنهم يحتجون في إبطال تحريم النبي ﷺ التمر ، والزبيب مخلوطين في النبيذ بأن قالوا : لو شرب هذا ثم هذا أكان يحرم ذلك عليه ؟ فلا فرق بين خلطهما قبل شربهما وبين خلطهما في جوفه ؟ فقلنا : لا يحل أن يعارض الله تعالى ولا النبي ﷺ بمثل هذا ، لكن تعارضون أنتم في بدعتكم هذه المضلة بأن نقول لكم : أرأيتم العصير إذا أسكر قبل أن يطبخ ، ثم طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه أيحل عندكم ؟ فمن قولهم : لا ، فنقول لهم : فما الفرق بين طبخه بعد أن يسكر وبين طبخه قبل أن يسكر ، والسكر حاصل فيه في كلا الوجهين ؟ فإذا أبطل الطبخ تحريمه إذا أسكر بعده كذلك يبطل تحريمه إذا أسكر قبله وهذا أصح في المعارضة . والوجه الثالث : أنه قد صح عن عمر وغير عمر أنهم لم يراعوا ثلثين ولا ثلثا - : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن أسلم مولى عمر قال : قدمنا الجابية مع عمر فأتينا بالطلاء وهو مثل عقد الرب إنما يخاض بالمخوض خوضا فقال عمر بن الخطاب : إن في هذا لشرابا ما انتهى إليه . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا سويد بن نصر أنا عبد الله هو ابن المبارك - عن ابن جريج قراءة أخبرني عطاء قال : سمعت ابن عباس يقول : والله ما تحل النار شيئا ولا تحرمه قال : ثم فسر لي قوله : لا تحل النار شيئا لقولهم في الطلاء ولا تحرمه . قال أبو محمد : وهذا هو الحق الذي لا يصح عن أحد من الصحابة سواه - وصح عن طاوس أنه سئل عن الطلاء ؟ فقال : أرأيت الذي مثل العسل تأكله بالخبز وتصب عليه الماء فتشربه ؟ عليك به ، ولا تقرب ما دونه ولا تشتره ، ولا تسقه ، ولا تبعه ، ولا تستعن بثمنه - فإنما راعى عمر ، وعلي ، وابن عباس ما لا يسكر فأحلوه ، وما يسكر فحرموه . وقد صح عندنا أن بجبال رية أعنابا إذا طبخ عصيرها فنقص منه الربع صار ربا خائرا لا يسكر بعدها كالعسل فهذا حلال بلا شك . وشاهدنا بالجزائر أعنابا رملية تطبخ حتى تذهب ثلاثة أرباعها وهي بعد خمر مسكرة كما كانت فهذا حرام بلا شك - وبالله تعالى التوفيق . فإذ قد بطلت هذه الأقوال كلها بالبراهين التي أوردنا وخرج قول أبي حنيفة وأصحابه عن أن يكون لهم متعلق بشيء من النصوص ولا برواية سقيمة ، لا في مسند ، ولا في مرسل ، ولا عن صاحب ، ولا عن تابع ، ولا كان لهم سلف من الأمة يعرف أصلا قبلهم فلنأت بعون الله تعالى بالبراهين على صحة قولنا في ذلك - : روينا من طريق مالك ، وسفيان بن عيينة كلاهما عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله ﷺ قال { : كل شراب أسكر فهو حرام } هذا لفظ سفيان - ولفظ مالك { سئل عن البتع ؟ فقال : كل شراب أسكر فهو حرام } . ومن طريق عبد الله بن المبارك عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين قالت { سئل رسول الله ﷺ عن البتع ؟ فقال : كل شراب أسكر فهو حرام } والبتع من العسل فلو لم يكن إلا هذا الخبر في صحة إسناده وقد نص عليه السلام إذ سئل عن شراب العسل أنه إذا أسكر حرام ، وهذا خلاف قول هؤلاء المحرومين إن شراب العسل المسكر حلال والسكر منه حلال - نعوذ بالله العظيم من مثل ضلالهم .
ومن طريق يحيى بن سعيد القطان ، وأبي داود الطيالسي ، قال يحيى : عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة . وقال أبو داود عن شعبة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى الأشعري ، ثم اتفق أبو هريرة ، وأبو موسى الأشعري ، كلاهما عن النبي ﷺ أنه قال : { كل مسكر حرام } . ومن طريق وكيع عن شعبة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى الأشعري قال { بعثني النبي ﷺ أنا ومعاذ بن جبل إلى اليمن فقلت : يا رسول الله إن شرابا يصنع بأرضنا يقال له : المزر من الشعير ، وشرابا يقال له : البتع من العسل ؟ فقال : كل مسكر حرام } . وهكذا رواه أيضا خالد عن عاصم بن كليب عن أبي بردة ، وعمرو بن دينار عن سعيد بن أبي بردة عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي ﷺ . ومن طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله ﷺ { وإياكم وكل مسكر } . ومن طريق عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عمر : { خطب رسول الله ﷺ فقال له رجل : يا رسول الله أرأيت المزر ؟ قال : وما المزر ؟ قال : حبة تصنع باليمن ؟ قال : تسكر ؟ قال : نعم ، قال : كل مسكر حرام } . ومن طريق أيوب السختياني وموسى بن عقبة ، وابن عجلان كلهم عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال : { كل مسكر خمر وكل مسكر حرام } . ورواه عن أيوب حماد بن زيد . ورواه عن حماد عبد الرحمن بن مهدي ، ويونس بن محمد ، وأبو الربيع العتكي ، وأبو كامل . ورواه عن موسى بن عقبة ابن جريج . ورواه عن هؤلاء من شئت . ومن طريق محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني هو أبو الخير - { عن ديلم هو ابن الهوشع الحميري - قال : قلت يا رسول الله إنا بأرض باردة نعالج فيها عملا شديدا وإنا نتخذ من هذا القمح شرابا نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا ، فقال : هل يسكر ؟ قلت : نعم ، قال : فاجتنبوه قلت : فإن الناس عندنا غير تاركيه ، قال : فإن لم يتركوه قاتلوهم } .
ومن طريق أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار عن علي بن الحسين الدرهمي نا أنس بن عياض هو ابن ضمرة - نا موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال قال رسول الله ﷺ { ما أسكر كثيره فقليله حرام } . ومن طريق قاسم بن أصبغ نا إسحاق بن الحسن الحربي نا زكريا بن عدي نا الوليد بن كثير بن سنان المزني حدثني الضحاك بن عثمان عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن رسول الله ﷺ قال : { أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره } . ومن طريق أبي داود السجستاني ، وعبد الله بن محمد بن عبد العزيز هو ابن بنت منيع البغوي قال أبو داود : نا قتيبة ، وقال عبد الله : نا أحمد بن حنبل نا سليمان بن داود الهاشمي ، ثم اتفق قتيبة ، وسليمان ، وقالا جميعا : نا إسماعيل هو ابن جعفر - نا داود بن بكر هو ابن أبي الفرات - نا محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله ﷺ { ما أسكر كثيره فقليله حرام } . وروينا أيضا من طريق القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين عن النبي ﷺ فهذه الآثار المتظاهرة الثابتة الصحاح المتواترة عن أم المؤمنين ، وأبي هريرة ، وأبي موسى ، وابن عمر ، وسعد بن أبي وقاص ، وجابر بن عبد الله ، والنعمان بن بشير ، والديلم بن الهوشع كلهم عن النبي ﷺ بما لا يحتمل التأويل ولا يقدر فيه على حيلة ، بل بالنص على تحريم الشراب نفسه إذا أسكر وتحريم شراب العسل ، وشراب الشعير ، وشراب القمح إذا أسكر ، وشراب الذرة إذا أسكر ، وتحريم القليل من كل ما أسكر كثيره بخلاف ما يقول من خذله الله تعالى وحرمه التوفيق . وقد روينا أيضا من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ النهي عن قليل ما أسكر كثيره وهم يوثقونها إذا وافقت أهواءهم وجلح بعضهم بعدم الحياء في بعض هذه الآثار وهو قوله عليه السلام : { كل مسكر حرام } فقال : إنما عنى الكأس الأخير الذي يسكر منه . قال أبو محمد : وهذا في غاية الفساد من وجوه - : أحدها : أنه دعوى كاذبة بلا دليل وافتراء على رسول الله ﷺ بالباطل ، وتقويل له ما لم يقله عن نفسه ، ولا أخبر به عن مراده ، وهذا يوجب النار لفاعله . وثانيها : أنهم لا يقولون بذلك في شراب العسل ، والحنطة ، والشعير ، والتفاح ، والإجاص والكمثرى ، والقراسيا ، والرمان ، والدخن ، وسائر الأشربة ، إنما يقولونه في مطبوخ التمر ، والزبيب ، والعصير فقط ، فلاح خلافهم للنبي ﷺ جهارا . والثالث : أنه تأويل أحمق وتخريج سخيف ، قد نزه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يريده ، بل قد نزه الله تعالى كل ذي مسكة عقل عن أن يقوله لأننا نسألهم أي ذلك هو المحرم عندكم ؟ الكأس الآخرة أم الجرعة الآخرة ، أم آخر نقطة تلج حلقه ؟ فإن قالوا : الكأس الآخرة ؟ قلنا لهم : قد يكون من أوقية ، وقد يكون من أربعة أرطال ، وأكثر ، فما بين ذلك ، وقد لا يكون هنالك كأس ، بل يضع الشريب فاه في الكوز فلا يقلعه عن فمه حتى يسكر فظهر بطلان قولهم في الكأس . فإن قالوا : الجرعة الآخرة ؟ قلنا : والجرع تتفاضل فتكون منها الصغيرة جدا ، وتكون منها ملء الحلق ، فأي ذلك هو الحرام ، وأيه هو الحلال ؟ فظهر فساد قولهم في الجرعة أيضا . فإن قالوا : آخر نقطة ؟ قلنا : النقط تتفاضل فمنها كبير ، ومنها صغير حتى نردهم إلى مقدار الصوابة ، ويحصلوا في نصاب من يسخر بهم ويتطايب بأخبارهم ، فإن لم يحدوا في ذلك حدا كانوا قد نسبوا إلى الله تعالى أنه حرم علينا مقدارا ما فصله عما أحل وذلك المقدار لا يعرفه أحد ، وهذا تكليف ما لا يطاق ، وتحريم ما لا يمكن أن يدرى ما هو وحاشا لله من هذا . فإن قالوا : أنتم تحرمون الإكثار المهلك أو المؤذي من الطعام أو الشراب فحدوه لنا ؟ قلنا : نعم ، وهو ما زاد على الشبع والري المحسوسين بالطبيعة اللذين يميزهما كل أحد من نفسه حتى الطفل الرضيع والبهيمة ، فإن كل ذي عقل إذا بلغ شبعه قطع إلا القاصد إلى أذى نفسه واتباع شهوته فكيف والأحاديث التي ذكرنا لا تحتمل ألبتة هذا التأويل الفاسد ؟ لأن قول رسول الله ﷺ { كل شراب أسكر حرام } إشارة إلى عين الشراب قبل أن يشرب لا إلى آخر شيء منه وأيضا فإن الكأس الأخير المسكرة عندهم ليست هي التي أسكرت الشارب بالضرورة يدرى هذا ، بل هي وكل ما شرب قبلها وقد يشرب الإنسان فلا يسكر ، فإن خرج إلى الريح حدث له السكر ، وكذلك إن حرك رأسه حركة قوية ، فأي أجزاء شرابه هو الحرام حينئذ ؟ - وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : ونقول لهم إذا قلتم : إن الكأس الأخيرة هي المسكرة فأخبرونا متى صارت حراما مسكرة ؟ أقبل شربه لها ، أم بعد شربه لها ، أم في حال شربه لها ؟ ولا سبيل إلى قسم رابع . فإن قالوا : بعد أن شربها ؟ قلنا : هذا باطل لأنها إذا لم تحرم إلا بعد شربه لها فقد كانت حلالا حين شربه لها وقبل شربه لها ، ومن الباطل المحال الذي لا يقوله مسلم أن يكون شيء حلالا شربه ، فإذا صار في بطنه صار حراما شربه - هذا كلام أحمق وسخف وهذر لا يعقل . فإن قالوا : بل صارت حراما حين شربه لها ؟ قلنا : إنها لا حظ لها في إسكاره إلا بعد شربه لها ، وأما في حين شربه لها فليست مسكرة إلا بمعنى أنها ستسكره ، وهذا المعنى موجود فيها وهي في دنها فلا فرق بينها في حين شربه لها وبينها قبل ذلك أصلا . فإن قالوا : بل قبل أن يشربها ؟ قلنا : فقولوا بتحريم الإناء الذي كانت فيه ، وبتنجيسه ، وبتحريم كل ما كان فيه من الشرب ، وبتنجيسه لأنه قد خالطه حرام نجس عندكم وهم لا يقولون بهذا . فظهر فساد قولهم من كل وجه وبالله تعالى التوفيق . وهو قول السلف كما روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان نا يحيى بن سعيد التيمي حدثني أبي عن مريم بنت طارق أنها سمعت عائشة أم المؤمنين تقول لنساء عندها : ما أسكر إحداكن فلتجتنبه - وإن كان ماء حبها [ محلها ] فإن كل مسكر حرام . ومن طريق عبد الله بن المبارك عن علي بن المبارك حدثتني كريمة بنت همام أنها سمعت أم المؤمنين عائشة تقول : نهيتم عن الدباء ، نهيتم عن الحنتم ، نهيتم عن المزفت [ ثم أقبلت على النساء فقالت ] إياكن والجر الأخضر وإن أسكركن ماء حبكن فلا تشربنه . ومن طريق سعيد بن منصور نا عبد الحميد بن أبي هلال الجرمي قال : سمعت أم طلحة تقول : سمعت عائشة أم المؤمنين وقد سئلت عن النبيذ ؟ فقالت : إياكم وما يسكركم . ومن طريق عبد الله بن المبارك عن قدامة العامري أن جسرة بنت دجاجة العامرية حدثته أنها سمعت عائشة أم المؤمنين تقول : لا أحل مسكرا وإن كان خبزا وماء . نا يوسف بن عبد الله النمري نا عبد الرحمن بن مروان القنازعي - ثقة مشهور - نا أحمد بن عمرو بن سليمان البغدادي نا عبد الله بن محمد البغوي نا أحمد بن حنبل ، وجدي أحمد بن منيع ، قالا جميعا : نا عبد الله بن إدريس الأودي قال : سمعت المختار بن فلفل قال : قال أنس بن مالك : الخمر من العنب ، والتمر ، والعسل ، والحنطة ، والشعير ، والذرة ، فما تخمرت من ذلك فهو الخمر . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن السائب بن يزيد قال شهدت عمر بن الخطاب صلى جنازة ، ثم أقبل علينا فقال : إني وجدت من عبيد الله ريح شراب وإني سألته عنها ؟ فزعم أنها الطلاء وإني سائل عن الشراب الذي شرب ؟ فإن كان مسكرا جلدته ؟ قال : فشهدته بعد ذلك يجلده . فهذه أصح طريق في الدنيا عن عمر أنه رأى الحد واجبا على من شرب شرابا يسكر كثيره لأن عبيد الله لم يكن سكر مما شرب ، لأنه سأله فراجعه ولم ير عليه سكرا ؟ وإنما حده على شربه ، مما يسكر فقط ، نعم ، ومن الطلاء الذي يحلونه كما تسمع . نا يوسف بن عبد الله النمري نا عبد الرحمن بن مروان القنازعي ، نا أحمد بن عمرو بن سليمان البغدادي نا عبد الله بن محمد البغوي هو ابن بنت منيع - نا أحمد بن حنبل نا إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية - نا أبو حيان هو يحيى بن سعيد التيمي - نا الشعبي عن عبد الله بن عمر قال : سمعت عمر يخطب على منبر رسول الله ﷺ : يا أيها الناس إنه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة من العنب ، والتمر ، والعسل ، والحنطة ، والشعير - والخمر ما خامر العقل " .
ورويناه أيضا من طريق شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن ابن عمر عن عمر - ورويناه أيضا من طريق أبي كريب محمد بن العلاء عن عبد الله بن إدريس الأودي عن زكريا هو ابن أبي زائدة - عن الشعبي عن ابن عمر عن عمر . ومن طريق أحمد بن شعيب أخبرني أبو بكر بن علي هو المقدمي - نا القواريري هو عبيد الله بن عمر - نا المعتمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني عن ابن مسعود قال : أحدث الناس أشربة لا أدري ما هي ؟ فما لي شراب منذ عشرين سنة أو قال : عددا آخر إلا السويق والماء - غير أنه لم يذكر النبيذ . ومن طريق سعيد بن منصور نا المعتمر بن سليمان التيمي عن أبيه محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني عن ابن مسعود قال : أحدث الناس أشربة لا أدري ما هي ؟ وما لي شراب منذ عشرين سنة إلا الماء والعسل واللبن ؟ ومن طريق البخاري ، وأحمد بن شعيب ، قال البخاري : نا محمد بن كثير ، وقال ابن شعيب : أنا قتيبة بن سعيد ، ثم اتفق ابن كثير وقتيبة عن سفيان بن عيينة عن أبي الجويرية الجرمي قال : سألت ابن عباس عن الباذق ؟ فقال : سبق محمد الباذق ، ما أسكر فهو حرام - أبو الجويرية سمع ابن عباس ، ومعن بن يزيد - وروى عنه أبو عوانة ، وسفيان . ومن طريق إسحاق بن راهويه نا أبو عامر هو العقدي - والنضر بن شميل ، ووهب بن جرير بن حازم ، قالوا كلهم : نا شعبة عن سلمة بن كهيل ، قال : سمعت أبا الحكم يقول : قال ابن عباس من سره أن يحرم ما حرم الله ورسوله فليحرم النبيذ . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا سويد بن نصر أنا عبد الله هو ابن المبارك - عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه أن ابن عباس قال لرجل سأله : اجتنب ما أسكر من تمر أو زبيب أو غيره . وبه إلى عبد الله بن المبارك عن سليمان التيمي عن محمد بن سيرين قال : المسكر قليله وكثيره حرام . ومن طريق مالك عن نافع عن ابن عمر كل مسكر خمر وكل مسكر حرام . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا قتيبة أنا أبو عوانة عن زيد بن جبير قال : سألت ابن عمر عن الأشربة ؟ فقال : اجتنب كل شيء ينش . ومن طريق سعيد بن منصور نا إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية - عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين أنه سمع عبد الله بن عمر قد قال له رجل : آخذ التمر فأجعله في فخار واجعله في التنور ؟ فقال له ابن عمر : لا أدري ما تقول آخذ التمر فأجعله في فخار ثم أجعله في تنور ، لا تشرب الخمر ، ثم قال ابن عمر : يتخذ أهل أرض كذا من كذا خمرا يسمونها كذا ، ويتخذ أهل كذا من كذا خمرا يسمونها كذا ، ويتخذ أهل أرض كذا من كذا خمرا يسمونها كذا - وذكر كلاما حتى عد خمسة أشربة ، قال ابن سيرين لا أحفظ منها إلا العسل ، والشعير ، واللبن . قال أيوب : فكنت أهاب أن أحدث الناس باللبن حتى حدثني رجل أنه يصنع بأرمينية من اللبن شرابا لا يلبث صاحبه . وهكذا رواه حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عن ابن عمر ، وابن المبارك عن عبد الله بن عون عن ابن سيرين عن ابن عمر - فهذا ابن عمر لا يرى لطبخه معنى . وقد رويناه من طريق إسرائيل عن أبي حصين عن الشعبي عن ابن عمر : الخمر من خمسة : من التمر ، والحنطة ، والشعير ، والعسل ، والعنب . ومن طريق عبد الرزاق نا معمر عن ثابت البناني ، وقتادة ، كلاهما عن أنس بن مالك قال : لما حرمت الخمر قال أنس : إني لأسقي أحد عشر رجلا فأمروني فكفأتها وكفأ الناس آنيتهم حتى كادت السكك أن تمتنع - قال أنس : وما خمرهم إلا البسر ، والتمر مخلوطين . قال أبو محمد : سمى منهم أنس في أحاديث صحاح تركنا ذكرها اختصارا أبا طلحة ، وأبا أيوب ، وأبا دجانة ، وأبا عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل ، وسهيل بن بيضاء ، وأبي بن كعب - فهذا الإجماع المتيقن أن تكون حرمت الخمر فيهرق الصحابة رضي الله عنهم كل شراب عندهم من تمر أو بسر . فصح أنه عند جميعهم خمر ولم يخصوا نيئا من مطبوخ بخلاف أقوال هؤلاء المحرومين من التوفيق ؛ ولو عندهم قليله لما أهرقوه ، لأنه قد صح النهي عن إضاعة المال . قال أبو محمد : وقال الطحطاوي ههنا قولا لا ندري كيف انطلق به لسانه ؟ وهو أنه قال : إنما أهرقوه خوف أن يزيدوا منه فيسكروا . قال علي : وهذا هو الكذب البحت عليهم كلهم ، وليت شعري من أخبره بهذا عنهم ؟ وهل يحل أن يخبر عن أحد بالظن ؟ وروينا عن شعبة بن الحجاج عن يحيى بن عبيد هو ابن أبي عمر البهراني قال : سمعت ابن عباس يقول : كان رسول الله ﷺ ينتبذ له أول الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك والليلة التي تجيء والغد والليلة الأخرى والغد إلى العصر ؛ فإن بقي شيء سقاه لخادم أو أمر به فصب . وهكذا رويناه من طريق ابن أبي شيبة ، وأبي كريب عن أبي معاوية الضرير عن الأعمش عن يحيى بن عبيد البهراني ؛ فلو كان حلالا كما يدعي الطحاوي أو كان الطبخ يحله كما يزعم سائر أصحابه ما أهرقه رسول الله ﷺ وقد نهى عن إضاعة المال وأمره باعثه عز وجل أن يقول : { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } . ومن طريق سعيد بن منصور نا نوح بن قيس نا محمد بن نافع أن أنس بن مالك قاله له في البسر : خلصه من الرطب ثم انبذه ثم اشربه قبل أن يتسفه . روينا قبل عن علي أنه تقيأ نبيذا شربه إذ علم أنه نبيذ جر . وقد روينا هذا نفسه عن طاوس - يعني تحريم كل قليل أو كثير من أي شيء أسكر . وعن عطاء ، ومجاهد ، قالوا كلهم : قليل ما أسكر كثيره حرام - . وهو قول أبي العلاء بن الشخير - وعبيدة السلماني ، ومحمد بن سيرين ، والقاسم بن محمد . وروى سليمان بن حرب عن جرير بن حازم سمعت ابن سيرين يقول لبعض من خالفه في النبيذ : أنا أدركت أصحاب ابن مسعود وأنت لم تدركهم كانوا لا يقولون في النبيذ كما تقولون . ومن طريق أحمد بن شعيب نا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - أنا جرير بن عبد الحميد عن ابن شبرمة قال : رحم الله إبراهيم شدد الناس في النبيذ ورخص هو فيه . ومن طريق أحمد بن شعيب نا أبو قدامة عبيد الله بن سعيد السرخسي - ثقة مأمون - عن أبي أسامة هو حماد بن أسامة - قال : سمعت عبد الله بن المبارك يقول : ما وجدت الرخصة في المسكر صحيحا عن أحد إلا عن إبراهيم . روينا من طريق ابن أبي شيبة عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال : لا خير في النبيذ إذا كان حلوا . قال أبو محمد : وقد روينا عن إبراهيم خلاف هذا كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا أبو عوانة . وخالد بن عبد الله هو الطحان - كلاهما عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي أنه كره المخمر من النبيذ . ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا المغيرة عن إبراهيم قال : كانوا يكرهون المعتق من نبيذ التمر والمعتق من نبيذ الزبيب . وروينا عنه إباحة ما طبخ حتى ذهب نصفه وبقي نصفه - فهذا إبراهيم قد خذلهم ، ولقد روى عمن بعده الترخيص فيه عن الأعمش ، وشريك ، ووكيع ، وبقي بن مخلد - وأما مثل قول أبي حنيفة وأصحابه فلا . قال أبو محمد : وقولنا هو قول مالك ؛ والأوزاعي ، والليث ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي سليمان ، وأصحابهم - واختلف فيه عن سفيان الثوري . قال أبو محمد : وقد رووا عن النبي ﷺ الكذب وما لا حجة لهم فيه ولا يوافق قولهم - وروينا عنه الصحيح المتواتر الذي هو نص قولنا ؛ . ورووا عن عمر ، وعلي ، وابن عمر ، وعائشة ، وابن مسعود ، وأنس : الكذب ، وما لا يوافق قولهم . وروينا عنهم الصحيح ، ونص قولنا - والحمد لله رب العالمين .
1100 - مسألة : وحد الإسكار الذي يحرم به الشراب وينتقل به من التحليل إلى التحريم هو أن يبدأ فيه الغليان ولو بحبابة واحدة فأكثر ، ويتولد من شربه والإكثار منه على المرء في الأغلب أن يدخل الفساد في تمييزه ، ويخلط في كلامه بما يعقل وبما لا يعقل ، ولا يجري كلامه على نظام كلام التمييز ، فإذا بلغ المرء من الناس من الإكثار من الشراب إلى هذه الحال فذلك الشراب مسكر حرام ، سكر منه كل من شربه سواء أسكر أو لم يسكر ، طبخ أو لم يطبخ ، ذهب بالطبخ أكثره أو لم يذهب ، وذلك المرء سكران ، وإذا بطلت هذه الصفة من الشراب بعد أن كانت فيه موجودة فصار لا يسكر أحد من الناس من الإكثار منه ، فهو حلال ، خل لا خمر . برهان ذلك - : قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } فسمى الله تعالى من لا يدري ما يقول سكران ، وإن كان قد يفهم بعض الأمر . ألا ترى أنه قد يقوم إلى الصلاة في تلك الحال فنهاه الله تعالى عن ذلك والمجنون مثله سواء سواء قد يفهم المجنون في حال تخليطه كثيرا ولا يخرجه ذلك عن أن يسمى مجنونا في اللغة وأحكام الشريعة . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا سوار بن عبد الله بن سوار بن عبد الله هو العنبري - نا عبد الوهاب بن عبد المجيد هو الثقفي - عن هشام هو ابن حسان - عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ { انتبذ في سقائك وأوكه واشربه حلوا } قال أبو محمد : وهذا قولنا ؛ لأنه إذا بدأ يغلي حدث في طعمه تغيير عن الحلاوة ، وهو قول جماعة من السلف . كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا إسماعيل بن إبراهيم نا هشام هو الدستوائي عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي ليس بشرب العصير وبيعه بأس حتى يغلي . ومن طريق ابن المبارك عن هشام بن عائذ الأسدي قال : سألت إبراهيم النخعي عن العصير ؟ فقال : اشربه ما لم يتغير . ومن طريق ابن المبارك عن عبد الملك عن عطاء في العصير قال : اشربه حتى يغلي ومن طريق سعيد بن منصور نا إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية أخبرني محمد بن إسحاق عن يزيد بن قسيط قال سعيد بن المسيب : ليس بشراب العصير بأس ما لم يزبد فإذا أزبد فاجتنبوه - وهو قول أبي يوسف . ورويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا سويد بن نصير نا عبد الله بن المبارك عن أبي يعفور السلمي عن أبي ثابت الثعلبي أنه سمع ابن عباس يقول في العصير : اشربه ما دام طريا . وقد اختلف الناس في هذا فقال أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن في العصير هكذا ، وفي ما عدا العصير إذا تجاوز عشرة أيام فهو حرام - وهذا حد في غاية الفساد ، لا يعضده قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قياس ، ولا رأي سديد ، ولا قول أحد نعلمه قبلهما . وقالت طائفة - : كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا سويد بن عبد العزيز الدمشقي نا ثابت بن عجلان عن سليم بن عامر قال : سمعت عمار بن ياسر يقول : اشرب العصير ثلاثة أيام ما لم يغل . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبد الله بن مرة عن ابن عمر : اشربوا العصير ما لم يأخذه شيطانه ، قال : ومتى يأخذه شيطانه ؟ قال : بعد ثلاث ، أو قال : في ثلاث . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أنا عبد الرحمن بن مينا أنه سمع القاسم بن محمد يقول : نهى أن يشرب النبيذ بعد ثلاث . ومن طريق سعيد بن منصور نا إسماعيل بن إبراهيم نا داود بن أبي هند عن الشعبي قال : لا بأس بشرب الخمر ما لم يغل - يعني العصير . وحدت طائفة ذلك بيوم واحد . كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن رجل عن سعيد بن جبير كان يقول : إذا فضخته نهارا فأمسى فلا تقربه ، وإذا فضخته ليلا فأصبح ، فلا تقربه قال أبو محمد : احتج من حد ذلك بثلاث : بالخبر الذي روينا من طريق الأعمش عن ابن أبي عمر هو يحيى البهراني عن ابن عباس قال : { كان رسول الله ﷺ ينقع له الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة فإذا أمسى أمر به أن يهراق أو يسقى } . واحتج من حد ذلك بيوم واحد . رويناه من طريق أبي داود نا عيسى بن محمد أبو عمير الرملي نا ضمرة عن السيباني { عن عبد الله بن الديلمي عن أبيه أنهم سألوا النبي ﷺ عن أعنابهم فقال : زببوها . قلنا : ما نصنع بالزبيب ؟ قال : انبذوه على غدائكم واشربوه على عشائكم وانبذوه على عشائكم واشربوه على غدائكم وانبذوه في الشنان ولا تنبذوه في القلل فإنه إذا تأخر عن عصيره صار خلا } . هذا السيباني بالسين غير منقوطة هو يحيى بن أبي عمرو - ومن طريق أبي داود نا محمد بن المثنى نا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري عن أمه عائشة أم المؤمنين قالت : { كان ينبذ لرسول الله ﷺ في سقاء يوكأ أعلاه وله عزلاء ينبذ غدوة فيشربه عشاء ، وينبذ عشاء فيشربه غدوة } . قال أبو محمد : هذا الخبر ، وخبر ابن عباس صحيحان ، وليسا حدا فيما يحرم من ذلك ؛ لأنهما مختلفان ، وليس أحدهما بأولى من الآخر ، إنما هذا على قدر البلاد والآنية فتجد بلادا باردة لا يستحيل فيها ماء الزبيب إلى ابتداء الحلاوة إلا بعد جمعة أو أكثر ، وآنية غير ضارية كذلك ، وتجد بلادا حارة وآنية ضارية يتم فيها النبيذ من يومه ، والحكم في ذلك لقوله عليه السلام الذي ذكرنا : { واشربه حلوا وكل ما أسكر حرام } فقط . وقال أبو حنيفة : إذا غلى وقذف بالزبد فهو حينئذ حرام - وهذا قول بلا دليل - وقال آخرون : إذا انتهى غليانه وابتدأ بأن يقل غليانه فحينئذ يحرم . وقال آخرون إذن إذا سكن غليانه فحينئذ يحرم - وهذا كله قول بلا برهان . وأما حد سكر الإنسان فإننا روينا من طريق أحمد بن صالح أنه سئل عن السكران ؟ فقال : أنا آخذ فيه بما رواه ابن جريج عن عمرو بن دينار عن يعلى بن منبه عن أبيه سألت عمر بن الخطاب عن حد السكران ؟ فقال : هو الذي إذا استقرئ سورة لم يقرأها ، وإذا خلطت ثوبه مع ثياب لم يخرجه . قال أبو محمد : وهو نحو قولنا في أن لا يدري ما يقول ، ولا يراعي تمييز ثوبه ، وقال أبو حنيفة ليس سكران إلا حتى لا يميز الأرض من السماء ، وأباح كل سكر دون هذا - فاعجبوا يرحمنا الله وإياكم ؟
1101 - مسألة : فإن نبذ تمر ، أو رطب ، أو زهو ، أو بسر ، أو زبيب مع نوع منها أو نوع من غيرها ، أو خلط نبيذ أحد الأصناف بنبيذ صنف منها ، أو بنبيذ صنف من غيرها ، أو بمائع غيرها حاشا الماء حرم شربه أسكر أو لم يسكر ، ونبيذ كل صنف منها على انفراده حلال ، فإن مزج نوع من غير هذه الخمسة مع نوع آخر من غيرها أيضا أو نبذا معا ، أو خلط عصير بنبيذ فكله حلال : كالبلح وعصير العنب ، ونبيذ التين ، والعسل ، والقمح ، والشعير ، وغير ما ذكرنا لا تحاش شيئا - : لما روينا من طريق مسلم حدثني أبو بكر بن إسحاق نا عفان بن مسلم نا أبان بن يزيد بن العطار عن يحيى بن أبي كثير نا عبد الله بن أبي قتادة ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف كلاهما عن أبي قتادة : { أن نبي الله ﷺ نهى عن خليط التمر والبسر ، وعن خليط الزبيب والتمر ، وعن خليط الزهو والرطب ، وقال : انتبذوا كل واحد على حدته } قال أبو محمد : وروينا من طريق جابر بن عبد الله ، وأبي سعيد الخدري ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وعائشة أم المؤمنين عن النبي ﷺ في هذا أيضا آثارا متواترة متظاهرة في غاية الصحة يجمع كل ما فيها حديث أبي قتادة المذكور . وبه يقول جمهور السلف . كما روينا من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال : نهى أن ينتبذ التمر والزبيب جميعا ، والبسر والرطب جميعا ، ومن طريق معمر عن قتادة قال : كان أنس إذا أراد أن ينبذ يقطع من الثمرة ما نضج منها فيضعه وحده وينبذ التمر وحده والبسر وحده . ومن طريق ابن أبي شيبة عن أبي أسامة عن حاتم بن أبي صغيرة عن أبي مصعب المدني قال : سمعت أبا هريرة يقول : لما حرمت الخمر كانوا يأخذون البسر فيقطعون منه كل مذنب ثم يأخذ البسر فيفضخه ثم يشربه . ومن طريق ابن أبي شيبة عن أشعث عن ثابت بن عبيد قال : كان أبو مسعود الأنصاري يأمر أهله بقطع المذنب فينبذ كل واحد منهما على حدة . ومن طريق ابن أبي شيبة عن معاوية بن هشام عن عمار بن زريق عن ابن أبي ليلى عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : كان الرجل يمر على أصحاب محمد ﷺ وهم متوافرون فيلعنونه ويقولون : هذا يشرب الخليطين الزبيب والتمر ؟ قال أبو محمد : هذا عندهم إذا وافقهم إجماع ، وقد جاء عن عثمان أيضا كما نذكر بعد هذا . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال لي عمرو بن دينار سمعت جابر بن عبد الله أو أخبرني عنه من أصدق : أن لا يجمع بين البسر ، والرطب ، والتمر ، والزبيب ، قلت لعمرو بن دينار : هل غير ذلك ؟ قال : لا ؛ قلت لعمرو : فغير ذلك مما في الحبلة والنخلة ، قال : لا أدري ، قلت لعمرو : أو ليس إنما نهى عن أن يجمع بينهما في النبيذ وأن ينبذ جميعا ؟ قال : بلى ، وقلت لعطاء : أذكر جابر أن النبي ﷺ نهى عن أن يجمع بين شيئين غير الرطب والبسر ، والتمر والزبيب ؟ قال : لا ، إلا أن أكون نسيت ؟ قلت لعطاء : أيجمع بين التمر والزبيب ينبذان ، ثم يشربان حلوين ؟ قال : لا قد نهي عن الجمع بينهما ، قال ابن جريج : لو نبذ شراب في ظرف قد نهى النبي ﷺ عنه لم يشرب حلوا - وهذا كله قولنا - والحمد لله رب العالمين . فهذا عمرو بن دينار لم ير النهي يتعدى به ما ورد به النص - وهو قولنا - . وروينا عن عمر بن عبد العزيز أنه قال : لو كان في إحدى يدي نبيذ تمر ، وفي الأخرى نبيذ زبيب فشربت كل واحد منهما وحده لم أر به بأسا ، ولو خلطته لم أشربه . وصح عن جابر بن زيد أبي الشعثاء أنه سئل عن البسر ، والتمر يجمعان في النبيذ ؟ فقال : لأن تأخذ الماء فتغليه في بطنك خير من أن تجمعهما جميعا في بطنك . وقال مالك بتحريم خليط كل نوعين في الانتباذ وبعد الانتباذ ، وكذلك فيما عصر ، ولم يخص شيئا من شيء . وقال أبو حنيفة بإباحة كل خليطين واحتج لأبي حنيفة مقلدوه بما رويناه من طريق مسعر عن موسى بن عبد الله عن امرأة من بني أسد عن عائشة : { أن رسول الله ﷺ كان ينبذ له زبيب فيلقى فيه تمر أو تمر فيلقى فيه زبيب } - وهذا لا شيء ؛ لأنه عن امرأة لم تسم . ومن طريق زياد بن يحيى الحساني أنا أبو بحر نا عتاب بن عبد العزيز الحماني حدثتني صفية بنت عطية أنها سمعت { عائشة أم المؤمنين تقول - وقد سئلت عن التمر والزبيب - فقالت : كنت آخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فألقيه في إناء فأمرسه ، ثم أسقيه النبي ﷺ } وهذا مردد في السقوط ؛ لأنه عن أبي بحر - لا يدرى من هو عن عتاب بن عبد العزيز الحماني - وهو مجهول عن صفية بنت عطية - ولا تعرف من هي فهل سمع بأسخف ممن يحتج بمثل هذا عن أم المؤمنين ؟ ويعترض في رواية أبي عثمان الأنصاري عن القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي ﷺ : { ما أسكر كثيره فقليله حرام } . وأبو عثمان مشهور قاضي الري روى عنه الأئمة . وزادوا ضلالا فاحتجوا بما رويناه عن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرت عن أبي إسحاق : { أن رجلا سأل ابن عمر : أجمع بين التمر والزبيب ؟ فقال : لا ، قال : لم ؟ قال : نهى النبي ﷺ قال : لم ؟ قال : سكر رجل فحده النبي ﷺ وأمر أن ينظر ما شرابه فإذا هو تمر وزبيب ، فنهى النبي ﷺ عن أن يجمع بين التمر والزبيب وقال : يلقى كل واحد منهما وحده } . ومن طريق أبي إسحاق عن النجراني عن ابن عمر قال : { ضرب رسول الله ﷺ سكران وقال له : أي شيء شربت ؟ قال : تمر وزبيب ، قال : لا تخلطوهما كل واحد يلقى وحده } . ومن طريق أبي التياح عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري ، { أن النبي ﷺ أتي بنشوان فقال : إني لم أشرب خمرا إنما شربت زبيبا وتمرا في إناء . فنهز بالأيدي وخفق بالنعال ونهى عن الزبيب ، والتمر أن يخلطا } قال أبو محمد : أما لهؤلاء المخاذيل دين يردعهم ، أو حياء يزعهم ، أو عقل يمنعهم عن الاحتجاج بالباطل على الحق ؛ ثم بما لو صح لكان أعظم حجة عليهم ، ابن جريج يقول : أخبرت عن أبي إسحاق ولا يسمي من أخبره ، ثم أبو إسحاق عن النجراني - ومن النجراني - ليت شعري ؟ ثم هبك أننا سمعنا كل ذلك من أبي سعيد ، ومن ابن عمر أليس قد أخبرا : أن النبي ﷺ نهى عن جمعهما وأمر بإفراد كل واحد منهما ؟ وكيف يجعل نهيه نفسه حجة في استباحة ما نهى عنه ؟ ما بعد هذا الضلال ضلال ، ولا وراء هذه المجاهرة مجاهرة ، ولولا كثرة من ضل باتباعهم لكان الإعراض عنهم أولى . وقالوا : إنما نهي عن ذلك ؛ لأن أحدهما يعجل غليان الآخر . فقلنا : كذبتم وقفوتم ما لا علم لكم به ، وافتريتم على رسول الله ﷺ ما لم يقله قط ولا أخبر به - ثم هب الأمر كما قلتم ؟ أليس قد نهى عليه السلام عنه كما ذكرتم ؟ فانهوا عما نهاكم عنه إن كان في قلوبكم إيمان به ؟ فإن قالوا : هذا ندب ؟ قلنا : كذبتم وقلتم ما لا دليل لكم عليه - ثم هب الأمر كما قلتم فاكرهوه إذا واندبوا إلى تركه ، وأنتم لا تفعلون ذلك بل هو عندكم وما لم ينه عنه أصلا سواء . وقالوا : إنما نهى عنه لضيق العيش ، ولأنه من السرف - وهذا قول يوجب على قائله مقت الله تعالى ؛ لأنه كذب بحت ، ومع أنه كذب فهو بارد من الكذب سخيف من البهتان ؛ لأنه ما كان قط عند ذي عقل رطل تمر ورطل زبيب ، سرفا ، أو رطل زهو ورطل بسر سرفا ، وهم بالمدينة والطائف قريب ، وهما بلاد التمر والزبيب . ثم كيف يكون رطل تمر ، ورطل زبيب ، أو رطل زهو ، ورطل رطب يجمعان سرفا يمنع منه ضيق العيش فينهون عنه لذلك - ولا يكون مائة رطل تمر ، ومائة رطل زبيب ، ومائة رطل عسل ينبذ كل صنف منها على حدته سرفا . وكيف يكون رطل تمر ، ورطل زهو ينبذان معا سرفا ولا ويكون أكلهما معا سرفا ؟ كذلك التمر والزبيب في الأكل معا ، لقد بلغ الغاية من سخف العقل ، من هذا مقدار عقله ، ولقد عظمت بليتهم بأنفسهم - ونعوذ بالله من الخذلان . وأيضا : فإن أكل الدجاج والنقي والسكر أدخل على أصولكم الفاسدة في السرف ، وأبعد من ضيق العيش ، وما نهى عنه رسول الله ﷺ قط ، ثم هبكم أنه كما تقولون ، فأي راحة لكم في ذلك ؟ وقد كان فيهم ذو سعة من المال ، قالت عائشة : وكان الهدي مع رسول الله ﷺ وذوي اليسارة ، والخبر المشهور { ذهب أصحاب الدثور بالأجور } وكان فيهم عثمان ؛ وعبد الرحمن ، وسعد بن عبادة ، وغيره وفينا نحن وإلى يوم القيامة ذو ضيق من العيش وفاقة شديدة ، فالعلة باقية بحسبها ، فالنهي باق ولا بد ، اسخفوا ما شئتم لأن تفوتوا حكم الله عليكم . وذكروا ما روينا من طريق ابن أبي شيبة عن علي بن مسهر عن الشيباني عن عبد الملك بن نافع قلت لابن عمر : أنبذ نبيذ زبيب فيلقى لي فيه تمر فيفسد علي ؟ قال : لا بأس به - وعبد الملك بن نافع مجهول . وقد صح عن ابن عمر الرجوع عن هذا - كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا إسماعيل هو ابن إبراهيم هو ابن علية - نا أيوب هو السختياني - عن نافع عن ابن عمر أنه أمر بزبيب وتمر أن ينبذا له ، ثم تركه بعد ذلك - قال نافع : فلا أدري ألشيء ذكره أم لشيء بلغه ؟ فصح أنه ذكر النهي بعد أن نسيه أو بلغه ولم يكن بلغه قبل ذلك . وذكروا ما رويناه من طريق غير مشهورة عن شعبة قال : سمعت أسامة رجلا من جيراننا قال : سمعت شهاب بن عباد قال : سألت ابن عباس عن التمر والزبيب فقال : لا يضرك أن تخلطهما جميعا أو تنبذ كل واحد منهما على حدة . قال أبو محمد : وهذا لا شيء ، فلا أكثر ، أسامة رجل من جيران شعبة وما نعلم أتم جهلا ، أو أقل حياء ممن يتعلق بهذا عن ابن عباس ولا يصح أصلا - ثم يخالف رواية محمد بن جعفر غندر عن شعبة عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي قال : قلت لابن عباس : إني أنتبذ في جرة خضراء نبيذا حلوا فأشرب منه فيقرقر بطني . قال ابن عباس : لا تشرب منه وإن كان أحلى من العسل . فإن قالوا : قد صح عن النبي ﷺ نسخ النهي عن نبيذ الجر . قلنا : النهي والله عن خلط الزبيب والتمر أصح عن النبي ﷺ من نسخ النهي عن نبيذ الجر الذي لم يأت إلا من طريق بريدة وجابر فقط ، والنهي عن الجمع بين التمر والزبيب في الانتباذ صح من طريق أبي قتادة ، وجابر ، وابن عباس ، وأبي سعيد ، وأبي هريرة ، فهو نقل تواتر ولم يأت قط شيء ينسخه لا ضعيف ولا قوي . وقالوا : أي فرق بين جمعهما في الإناء ، وبين جمعهما في البطن ؟ فقلنا : لا يعارض بهذا رسول الله ﷺ وأي فرق بين الجمع بين الأختين وبين نكاحهما واحدة بعد أخرى ؟ ولو عارضتم أنفسكم في فرقكم بين الآبق يوجد في المصر ، وبين الآبق يوجد خارج المصر على ثلاث لأصبتم . وفي فرقكم بين السرقة من الحرز أقل من عشرة دراهم فلا يوجب القطع [ وبين ] سرقة عشرة دراهم من غير حرز فلا يوجب القطع ، فإذا اجتمعا فسرق عشرة دراهم من حرز وجب القطع ، وبين القهقهة تكون في الصلاة فتنقض الوضوء ، وتكون بعد الصلاة فلا تنقضه لكان أسلم لكم . وروينا من طريق سعيد بن منصور عن هشيم عن يونس عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا أن يفضخ العذق بما فيه ، وما نعلم هذا عن أحد من السلف غيره ، على أنه ليس فيه بيان لإباحة الجمع بين الزبيب والتمر وسائر ما جاء النهي عنه . وروينا من طريق ابن أبي شيبة عن عفان بن مسلم عن عبد الواحد بن صفوان سمعت أبي يحدث عن أمه أنها قالت : كنت أمغث لعثمان رضي الله عنه الزبيب غدوة فيشربه عشية ، وأمغثه عشية فيشربه غدوة ، قالت : فقال لي عثمان : لعلك تجعلين فيه زهوا قلت : ربما فعلت ، فقال : فلا تفعلي . . وأما المالكيون فاحتجوا بما رويناه من طريق أبي داود الطيالسي نا حرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين { أن رسول الله ﷺ نهى عن الخليطين } . ومن طريق ابن وهب حدثني عبد الجبار بن عمر قال : حدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله : { أن رسول الله ﷺ نهى عن الخليطين أن يشربا ؟ قلنا : يا رسول الله وما الخليطان ؟ قال : التمر والزبيب ، وكل مسكر حرام } . ومن طريق عبد الله بن المبارك أنا وقاء بن إياس عن المختار بن فلفل عن أنس { نهى رسول الله ﷺ أن نجمع شيئين نبيذا مما يبغي أحدهما على صاحبه } وكان أنس يكره المذنب من البسر مخافة أن يكونا شيئين فكنا نقطعه " . وقالوا : قد صح نهي النبي ﷺ عن أن يجمع التمر ، والزبيب ، والبسر ، والزهو ، والرطب : اثنان منهما أو واحد منهما وآخر من غيرهما في الانتباذ معا ، أو ينبذهما في إناء ، فوجب أن يكون سائر ما ينبذ ويعصر كذلك . قال أبو محمد : هذا كل ما شغبوا به - وكله لا يصح : - أما الحديث الأول : فمدلس لم يسمعه يحيى بن أبي كثير من أبي سلمة عن عائشة ، وإنما سمعه من أبي سلمة عن أبي قتادة على ما أوردنا في أول هذا الباب من تفصيل الأصناف المذكورة وأما من طريق عائشة فإننا روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن معمر نا أبو داود الطيالسي نا حرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير أن كلاب بن علي أخبره أن أبا سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف - أخبره أن عائشة أخبرته { أن رسول الله ﷺ نهى أن يخلط بين البسر والرطب ، وبين الزبيب والتمر } . قال أحمد بن شعيب : وأنا محمد بن المثنى نا أبو عامر هو العقدي - نا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن ثمامة بن كلاب عن أبي سلمة عن عائشة : أن النبي ﷺ قال : { انتبذوا الزبيب والتمر جميعا ، ولا تنتبذوا الرطب والتمر جميعا } فإنما سمعه يحيى من كلاب بن علي ، وثمامة بن كلاب ، وكلاهما لا يدرى من هو - فسقط . ثم لو صح لما كان فيه حجة ؛ لأن الخليطين هكذا مطلقا لا يدرى ما هما أهما الخليطان في الزكاة أم في ماذا ؟ وأيضا فإن ثريد اللحم والخبز خليطان ، واللبن والماء خليطان ، فلا بد من بيان مراده عليه السلام بذلك ، ولا يؤخذ بيان مراده إلا من لفظه عليه السلام - فبطل تعلقهم بهذا الأثر . وأما حديث جابر فمن طريق عبد الجبار بن عمر الأبلي وهو ضعيف جدا - ثم لو صح لما كانت لهم فيه حجة ، بل كان يكون حجة عظيمة قاطعة عليهم ؛ لأن فيه أن الصحابة رضي الله عنهم لم يعرفوا ما الخليطان المنهي عنهما حتى سألوا رسول الله ﷺ كما يجب عليهم وعلى كل أحد ؟ ففسرهما لهم عليه السلام بأنهما التمر والزبيب ولم يذكر غيرهما ، فلو أراد غيرهما لما سكت عن ذكره وقد سألوه البيان ؟ هذا ما لا يحيل على مسلم ؛ لأنه كان يكون أعظم التلبيس عليهم ومن ادعى أن ههنا شيئا زائدا سئل النبي ﷺ عنه فلم يبينه لأمته فقد افترى الكذب على رسول الله ﷺ وألحد في الدين بلا شك - ونعوذ بالله من هذا . وأما خبر أنس فمن طريق وقاء بن إياس وهو ضعيف ضعفه ابن معين وغيره ، مع أنه كلام فاسد لا يعقل لا يجوز أن يضاف إلى النبي ﷺ ألبتة ؛ لأنه لا يدري أحد ما معنى يبغي أحدهما على صاحبه في النبيذ . فإن قالوا : معناه يعجل أحدهما غليان الآخر ؟ قلنا : هذا الكذب العلانية وما يغلي تمر وزبيب جمعا في النبيذ إلا في المدة التي يغلي فيها الزبيب وحده ؛ أو التمر وحده وهو عليه السلام لا يقول إلا الحق ؛ فبطل كل ما موهوا به بيقين . وأما قولهم : قسنا سائر الخلط على ما نص عليه فقلنا : القياس باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ؛ لأنكم لستم بأولى أن تقيسوا التين ، والعسل على ما ذكر من آخر أراد أن يقيس على ذلك اللبن والسكر مجموعين ، أو الخل ، والعسل في السكنجبين مجموعين ، أو الزبيب ، والخل مجموعين ، ولا سبيل إلى فرق . فإن قالوا : لا نتعدى النبيذ . قلنا لهم : بل قيسوا على الجمع في النبيذ الجمع في غير النبيذ ، أو لا تتعدوا ما ورد به النص لا في نبيذ ، ولا غيره ، ولا سبيل إلى فرق أصلا - وبالله تعالى التوفيق .
1102 - مسألة : والانتباذ في الحنتم ، والنقير ، والمزفت ، والمقير ، والدباء ، والجرار البيض ، والسود ، والحمر ، والخضر ، والصفر ، والموشاة ، وغير المدهونة ، والأسقية ، وكل ظرف حلال ، إلا إناء ذهب أو فضة أو إناء أهل الكتاب ، أو جلد ميتة غير مدبوغ ، أو إناء مأخوذا بغير حق . برهان ذلك : ما رويناه من طريق أحمد بن شعيب أخبرني أبو بكر بن علي هو المقدمي - نا إبراهيم بن الحجاج نا حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن عبيد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله ﷺ { كنت نهيتكم عن الأوعية فانتبذوا فيما بدا لكم ، وإياكم وكل مسكر } . ومن طريق وكيع عن معروف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله ﷺ : { كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا } ومن طريق مسلم بن الحجاج نا الحجاج بن الشاعر نا الضحاك بن مخلد عن سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن أبي بريدة عن أبيه : أن رسول الله ﷺ قال : { نهيتكم عن الظروف وإن الظروف ظرفا لا يحل شيئا ولا يحرمه وكل مسكر حرام } ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الظروف فقالت الأنصار : إنه لا بد لنا منها . قال : فلا إذا } . فصح أن إباحة ما نهى عنه من الظروف ناسخة للنهي ، وقد كان عليه السلام نهى عنها ، فقد صح عن طريق ابن عباس عن النبي ﷺ { أنه نهى عن الانتباذ والشرب في الحنتم ، والمقير ، والدباء ، والمزادة المجبوبة ، وكل شيء صنع من مدر ، والجر } . وصح من طريق أبي هريرة عنه ﷺ : أنه نهى عن ذلك كله إلا أنه لم يذكر { كل شيء صنع من مدر } . وصح عن ابن عمر عن النبي ﷺ : أنه نهى عن ذلك كله إلا أنه لم يذكر المزادة المجبوبة وذكر الجر . وصح من طريق أبي سعيد الخدري ، وابن عمر عن النبي ﷺ : أنه { نهى عن المزفت ، والحنتم ، والنقير ، والجر } . وصح عن عائشة أم المؤمنين ، وعلي بن أبي طالب ، وأنس ، وعبد الرحمن بن يعمر كلهم { عن النبي ﷺ : أنه نهى عن الدباء والمزفت } . ومن طريق عائشة أيضا مسندا عن الجر . وعن صفية أم المؤمنين : { نهى رسول الله ﷺ عن نبيذ الجر } . وصح من طريق عبد الله بن أبي أوفى { عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن الجر الأخضر والأبيض } . ومن طريق ابن الزبير { أنه عليه السلام : نهى عن الجر } . فهؤلاء أحد عشر من الصحابة رضي الله عنهم رووا عن النبي ﷺ النهي ، ورواه عنهم أعداد كثيرة من التابعين ، وهذا نقل تواتر ولم يأت النسخ إلا من طريق ابن بريدة عن أبيه . ومن طريق سالم بن أبي الجعد عن جابر فقط - وقد ثبت على تحريم ما صح النهي عنه من ذلك : عمر بن الخطاب ، وعلي ، وابن عمر ، وأبو سعيد الخدري . واختلف فيه عن ابن مسعود ، وعن ابن عباس . واختلف التابعون أيضا . وعهدنا بالحنفيين يقولون : إنه إذا جاء خبران أحدهما نقل تواتر ، والآخر نقل آحاد : أخذنا بالتواتر ، وتناقضوا ههنا . وقال مالك : أكره أن ينبذ في الدباء ، والمزفت فقط ، وأباح الجر كله غير المزفت ، والحنتم ، والمقير - وهذا فاسد جدا ؛ لأنه قول بلا برهان ولا نعلم أحدا قبله قسم هذا التقسيم . قال أبو محمد : وقد ذكرنا : فيما يحل أكله ويحرم تحريم النبي ﷺ الأكل . والشرب في إناء الذهب أو الفضة أو إناء أهل الكتاب إلا أن لا يوجد غيره فيغسل بالماء ويحل ذلك فيه حينئذ ، والبرهان على تحريم استعمال الإناء المأخوذ بغير حق وذكرنا في " كتاب الطهارة " تحريم جلد الميتة قبل أن يدبغ ، فبقي كل هذا على التحريم لصحة البرهان بأن كل ذلك لم ينسخ مذ حرم - وبالله تعالى التوفيق .
1103 - مسألة : وقد ذكرنا في " كتاب ما يحل أكله وما يحرم " من هذا الديوان إباحة الخمر لمن اضطر إليها لقوله تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } فأغنى عن إعادته .
1104 - مسألة : وكل ما ذكرنا أنه لا يحل شربه فلا يحل بيعه ولا إمساكه ، ولا الانتفاع به ، فمن خلله فقد عصى الله عز وجل - وحل أكل ذلك الخل ، إلا أن ملكه قد سقط عن الشراب الحلال إذا أسكر وصار خمرا فمن سبق إليه من أحد بغلبة أو بسرقة فهو حلال ، إلا أن يسبق الذي خلله إلى تملكه فهو حينئذ له ، كما لو سبق إليه غيره ، ولا فرق ؛ لما روينا من طريق مسلم نا عبيد الله بن عمر القواريري نا عبد الأعلى أبو همام نا سعيد الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : { سمعت رسول الله ﷺ يخطب بالمدينة قال : يا أيها الناس إن الله تعالى يعرض بالخمر ، ولعل الله سينزل فيها أمرا فمن كان عنده منها شيء فليبعه ولينتفع به ؟ فما لبثنا إلا يسيرا حتى قال النبي ﷺ إن الله حرم الخمر فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبع ، قال : فاستقبل الناس بما كان عندهم منها في طريق المدينة فسفكوها } . ومن طريق ابن وهب عن مالك ، وسليمان بن بلال ، قال مالك : عن زيد بن أسلم ، وقال سليمان : عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، ثم اتفق زيد ، ويحيى ، كلاهما عن عبد الرحمن بن وعلة السبائي من أهل مصر عن ابن عباس { أن رجلا أهدى لرسول الله ﷺ راوية خمر فقال له رسول الله ﷺ هل علمت أن الله حرمها ؟ قال : لا ، فسار إنسانا فقال له رسول الله ﷺ إن الذي حرم شربها حرم بيعها ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها } والذي ذكرناه قبل من أن النبي ﷺ كان يشرب ما ينبذ له ثلاثة أيام ، ثم يأمر بأن يشرب أو يهرق وهو عليه السلام قد نهى عن إضاعة المال فلو كان ما حرم مالا لما أضاعه عليه السلام ، فإذ ليس مالا فقد سقط ملك صاحبه عنه ، فإذ سقط عنه ثم عاد إلى أن صار خلا فلا يجوز أن يعود ملكه على ما لا ملك له عليه بغير أن يتملكه إلا بنص ، ولا نص في ذلك فهو لمن سبق إليه كسائر ما لا يملكه أحد من الصيد والحطب وغير ذلك - : وقال أبو حنيفة : ملكها جائز وتخليلها جائز - : وهذا باطل لما ذكرنا - وبالله تعالى التوفيق . وقال مالك : إن تعمد تخليل الخمر لم يحل أكل ذلك الخل فإن تخللت دون أن تخلل حل أكلها - وقال أبو ثور : لا تؤكل تخللت أوخللت . وقولنا في ملكها هو قول أبي حنيفة ، وأبي سليمان . روينا من طريق ابن أبي شيبة عن إسماعيل ابن علية عن التميمي عن أم خداش أنها رأت علي بن أبي طالب يصطبغ بخل خمر . ابن أبي شيبة عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح أبي الزاهرية عن جبير بن نفير قال : اختلف اثنان من أصحاب معاذ في خل الخمر فسألا أبا الدرداء ؟ فقال : لا بأس به . ابن أبي شيبة عن حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عن مسربل العبدي عن أمه قالت : سألت عائشة أم المؤمنين عن خل الخمر ؟ فقالت : لا بأس به هو إدام . ومن طريق وكيع عن عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر : أنه كان لا يرى بأسا بأكل ما كان خمرا فصار خلا . ومن طريق حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عن ابن سيرين قال : لا بأس بخل الخمر - وهو قول الحسن ، وسعيد بن جبير - ولا نعلم مثل تفريق مالك عن أحد قبله .
1105 - مسألة : ولا يحل كسر أواني الخمر ، ومن كسرها من حاكم أو غيره فعليه ضمانها ، لكن تهرق وتغسل الفخار ، والجلود ، والعيدان ، والحجر ، والدباء ، وغير ذلك ، كله سواء في ذلك . وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي - وقال مالك : يكسر الفخار والعود ويشق الجلد ويغسل ما عدا ذلك . برهان ذلك - : ما ذكرناه الآن من فتح الذي أهدى راوية الخمر إلى النبي ﷺ فلما أخبره أنه لا يحل بيعها فتح المزادة وأهرقها ولم يأمره عليه السلام بخرقها ، ونهيه عليه السلام عن إضاعة المال ، والكسر والخرق إضاعة للمال ، ومتلف مال غيره معتد والله تعالى يقول : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } . واحتج من خالف هذا بما رويناه من طريق عكرمة : { أن النبي ﷺ كسر كوزا فيه شراب وشق المشاعل يوم خيبر وهي الزقاق } . وهذا مرسل لا حجة فيه . وبخبر من طريق ابن عمر قال : { شق رسول الله ﷺ زقاق الخمر } . وبخبر من طريق أبي هريرة : { أنه عليه السلام شق زقاق الخمر } . وبخبر من طريق جابر { أنه عليه السلام أراق الخمر وكسر جرارها } . وكل هذا لا يصح منه شيء : أما خبر ابن عمر - : فأحد طرقه فيها ثابت بن يزيد الخولاني - وهو مجهول - لا يدرى من هو . والثاني : من طريق ابن لهيعة - وهو هالك - عن أبي طعمة وهو نسير بن ذعلوق وهو لا شيء . والثالث : من رواية عبد الملك بن حبيب الأندلسي - وهو هالك - عن طلق وهو ضعيف . وأما حديث أبي هريرة : ففيه عمر بن صهبان - وهو ضعيف ضعفه البخاري وغيره - وفيه أيضا آخر لم يسم . وحديث جابر من طريق ابن لهيعة - وهو مطرح - فلم يصح في هذا الباب شيء ، وقد ذكرنا أمر رسول الله ﷺ في آنية أهل الكتاب التي يطبخون فيها لحوم الخنازير ويشربون فيها الخمر وعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمر بغسلها بالماء ، ثم أباح الأكل فيها والشرب ، ولا حجة إلا فيما صح عنه عليه السلام .
1106 - مسألة : وفرض على من أراد النوم ليلا أن يوكي قربته ، ويخمر آنيته ولو بعود يعرضه عليها ، ويذكر اسم الله تعالى على ما فعل من ذلك . وأن يطفئ السراج ، ويخرج النار من بيته جملة إلا أن يضطر إليها لبرد أو لمرض ، أو لتربية طفل ، فمباح له أن لا يطفئ ما احتاج إليه من ذلك لما روينا من طريق البخاري - : نا إسحاق بن منصور أنا روح بن عبادة نا ابن جريج قال : أخبرني عطاء أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله ﷺ { : إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا ، وأوكوا قربكم ، واذكروا اسم الله عليها ، وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله عليها ولو أن تعرضوا عليها شيئا وأطفئوا مصابيحكم } . ومن طريق أبي داود نا أحمد بن حنبل نا يحيى هو ابن سعيد القطان - عن ابن جريج قال أخبرني عطاء عن جابر عن النبي ﷺ فذكره . وفيه { وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله } . ومن طريق مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة نا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر [ عن أبيه ] عن النبي ﷺ قال : { لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون } وأما من اضطر إلى ذلك فإن الله تعالى يقول : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } .
1107 - مسألة : ولا يحل الشرب من فم السقاء - : لما روينا من طريق البخاري نا علي بن عبد الله نا سفيان هو ابن عيينة نا أيوب هو السختياني أنا عكرمة نا أبو هريرة قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الشرب من فم القربة أو السقاء } . وروي النهي عن ذلك أيضا مسندا صحيحا من طريق أبي سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهم . فإن قيل : قد روي أن النبي ﷺ قد شرب من فم قربة ؟ قلنا : لا حجة في شيء منه ؛ لأن أحدها من طريق الحارث بن أبي أسامة - وقد ترك - وفيه البراء ابن بنت أنس - وهو مجهول - وخبر آخر : من طريق يزيد بن يزيد بن جارية عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ولا أعرفه . وآخر من طريق رجل لم يسم . ثم لو صحت لكانت موافقة لمعهود الأصل ، والنهى بلا شك إذا ورد ناسخ لتلك الإباحة بلا شك ، ومن المحال أن يعود المنسوخ ناسخا ولا يأتي بذلك بيان جلي ، إذن كان يكون الدين غير مبين ، ومعاذ الله من هذا ، وهو عليه السلام مأمور بالبيان . فإن قيل : قد صح عن ابن عمر أنه شرب من فم إداوة . قلنا : نعم ، هذا حسن ؛ لأنه الإداوة وليست قربة ولا سقاء - وبالله تعالى التوفيق .
1108 - مسألة : ولا يحل الشرب قائما ، وأما الأكل قائما فمباح - : لما روينا من طريق مسلم بن الحجاج نا هداب بن خالد ، وقتيبة ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، ومحمد بن المثنى ، قال هداب : نا همام بن يحيى ، وقال محمد بن المثنى : نا عبد الأعلى نا سعيد بن أبي عروبة ، وقال قتيبة وابن أبي شيبة : نا وكيع عن هشام الدستوائي ، ثم اتفق همام ، وهشام ، وسعيد ، كلهم عن قتادة عن أنس : { أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الشرب قائما } ولفظ هداب { زجر عن الشرب قائما } . وصح أيضا من طريق أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ وهو قول أنس ، وأبي هريرة ، وذكر لابن عمر قول أبي هريرة فقال : لم أسمع . فإن قيل : قد صح عن علي ، وابن عباس { عن النبي ﷺ شرب قائما } قلنا : نعم ، والأصل إباحة الشرب على كل حال من قيام ، وقعود ، واتكاء ، واضطجاع ، فلما صح نهي النبي ﷺ عن الشرب قائما كان ذلك بلا شك ناسخا للإباحة المتقدمة ، ومحال مقطوع أن يعود المنسوخ ناسخا ، ثم لا يبين النبي ﷺ ذلك ، إذا كنا لا ندري ما يجب علينا مما لا يجب ، وكان يكون الدين غير موثوق به - ومعاذ الله من هذا . وأقل ما في هذا على أصول المخالفين أن لا يترك اليقين للظنون وهم على يقين من نسخ الإباحة السالفة ولم يأت في الأكل نهي إلا عن أنس من قوله .
1109 - مسألة : ولا يحل النفخ في الشرب ويستحب أن يبين الشارب الإناء عن فمه ثلاثا لما روينا من طريق مسلم نا ابن أبي عمر نا الثقفي هو عبد الوهاب بن عبد المجيد عن أيوب هو السختياني - عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه : { أن النبي ﷺ نهى أن يتنفس في الإناء } . ورواه أيضا شيبان بن فروخ عن يحيى عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه مسندا ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن المثنى نا عبد الأعلى نا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه { عن النبي ﷺ أنه نهى عن النفخ في الإناء } . ورواه أيضا أبان بن يزيد العطار عن يحيى عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه مسندا . فإن قيل - : قد رواه هشام الدستوائي عن يحيى الدستوائي عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أحسبه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلنا : هذه رواية الحارث بن أبي أسامة - وقد ترك - وحتى لو شك هشام في إسناده فلم يشك أيوب ولا معمر ، وكلاهما فوق هشام . ومن طريق البخاري نا أبو نعيم ، وأبو عاصم قالا : نا عزرة بن ثابت الأنصاري نا ثمامة بن عبد الله بن أنس قال : كان أنس يتنفس في الإناء مرتين أو ثلاثا وزعم أنس { أن النبي ﷺ كان يتنفس ثلاثا } قال أبو محمد : التنفس المنهي عنه هو النفخ فيه كما بينه معمر - والتنفس المستحب هو أن يتنفس بإبانته عن فيه ، إذ لم نجد معنى يحمل عليه سواه .
1110 - مسألة : والكرع مباح ، وهو أن يشرب بفمه من النهر ، أو العين ، أو الساقية ؛ إذ لم يصح فيه نهي . روينا من طريق البخاري عن فليح عن سعيد بن الحارث عن جابر { عن النبي ﷺ : أنه قال لبعض الأنصار وهو في حائطه : إن كان عندك ماء بات في شنة وإلا كرعنا } . روينا من طريق ابن أبي شيبة نا محمد بن فضيل عن ليث بن أبي سليم عن سعيد بن عامر عن ابن عمر قال : قال رسول الله ﷺ : { لا تكرعوا ، ولكن اغسلوا أيديكم فاشربوا فيها ، فإنه ليس من إناء أطيب من اليد } . قال أبو محمد : فليح ، وليث متقاربان ، فإذا لم يصح نهي ولا أمر ، فكل شيء مباح ؛ لقوله عليه السلام الثابت { ذروني ما تركتكم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاتركوه } فلا واجب أن يؤتي إلا ما أمر به عليه السلام ، ولا واجب أن يترك إلا ما نهي عنه عليه السلام وما بينهما فلا واجب ولا محرم فهو مباح .
1111 - مسألة : والشرب من ثلمة القدح مباح ؛ لأنه لم يصح فيها نهي ، إنما روينا النهي عن ذلك من طريق ابن وهب عن قرة بن عبد الرحمن عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي سعيد مسندا - وقرة هذا هو ابن عبد الرحمن بن حيويل - وهو ساقط - وليس هو قرة بن خالد الذي يروي عن ابن سيرين ، ذلك ثقة مأمون . ومن طريق ابن أبي شيبة نا حسين بن علي الجعفي عن زائدة عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عباس ، وابن عمر : أنهما كرها أن يشرب من ثلمة القدح ، أو من عند أذنه ، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة ، وقد خالفهما هؤلاء .
1112 - مسألة : ومن شرب فليناول الأيمن منه فالأيمن ولا بد كائنا من كان ، ولا يجوز مناولة غير الأيمن إلا بإذن الأيمن ، ومن لم يرد أن يناول أحدا فله ذلك . وإن كان بحضرته جماعة فإن كانوا كلهم أمامه أو خلف ظهره أو عن يساره : فليناول الأكبر فالأكبر ولا بد - : لما روينا من طريق مسلم نا زهير بن حرب نا سفيان بن عيينة عن الزهري { عن أنس أن رسول الله ﷺ دخل دارهم ، قال : فحلبنا له من شاة داجن وشيب له من بئر في الدار فشرب رسول الله ﷺ وأبو بكر عن شماله ، فقال له عمر : يا رسول الله أعطه أبا بكر فأعطاه رسول الله ﷺ أعرابيا عن يمينه ، وقال عليه السلام : الأيمن فالأيمن } . وبه إلى مسلم نا عبد الله بن مسلمة بن قعنب نا سليمان بن بلال عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم بن أبي طوالة الأنصاري أنه سمع أنس بن مالك يحدث فذكر هذا الخبر - وفيه { أن رسول الله ﷺ ناول الأعرابي ، وترك أبا بكر وعمر ، وقال عليه السلام : الأيمنون الأيمنون الأيمنون ، قال أنس : فهي سنة فهي سنة فهي سنة } . ومن طريق مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي { أن رسول الله ﷺ أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ فقال للغلام : أتأذن لي أن أعطي هؤلاء الأشياخ فقال الغلام : لا والله يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحدا قال فتله رسول الله ﷺ في يده } . وأما مناولة الأكبر فالأكبر إذا لم يكن عن يمينه أحد فلقول رسول الله ﷺ في حديث محيصة ، وحويصة { كبر الكبر } فهذا عموم لا يجوز أن يخرج منه إلا ما استثناه نص صحيح كالذي ذكرنا في مناولة الشراب . ومن طريق البخاري نا مالك بن إسماعيل نا عبد العزيز بن أبي سلمة نا أبو النضر هو سالم مولى عمر بن عبيد الله بن عبيد الله عن عمير مولى ابن عباس { عن أم الفضل بنت الحارث أنها أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقدح لبن وهو واقف عشية عرفة فأخذه بيده فشربه } فهذا الشراب بحضرة الناس ولم يناول أحدا - وقد أكل عليه السلام بحضرة أصحابه . ومن طريق سهل بن سعد وذكر حديث عرس أبي أسيد وفيه { أن امرأة أبي أسيد سقت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نبيذا تخصه به } .
1113 - مسألة : وساقي القوم آخرهم شربا لما رويناه من طريق ابن أبي شيبة نا شبابة بن سوار عن سليمان بن المغيرة عن ثابت هو البناني - عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال { ساقي القوم آخرهم شربا } .
فهارس كتاب الأشربة من المحلي مكررة محلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب الأشربة
كتاب الأشربة (مسألة 1099) | كتاب الأشربة (تتمة 1 مسألة 1099) | كتاب الأشربة (تتمة 2 مسألة 1099) | كتاب الأشربة (تتمة 3 مسألة 1099) | كتاب الأشربة (مسألة 1100 - 1102) | كتاب الأشربة (مسألة 1103 - 1113)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق