مدونة استكمال مصنفات الإمامين ابن حزم والوكاني

الاثنين، 21 مارس 2022

المحلي / كتاب {{{{الأيمان}}} { من 1127. الي 1190 - مسألة:}

فهارس مجملة

محلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب الأيمان
كتاب الأيمان (مسألة 1127 - 1133) | كتاب الأيمان (مسألة 1134 - 1135) | كتاب الأيمان (مسألة 1136 - 1147) | كتاب الأيمان (مسألة 1148 - 1164) | كتاب الأيمان (مسألة 1165 - 1180) | كتاب الأيمان (مسألة 1181 - 1190)

فهارس كتاب الأيمان{مفصلة}

1127 - مسألة: يمين إلا بالله عز وجل
1128 - مسألة: من حلف بما ذكرنا أن لا يفعل أمرا كذا
1129 - مسألة: أما الحلف بالأمانة، وبعهد الله وميثاقه
1130 - مسألة: من حلف بالقرآن، أو بكلام الله عز وجل
1131 - مسألة: لغو اليمين لا كفارة فيه، ولا إثم
1132 - مسألة: من حلف أن لا يفعل أمرا كذا، ففعله ناسيا أو مكرها
1133 - مسألة: من هذا من حلف على ما لا يدري أهو كذلك أم لا
1134 - مسألة: من حلف عامدا للكذب فيما يحلف، فعليه الكفارة وهو قول الأوزاعي
1135 - مسألة: اليمين في الغضب والرضا
1136 - مسألة: اليمين محمولة على لغة الحالف وعلى نيته
1137 - مسألة: من حلف ثم قال: نويت بعض ما يقع عليه اللفظ الذي نطق صدق
1138 - مسألة : ومن حلف على شيء ثم قال موصولا بكلامه : إن شاء الله تعالى
1139 - مسألة: يمين الأبكم واستثناؤه لازمان على حسب طاقته من صوت يصوته أو إشارة إن كان مصمتا
1140 - مسألة: الرجال، والنساء، الأحرار، والمملوكون، وذوات الأزواج والأبكار
1141- مسألة: لا يمين لسكران
1142 - مسألة: من حلف بالله تعالى في كفره ثم حنث في كفره، أو بعد إسلامه فعليه الكفارة
1143 - مسألة: من حلف: واللات، والعزى
1144- مسألة: من حلف أيمانا على أشياء كثيرة على كل شيء منها يمين
1145- مسألة: لو حلف كذلك ثم قال في آخرها: إن شاء الله أو استثنى بشيء ما
1146 - مسألة: إن حلف يمينا واحدة على أشياء كثيرة
1147 - مسألة: إن حلف أيمانا كثيرة على شيء واحد
1148 - مسألة: من حلف بالله لا أكلت هذا الرغيف
1149 - مسألة: لو حلف أن لا يأكل من هذا الرغيف
1150 - مسألة: لو حلف أن لا يشرب ماء النهر
1151 - مسألة: من حلف أن لا يدخل دار
1152 - مسألة: من حلف أن لا يدخل دار فلان
1153 - مسألة: من حلف أن لا يكلم فلانا
1154 - مسألة: من حلف أن لا يشتري إداما فأي شيء اشتراه من لحم
1155 - مسألة: من حلف أن يضرب غلامه عددا من الجلد أكثر من العشر لم يحل له ذلك
1156 - مسألة: لا معنى للبساط في الأيمان
1157 - مسألة: من حلف أن لا يفعل أمرا كذا حينا أو دهرا
1158 - مسألة: إن حلف أن لا يكلمه طويلا
1159 - مسألة: من حلف ألا يساكن من كان ساكنا معه من امرأته أو قريبه
1160 - مسألة: من حلف أن لا يأكل طعاما اشتراه زيد فأكل طعاما اشتراه زيد وآخر معه لم يحنث
1161 - مسألة: من حلف أن لا يهب لأحد عشرة دنانير فوهب له أكثر حنث، إلا أن ينوي العدد الذي سمى فقط فلا يحنث
1162 - مسألة: من حلف أن لا يجمعه مع فلان سقف فدخل بيتا فوجده فيه
1163 - مسألة : ومن حلف أن لا يأكل لحما أو أن لا يشتريه فاشترى شحما
1164 - مسألة: ومن حلف أن لا يأكل شحما حنث بأكل شحم الظهر والبطن
1165 - مسألة: من حلف أن لا يأكل رأسا لم يحنث بأكل رءوس الطير
1166 - مسألة: ومن حلف أن لا يأكل بيضا لم يحنث إلا بأكل بيض الدجاج خاصة
1167 - مسألة: من حلف أن لا يأكل عنبا فأكل زبيبا أو شرب عصيرا
1168 - مسألة: من حلف أن لا يأكل لبنا لم يحنث بأكل اللبإ
1169 - مسألة: من حلف أن لا يأكل خبزا فأكل كعكا
1170 - مسألة: ومن حلف أن لا يشرب شرابا فإن كانت له نية حمل عليها
1171 - مسألة: من حلف أن لا يبيع هذا الشيء بدينار فباعه بدينار غير فلس فأكثر
1172 - مسألة: من حلف ليقضين غريمه حقه رأس الهلال فإنه إن قضاه حقه أول ليلة من الشهر
1173 - مسألة: من حلف أن لا يشتري أمر كذا، أو لا يزوج وليته
1174 - مسألة: من حلف ألا يبيع عبده فباعه بيعا فاسدا
1175 - مسألة: من حلف أن لا يتكلم اليوم فقرأ القرآن في صلاة
1176 - مسألة: من حنث بمخالفة ما حلف عليه فقد وجبت عليه الكفارة بعد الحنث لا خلاف في ذلك
1177 - مسألة: ومن أراد أن يحنث فله أن يقدم الكفارة قبل أن يحنث أي الكفارات لزمته
1178 - مسألة: ومن حلف أن لا يعتق عبده هذا،
1179 - مسألة: وصفة الكفارة: هي أن من حنث، أو أراد الحنث وإن لم يحنث بعد،
1180 - مسألة: ولا يجزيه بدل ما ذكرنا: صدقة،
1181 - مسألة: ومن حنث وهو قادر على الإطعام، أو الكسوة، أو العتق،
1182 - مسألة: ومن حنث وهو عاجز عن كل ذلك
1183 - مسألة: ويجزئ في العتق في كل ذلك:
1184- مسألة: ولا يجزئ إطعام مسكين واحد أو ما دون العشرة يردد عليهم،
1185 - مسألة: وأما الكسوة فما وقع عليه اسم كسوة: قميص، أو سراويل،
1186 - مسألة: ويجزئ كسوة أهل الذمة وإطعامهم إذا كانوا مساكين، بخلاف الزكاة،
1187 - مسألة: ويجزئ الصوم للثلاثة الأيام متفرقة إن شاء وهو قول مالك،
1188 - مسألة: ومن عنده فضل عن قوت يومه وقوت أهله ما يطعم منه عشرة مساكين لم يجزه الصوم أصلا،
1189 - مسألة: ولا يجزئ إطعام بعض العشرة وكسوة بعضهم وهو قول مالك،
1190 - مسألة: ومن حلف على إثم ففرض عليه أن لا يفعله ويكفر،


============

اول كتاب الايمان قاله المدون


كتاب الأيمان

1127 - مسألة : لا يمين إلا بالله عز وجل ، إما باسم من أسمائه تعالى ، أو بما يخبر به عن الله تعالى ولا يراد به غيره ، مثل : مقلب القلوب ، ووارث الأرض وما عليها ، الذي نفسي بيده رب العالمين ، وما كان من هذا النحو ، - ويكون ذلك بجميع اللغات - أو بعلم الله تعالى ، أو قدرته ، أو عزته ، أو قوته ، أو جلاله ، وكل ما جاء به النص من مثل هذا ؛ فهذا هو الذي إن حلف به المرء كان حالفا ، فإن حنث فيه كانت فيه الكفارة .

وأما من حلف بغير ما ذكرنا - أي شيء كان لا تحاش شيئا - فليس حالفا ، ولا هي يمينا ولا كفارة في ذلك إن حنث - ولا يلزمه الوفاء بما حلف عليه بذلك ، وهو عاص لله تعالى فقط ، وليس عليه إلا التوبة من ذلك والاستغفار .

برهان ذلك : ما ذكرناه قبل في " كتاب النذور " من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله } .

وقوله تعالى { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } .

وقال تعالى { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه } .

وكل ما ذكرنا قبل فإنما يراد به الله تعالى ، لا شيء سواه ، ولا يرجع من كل ذلك إلى شيء غير الله تعالى .

روينا من طريق البخاري نا أبو اليمان هو الحكم بن نافع - أنا شعيب بن أبي حمزة نا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : { إن لله تسعة وتسعين اسما ، مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة } .

وقال تعالى : { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } .

فصح أنه لا يحل لأحد أن يسمي الله تعالى إلا بما سمى به نفسه .

وصح أن أسماءه لا تزيد على تسعة وتسعين شيئا ، لقوله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { مائة إلا واحدا } فنفى الزيادة ، وأبطلها ، لكن يخبر عنه بما يفعل تعالى .

وجاءت أحاديث في إحصاء التسعة والتسعين أسماء مضطربة لا يصح منها شيء أصلا ، فإنما تؤخذ من نص القرآن .

ومما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد بلغ إحصاؤنا منها إلى ما نذكر - : وهي - :

أسماء الله الحسنى



الله ، الرحمن ، الرحيم ، العليم ، الحكيم ، الكريم ، العظيم ، الحليم ، القيوم ، الأكرم ، السلام ، التواب ، الرب ، الوهاب ، الإله ، القريب ، السميع ، المجيب ، الواسع ، العزيز ، الشاكر ، القاهر ، الآخر ، الظاهر ، الكبير ، الخبير ، القدير ، البصير ، الغفور ، الشكور ، الغفار ، القهار ، الجبار ، المتكبر ، المصور ، البر ، مقتدر ، الباري ، العلي ، الغني ، الولي ، القوي ، الحي ، الحميد ، المجيد ، الودود ، الصمد ، الأحد ، الواحد ، الأول ، الأعلى ، المتعال ، الخالق ، الخلاق ، الرزاق ، الحق ، اللطيف ، رءوف ، عفو ، الفتاح ، المتين ، المبين ، المؤمن ، المهيمن ، الباطن ، القدوس ، الملك ، مليك ، الأكبر ، الأعز ، السيد ، سبوح ، وتر ، محسان ، جميل ، رفيق ، المسعر ، القابض ، الباسط ، الشافي ، المعطي ، المقدم ، المؤخر ، الدهر


روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - أنا الفضل بن موسى نا محمد بن عمرو نا أبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف - عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ فذكر حديث خلق الجنة والنار - وفيه { أن جبريل عليه السلام لما رأى الجنة وأنها حفت بالمكاره قال لله عز وجل : وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد } .

وقال تعالى : { أنزله بعلمه } .

ومن طريق البخاري نا مطرف بن عبد الله أبو مصعب نا عبد الرحمن بن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال { كان رسول الله ﷺ يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها ، كالسورة من القرآن : إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين ثم يقول : اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك } .

وقال عز وجل : { هو أشد منهم قوة } .

وقال تعالى : { ذو الجلال والإكرام } .

وقال تعالى : { فثم وجه الله } .

وقال تعالى { : يد الله فوق أيديهم } .

وقال تعالى { : ولتصنع على عيني } .

وقال تعالى { : فإنك بأعيننا } .

فهذه جاء النص بها .

وأما اليمين بعظمة الله ، وإرادته ، وكرمه ، وحلمه ، وحكمته ، وسائر ما لم يأت به نص ، فليس شيء من ذلك يمينا ؛ لأنه لم يأت بها نص ، فلا يجوز القول بها

1128 - مسألة : ومن حلف بما ذكرنا أن لا يفعل أمرا كذا ، أو أن يفعل أمرا كذا فإن وقت وقتا مثل : غدا ، أو يوم كذا ، أو اليوم أو في وقت يسميه ، فإن مضى ذلك الوقت ولم يفعل ما حلف أن يفعله فيه عامدا ذاكرا ليمينه ، أو فعل ما حلف أن لا يفعله فيه عامدا ذاكرا ليمينه ، فعليه كفارة اليمين .

هذا ما لا خلاف فيه من أحد ، وبه جاء القرآن والسنة ، فإن لم يوقت وقتا في قوله : لأفعلن كذا ، فهو على البر أبدا حتى يموت .

وكذلك لو وقت وقتا ، ولا فرق ، ولا حنث عليه ، وهذا مكان فيه خلاف - : قال مالك : هو حانث في كلا الأمرين وعليه الكفارة .

وقال الشافعي : هو على البر إلى آخر أوقات صحته التي يقدر فيها على فعل ما حلف أن يفعله ، فحينئذ يحنث وعليه الكفارة .

وقال أبو ثور ، وأبو سليمان كقولنا .

قال أبو محمد : فنسأل من قال بقول مالك : أحانث هو ما لم يفعل ما حلف أن يفعله أم بار ؟ ولا سبيل إلى قسم ثالث .

فإن قالوا : هو بار ؟

قلنا : صدقتم ، وهو قولنا لا قولكم .

وإن قالوا : هو حانث ؟

قلنا : فأوجبوا عليه الكفارة ، وطلاق امرأته في قولكم - إن كان حانثا - وهم لا يقولون بذلك .

فظهر يقين فساد قولهم بلا مرية ، وأن قولهم : هو على حنث ، وليس حانثا ، ولا حنث بعد - : كلام متناقض في غاية الفساد والتخليط .

وأما قول الشافعي فخطأ ؛ لأنه أوجب الحنث بعد البر بلا نص ولا إجماع - ولا يقع الحنث على ميت بعد موته - فلاح أن قوله دعوى بلا برهان - وبالله تعالى التوفيق .

1129 - مسألة : وأما الحلف بالأمانة ، وبعهد الله وميثاقه ، وما أخذ يعقوب على بنيه ، وأشد ما أخذ أحد على أحد ، وحق رسول الله ﷺ وحق المصحف ، وحق الإسلام ، وحق الكعبة ، وأنا كافر ، ولعمري ، ولعمرك ، ولأفعلن كذا ، وأقسم ، وأقسمت ، وأحلف ، وحلفت ، وأشهد ، وعلي يمين ، أو علي ألف يمين ، أو جميع الأيمان تلزمني - : فكل هذا ليس يمينا - واليمين بها معصية ، ليس فيها إلا التوبة والاستغفار ؛ لأنه كله غير الله - ولا يجوز الحلف إلا بالله .

قال أبو محمد : والعجب ممن يرى هذه الألفاظ يمينا ، ويرى الحلف بالمشي إلى مكة ، وبالطلاق ، وبالعتق ، وبصدقة المال : أيمانا - ثم لا يحلف في حقوق الناس من الدماء ، والفروج ، والأموال ، والأبشار بشيء من ذلك - وهي أوكد عندهم - ؛ لأنها لا كفارة لها ، ويحلفونهم بالله ، وفيه الكفارة ، أليس هذا عجبا ؟

ولئن كانت أيمانا عندهم - : بل من أغلظ الأيمان وأشدها - : فالواجب أن يحلفوا الناس بالأيمان الغليظة ، ولئن كانت ليست أيمانا فلم يقولون : إنها أيمان ؟ حسبنا الله ، وهو المستعان .

وفي كل ما ذكرنا خلاف قديم من السلف يرون كل ذلك أيمانا

روينا من طريق الحجاج بن المنهال نا أبو عوانة عن ليث عن مجاهد عن ابن مسعود قال : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغير الله صادقا .

ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي سلمة عن وبرة قال : قال ابن مسعود ، أو ابن عمر : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا .

ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج سمعت عبد الله بن أبي مليكة سمعت ابن الزبير يقول : إن عمر قال له - وقد سمعه يحلف بالكعبة - : لو أعلم أنك فكرت فيها قبل أن تحلف لعاقبتك ، احلف بالله فأثم أو ابرر

1130 - مسألة : ومن حلف بالقرآن ، أو بكلام الله عز وجل ، فإن نوى في نفسه المصحف ، أو الصوت المسموع ، أو المحفوظ في الصدور فليس يمينا ، وإن لم ينو ذلك بل نواه على الإطلاق ، فهي يمين وعليه كفارة إن حنث ؛ لأن كلام الله تعالى هو علمه .

قال تعالى { ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم } .

وعلم الله تعالى ليس هو غير الله تعالى ، والقرآن كلام الله تعالى .

وقد روينا خلاف هذا روينا من طريق عبد الرزاق ، والحجاج بن المنهال ، قال عبد الرزاق : عن سفيان الثوري عن ليث عن مجاهد ، وقال الحجاج بن المنهال : نا أبو الأشهب عن الحسن البصري - ثم اتفق الحسن ، ومجاهد قالا جميعا : قال رسول الله ﷺ { من حلف بسورة من القرآن فعليه بكل آية منها يمين صبر فمن شاء بر ومن شاء فجر } .

ولفظ الحسن { إن شاء بر وإن شاء فجر } .

وروينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل عن عبد الله بن حنظلة قال : أتيت مع عبد الله بن مسعود السوق فسمع رجلا يحلف بسورة البقرة ؟

فقال ابن مسعود : أما إن عليه بكل آية يمينا .

ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود قال : من كفر بحرف من القرآن فقد كفر به أجمع ، ومن حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين .

وهو قول الحسن البصري ، وأحمد بن حنبل .

وروينا عن سهم بن منجاب : من حلف بالقرآن فعليه بكل آية خطيئة .

وقال أبو عبيد : هو يمين واحدة .

وروينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج سمعت عطاء - وقد سأله رجل - فقال : قلت : والبيت ، وكتاب الله ؟

فقال عطاء : ليسا لك برب ، ليسا يمينا - وبه يقول أبو حنيفة .

وقد كان يلزم الحنفيين ، والمالكيين أن يقولوا بقول ابن مسعود ؛ لأنه لا يعلم له في ذلك مخالف من الصحابة .

1131 - مسألة : ولغو اليمين لا كفارة فيه ، ولا إثم .

وهو وجهان :

أحدهما : ما حلف عليه المرء - وهو لا يشك في أنه كما حلف عليه - ثم تبين له أنه بخلاف ذلك - وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، وأبي سليمان .

والثاني : ما جرى به لسان المرء في خلال كلامه بغير نية فيقول في أثناء كلامه : لا والله ، وأي والله - وهو قول الشافعي ، وأبي سليمان .

قال الله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } .

وصح من طريق معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر قال : ربما قال ابن عمر لبعض بنيه : لقد حفظت عليك في هذا المجلس أحد عشر يمينا ، ولا يأمره بكفارة . ومن طريق عبد الرزاق نا ابن جريج أنا عطاء أنه سمع عائشة أم المؤمنين وقد سألها عبيد بن عمير عن قول الله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم }

قالت : هو قول الرجل لا والله ، وبلى والله .

ومن طريق معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن عروة عن عائشة أم المؤمنين قالت في اللغو : هو قول القوم يتدارءون في الأمر يقول هذا : لا والله ، وبلى والله ، وكلا والله ، ولا تعقد عليه قلوبهم .

وهو قول القاسم بن محمد ، وعطاء ، وإبراهيم ، والشعبي ، وعكرمة ، ومجاهد ، وطاوس ، والحسن ، والزهري ، وأبي قلابة ، وغيرهم .

ومن طريق ابن عباس - ولا يصح عنه ؛ لأنه من طريق الكلبي - : لغو اليمين هو قول الرجل هذا والله فلان ، وليس بفلان .

وهو أيضا قول الحسن ، وإبراهيم ، والشعبي ، ومجاهد ، وقتادة ، وزرارة بن أوفى وسليمان بن يسار ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، والحسن بن حي ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهم .

قال أبو محمد : أما قول المرء : لا والله ، وأي والله بغير نية ، فأمره ظاهر لا إشكال فيه ؛ لأنه نص القرآن ، كما قالت أم المؤمنين رضي الله عنها .

وأما من أقسم على شيء وهو يرى ، ولا يشك في أنه كما حلف عليه ، فإنه لم يعمد الحنث ، ولا قصد له ، ولا حنث إلا على من قصد إليه إلا أن هذا مما تناقض فيه الحنفيون ، والمالكيون ، فأسقطوا الكفارة ههنا ، وأوجبوها على فعل ما حلف عليه ناسيا أو مكرها ، ولا فرق بين شيء من ذلك - وبالله تعالى التوفيق .

والعجب أيضا - أنهم رأوا اللغو في اليمين بالله تعالى ، ولم يروه في اليمين بغيره تعالى ، كالمشي إلى مكة ، والطلاق ، والعتق ، وغير ذلك .

وقد جاء أثر بقولنا : رويناه من طريق أبي داود السجستاني نا حميد بن مسعدة نا حسان هو ابن إبراهيم - نا إبراهيم هو الصائغ - عن عطاء بن أبي رباح قال : { اللغو في اليمين قالت عائشة عن النبي ﷺ هو كلام الرجل في بيته : كلا والله ، وبلى والله } وبالله تعالى التوفيق .

1132 - مسألة : ومن حلف أن لا يفعل أمرا كذا ، ففعله ناسيا أو مكرها ، أو غلب بأمر حيل بينه وبينه به ، أو حلف على غيره أن يفعل فعلا ذكره له ، أو أن لا يفعل فعلا كذا - ففعله المحلوف عليه عامدا أو ناسيا ، أو شك الحالف أفعل ما حلف أن لا يفعله أم لا ؟ أو فعله في غير عقله ، فلا كفارة على الحالف في شيء من كل ذلك ولا إثم .

روينا من طريق هشيم عن المغيرة عن إبراهيم النخعي قال : لغو اليمين : هو أن يحلف على الشيء ثم ينسى - قال هشيم : وأخبرني منصور عن الحسن بمثله .

برهان ذلك : قول الله تعالى { : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } .

وقال تعالى { : ولكن ما تعمدت قلوبكم } .

وقد قلنا : إن الحنث ليس إلا على قاصد إلى الحنث يتعمد له بنص القرآن ، وهؤلاء كلهم غير قاصدين إليه ، فلا حنث عليهم ، إذ لم يتعمدوه بقلوبهم .

وصح عن النبي ﷺ { عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } .

وأنه { رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ والمجنون حتى يفيق } .

ولقول الله تعالى { : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } .

وبالمشاهدة ندري أنه ليس في وسع الناس ، ولا المغلوب بأي وجه : منع أن يفعل ما نسي ولا ما غلب على فعله - فصح بنص القرآن أنه لم يكلف فعل ذلك ، وإذ ليس مكلفا لذلك فقد سقط عنه الوفاء بما لم يكلف الوفاء به وهذا في غاية البيان ، والحمد لله رب العالمين - وهو قول الحسن ، وإبراهيم .

روينا من طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا منصور هو ابن المعتمر - عن الحسن البصري قال : إذا أقسم على غيره فأحنث فلا كفارة عليه .

ومن طريق هشيم نا مغيرة عن إبراهيم فيمن أقسم على غيره فأحنثه أحب إلي للمقسم أن يكفر ، فلم يوجبه إلا استحبابا .

1133 - مسألة : ومن هذا من حلف على ما لا يدري أهو كذلك أم لا ، وعلى ما قد يكون ولا يكون ؟ كمن حلف لينزلن المطر غدا ، فنزل أو لم ينزل ، فلا كفارة في شيء من ذلك ؛ لأنه لم يتعمد الحنث ولا كفارة إلا على من تعمد الحنث وقصده

لقوله تعالى : { ولكن ما تعمدت قلوبكم } .

وقد صح { أن عمر حلف بحضرة النبي ﷺ أن ابن صياد هو الدجال ؟ فلم يأمره عليه السلام بكفارة } .

وقال مالك : عليه الكفارة كان ما حلف عليه أو لم يكن - وهذا خطأ ؛ لأنه لا نص بما قال ، والأموال محظورة إلا بنص ، والشرائع لا تجب إلا بنص - وبالله تعالى التوفيق .



1134 - مسألة : ومن حلف عامدا للكذب فيما يحلف ، فعليه الكفارة - وهو قول الأوزاعي ، والحسن بن حي ، والشافعي . وقالت طائفة : لا كفارة في ذلك - وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، وسفيان الثوري ، وأبي سليمان . وروينا مثل قولنا عن السلف المتقدم من طريق شعبة قال : سألت الحكم بن عتيبة عن الرجل يحلف بالحلف الكاذب ؟ أفيه كفارة ؟ قال : نعم . ومن طريق هشيم عن الحجاج عن عطاء بن أبي رباح فيمن حلف على كذب يتعمد فيه الكذب ، قال عطاء : عليه الكفارة ، ولا يزيد بالكفارة إلا خيرا . ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } قال : بما تعمدتم . ومن طريق قتادة عن الحسن في قوله تعالى { : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته } قال : بما تعمدتم فيه المأثم . وقال سعيد بن جبير : هي اليمين في المعصية . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر في الرجل يحلف على أمر يتعمده كاذبا يقول : والله لقد فعلت ، ولم يفعل ، أو والله ما فعلت ، وقد فعل ، قال : أحب إلي أن يكفر . وروينا القول الثاني من طريق رفيع أبي العالية : أن ابن مسعود كان يقول : كنا نعد من الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغموس أن يحلف الرجل كاذبا على مال أخيه ليقتطعه . وعن إبراهيم النخعي ، والحسن ، وحماد بن أبي سليمان : أن هذا اليمين أعظم من أن تكفر أو أنها كذبة ، لا كفارة فيها . قال أبو محمد : احتج من لم ير الكفارة في ذلك بالأخبار الثابتة عن رسول الله ﷺ منها - من طريق ابن مسعود عن النبي ﷺ { : من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان ، } فأنزل الله تعالى تصديق ذلك { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } . ومن طريق أبي ذر عن النبي ﷺ { : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم فذكر عليه السلام فيهم المنفق سلعته بالحلف الكاذب } . ومن طريق عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ { الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس ، واليمين الغموس } . ومن طريق عمران بن الحصين عن النبي ﷺ { : من حلف على يمين مصبورة كاذبا فليتبوأ بوجهه مقعده من النار } . ومن طريق الأشعث بن قيس عن النبي ﷺ { : من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان } . ومن طريق جابر بن عبد الله عن النبي ﷺ { : من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار } . وزاد بعضهم { ولو كان سواكا أخضر } هذه كلها آثار صحاح . وذكروا أيضا : خبرا صحيحا من طريق يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ { : من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثما ليس تغني الكفارة } . وبخبر : روينا من طريق ابن الجهم نا يوسف بن الضحاك نا موسى بن إسماعيل نا حماد بن سلمة عن ثابت عن ابن عمر { عن النبي ﷺ أنه قال لرجل : فعلت كذا وكذا ؟ قال : لا والذي لا إله إلا هو ما فعلت ، فجاء جبريل عليه السلام فقال : بلى قد فعل ، لكن الله غفر له بالإخلاص } . ورواه أبو داود من طريق موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس . وهكذا رويناه أيضا من طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس ، فإن لم يكن أخطأ فيه يوسف بن الضحاك فهو حديث جيد ، وإلا فهو ضعيف ؟ قالوا : فلم يأمره عليه السلام بكفارة ؟ قالوا : إنما الكفارة فيما حلف فيه في المستأنف . وموهوا في ذلك بذكر قول الله تعالى { : واحفظوا أيمانكم } . قالوا : وحفظها إنما يكون بعد مواقعتها . هذا كل ما شغبوا به - وكله لا حجة لهم فيه . أما حديث ابن مسعود ، وأبي ذر ، وعمران ، وجابر ، والأشعث ، وقول الله تعالى { : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم } فليس في شيء من ذلك إسقاط الكفارة ولا إيجابها ، كما ليس فيها ذكر لتوبة أصلا ، وإنما فيها كلها الوعيد الشديد بالنار والعقاب - . فسقط تعلقهم بها في إسقاط الكفارة . ثم العجب كله أنهم في هذه الأحاديث ، وفي هذه الآية على قسمين - : قسم يقول : إنه ليس شيء مما ذكر في هذه الآية ، وفي هذه الأحاديث - : يقطع : بكونه ولا بد ، وقد يمكن أن يغفر الله عز وجل . وقسم قالوا : هو نافذ ما لم يتب - فمن أعجب شأنا ممن احتج بآية وأخبار صحاح في إسقاط كفارة يمين ليس فيها من ذلك ذكر أصلا ، وهم قد خالفوا كل ما فيها علانية - وهذا عجب جدا ؟ وأما قوله عليه السلام : { من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثما ليس تغني الكفارة } فلا حجة لهم فيه أصلا ؛ لأن الأيمان عندنا وعندهم ، منها لغو لا إثم فيه ، ولم يرد هذا الصنف في هذا الخبر بلا شك . ومنها - ما يكون المرء بها حالفا على ما غيره خير منه ولا خلاف عندنا وعندهم في أن الكفارة تغني في هذا . وبه جاء النص عن النبي ﷺ على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى . ومنها - اليمين الغموس التي اختلفنا فيها ، وبالحس والمشاهدة ندري نحن وهم أن الحالف بها لا يسمى مستلجا في أهله ، فبطل أن يراد بهذا الخبر هذا القسم ، وبطل احتجاجهم به في إسقاطهم الكفارة في اليمين الغموس . فإن قيل : فما معنى هذا الخبر عندكم وهو صحيح ؟ قلنا : نعم ، معناه - ولله الحمد - بين على ظاهر لفظه دون تبديل ولا إحالة ولا زيادة ولا نقص ، وهو أن يحلف المرء أن يحسن إلى أهله ، أو أن لا يضر بهم ، ثم لج في أن يحنث ، فيضر بهم ، ولا يحسن إليهم ويكفر عن يمينه - فهذا بلا شك مستلج بيمينه في أهله أن لا يفي بها ، وهو أعظم إثما بلا شك - والكفارة لا تغني عنه ، ولا تحط إثم إساءته إليهم وإن كانت واجبة عليه - لا يحتمل ألبتة هذا الخبر معنى غير هذا . وأما حديث حماد بن سلمة ، وسفيان ، فطريق سفيان لا تصح ، فإن صحت طريق حماد فليس فيه لإسقاط الكفارة ذكر ، وإنما فيه : أن الله تعالى غفر له بالإخلاص فقط ، وليس كل شريعة توجد في كل حديث - ولا شك في أنه مأمور بالتوبة من تعمد الحلف على الكذب ، وليس في هذا الخبر لها ذكر ، فإن كان سكوته عليه السلام عن ذكر الكفارة حجة في سقوطها فسكوته عن ذكر التوبة حجة في سقوطها ولا بد ، وهم لا يقولون بهذا . فإن قالوا : قد أمر بالتوبة في نصوص أخر ؟ قلنا : وقد أمر بالكفارة في نصوص أخر نذكرها إن شاء الله تعالى . ونقول لهم : إن كان سكوته عليه السلام عن ذكر الكفارة في هذه الأخبار كلها حجة في إسقاطها فسكوته عليه السلام عن ذكر سقوطها حجة في إيجابها ولا فرق - وهي دعوى كدعوى ؛ فالواجب طلب حكم الكفارة في نص غير هذه ؟ وأما قول الله تعالى { : واحفظوا أيمانكم } فحق . وأما قولهم : إن الحفظ لا يكون إلا بعد مواقعة اليمين فكذب ، وافتراء ، وبهت ، وضلال محض ، بل حفظ الأيمان واجب قبل الحلف بها ، وفي الحلف بها ، وبعد الحلف بها ، فلا يحلف في كل ذلك إلا على حق . ثم هبك أن الأمر كما قالوا ، وأن قوله تعالى : { واحفظوا أيمانكم } إنما هو بعد أن يحلف ، فأي دليل في هذا على أن لا كفارة على من تعمد الحلف كاذبا ؟ وهل هذا منهم إلا المباهتة والتمويه ، وتحريف كلام الله عن مواضعه وما يشك كل ذي مسكة تمييز في أن من تعمد الحلف كاذبا فما حفظ يمينه - فظهر فساد كل ما يمخرقون به . وأما قولهم : إن الكفارة إنما تجب عليه فيما حلف عليه في المستأنف فباطل ، ودعوى بلا برهان ، لا من قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع . فإن ذكروا { قول رسول الله ﷺ : أنه لا يحلف على يمين فيرى غيرها خيرا منها إلا أتى الذي هو خير وكفر عن يمينه } . فلا حجة لهم فيه ؛ لأن الكفارة عندهم وعندنا تجب في غير هذه الصفة ، وهي : من حلف على يمين ورأى غيرها شرا منها ففعل الذي هو شر ، فإن الكفارة عندهم وعندنا واجبة عليه في ذلك . قال أبو محمد : وأما قولهم : هي أعظم من أن تكفر فمن أين لهم هذا ؟ وأين وجدوه ؟ وهل هو إلا حكم منهم لا من عند الله تعالى ؟ ويعارضون بأن يقال لهم : دعوى أحسن من دعواهم ، بل كلما عظم الذنب كان صاحبه أحوج إلى الكفارة ، وكانت أوجب عليه منها فيما ليس ذنبا أصلا ، وفيما هو صغير من الذنوب ، وهذا المتعمد للفطر في رمضان نحن وهم متفقون على أن الكفارة عليه ، ولعله أعظم إثما من حالف على يمين غموس ، أو مثله وهم يرون الكفارة على من تعمد إفساد حجه بالهدي بآرائهم ، ولعله أعظم إثما من حالف يمين غموس أو مثله . وأعجب من هذا كله قولهم فيمن حلف أن لا يقتل مؤمنا متعمدا ، وأن يصلي اليوم الصلوات المفروضة ، وأن لا يزني بحريمة وأن لا يعمل بالربا ، ثم لم يصل من يومه ذلك ، وقتل النفس التي حرم الله ، وزنى ، وأربى فإن عليه الكفارة في أيمانه تلك فيا لله ويا للمسلمين أيما أعظم إثما : من حلف عامدا للكذب أنه ما رأى زيدا اليوم ، وهو قد رآه فأسقطوا فيه الكفارة لعظمه . أو من حنث بأن لا يصلي الخمس صلوات ، وبأن قتل النفس ، وبأن زنى بابنته أو بأمه ، وبأن عمل بالربا - ثم لا يرون عظم حنثه في إتيانه هذه الكبائر العظيمة التي هي والله قطعا عند كل من له علم بالدين أعظم إثما من ألف يمين تعمد فيها الكذب ، لا تجب فيه كفارة ؛ لأنه أعظم من أن يكفر ؟ فهل تجري أقوال هؤلاء القوم على اتباع نص أو على التزام قياس ؟ وأما تمويههم بأنه روي ذلك عن ابن مسعود ولا يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم ، فهي رواية منقطعة لا تصح ؛ لأن أبا العالية لم يلق ابن مسعود ولا أمثاله من الصحابة رضي الله عنهم إنما أدرك أصاغر الصحابة كابن عباس ، ومثله ، رضي الله عن جميعهم . وقد خالفوا ابن مسعود في قوله : إن من حلف بالقرآن ، أو بسورة منه ، فعليه بكل آية كفارة ، ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة ؛ فابن مسعود حجة إذا اشتهوا ، وغير حجة إذا لم يشتهوا أن يكون حجة . قال أبو محمد : فإذ قد سقط كل ما شغبوا به فلنأت بالبرهان على صحة قولنا - : فنقول وبالله تعالى التوفيق . قال الله عز وجل { : فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } إلى قوله تعالى { : ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم } . فظاهر القرآن إيجاب الكفارة في كل يمين ، فلا يجوز أن تسقط كفارة عن يمين أصلا إلا حيث أسقطها نص قرآن ، أو سنة ، ولا نص قرآن ، ولا سنة ، أصلا في إسقاط الكفارة عن الحالف يمينا غموسا ؛ فهي واجبة عليه بنص القرآن . والعجب كله ممن أسقطها عنه والقرآن يوجبها ، ثم يوجبونها على من حنث ناسيا مخطئا والقرآن والسنة قد أسقطاها عنه . وأوجبوها على من لم يتعمد اليمين ولا نواها والقرآن والسنة يسقطانها عنه ؛ وهذه كما ترى . فإن قالوا : إن هذه الآية فيها حذف بلا شك ، ولولا ذلك لوجبت الكفارة على كل من حلف ساعة حلف بر أو حنث ؟ قلنا : نعم لا شك في ذلك إلا أن ذلك الحذف لا يصدق أحد في تعيينه له إلا بنص صحيح ، أو إجماع متيقن ، على أنه هو الذي أراد الله تعالى لا ما سواه ، وأما بالدعوى المفتراة فلا - : فوجدنا الحذف المذكور في الآية قد صح الإجماع المتيقن والنص على أنه فحنثتم ، وإذ لا شك في هذا فالمتعمد لليمين على الكذب عالما بأنه كذب حانث بيقين حكم الشريعة ، وحكم اللغة . فصح إذ هو حانث أن عليه الكفارة ، وهذا في غاية الوضوح - وبالله تعالى التوفيق - والقوم أصحاب قياس بزعمهم ، وقد قاسوا حالق رأسه لغير ضرورة محرما غير عاص لله تعالى . فهلا قاسوا الحالف عامدا للكذب حانثا عاصيا على الحالف أن لا يعصي ، فحنث عاصيا ، أو على من حلف أن لا يبر فبر : غير عاص في إيجاب الكفارة في كل ذلك ؟ ولكن هذا مقدار علمهم وقياسهم - وبالله تعالى التوفيق .

1135 - مسألة : واليمين في الغضب والرضا ، وعلى أن يطيع ، أو على أن يعصي ، أو على ما لا طاعة فيه ولا معصية سواء في كل ما ذكرنا إن تعمد الحنث في كل ذلك فعليه الكفارة ، وإن لم يتعمد الحنث ، أو لم يعقد اليمين بقلبه فلا كفارة في ذلك ، لقول الله تعالى : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم } فالكفارة واجبة في كل حنث قصده المرء . وقد اختلف السلف في ذلك - : فروي عن ابن عباس أن لغو اليمين هو اليمين في الغضب ولا كفارة فيها . قال أبو محمد : وهذا قول لا دليل على صحته ، بل البرهان قائم بخلافه - : كما روينا من طريق البخاري نا أبو معمر هو عبد الله بن عمرو هو الرقي - نا عبد الوارث بن سعيد التنوري نا أيوب هو السختياني - نا القاسم بن عاصم عن زهدم الجرمي عن أبي موسى أنه سمعه يقول { أتيت رسول الله ﷺ في نفر من الأشعريين فوافقته وهو غضبان فاستحملناه فحلف أن لا يحملنا - ثم قال رسول الله ﷺ والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها } . فصح وجوب الكفارة في اليمين في الغضب قال تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون } والحالف في الغضب معقد ليمينه فعليه الكفارة . وأما اليمين في المعصية - : فروينا من طريق حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبي البختري : أن رجلا أضافه رجل فحلف أن يأكل ، فحلف الضيف أن لا يأكل ، فقال له ابن مسعود : كل وإني لا أظن أن أحب إليك أن تكفر عن يمينك - فلم ير الكفارة في ذلك إلا استحبابا . ومن طريق حماد بن سلمة عن داود بن هند عن عبد الرحمن بن عابس أن ابن عباس حلف أن يجلد غلامه مائة جلدة ، ثم لم يجلده ، قال : فقلنا له في ذلك ؟ فقال : ألم تر ما صنعت ؟ تركته ، فذاك بذاك . ومن طريق سفيان بن عيينة عن سليمان الأحول قال : من حلف على ملك يمينه : أن يضربه ، فإن كفارة يمينه أن لا يضربه ، وهي مع الكفارة حسنة . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن المعتمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن المغيرة عن إبراهيم فيمن حلف أن يضرب مملوكه ؟ قال إبراهيم : لأن يحنث أحب إلي من أن يضربه ، قال المعتمر : وحلفت أن أضرب مملوكة لي ، فنهاني أبي ولم يأمرني بكفارة . ومن طريق محمد بن المثنى نا عبيد الله بن موسى العبسي نا حنظلة بن أبي سفيان الجمحي قال : سئل طاوس عمن حلف : أن لا يعتق غلاما له فأعتقه ؟ فقال طاووس : تريد من الكفارة أكثر من هذا ؟ ومن طريق عبد الرزاق عن هشيم عن أبي بشر هو جعفر بن أبي وحشية - عن سعيد بن جبير في لغو اليمين ؟ قال : هو الرجل يحلف على الحرام فلا يؤاخذه الله بتركه . ومن طريق إسماعيل بن إسحاق نا مسدد نا عبد الواحد بن زياد نا عاصم عن الشعبي قال : اللغو في اليمين كل يمين في معصية فليست لها كفارة ، من يكفر للشيطان ؟ ومن طريق إسماعيل نا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي نا عبد الواحد بن زياد نا سليمان الشيباني قال : سمعت عكرمة قال : من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأته : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } فيه نزلت . ومن طريق حماد بن سلمة نا داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق أنه قال في الرجل يحلف أن لا يصل أباه وأمه ، قال : كفارته تركه ، فسألت سعيد بن جبير ؟ فقال : لم يصنع شيئا ليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه . واحتج أهل هذه المقالة بما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا أبو أسامة عن الوليد بن كثير نا عبد الرحمن بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله ﷺ : { من حلف على معصية فلا يمين له ومن حلف على قطيعة رحم فلا يمين له } . ومن طريق أبي داود نا المنذر بن الوليد نا عبد الله بن بكر نا عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله ﷺ : { لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ، ولا في معصية الله ، ولا في قطيعة رحم ، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليدعها وليأت الذي هو خير ، فإن تركها كفارتها } . ومن طريق حجاج بن المنهال نا هشيم عن يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ : قال : { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير فهو كفارتها } . ومن طريق أبي داود نا محمد بن المنهال نا يزيد بن زريع نا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب { أن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : لا يمين عليك ، ولا نذر في معصية الله ، ولا في قطيعة الرحم ، وفيما لا تملك } . ومن طريق العقيلي نا أحمد بن عمرو نا إبراهيم بن المستمر نا شعيب بن حيان بن شعيب بن درهم نا يزيد بن أبي معاذ عن مسلم بن عقرب عن النبي ﷺ قال : { من حلف على مملوكه ليضربنه فإن كفارته أن يدعه ، وله مع كفارته خير } . ومن طريق سعيد بن منصور نا حزم بن أبي حزم القطعي سمعت الحسن يقول : بلغنا عن رسول الله ﷺ أنه قال : { لا نذر لابن آدم في مال غيره ولا يمين في معصية } . قال أبو محمد : كل هذا لا يصح - حديث عمرو بن شعيب صحيفة ، ولكن لا مؤنة على المالكيين ، والشافعيين ، والحنفيين في أن يحتجوا بروايته إذا وافقتهم ويصححونها حينئذ ، فإذا خالفتهم كانت حينئذ صحيفة ضعيفة . ما ندري كيف ينطق بهذا من يوقن أنه : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } أم كيف تدين به نفس تدري أن الله تعالى : { يعلم السر وأخفى } وأما حديث عمر فمنقطع ، لأن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر شيئا إلا نعيه النعمان بن مقرن المزني على المنبر فقط ، وهؤلاء يقولون : إن المنقطع ، والمتصل سواء ، فأين هم عن هذا الأثر ؟ وأما حديث أبي هريرة فعن يحيى بن عبيد الله - وهو ساقط متروك ذكر - ذلك مسلم ، وغيره . وأما حديث مسلم بن عقرب ففيه شعيب بن حيان - وهو ضعيف - ويزيد بن أبي معاذ - وهو غير معروف . وحديث الحسن مرسل - فسقط كل ما في هذا الباب . ووجدنا نص القرآن يوجب الكفارة في ذلك بعمومه ، ومع ذلك قول رسول الله ﷺ : { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفره } . فإن قيل : إن هذا فيما كان في كليهما خير إلا أن الآخر أكثر خيرا ؟ قلنا : هذه دعوى ، بل كل شر في العالم ، وكل معصية ، فالبر والتقوى خير منهما ، قال الله تعالى : { آلله خير أم ما يشركون } . فصح أن الله تعالى خير من الأوثان ، ولا شيء من الخير في الأوثان . وقال تعالى : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا } ولا خير في جهنم أصلا . ومن طريق مسلم نا محمد بن رافع نا عبد الرزاق [ ثنا معمر ] عن همام بن منبه نا أبو هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : { والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله } . فصح بهذا الخبر وجوب الكفارة في الحنث في اليمين التي يكون التمادي على الوفاء بها إثما - وقد روينا عن عمر بن الخطاب أنه رأى في ذلك الكفارة ، وهو قول الحاضرين - وبالله تعالى التوفيق .



1136 - مسألة : واليمين محمولة على لغة الحالف وعلى نيته ، وهو مصدق فيما ادعى من ذلك إلا من لزمته يمين في حق لخصمه عليه - والحالف مبطل - فإن اليمين ههنا على نية المحلوف له . ومن قيل له : قل كذا أو كذا ؟ فقال - وكان ذلك الكلام يمينا بلغة لا يحسنها القائل - فلا شيء عليه ولم يحلف - ومن حلف بلغته باسم الله تعالى عندهم فهو حالف ، فإن حنث فعليه الكفارة . برهان ذلك - : أن اليمين إنما هي إخبار من الحالف عما يلتزم بيمينه تلك ، وكل واحد فإنما يخبر عن نفسه بلغته ، وعما في ضميره . - فصح ما قلناه ، وقول النبي ﷺ : { إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى } . وقال الله تعالى : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } . وقال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } . ولله تعالى في كل لغة اسم ، فبالفارسية : أوزمز ، وبالعبرانية : أذوناي ، والوهيم ، والوهاء ، وإسرائيل ، وباللاتينية : داوش ، وقريطور ، وبالصقلبية : بغ ، وبالبربرية : يكش . فإن حلف هؤلاء بهذه الأسماء فهي يمين صحيحة ؛ وفي الحنث فيه الكفارة . وأما من لزمته يمين لخصمه - وهو مبطل - فلا ينتفع بتوريته ، وهو عاص لله تعالى في جحوده الحق ، عاص له في استدفاع مطلب خصمه بتلك اليمين ، فهو حالف يمين غموس ، ولا بد . روينا من طريق هشيم عن عباد بن أبي صالح وعبد الله بن أبي صالح عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : { يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك } . وقد قيل : عباد ، وعبد الله واحد ، ولا يكون صاحب المرء إلا من له معه أمر يجمعهما يصطحبان فيه ، وليس إلا ذو الحق الذي له عليك يمين تؤديها إليه ولا بد . وأما من لا يمين له عندك فليس صاحبك في تلك اليمين .

1137 - مسألة : ومن حلف ثم قال : نويت بعض ما يقع عليه اللفظ الذي نطق صدق ، وكذلك لو قال : جرى لساني ولم يكن لي نية فإنه يصدق ، فإن قال : لم أنو شيئا دون شيء حمل على عموم لفظه لما ذكرنا - وبالله تعالى التوفيق .

1138 - مسألة : ومن حلف على شيء ثم قال موصولا بكلامه : إن شاء الله تعالى ، أو إلا أن يشاء الله ، أو إلا أن لا يشاء الله ، أو نحو هذا ، أو إلا أن أشاء ، أو إلا أن لا أشاء ، أو إلا إن بدل الله ما في قلبي ، أو إلا أن يبدو إلي ، أو إلا أن يشاء فلان ، أو إن شاء فلان ، فهو استثناء صحيح وقد سقطت اليمين عنه بذلك ، ولا كفارة عليه إن خالف ما حلف عليه . فلو لم يصل الاستثناء بيمينه لكن قطع قطع ترك للكلام ثم ابتدأ الاستثناء لم ينتفع بذلك ، وقد لزمته اليمين ، فإن حنث فيها فعليه الكفارة . ولا يكون الاستثناء إلا باللفظ ، وأما بنية دون لفظ فلا ، لقول الله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } فهذا لم يعقد اليمين . ونحن على يقين من أن الله تعالى لو شاء تمام تلك اليمين لأنفذها ، وأتمها ، فإذ لم ينفذها عز وجل ولا أتمها ، فنحن على يقين من أنه تعالى لم يشأ كونها وهو إنما التزمها إن شاء الله تعالى ، والله تعالى لم يشأها ، فلم يلتزمها قط . وكذلك اشتراطه مشيئة نفسه ، أو مشيئة زيد ، لأن مشيئته لا تعلم إلا من قبله فهو مصدق فيها - ومشيئة زيد لا ندري أصدق في دعواه أنه شاء أو لم يصدق ؟ ولا ندري أيضا أصدق في دعواه أنه لم يشأ أو لم يصدق ؟ فلسنا على يقين من لزوم هذه اليمين التي حلف بها ، فلم يجز أن نلزمه كفارة بالشك . ومن طريق أحمد بن زهير بن حرب نا يحيى بن معين عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : { من حلف فقال : إن شاء الله ، لم يحنث } ومن طريق محمد بن عبد الملك بن أيمن نا بكر بن حماد نا مسدد عن عبد الوارث هو ابن سعيد التنوري - عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله ﷺ : { من حلف فاستثنى فإن شاء رجع وإن شاء ترك غير حنث } فهذا عموم لكل استثناء كما ذكرنا . قال أبو محمد : وقوله عليه السلام فقال : " إن شاء الله " أو " فاستثنى " يقتضي القول ، والقول لا يكون إلا باللسان ، لا يكون بالنية أصلا . وقد قال قوم : إن استثنى في نفسه أجزأه . وروينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن محل بن محرز عن إبراهيم النخعي قال : لا ، حتى يجهر بالاستثناء كما جهر باليمين . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن المغيرة عن إبراهيم : إن استثنى في نفسه فليس بشيء حتى يظهره بلسانه . وعن معمر عن حماد في الاستثناء : ليس بشيء حتى يسمع نفسه . وعن قتادة عن الحسن البصري إذا حرك لسانه أجزأ عنه في الاستثناء . قال أبو محمد : وبهذا نقول ، لأنه قول صحيح - يعني حركة اللسان . وأما وصل الاستثناء باليمين فإن أبا ثور قال : لا يكون مستثنيا إلا حتى ينوي الاستثناء في حين نطقه باليمين ، لا بعد تمامها ، لأنه إذا أتم اليمين ولم ينو فيها الاستثناء كان قد عقد يمينه فلزمته . قال أبو محمد : ولا يعترض بالنظر على بيان رسول الله ﷺ وقد قال عليه السلام : { من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث } فأثبت له اليمين أولا ، ثم أسقطها عليه السلام عنه بقوله : " فقال إن شاء الله " والفاء تعطي أن تكون الثاني بعد الأول بلا مهلة - فصح ما قلناه . وقالت طائفة : الاستثناء جائز أبدا متى أراد أن يستثني - : كما روينا من طريق الحجاج بن المنهال نا عبد الله بن داود هو الخريبي - عن سليمان الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال : له ثنياه بعد كذا وكذا . ومن طريق خصيف عن مجاهد قال : إن قال بعد سنين إن شاء الله تعالى فقد استثنى . وقالت طائفة بعد أربعة أشهر - : كما روينا من طريق سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال : إن قال بعد أربعة أشهر - إن شاء الله - فقد استثنى . وقالت طائفة : بعد شهر - : كما روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن سالم بن عجلان الأفطس عن سعيد بن جبير قال : إذا حلف الرجل فقال : بعد شهر - إن شاء الله - فله ثنياه . وقالت طائفة : من نسي فله أن يستثني متى ما ذكر - : كما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا وكيع عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال : يستثني في يمينه متى ما ذكر ، وقرأ : { واذكر ربك إذا نسيت } . وصح [ هذا ] أيضا عن سعيد بن جبير [ وعن ] أبي العالية . وقالت طائفة : في ذلك بمهلة غير محدودة - : كما روينا من طريق حماد بن سلمة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال : قال عبد الله بن مسعود : من حلف ثم قال : إن شاء الله - فهو بالخيار . وقالت طائفة : بمقدار حلب شاة غزيرة - : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن عطاء ، قال : له الاستثناء في اليمين بمقدار حلب الناقة الغزيرة . وطائفة قالت : له الاستثناء ما لم يقم عن مجلسه ، أو يتكلم - : كما روينا من طريق حماد بن سلمة عن قتادة قال : إذا حلف ثم استثنى قبل أن يقوم أو يتكلم فله ثنياه . وطائفة قالت : ما لم يقم فقط - : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج : أخبرني ابن طاووس عن أبيه قال : من استثنى لم يحنث وله الثنيا ما لم يقم من مجلسه . ومن طريق ابن أبي شيبة عن حماد بن سلمة عن هشام بن حسان عن الحسن البصري : أنه كان يرى الاستثناء في اليمين ما لم يقم من مقعده ذلك لا يوجب عليه الكفارة إن استثنى قبل أن يقوم . وقالت طائفة : له الاستثناء في أول نهاره - : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال : قال عبد الله بن مسعود قال أبو ذر هو الغفاري ما من رجل يقول حين يصبح : اللهم ما قلت من قول ، أو حلفت من حلف ، أو نذرت من نذر فمشيئتك بين يدي ذلك كله ، ما شئت منه كان ، وما لم تشأ لم يكن ، فاغفره لي ، وتجاوز لي عنه ، اللهم من صليت عليه فصلواتي عليه ، ومن لعنته فلعنتي عليه ، إلا كان في استثنائه بقية يومه ذلك وأما قولنا : فإننا روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع أن ابن عمر كان يحلف يقول : والله لا أفعل كذا وكذا إن شاء الله - ثم يفعله ولا يكفر . وقد صح عن ابن عمر : أنه كان يكفر أيمانا أخر - : فقد ثبت عنه إسقاط الكفارة إذا وصل الاستثناء بكلامه ، ولم يصح عنه في المهلة شيء ، فظاهره أنه إذا لم يكن استثناؤه موصولا بيمينه كفر . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال لي عطاء : إذا حلف ثم استثنى على أثر ذلك ومع ذلك ، وعند ذلك ، قال ابن جريج كأنه يقول : ما لم يقطع اليمين ويتركه - وصح عن الأعمش عن إبراهيم في الاستثناء في اليمين قال : ما كان في كلامه بقول . ورويناه أيضا عن الشعبي ، والحسن ، وسفيان الثوري . وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأبي سليمان . قال أبو محمد : إنما قلنا بهذا لقول الله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين } الآية فأوجب الله تعالى الكفارة على من عقد اليمين ، ثم قال رسول الله ﷺ : { من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث } فلم يجعل الاستثناء مردودا على اليمين إلا بالفاء ، والفاء في لغة العرب توجب تعقيبا بلا مهلة فوقفنا عند ذلك . وقال بعضهم : لو كان ما قال ابن عباس ما لزمت أحدا كفارة أبدا . قال علي : وهذا لا شيء ، لأن ابن عباس لا يمنع من أراد الحنث وإيجاب الكفارة من أن يكفر ، لكن لو قالوا : هذا مما تكثر به البلوى فما كان مثل هذا ليخفى على ابن عباس لكان ألزم لهم . والعجب أن أبا حنيفة ومالكا يريان الاستثناء في اليمين بالله تعالى فقط ولا يريانه في سائر الأيمان ، وهذا عجب جدا أن يكون الأيمان بغير الله تعالى أوكد وأعظم من اليمين بالله ، لأن اليمين بالله تعالى يسقطها الاستثناء ويسقطها الكفارة ، واليمين بغير الله تعالى أجل من أن يسقطها الاستثناء ومن أن يسقطها الكفارة ، ومن أن يكون فيها غير الوفاء بها . ونحن نبرأ إلى الله تعالى من هذا القول البشيع الشنيع ، والكفارة في نص القرآن جاءت على الأيمان جملة ، والاستثناء في بيان رسول الله ﷺ جاء في جملة ، فإن كان تلك أيمانا فالاستثناء والكفارة فيها وإن لم تكن أيمانا فمن أين ألزموها ؟ وعجب آخر عجيب جدا وهو أن مالكا قال : إن الاستثناء في الأيمان إن نوى به الحالف الاستثناء فهو استثناء صحيح ، فإن نوى به قول الله عز وجل : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } لم يكن استثناء . قال أبو محمد : هذا كلام لا يدرى ما هو ؟ ولا ماذا أراد قائله به ، ولقد رمنا أن نجد عند من أخذنا قوله عنه من المنتمين إليه معنى يصح فهمه لهذا الكلام ، فما وجدناه إلا أنهم يحملونه كما جاء وكما نقول نحن في { كهيعص } و { طه } { آمنا به كل من عند ربنا } ، وإن لم نفهم معناه . قال أبو محمد : فإن احتج محتج لقول ابن عباس وغيره بما روينا من طريق أبي داود نا محمد بن العلاء نا ابن بشر عن مسعر عن سماك بن حرب [ عن عكرمة ] يرفعه { أن رسول الله ﷺ قال : والله لأغزون قريشا ثم قال : إن شاء الله ثم قال والله لأغزون قريشا ، ثم سكت ، ثم قال : إن شاء الله } قال أبو داود : وقال الوليد بن مسلم عن شريك ، " ثم لم يغزهم " . ورويناه أيضا من طريق شريك عن سماك عن عكرمة ، وأسنده جماعة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس . قال أبو محمد : سماك ضعيف يقبل التلقين ويلزم من اعتد بروايته في أخذ الدنانير من الدراهم ، والدراهم من الدنانير أن يأخذ بها ههنا . ومن قال : إن المرسل كالمسند أن يقول بهذا أيضا . ويلزمهم إذ قاسوا ما يكون صداقا على ما تقطع فيه اليد في السرقة أن يقيسوا مدة مهلة الاستثناء على مدة الإيلاء فيقولوا بقول سعيد بن جبير في ذلك أو يجعلوه شهرا على قولهم في أجل المدين أنه يسجن شهرا ، ثم يسأل عنه بعد الشهر ؟ أو يقيسوه على قولهم الفاسد في المخيرة أن لها الخيار ما لم تقم عن مجلسها أو تتكلم ، فأي فرق بين هذه التحكمات في الدين بالباطل في تحريم الفروج وإباحتها ، وغير ذلك من الديانة وبين مهلة الاستثناء ؟ وهل هذا إلا شبه التلاعب بالدين ؟ والعجب من إجازتهم أكل ما ذبح أو نحر ونسي مذكيه أن يسمي الله تعالى عليه ، ثم لا يرون ههنا نسيان الاستثناء عذرا يوجبون للحالف به الاستثناء متى ذكر . فإن قالوا : فهلا قلتم أنتم بهذا كما أسقطتم الكفارة عمن فعل ما حلف عليه ناسيا ؟ قلنا : لم نفعل بذلك ، لأن الفاعل ناسيا ليس حانثا لأن الحانث هو القاصد إلى الحنث ، وناسي الاستثناء لم يستثن ، فانعقدت اليمين عليه فوجبت الكفارة بنص القرآن . والكفارة لا تسقط بعد وجوبها إلا بنص ، ولم يسقطها النص إلا إذا قال موصولا باليمين ما يستثني به . والعجب أنهم يقولون في مثل هذا إذا وافقهم : مثل هذا لا يقال بالرأي ، فهلا قالوا في قول أبي ذر . وابن عباس ههنا : مثل هذا لا يقال بالرأي ، كما قالوا في رواية شيخ من بني كنانة عن عمر البيع عن صفقة أو خيار : هذا لا يقال بالرأي ، فردوا به السنة الثابتة من أن كل بيعين فلا بيع بينهما ما لم يتفرقا وكانا معا .

1139 - مسألة : ويمين الأبكم واستثناؤه لازمان على حسب طاقته من صوت يصوته أو إشارة إن كان مصمتا لا يقدر على أكثر ، لما ذكرنا من أن الأيمان إخبار من الحالف عن نفسه ، والأبكم ، والمصمت ، مخاطبان بشرائع الإسلام كغيرهما . وقد قال الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . وقال رسول الله ﷺ : { إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم } . فوجب عليهما من هذه الشريعة ما استطاعاه ، وأن يسقط عنهما ما ليس في وسعهما ، وأن يقبل منهما ما يخبران به عن أنفسهما حسب ما يطيقان ويلزمهما ما التزماه - وبالله تعالى التوفيق .

1140 - مسألة : والرجال ، والنساء ، الأحرار ، والمملوكون ، وذوات الأزواج والأبكار ، وغيرهن ، في كل ما ذكرنا ونذكر سواء ، لأن الله تعالى قال : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } . وقال تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } . وقال عليه السلام : { من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله } وقال في الاستثناء ما ذكرنا ولم يأت نص بتخصيص عبد من حر ، ولا ذات زوج من أيم ، ولا بكر من ثيب { وما كان ربك نسيا } . والتحكم في الدين بالآراء الفاسدة لا يجوز - وبالله تعالى التوفيق . قد وافقونا : على أن كل من ذكرنا مخاطب بالصلاة ، وبالصيام ، وتحريم ما يحرم ، وتحليل ما يحل سواء ، فأنى لهم تخصيص بعض ذلك من بعض بالباطل ، والدعاوى الكاذبة ؟ فإن ذكروا ما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن حرام بن عثمان عن عبد الرحمن ، ومحمد ابني جابر بن عبد الله عن أبيهما : أن رسول الله ﷺ قال : { لا يمين لولد مع يمين والد ، ولا يمين لزوجة مع يمين زوج ، ولا يمين للمملوك مع يمين مليكه ، ولا يمين في قطيعة ، ولا نذر في معصية ، ولا طلاق قبل نكاح ، ولا عتاقة قبل الملك ولا صمت يوم إلى الليل ، ولا مواصلة في الصيام ، ولا يتم بعد الحلم ، ولا رضاعة بعد الفطام ، ولا تغرب بعد الهجرة ، ولا هجرة بعد الفتح } فحرام بن عثمان ساقط مطرح لا تحل الرواية عنه ، ويلزم من قلد روايته في استظهار المستحاضة بثلاث بعد أيامها ، فأسقط بها الصلوات المفروضة والصيام المفروض ، وحرم الوطء المباح أن يأخذوا بروايته ههنا ، وإلا فهم متلاعبون بالدين . بالله تعالى التوفيق . وقد خالفوا أكثر ما في هذا الخبر - وأما نحن فوالله لو صح بروايته الثقات متصلا لبادرنا إلى القول به - وبالله تعالى التوفيق .

1141 - مسألة : ولا يمين لسكران ، ولا لمجنون في حال جنونه ، ولا لهاذ في مرضه ، ولا لنائم في نومه ، ولا لمن لم يبلغ . ووافقنا في كل هذا أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، إلا أنهم خالفونا في السكران وحده ، ووافق في السكران أيضا قولنا ههنا قول المزني ، وأبي سليمان ، وأبي ثور ، والطحاوي ، والكرخي من أصحاب أبي حنيفة ، وغيرهم . وحجتنا في السكران قول الله تعالى : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } فمن شهد الله تعالى له بأنه لا يدري ما يقول ، فلا يحل أخذه بما لا يدري ما هو من قوله ، وبيقين ندري أنه لم يعقد اليمين ، والله تعالى لا يؤاخذ إلا بما عقد منها بنص القرآن ، وما نعلم لهم حجة إلا أنهم قالوا : هو أدخل ذلك على نفسه ؟ فقلنا : نعم ، فكان ماذا ؟ وما تقولون فيمن قطع الطريق فجرح جراحة أقعدته ، أو جرحها نفسه عابثا عاصيا ، أينتقل إلى حكم من أقعد في سبيل الله ، أو بمرض من عنده عز وجل في جواز الصلاة قاعدا ، وفي وجوب الفطر في رمضان في مرضه أم لا ؟ فمن قولهم : نعم ، فظهر تناقضهم . وكل من صار إلى حال يبطل اختياره فيها بأي وجه صار إليها ، فهو في حكم من صار إليها بغلبة ، لأن النصوص لم تستثن ههنا من أحوال المصير إلى تلك الحال شيئا . والعجب من المالكيين القائلين فيمن خرج قاطعا للطريق فاضطر إلى الميتة ، والخنزير : إن له أن يقوي نفسه بأكلها ، والقرآن جاء بخلاف ذلك - وهو قادر على التوبة ثم يأكل حلالا فلا يلزمه ذلك ، ثم لا يرى السكران في حكم من ذهب عقله من أجل أنه هو أدخله على نفسه . والعجب من أبي حنيفة الذي يرى أن النائم في نهار رمضان إن أكل في حال نومه ، أو شرب ما دس في فمه ، أنه مفطر ، ثم يراه ههنا غير حالف ثم يلزم السكران يمينه ، وهذا عجب جدا . فإن قالوا : لعله متساكر ، ومن يدري أنه سكران ؟ قلنا : ولعل المجنون متجنن ، متحامق ، ومن يدري أنه مجنون ، أو أحمق - وجوابنا ههنا أنه من حيث يدري أنه مجنون ، يدري أنه سكران ، ولا فرق . وفي الصبي يحلف : خلاف نذكره : روينا من طريق محمد بن المثنى عن حفص بن غياث عن ليث بن أبي سليم عن طاوس قال : إذا حلف الصبي ثم حنث بعد ما يكبر كفر . قال أبو محمد : وقد صح عن بعض الصحابة : عمر ، أو عثمان : إقامة الحد على من بلغ خمسة أشبار وإن لم يبلغ - ويلزم من يرى من المالكيين أن يكفر عن الصبي يصيب لصيد في إحرامه أن يكفر عنه إن حنث وإلا فقد تناقضوا . قال علي : والحجة في هذا - : هو ما رويناه من طريق أبي داود نا موسى بن إسماعيل نا وهيب هو ابن خالد - عن خالد الحذاء عن أبي الضحى عن علي بن أبي طالب عن النبي ﷺ قال : { رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يعقل } . ومن طريق أبي داود نا عثمان بن أبي شيبة نا يزيد بن هارون نا حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن الأسود بن يزيد عن عائشة أم المؤمنين : أن رسول الله ﷺ قال : { رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ ، وعن المبتلى حتى يبرأ ، وعن الصبي حتى يكبر } . قال علي : السكران مبتلى بلا شك في عقله .

1142 - مسألة : ومن حلف بالله تعالى في كفره ثم حنث في كفره ، أو بعد إسلامه فعليه الكفارة ، لأنهم مخاطبون بطاعة رسول الله ﷺ ودين الله تعالى لازم لهم - قال تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } . وقال تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ولا يجزيه أن يكفر في حال كفره ، لأنه لم يأت بالكفارة التي افترض الله تعالى عليه في القرآن مصدقا أنها دين الله تعالى فعليه أن يأتي بها . قال تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } .

1143 - مسألة : ومن حلف : واللات ، والعزى ، فكفارته أن يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير - يقولها مرة ؛ أو يقول : لا إله إلا الله وحده ثلاث مرات ولا بد . وينفث عن شماله ثلاث مرات ، ويتعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات ثم لا يعد فإن عاد عاد لما ذكرنا أيضا . ومن قال لآخر : تعال أقامرك ؟ فليتصدق ولا بد بما طابت به نفسه قل أم كثر - : لما روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا عبد الحميد بن محمد أنا مخلد نا يونس هو ابن أبي إسحاق السبيعي - عن أبيه [ قال ] حدثني مصعب بن سعد عن أبيه { سعد بن أبي وقاص قال : حلفت باللات والعزى فأتيت رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له ؟ فقال : قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وانفث عن شمالك ثلاثا ، وتعوذ بالله من الشيطان ، ثم لا تعد } . ومن طريق أحمد بن شعيب نا أبو داود الحراني نا الحسن بن محمد هو ابن أعين ثقة - نا زهير هو ابن معاوية - نا أبو إسحاق هو السبيعي عن { مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : حلفت باللات والعزى فقال لي أصحاب رسول الله ﷺ : بئس ما قلت ائت رسول الله ﷺ فأخبره فإنا لا نراك إلا قد كفرت فلقيته فأخبرته ؟ فقال لي : قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات وتعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات وانفث عن شمالك ثلاث مرات ولا تعد له } . ومن طريق مسلم نا إسحاق هو ابن راهويه - أنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف : أن أبا هريرة قال : قال رسول الله ﷺ { : من حلف منكم فقال في حلفه : باللات ، فليقل لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه : تعال أقامرك فليتصدق } . قال علي : في هذا إبطال التعلق بقول أحد دون رسول الله فقد قال الصحابة رضي الله عنهم لسعد : ما نراك إلا قد كفرت ، ولم يكن كفر .

1144 - مسألة : ومن حلف أيمانا على أشياء كثيرة على كل شيء منها يمين ، مثل : والله لا أكلت اليوم ، ووالله لا كلمت زيدا ، ووالله لا دخلت داره أو نحو هذا ، فهي أيمان كثيرة إن حنث في شيء منها فعليه كفارة . فإن عمل آخر فكفارة أخرى ، فإن عمل ثالثا فكفارة ثالثة - وهكذا ما زاد ، لأنها أيمان متغايرة ، وأفعال متغايرة ، وأحناث متغايرة ، إن حنث في يمين لم يحنث بذلك في أخرى بلا شك ، فلكل يمين حكمها .

1145 - مسألة : فلو حلف كذلك ثم قال في آخرها : إن شاء الله أو استثنى بشيء ما ، فإن قوما قالوا : إن كان ذلك موصولا فهو مصدق فيما نوى ، فإن قال أردت بالاستثناء جميع الأيمان ، فلا حنث عليه في شيء منها . وإن قال : نويت آخرها ، فهو كما قال - وبالله تعالى التوفيق . وقال أبو ثور : الاستثناء راجع إلى جميع الأيمان . وقال أبو حنيفة : لا يكون الاستثناء إلا لليمين التي تلي الاستثناء . قال أبو محمد : وبهذا نأخذ ، لأنه قد عقد الأيمان السالفة ولم يستثن فيها وقطع الكلام فيها ، وأخذ في كلام آخر ، فبطل أن يتصل الاستثناء بها ، فوجب الحنث فيها إن حنث والكفارة ، وكان الاستثناء في اليمين التي اتصل بها كما قدمنا - وبالله تعالى التوفيق .

1146 - مسألة : فإن حلف يمينا واحدة على أشياء كثيرة ، كمن قال : والله لا كلمت زيدا ولا خالدا ، ولا دخلت دار عبد الله ، ولا أعطيتك شيئا ، فهي يمين واحدة ، ولا يحنث بفعله شيئا مما حلف عليه ، ولا تجب عليه كفارة حتى يفعل كل ما حلف عليه . وهذا قول عطاء ، والشافعي ، وبعض أصحابنا . روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قال عطاء فيمن قال : والله لا أفعل كذا ، والله لا أفعل كذا ، لأمور شتى - قال : هو قول واحد ، ولكنه خص كل واحد بيمين ، قال : كفارتان . وقال عطاء فيمن قال والله لا أفعل كذا ، وكذا لأمرين شتى فعمهما باليمين ؟ قال : كفارة واحدة - ولا نعلم لمتقدم فيها قولا آخر . وقال المالكيون : هو حانث بكل ما فعل من ذلك ، ثم يخرج على هذا القول أنه يجب عليه لكل فعل كفارة - وقول آخر : إنه يلزمه كفارة بأول ما يحنث ، ثم لا كفارة عليه في سائر ذلك . قال أبو محمد : اليمين لا تكون بالنية دون القول وهو لم يلفظ إلا بيمين واحدة ، فلا يلزمه أكثر من يمين أصلا ، إذ لم يوجب لزومها إياه قرآن ؛ ولا سنة ، فإذ هي يمين واحدة فلا يجوز أن يكون في بعضها على حنث ، وفي بعضها على بر ؛ إنما هو حانث ، أو غير حانث : ولم يأت بغير هذا قرآن ، ولا سنة ، ولا قياس ، ولا قول متقدم . فصح أنه لا يكون حانثا إلا بأن يفعل كل ما عقد بتلك اليمين أن لا يفعله - وأيضا : فالأموال محظورة والشرائع لا تجب بدعوى لا نص معها - وبالله تعالى التوفيق .

1147 - مسألة : فإن حلف أيمانا كثيرة على شيء واحد ، مثل : أن يقول : بالله لا كلمت زيدا ، والرحمن لا كلمته ، والرحيم لا كلمته ، بالله ثانية لا كلمته ، بالله ثالثة لا كلمته - وهكذا أبدا في مجلس واحد ، أو في مجالس متفرقة ، وفي أيام متفرقة : فهي كلها يمين واحدة - ولو كررها ألف ألف مرة - وحنث واحد ؛ وكفارة واحدة - ولا مزيد . وقد اختلف السلف في هذا - : روينا من طريق حماد بن سلمة عن أبان عن مجاهد قال : زوج ابن عمر مملوكه من جارية له ، فأراد المملوك سفرا فقال له ابن عمر : طلقها ؟ فقال المملوك : والله لا طلقتها فقال له ابن عمر والله لتطلقنها كرر ذلك ثلاث مرات ؟ قال مجاهد لابن عمر : كيف تصنع ؟ قال : أكفر عن يميني ، فقلت له : قد حلفت مرارا ؟ قال : كفارة واحدة . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن مجاهد عن ابن عمر قال : إذا أقسمت مرارا فكفارة واحدة . ومن طريق إبراهيم النخعي إذا ردد الأيمان فهي يمين واحدة . وعن هشام بن عروة أن أباه سئل من تعرضت له جارية له مرارا كل مرة يحلف بالله أن لا يطأها ؟ ثم وطئها ؟ فقال له عروة : كفارة واحدة . ومن طريق حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء قال : كفارة واحدة إذا حلف في أمر واحد ، في مجالس شتى . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : إذا حلف في مجالس شتى قال : كفارة واحدة . قال : وأخبرني من سمع عكرمة يقول مثل هذا ؟ ومن طريق حماد بن سلمة عن حميد ، وقتادة عن الحسن قال : كفارة واحدة إذا حلف في أمر واحد في مجالس شتى - وهو قول الأوزاعي ، ومالك ، وأحمد . وإسحاق ، وأبي سليمان ، وأبي عبيد ، وأحد قولي سفيان الثوري . وروينا عن ابن عمر ، وابن عباس : إذا أكد اليمين فعتق رقبة . وقالت طائفة : إن كان ذلك في مجلس واحد فكفارة واحدة ، وإن كان في مجالس شتى فكفارات شتى . صح ذلك عن قتادة ، وقال عمرو بن دينار : يقولون ذلك . وقال سفيان الثوري في قول له : إن نوى باليمين الأخرى يمينا ثانية فكفارتان ، وقال عثمان البتي ، وأبو ثور : إن أراد التكرار فيمين واحدة وإن أراد التغليظ فلكل مرة كفارة . وهو قول الشافعي إلا أنه عبر عنه بأن قال : إن أراد التكرار فكفارة واحدة ، وإلا فلكل مرة كفارة - فلم يخرجه عن أن يكون لكل مرة كفارة ، إلا بأن ينوي التكرار فقط - ثم لم يشترط إرادة التغليظ . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن أراد التكرار فيمين واحدة ، وإن لم تكن له نية ، وأراد التغليظ ، أو كان ذلك في مجلسين فصاعدا ، فلكل يمين كفارة . قال أبو محمد : لا نعلم لمن رأى في تأكيد اليمين عتق رقبة - فقط - حجة ، لأن الله تعالى حين بين الرقبة ، والإطعام ، والكسوة ، وقد علم أن هنالك أيمانا مؤكدة ، قال تعالى : { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } . ولا نعلم لمن فرق بين أن يكون ذلك في مجلس وبين أن يكون في مجلسين فصاعدا حجة إلا الدعوى أنها يمين واحدة ، في مجلس ، ويمين ثانية في المجلس الثاني . وهذه دعوى لا يصححها برهان ، وكل لفظ فهو بلا شك غير اللفظ الآخر ، كما أن كل مجلس غير المجلس الآخر ولا فرق . وكذلك لا ندري لمن فرق بين التغليظ وغير التغليظ حجة أصلا إلا الدعوى بلا برهان . وأما من قال : إن نوى التكرار فهي يمين واحدة ، وإلا فهي أيمان شتى ، فما نعلم لهم حجة إلا أنهم قالوا : هي ألفاظ شتى ، فلكل لفظ حكم ، أو أن يقيسوا ذلك على تكرار الطلاق . قال أبو محمد : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه باطلا ، لأن النص جاء في القرآن بأن حكم الطلقة الثالثة غير حكم الثانية ، وغير حكم الأولى ، ولم يأت ذلك في الأيمان . وأما قولهم : إنها ألفاظ شتى ، فنعم ، إلا أن الحنث به تجب الكفارة لا بنفس اليمين فإن الأيمان لا توجب الكفارة أصلا ، ولا خلاف في ذلك ولا يوجب الكفارة إلا الحنث ، فالحنث فيها كلها حنث واحد بلا شك ولا يجوز أن يكون بحنث واحد كفارات شتى ، والأموال محرمة ، والشرائع ساقطة ، إلا أن يبيح المال نص ، أو يأتي بالشرع نص وبالله تعالى التوفيق . وهذا مما خالف فيه الحنفيون ، والشافعيون ، ابن عمر وابن عباس ولا يعرف لهما من الصحابة مخالف وبالله تعالى التوفيق .



1148 - مسألة : ومن حلف بالله لا أكلت هذا الرغيف ؛ أو قال : لا شربت ماء هذا الكوز ، فلا يحنث بأكل بعض الرغيف ، ولو لم يبق منه إلا فتاته ، ولا بشرب بعض ما في الكوز . وكذلك لو حلف بالله لآكلن هذا الرغيف اليوم ، فأكله كله إلا فتاته وغابت الشمس فقد حنث - وهكذا في الرمانة ، وفي كل شيء في العالم لا يحنث ببعض ما حلف عليه ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان . وقال المالكيون : يحنث بأكل بعضه وشرب بعضه . قال أبو محمد : نسألهم عن رجل أكل بعض رغيف لزيد فشهد عليه شاهدان أنه أكل رغيف زيد ؟ أصادقان هما أم كاذبان ؟ فمن قولهم إنهما كاذبان مبطلان ، فأقروا على أنفسهم بالفتيا بالكذب ، وبالباطل ، وبالمشاهدة يدرى فساد هذا القول ، لأنه إنما حلف أن لا يأكله ، لم يحلف أن لا يأكل منه شيئا ، وهو إذا أبقى منه شيئا فلم يفعل ما حلف عليه ، والأموال محظورة إلا بنص ، ولا نص في صحة قولهم . وقال قائلهم : الحنث ، والتحريم ، وكلاهما يدخل بأرق الأسباب ؟ فقلنا : هذا باطل ما يدخل الحنث والتحريم لا بأرق الأسباب ، ولا بأغلظها ، ولا يدخل التحليل أيضا لا بأرق الأسباب ، ولا بأغلظها - وكل هذا باطل وإفك ، ولا يدخل الحنث ، والبر ، والتحريم ، والتحليل ؛ إلا حيث أدخل الله تعالى منها في كتابه أو على لسان رسول الله ﷺ . وأطرف شيء أنهم قالوا : تحريم زوجة الأب على الابن يدخل بأرق الأسباب - وهو العقد وحده ؟ فقلنا لهم : نسيتم أنفسكم ، أو لم يكن فرج هذه المرأة حراما على الأب ، كما هي على الابن ، ثم دخل التحليل للأب بأرق الأسباب - وهو العقد وحده - فأين قولكم : إن التحليل لا يدخل إلا بأغلظ الأسباب ؟ وكم هذا التخليط بما لا يعقل في دين الله تعالى ؟ وقالوا : والتحليل لا في المطلقة ثلاثا لا يدخل إلا بأغلظ الأسباب - وهو العقد ، والوطء ؟ فقلنا : نقضتم قولكم قولوا بقول الحسن ، وإلا فقد أفسدتم بنيانكم ، لأنه يقول : لا تحل المطلقة ثلاثا إلا بالعقد ، والوطء ، والإنزال فيها ، وإلا فلا ، وهذا أغلظ الأسباب والقوم في لا شيء - ونحمد الله على السلامة . وابنة الزوجة لا تحرم على زوج أمها بأرق الأسباب الذي هو العقد ، لكن بالدخول بالأم مع العقد ، فهذا تحريم لم يدخل إلا بأغلظ الأسباب . ثم تناقضهم ههنا طريف جدا ، لأن من قولهم : إن من حلف أن لا يأكل رغيفا فأكل نصف رغيف يحنث ، ومن حلف أن لا يهب لزيد عشرة دنانير فوهب له تسعة دنانير أنه لا يحنث ، فأي فرق بين هذا كله لو كان ههنا تقوى ؟ واحتج بعضهم في ذلك - : بأن من حلف أن لا يدخل دار زيد فدخل شيئا منها فإنه يحنث ؛ فقلنا لهم : إنما يكون الحنث بمخالفة ما حلف عليه ، ولا يكون في اللغة والمعقول دخول الدار إلا بدخول بعضها ، لا بأن يملأها بجثته ، بخلاف أكل الرغيف ، ولو أنه دخل بعضه الدار لا كله لم يحنث ، لأنه لم يدخلها - وهم مجمعون معنا على : أن من حلف أن لا يهدم هذا الحائط فهدم منه مدرة أنه لا يحنث .

1149 - مسألة : فلو حلف أن لا يأكل من هذا الرغيف ، أو أن لا يشرب من ماء هذا الكوز فإنه يحنث بأكل شيء منه وشرب شيء منه ، لأنه خلاف ما حلف عليه - وبالله تعالى التوفيق .

1150 - مسألة : فلو حلف أن لا يشرب ماء النهر ، فإن كانت له نية في شرب شيء منه حنث [ بأي شيء منه ] لأنه بهذا يخبر عن شرب بعض مائه فإن لم يكن له نية فلا حنث عليه ، لأن النبي ﷺ يقول : { إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى } .

1151 - مسألة : ومن حلف أن لا يدخل دار زيد ، فإن كانت من الدور المباحة الدهاليز كدور الرؤساء لم يحنث بدخول الدهليز حتى يدخل منها ما يقع على من صار هنالك أنه داخل دار زيد وإن كانت من الدور التي لا تباح دهاليزها حنث بدخول الدهليز . وهكذا في المساجد ، والحمامات ، وسائر المواضع لما ذكرنا : من أنه إنما يراعى ما يتخاطب به أهل تلك اللغة . وقد قال الله تعالى : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا } فهذا عموم ، ولا يجوز أن يقال : إن محمدا عليه السلام ، والأنبياء يدخلون جهنم .

1152 - مسألة : ومن حلف أن لا يدخل دار فلان ، أو أن لا يدخل الحمام فمشى على سقوف كل ذلك ، أو دخل دهليز الحمام لم يحنث ، لأنه لم يدخل الدار ولا الحمام ولا يسمى دخول دهليز الحمام دخول حمام


1153 - مسألة : ومن حلف أن لا يكلم فلانا ، فأوصى إليه أو كتب لم يحنث ، لأنه لا يسمى الكتاب ولا الوصية : كلاما . وكذلك لو أشار إليه قال الله عز وجل : { آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا } . وقال تعالى : { فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا } إلى قوله : { فأشارت إليه } . فصح أن الإشارة ، والإيماء ليس كلاما .

1154 - مسألة : ومن حلف أن لا يشتري إداما فأي شيء اشتراه من لحم ، أو غيره أي شيء كان مما يؤكل به الخبز فاشتراه ليأكل به الخبز حنث - أكل به أو لم يأكل - لأنه قد اشترى الإدام فلو اشتراه ليأكله بلا خبز لم يحنث ، لأنه ليس إداما حينئذ . وقال أبو حنيفة : من حلف أن لا يأكل إداما فأكل خبزا بشواء لم يحنث ، فإن أكله بملح أو بزيت أو بشيء يصنع فيه الخبز حنث . قال علي : وهذا كلام فاسد جدا لأنه لا دليل عليه لا من شريعة ولا لغة - : نا أحمد بن عمر بن أنس نا أحمد بن محمد البلوي غندر نا خلف بن القاسم نا أبو الميمون نا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد نا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النصري نا عمر بن حفص بن غياث نا أبي عن محمد بن يحيى ثقة عن يزيد الأعور عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال : { رأيت رسول الله ﷺ أخذ كسرة خبز شعير ووضع عليها تمرة وقال : هذه إدام هذه } . قال علي : وأصل الإدام الجمع بينه وبين الخبز ، فذلك أحرى أن يؤدم بينهما فكل شيء جمع إلى الخبز ليسهل أكله به فهو إدام .

1155 - مسألة : ومن حلف أن يضرب غلامه عددا من الجلد أكثر من العشر لم يحل له ذلك ، ويبر في يمينه بأن يجمع ذلك العدد فيضربه ضربة واحدة - : روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أنه أخبره عبد الله بن عبيد بن عمير أنه رأى أباه يتحلل يمينه في ضرب نذره بأدنى ضرب ؟ فقال عطاء : قد نزل ذلك في كتاب الله تعالى : { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث } . وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان . وقال مجاهد ، والليث ، ومالك : لا يبر بذلك - وما نعلم لهم حجة أصلا .

1156 - مسألة : ولا معنى للبساط في الأيمان ولا للمن ، ولو منت امرأته عليه أو غيرها بمالها فحلف أن لا يلبس من مالها ثوبا لم يحنث إلا بما سمى فقط ، ويأكل من مالها ما شاء ، ويأخذ ما تعطيه ، ولا يحنث بذلك ، ويشتري بما تعطيه ما يلبس ولا يحنث بذلك . وكذلك من من على آخر بلبن شاته فحلف أن لا يشرب منه شيئا ، فله أن يأكل من لحم تلك الشاة ، ومن جبنها ، ومن زبدها ، ورائبها ، لأنه ليس شيء من ذلك شرب لبن . فإن باعت تلك الشاة واشترت أخرى كان له أن يشرب من لبنها ولا كفارة في ذلك ، إنما يحنث بما حلف عليه وسماه فقط . وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان . وقال مالك : يحنث بكل ذلك ، ثم تناقض فقال : إن وهبت له شاة ثم منت بها عليه فحلف أن لا يأكل من لبنها شيئا فباعها وابتاع بثمنها ثوبا لبسه فإنه يحنث - ولا يحنث بإمساكها في ملكه ولا ببيعها وقضاء دينه من ثمنها - وهذا قول ظاهر الفساد ، لأنه أحنثه بغير ما حلف عليه . وموه بعضهم بأن ذكر ما رويناه من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن علي بن الحسين : { أن أبا لبابة ربط نفسه إلى سارية وقال : لا أحل نفسي حتى يحلني رسول الله ﷺ أو تنزل توبتي ، فجاءت فاطمة تحله فأبى إلا أن يحله رسول الله ﷺ فقال عليه السلام : إن فاطمة بضعة مني } فهذا لا يصح ، لأنه مرسل - ثم عن علي بن زيد وهو ضعيف . ثم لو صح لكانوا مخالفين لما فيه ، لأنهم لا يختلفون فيمن حلف أن يضرب زيدا فضرب ولد زيد أنه لا يحنث .


1157 - مسألة : ومن حلف أن لا يفعل أمرا كذا حينا أو دهرا أو زمانا أو مدة أو برهة أو وقتا ، أو ذكر كل ذلك بالألف واللام - أو قال مليا ، أو قال : عمرا ، أو العمر ، فبقي مقدار طرفة عين لم يفعله ، ثم فعله ، فلا حنث عليه ، لأن كل جزء من الزمان زمان ، ودهر ، وحين ، ووقت ، وبرهة ، ومدة . وقد اختلف السلف في الحين - : فقالت طائفة : الحين سنة - : روينا من طريق ابن وهب عن الليث بن سعد كان علي بن أبي طالب يقول : أرى الحين سنة . وقد روي من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : الحين سنة . ومن طريق شعبة عن الحكم بن عتيبة ، وحماد بن أبي سليمان ، قالا جميعا : الحين سنة - وعن عكرمة مثله . وهو قول مالك ، قال : إلا أن ينوي غير ذلك فله ما نوى . وذهبت طائفة إلى ما رويناه من طريق محمد بن المثنى عن محمد بن عبد الله الأنصاري عن محمد بن علي بن الحسين أنه سئل في رجل حلف على امرأته : أن لا تفعل فعلا ما إلى حين ؟ فقال : أي الأحيان أردت ؟ فإن الأحيان ثلاثة - : قال الله عز وجل : { تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها } . كل ستة أشهر . وقوله تعالى : { ليسجننه حتى حين } فذلك ثلاثة عشر عاما . وقوله تعالى : { ولتعلمن نبأه بعد حين } فذلك إلى يوم القيامة . وذهبت طائفة إلى ما رويناه من طريق إسماعيل بن إسحاق عن محمد بن عبيد عن محمد بن ثور عن معمر قال الحسن البصري : { تؤتي أكلها كل حين } ما بين ستة أشهر إلى تسعة أشهر ، وذهب طائفة إلى ما روينا من طريق محمد بن المثنى نا المغيرة بن سلمة بن هشام المخزومي نا وهيب بن خالد نا ابن حرملة : أن رجلا سأل سعيد بن المسيب عن يمينه أن لا تدخل امرأته على أهلها حينا ؟ فقال سعيد ؛ الحين ما بين أن تطلع النخل إلى أن ترطب { تؤتي أكلها كل حين } وذهبت طائفة إلى ما روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق عن محمد بن عبيد عن محمد بن ثور عن معمر عن قتادة : { تؤتي أكلها كل حين } قال : تؤكل ثمرتها في الشتاء والصيف . وذهبت طائفة إلى ما روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري حدثني طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال " الحين ستة أشهر " وهو قول سعيد بن جبير ، والشعبي . وذهبت طائفة إلى ما روينا من طريق محمد بن المثنى نا يزيد بن هارون أنا هشام هو ابن حسان - عن عكرمة أن عمر بن عبد العزيز سألهم عمن قال : لا أفعل أمرا كذا حينا ؟ فقال له عكرمة : إن من الحين ما يدرك وما لا يدرك - : فالذي لا يدرك قوله عز وجل : { ومتعناهم إلى حين } . والذي يدرك قوله تعالى : { تؤتي أكلها كل حين } فأراه من حين تثمر إلى حين تصرم ستة أشهر . فأعجب ذلك عمر بن عبد العزيز - . وبه يقول أبو حنيفة ، والأوزاعي ، وأبو عبيد . وقال أبو حنيفة : إلا أن ينوي مدة ما فله ما نوى . وذهبت طائفة إلى ما رويناه من طريق محمد بن المثنى نا يزيد بن هارون عن محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم بن ميسرة عن سعيد بن المسيب قال : الحين شهران ، النخلة تطلع السنة كلها إلا شهرين . وذهبت طائفة إلى ما روينا من طريق محمد بن المثنى نا أبو معاوية الضرير نا الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : الحين قد يكون غدوة وعشية - وهو قول الشافعي ، وأبي سليمان . وروينا من طريق وكيع عن أبي جعفر عن طاووس قال : الزمان شهران . قال أبو محمد : المرجوع إليه عند التنازع كلام الله تعالى : وكلام رسوله ﷺ فوجدناه تعالى قد قال : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا } فهذا مذ خلق الله عز وجل مبدأ العالم إلى خلق آدم عليه السلام ، ونسم بنيه ، وإلى وقت نفخ الروح في كل واحد منا . وقال تعالى : { ولتعلمن نبأه بعد حين } فهذا إلى يوم القيامة . وقال تعالى : { ومتعناهم إلى حين } فهذا مدة عمر الإنسان إلى أن يموت . وقال تعالى : { ليسجننه حتى حين } . وقال تعالى : { فلبث في السجن بضع سنين } والبضع ما بين الثلاث إلى التسع . وقال الله تعالى : { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون } فسمى الله تعالى المساء حينا ، والإصباح حينا ، والظهيرة حينا . فصح بذلك ما ذكرناه ، وبطل قول من حد حدا دون حد . ووجدنا احتجاجهم بالنخلة عليهم لا لهم ، لأننا نشاهدها يرطب منها ما كان زهوا ، ويزهى ما كان بسرا ، ويبسر منها ما كان بلحا ، ويبلح منها ما كان طلعا ، ففي كل ساعة تؤتي أكلها - وبالله تعالى التوفيق . ولأبي حنيفة هنا تخاليط عظيمة - : منها - أنه قال : من حلف أن لا يكلم فلانا زمانا ، أو الزمان ، أو حينا أو الحين ، أو مليا ، أو طويلا ، فهو كله ستة أشهر ، إلا أن ينوي مدة ما فله ما نوى - وروي عنه أيضا في قوله مليا : أنه شهر واحد . فإن حلف لا يكلمه دهرا ؟ قال أبو حنيفة : لا أدري ما الدهر ؟ وقال أبو يوسف ، ومحمد : هو ستة أشهر . فإن قال : لا أكلمه الدهر ؟ قال أبو يوسف : هو على الأبد . وقال محمد بن الحسن : ستة أشهر . فإن حلف أن لا يكلمه إلى بعيد - فهو أكثر من شهر . قال أبو يوسف شهر ويوم : فإن حلف أن لا يكلمه إلى قريب ، فهو أقل من شهر . فإن حلف أن لا يكلمه عمرا فإن أبا يوسف قال : ستة أشهر - وروي عنه أنه واحد إلا أن ينوي مدة ما فله ما نوى .

1158 - مسألة : فإن حلف أن لا يكلمه طويلا ، فهو ما زاد على أقل المدد ، فإن حلف أن لا يكلمه أياما أو جمعا أو شهورا أو سنين ، أو ذكر - كل ذلك بالألف واللام - فكل ذلك على ثلاثة ، ولا يحنث فيما زاد ، لأنه الجمع ، وأقل الجمع ثلاثة ، وهو ما زاد على التثنية . قال تعالى : { فإن كن نساء فوق اثنتين } . فإن قال في كل ذلك - : كثيرة ، فهي على أربع ؛ لأنه لا " كثير " إلا بالإضافة إلى ما هو أقل منه ، ولا يجوز أن يحنث أحد إلا بيقين لا مجال للشك فيه - وبالله تعالى التوفيق .

1159 - مسألة : ومن حلف ألا يساكن من كان ساكنا معه من امرأته أو قريبه أو أجنبي فليفارق التي هو فيها إلى غيرها ، ولا يحنث . فإن أقام مدة يمكنه فيها أن لا يساكنه فلم يفارقه حنث - فإن رحل كما ذكرنا مدة - قلت - أو كثرت ثم رجع لم يحنث . وتفسير ذلك - : إن كانا في بيت واحد أن يرحل أحدهما إلى بيت آخر من تلك الدار أو غيرها ، وإن كانا في دار واحدة رحل أحدهما إلى أخرى متصلة بها أو متنابذة أو اقتسما الدار - وإن كانا في محلة واحدة رحل أحدهما إلى أخرى - وإن كانا في مدينة واحدة أو قرية واحدة خرج أحدهما عن دور القرية أو دور المدينة لم يحنث ، وإن رحل أحدهما بجسمه وترك أهله وماله وولده لم يحنث ؛ إلا أن يكون له نية تطابق قوله فله ما نوى . وهذا كله قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان . وكل ما ذكرنا مساكنة وغير مساكنة ، فإن فارق تلك الحال فقد فارق مساكنته وقد بر ، ولا يقدر أحد على أكثر ، لأن الناس مساكن بعضهم لبعض في ساحة الأرض ، وفي العالم ، قال تعالى : { وله ما سكن في الليل والنهار } . وقد افترض الله عز وجل على المهاجرين الرحلة عن مكة ودار الكفر إلى المدينة فكان من خرج منهم بنفسه قد أدى ما عليه وفارق وطن الكفر وأكثرهم ترك أهله . وولده وماله بمكة ، وفي دار قومه فلم يخرجهم ذلك عن الهجرة ومفارقة الكفار . وقال مالك : يحنث حتى يرحل بأكثر رحيله - وهذا خطأ لما ذكرنا ، ولأنه قول بلا دليل . واحتج بعض مقلديه بما روى : { المرء مع رحله } وهذا لا يسند ؛ ثم لو صح لكان حجة عليهم ، لأن النبي ﷺ لم يرو أنه قال إلا في رحل ناقته فقط لا في رحيل منزله ، بل تركه بمكة بلا شك ، ولم يخرج إلا بجسمه .

1160 - مسألة : ومن حلف أن لا يأكل طعاما اشتراه زيد فأكل طعاما اشتراه زيد وآخر معه لم يحنث . وكذلك لو حلف أن لا يدخل دار زيد فدخل دارا يسكنها زيد بكرا [ وكذلك ] دارا بين زيد وغيره لم يحنث إلا أن ينوي دارا يسكنها زيد فيحنث ، لأن المنظور إليه في الأيمان ما تعارفه أهل تلك اللغة في كلامهم الذي به حلف ، وعليه حلف فقط - ولا يطلق على طعام اشتراه زيد وخالد أنه اشتراه زيد ، ولا على دار مشتركة أنها لأحد من هي له .

1161 - مسألة : ومن حلف أن لا يهب لأحد عشرة دنانير فوهب له أكثر حنث ، إلا أن ينوي العدد الذي سمى فقط فلا يحنث .

1162 - مسألة : ومن حلف أن لا يجمعه مع فلان سقف فدخل بيتا فوجده فيه ولم يكن عرف إذ دخل أنه فيه لم يحنث ، لكن ليخرج من وقته فإن لم يفعل حنث لما ذكرنا قبل من أن الحنث لا يلحق إلا قاصدا إليه ، عالما به .

1163 - مسألة : ومن حلف أن لا يأكل لحما أو أن لا يشتريه فاشترى شحما ، أو كبدا ، أو سناما ، أو مصرانا ، أو حشوة ، أو رأسا ، أو أكارع أو سمكا ، أو طيرا ، أو قديدا : لم يحنث ، لأنه لا يقع على شيء مما ذكرنا في اللغة اسم لحم أصلا ، بل كل لغوي وعامي يقول في كل ذلك : ليس لحما ولا يطلق على السمك والطير اسم لحم إلا بالإضافة . وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو سليمان كما قلنا . وقال مالك : يحنث بكل ذلك - واحتج له مقلدوه بقول الله تعالى : { ولحم طير مما يشتهون } ، { ومن كل تأكلون لحما طريا } . قال أبو محمد : قد قلنا : إنه لا يطلق على ذلك اسم لحم إلا بالإضافة ، كما لا يطلق على " ماء الورد " اسم ماء إلا بالإضافة ، ويلزمهم أن يقولوا فيمن حلف أن لا يجمعه مع فلان سقف أن يحنث ولا بد ، لأن الله تعالى قال : { وجعلنا السماء سقفا محفوظا } . وأن يقول فيمن حلف أن لا يقرأ بضوء سراج ، فقرأ بضوء الشمس : أن يحنث ، لأنه تعالى قال : { وجعلنا سراجا وهاجا } . وقوله تعالى : { وجعل الشمس سراجا } . وأن يقولوا فيمن حلف أن لا يلقي ثيابه على وتد فألقاها على جبل : أن يحنث ، لأن الله تعالى يقول : { والجبال أوتادا } وهم لا يقولون هذا ؟ فصح أن المراعى في ذلك ما قلناه ، ولا يخالفوننا فيمن قال لآخر : ابتع لي بهذا الدرهم لحما ؟ فابتاع له به سمكا ، أو دجاجة ، أو شحما ، أو رأسا ، أو حشوة ، أو أكارع : فإنه ضامن للدرهم ، وإنه قد خالف ما أمر به وتعدى - وبالله تعالى التوفيق .

1164 - مسألة : ومن حلف أن لا يأكل شحما حنث بأكل شحم الظهر والبطن ، وكل ما يطلق عليه اسم شحم ، ولم يحنث بأكل اللحم المحض وهذا قول الشافعي ، وأبي سليمان . وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : لا يحنث إلا بشحم البطن وحده ، ولا يحنث بشحم الظهر . وقال مالك : من حلف أن لا يأكل لحما فأكل شحما حنث ، ومن حلف أن لا يأكل شحما فأكل لحما يحنث : واحتج أصحاب أبي حنيفة بأن الله تعالى قال : { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما } قالوا : فكان ذلك على شحم البطن خاصة . قال أبو محمد : وهذا احتجاج محال عن موضعه ، لأنه لم يخص شحم البطن بالتحريم عليهم بنفس هذا اللفظ لكن بما بعده من قوله تعالى : { إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم } فبهذا خص شحم البطن بالتحريم ولولا ذلك لحرمت الشحوم كلها فالآية حجة عليهم . واحتج المالكيون بأن قالوا : حرم الله تعالى لحم الخنزير فحرم شحمه ، وحرم على بني إسرائيل الشحم فلم يحرم اللحم . وقالوا : الشحم متولد من اللحم وليس اللحم متولدا من الشحم . قال أبو محمد : وهذان الاحتجاجان في غاية التمويه بالباطل ، لأن تحريم شحم الخنزير لم يحرم من أجل تحريم لحمه ، لكن ببرهان آخر قد ذكرناه في " باب ما يحل أكله ويحرم " . ولو كان تحريم شحم الخنزير من أجل تحريم لحمه دليلا على أن من حلف أن لا يأكل لحما فأكل شحما حنث - لكان تحريم لبن الخنزيرة وعظمها على قولهم من أجل تحريم لحمها موجبا للحنث على من حلف أن لا يأكل لحما فشرب لبنا ولا فرق ، وهم لا يقولون هذا . وأما قولهم : إن الشحم تولد من اللحم ، فيقال لهم فكان ماذا ؟ أليس اللحم ، واللبن متولدين من الدم ، والدم حرام ، وهما حلالان ؟ أوليس الخمر متولدة من العصير والخل متولدة من الخمر وهي حرام ، وما تولدت منه حلال ، وما تولد منها حلال ، فبطل قولهم - وبالله تعالى التوفيق .



1165 - مسألة: ومن حلف أن لا يأكل رأسا لم يحنث بأكل رءوس الطير، ولا رءوس السمك، ولا يحنث إلا بأكل رءوس الغنم، والماعز، فإن كان أهل موضعه لا يطلقون اسم الرءوس في البيع والأكل على رءوس الإبل، والبقر لم يحنث بأكلها وإن كانوا يطلقون عليها في البيع والأكل اسم الرءوس حنث بها، لما ذكرنا من أن الأيمان إنما هي على لغة الحالف، ومعهود استعماله في كلامه.

وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان. ألا ترى: أن المسك دم جامد، ولكن لما لم يطلق عليه اسم دم حل ولم يحرم.


1166 - مسألة: ومن حلف أن لا يأكل بيضا لم يحنث إلا بأكل بيض الدجاج خاصة ولم يحنث بأكل بيض النعام وسائر الطير، ولا بيض السمك لما ذكرنا; وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان.


1167 - مسألة: ومن حلف أن لا يأكل عنبا فأكل زبيبا أو شرب عصيرا، أو أكل ربا أو خلا لم يحنث.

وكذلك من حلف أن لا يأكل زبيبا لم يحنث بأكل العنب، ولا بشرب نبيذ الزبيب وأكل خله.

وكذلك القول في التمر، والرطب، والزهو، والبسر، والبلح، والطلع والمنكت، ونبيذ كل ذلك وخله، وذو شائبة، وناطفة: لا يحنث. ومن حلف أن لا يأخذ شيئا منها حنث بأكل سائرها، ولا يحنث بشرب ما يشرب منها وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان، لأن اسم كل واحد منها لا يطلق على الآخر، والعالم كله بعضه متولد من بعض ونحن مخلوقون من تراب وماء. فلو أن امرأ حلف أن لا يدخل في داره حيوانا فأدخل التراب والماء لم يحنث بلا خلاف منا ومن غيرنا.

وقال مالك: من حلف أن لا يأكل عنبا فأكل زبيبا أو شرب عصيرا حنث، ولا يحنث بأكل الخل فكان هذا عجبا جدا، وكان احتجاجهم لهذه القولة أعجب منها، لأنهم قالوا: أمر الخل بعيد، وليت شعري ما معنى " بعيد "

فإن قالوا: إن بين العنب وبين الخل درجتين: العصير، والخمر

قلنا: فكان ماذا ومن الذي جعل كون درجتين بين الخل والعنب علة في التحليل وحاشا لله من هذا الحكم الفاسد فما زادونا على أن جعلوا دعواهم حجة لدعواهم وقد تناقضوا من قرب، فحنثوا من أكل جبنا يابسا وقد حلف أن لا يأكل لبنا وبين الجبن اليابس واللبن درجتان، وهما العقيد، والجبن الرطب.

فإن قالوا: كل ذلك عين واحدة.

قلنا: والخل، والعصير، والخمر: عين واحدة، إلا أن أحكامها اختلفت باختلاف صفاتها، ولا مزيد.

وكذلك السمن بينه وبين اللبن درجتان: الرائب ثم الزبدة، وقد يترك العنب في الظروف من أيامه إلى أيام الربيع ثم يعصر خلا محضا.


1168 - مسألة: ومن حلف أن لا يأكل لبنا لم يحنث بأكل اللبإ، ولا بأكل العقيد، لا الرائب، ولا الزبد، ولا السمن، ولا المخيض، ولا الميس، ولا الجبن وكذلك القول في الزبد، والسمن، وسائر ما ذكرنا لأختلاف أسماء كل ذلك.


1169 - مسألة: ومن حلف أن لا يأكل خبزا فأكل كعكا أو بشماطا أو حريرة، أو عصيدة، أو حسو فتاة، أو فتيتا لم يحنث. ومن حلف أن لا يأكل قمحا فإن كانت له نية في خبزه حنث وإلا لم يحنث إلا بأكله صرفا، ولا يحنث بأكل هريسة، ولا أكل حشيش، ولا سويق، ولا أكل فريك، لأنه لا يطلق على كل ذلك اسم قمح ومن حلف أن لا يأكل تينا حنث بالأخضر واليابس، لأن اسم التين يطلق على كل ذلك.

1170 - مسألة: ومن حلف أن لا يشرب شرابا فإن كانت له نية حمل عليها، وإن لم تكن له نية حنث بالخمر، وبجميع الأنبذة، وبالجلاب، والسكنجين، وسائر الأشربة ; لأن اسم شراب يطلق على كل ذلك. ولا يحنث بشرب اللبن، ولا بشرب الماء، لأنه لا يطلق عليها اسم شراب ومن حلف أن لا يأكل لبنا فشربه لم يحنث، لأنه لم يأكله ولو حلف أن لا يشربه فأكله بالخبز لم يحنث، لأنه لم يشربه. ومن حلف أن لا يشرب الماء يومه هذا فأكل خبزا مبلولا بالماء لم يحنث ومن حلف أن لا يأكل سمنا، ولا زيتا فأكل خبزا معجونا بهما أو بأحدهما لم يحنث، لأنه لم يأكل زيتا، ولا سمنا. ولو حنث في هذا لحنث من حلف أن لا يشرب يومه هذا ماء فأكل خبزا، لأنه بالماء عجن، ولا يحنث بأكل طعام طبخ بهما إلا أن يكونا ظاهرين فيه لم يزل الأسم عنهما فيحنث حينئذ. ومن حلف أن لا يأكل ملحا فأكل طعاما معمولا بالملح، وخبزا معجونا به لم يحنث، لأنه لم يأكل ملحا ; فإن كان قد ذر عليه الملح حنث، لأنه ظاهر فيه. ومن حلف أن لا يأكل خلا فأكل طعاما يظهر فيه طعم الخل متميزا حنث، لأنه هكذا يؤكل الخل.


1171 - مسألة: ومن حلف أن لا يبيع هذا الشيء بدينار فباعه بدينار غير فلس فأكثر، أو بدينار وفلس فصاعدا لم يحنث، لأنه لا يسمى في ذلك كله بائعا له بدينار.


1172 - مسألة: ومن حلف ليقضين غريمه حقه رأس الهلال فإنه إن قضاه حقه أول ليلة من الشهر، أو أول يوم منه ما لم تغرب الشمس لم يحنث، لأن هذا هو رأس الهلال في اللغة، فإن لم يقضه في الليلة أو اليوم المذكورين وهو قادر على قضائه ذاكرا حنث.


1173 - مسألة: ومن حلف أن لا يشتري أمر كذا، أو لا يزوج وليته، أو أن لا يضرب عبده، أو أن لا يبني داره، أو ما أشبه هذا من كل شيء، فأمر من فعل له ذلك كله فإن كان ممن يتولى الشراء بنفسه، والبناء، والضرب، أو فعل ما حلف عليه لم يحنث، لأنه لم يفعله وإن كان ممن لا يباشر بنفسه ذلك حنث بأمره من يفعله، لأنه هكذا يطلق في اللغة الخبر عن كل من ذكرنا، ولا يحنث في أمر غيره بالزواج على كل حال، لأن كل أحد يزوج وليته فإذا لم يزوجها وأمر غيره فلم يزوجها هو.


1174 - مسألة: ومن حلف ألا يبيع عبده فباعه بيعا فاسدا، أو أصدقه، أو أجره، أو بيع عليه في حق لم يحنث، لأنه ليس شيء مما ذكرنا بيعا. والبيع الفاسد حرام والله تعالى يقول: {وأحل الله البيع}، ولا شك عند من دماغه صحيح في أن الحرام غير الحلال، فإن باعه بيعا صحيحا لم يحنث ما لم يتفرقا عن موضعيهما، فإن تفرقا وهو مختار ذاكر: حنث حينئذ، لأنه حينئذ باع، لما نذكر في " كتاب البيوع " إن شاء الله تعالى.

1175 - مسألة: ومن حلف أن لا يتكلم اليوم فقرأ القرآن في صلاة، أو غير صلاة، أو ذكر الله تعالى لم يحنث، لقول رسول الله ﷺ: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن أو نحو ذلك ولقول الله تعالى: {ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر}.

فصح أن القرآن ليس قول البشر، وأن من أطلق ذلك عليه سيصلى سقر فصح أنه لا يطلق في اللغة، ولا في الشريعة على شيء مما ذكرنا اسم كلام وبالله تعالى التوفيق.

1176 - مسألة: من حنث بمخالفة ما حلف عليه فقد وجبت عليه الكفارة بعد الحنث لا خلاف في ذلك.


1177 - مسألة: ومن أراد أن يحنث فله أن يقدم الكفارة قبل أن يحنث أي الكفارات لزمته: من العتق، أو الكسوة، أو الإطعام، أو الصيام وهو قول مالك.

وقال أبو حنيفة، وأبو سليمان: لا يجزئه ذلك إلا بعد الحنث.

وقال الشافعي: أما العتق، أو الكسوة، أو الإطعام، فيجزئ تقديمه قبل الحنث وأما الصيام فلا يجزئ إلا بعد الحنث. وحجة الشافعيين: أن العتق، والكسوة، والإطعام: من فرائض الأموال، والأموال من حقوق الناس، وحقوق الناس جائز تقديمها قبل آجالها وأما الصوم فمن فرائض الأبدان، وفرائض الأبدان لا يجزئ تقديمها قبل أوقاتها.

قال أبو محمد: وهذه قضية فاسدة، وهم موافقون لنا على أن تعجيل أموال الناس إنما تجب برضا صاحب الحق، والذي عليه الحق معا، لا برضا أحدهما دون الآخر، وأن هذا إنما يجب أيضا فيما هو حق للإنسان بعينه فتراضى هو وغريمه على تقديمه أو تأخيره أو إسقاطه أو إسقاط بعضه.

وأما كل ما ليس لأنسان بعينه وإنما هو حق لله تعالى وقته بوقت محدود، وليس ههنا مالك بعينه يصح رضاه في تقديمه، لا في تأخيره، ولا في إسقاطه، ولا في إسقاط بعضه وإنما هو حق لله تعالى لا يحل فيه إلا ما حد لله تعالى

قال الله تعالى: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}. ويقال لهم أيضا: إن حقوق الناس يجوز فيها التأخير والإسقاط، فهل يجوز في الكفارات الإسقاط، أو التأخير إلى أجل أو إلى غير أجل فظهر فساد قولهم جملة.

وأما المالكيون: فإنهم وإن كانوا أصابوا ههنا فقد تناقضوا جدا لأنهم أجازوا تقديم الكفارة إثر اليمين، وقبل الحنث. ولم يجيزوا تقديم الزكاة إثر كسب المال لكن قبل الحول بشهر ونحوه، ولا أجازوا تقديم صدقة الفطر إثر ابتداء الصوم لكن قبل الفطر بيومين فأقل فقط. ولم يجيزوا تقديم كفارة الظهار أصلا، ولا بساعة قبل ما يوجبها عندهم من إرادة الوطء، ولا أجازوا تقديم كفارة قتل الخطإ قبل ما يوجبها من موت المقتول، ولا بطرفة عين، ولا كفارة قتل الصيد في الحرم قبل قتله. وأجازوا إذن الورثة للموصي في أكثر من الثلث قبل أن يجب لهم المال بموته، فظهر تناقض أقوالهم ولله تعالى الحمد.

وأما الحنفيون فتناقضوا أقبح تناقض، لأنهم أجازوا تقديم الزكاة قبل الحول بثلاثة أعوام، وتقديم زكاة الزرع إثر زرعه في الأرض، وأجازوا تقديم الكفارة في جزاء الصيد بعد جراحه وقبل موته وتقديم كفارة قتل الخطإ قبل موت المجروح. ولم يجيزوا للورثة الإذن في الوصية بأكثر من الثلث قبل وجوب المال لهم بالموت، ولا أجازوا إسقاط الشفيع حقه من الشفعة بعد عرض شريكه أخذ الشقص عليه قبل وجوب أخذه له بالبيع ; فظهر تخليطهم وسخف أقوالهم وبالله تعالى نعوذ من الخذلان. وكلهم لا يجيز الأستثناء قبل اليمين، ولا قضاء دين قبل أخذه، ولا صلاة قبل وقتها، فلم يبق إلا قولنا، وقول أصحابنا المانعين من تقديم كل حق له وقت قبل وقته، فإنهم قالوا: الكفارة لا تجب إلا بالحنث، وهي فرض بعد الحنث بالنص والإجماع، فتقديمها قبل أن تجب تطوع لا فرض، ومن المحال أن يجزئ التطوع عن الفرض. وقالوا: قال تعالى: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} والدلائل ههنا تكثر جدا.

قال أبو محمد: وهذه أدلة صحاح ; ونحن موافقون لهم في أنه لا يجزئ شيء من الشريعة قبل وقته إلا في موضعين: أحدهما: كفارة اليمين، فجائز تقديمها قبل الحنث، لكن بعد إرادة الحنث، ولا بد.

والثاني: إسقاط الشفيع حقه بعد عرض الشفيع عليه أن يأخذ أو يترك قبل البيع، فإسقاطه حقه حينئذ لازم له فقط. وإنما فعلنا ذلك للنصوص المخرجة لهذين الشرعين عن حكم سائر الشريعة في أنه لا يجزئ، ولا يجوز أداء شيء منها قبل الوقت الذي حده الله تعالى له.

قال أبو محمد: وقد احتج بعض من وافقنا ههنا في تصحيح قولنا بأن قال: قال الله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم}. قال: فالكفارة واجبة بنفس اليمين.

قال علي: ولا حجة لنا في هذا، لأنه قد جاء النص والإجماع المتيقن: على أن من لم يحنث فلا كفارة تلزمه.

فصح أنه ليس بنفس اليمين تجب الكفارة واحتج بعضهم بأن في الآية حذفا بلا خلاف وأنه: فأردتم الحنث، أو حنثتم.

قال أبو محمد: وهذه دعوى منهم في أن المحذوف هو " فأردتم الحنث " لا يقبل إلا ببرهان، فوجب طلب البرهان في ذلك:

فنظرنا فوجدنا ما رويناه من طريق مسلم، حدثنا زهير بن حرب، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأتها وليكفر عن يمينه.

ومن طريق أحمد بن شعيب أنا أحمد بن سليمان، حدثنا عفان، هو ابن مسلم، حدثنا جرير بن حازم قال: سمعت الحسن هو البصري يقول:، حدثنا عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله ﷺ: إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير. وهكذا رويناه أيضا من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة عن النبي ﷺ.

ومن طريق أحمد بن شعيب، أخبرنا إسحاق بن منصور أنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة سمعت عبد الله بن عمرو مولى الحسن بن علي يحدث عن عدي بن حاتم قال قال: رسول الله ﷺ: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه). فهذه الأحاديث جامعة لجميع أحكام ما اختلفوا فيه من جواز تقديم الكفارة قبل الحنث، لأن في حديث أبي هريرة تقديم الحنث قبل الكفارة. وفي حديث عبد الرحمن بن سمرة تقديم الكفارة قبل الحنث. وفي حديث عدي بن حاتم الجمع بين الحنث والكفارة بواو العطف التي لا تعطي رتبة هكذا جاء من طريق أبي موسى الأشعري فوجب استعمال جميعها، ولم يكن بعضها أولى بالطاعة من بعض، ولا تحل مخالفة بعضها لبعض، فكان ذلك جائزا وبالله تعالى التوفيق. وصح بهذا أن الحذف الذي في الآية إنما هو إذا أردتم الحنث أو حنثتم ورسول الله ﷺ هو المبين عن ربه عز وجل. واعترض بعضهم بأن قال: قول رسول الله ﷺ: فليكفر ثم ليأت الذي هو خير هو مثل قول الله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا}. وكقوله تعالى: {ثم آتينا موسى الكتاب}. وكقوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم}. قال هذا القائل: ولفظة " ثم " في هذه الآيات لا توجب تعقيبا، بل هي واقعة على ما كان قبل ما عطف اللفظ عليه " بثم ".

قال أبو محمد: ليس كما ظنوا: أما قوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا} فإن نص الآيات هو قوله تعالى: {وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}.

وقد ذكرنا قول رسول الله ﷺ لحكيم بن حزام أسلمت على ما أسلفت من الخير فصح بهذه الآية عظيم نعمة الله تعالى على عباده في قبوله كل عمل بر عملوه في كفرهم ثم أسلموا، فالآية على ظاهرها وهي زائدة على سائر ما في القرآن من قبوله تعالى أعمال من آمن ثم عمل الخير والحمد لله رب العالمين.

وأما قوله تعالى: {ثم آتينا موسى الكتاب} فليس كما ظنوا لأن أول الآية قوله عز وجل: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن}. وقد قال تعالى: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما}

وقال تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم}.

فصح أن الصراط الذي أمرنا الله تعالى باتباعه وأتانا به محمد ﷺ هو صراط إبراهيم عليه السلام، وقد كان قبل موسى بلا شك ثم آتى الله تعالى موسى الكتاب، فهذا تعقيب بمهلة لا شك فيه.

فأما قوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} فعلى ظاهره، لأن الله تعالى خلق أنفسنا وصورها، وهي التي أخذ الله عليها العهد: {ألست بربكم قالوا بلى}. ثم بعد ذلك أسجد الملائكة لأدم عليه السلام، فبطل تعلقهم بهذه الآيات ثم حتى لو خرجت عن ظاهرها، أو كانت " ثم " لغير التعقيب فيها لم يجب لذلك أن تكون " ثم " لغير التعقيب حيثما وجدت، لأن ما خرج عن موضوعه في اللغة بدليل في موضع ما لم يجز أن يخرج في غير ذلك الموضع عن موضوعه في اللغة وهذا من تمويههم الفاسد الذي لا ينتفعون به إلا في تحيير من لم يمعن النظر في أول ما يفجئونه به وبالله تعالى التوفيق. وقولنا هذا هو قول عائشة أم المؤمنين:

ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا المعتمر بن سليمان التيمي عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين أن مسلمة بن مخلد، وسلمان الفارسي كانا يكفران قبل الحنث.

وبه إلى أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص بن غياث عن أشعث، عن ابن سيرين: أن أبا الدرداء دعا غلاما له فأعتقه ثم حنث، فصنع الذي حلف عليه.

وبه إلى ابن أبي شيبة، حدثنا أزهر، عن ابن عون أن محمد بن سيرين: كان يكفر قبل الحنث:

وهو قول ابن عباس أيضا، والحسن، وربيعة، وسفيان، والأوزاعي، ومالك، والليث، وعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وسليمان بن داود الهاشمي، وأبي ثور، وأبي خيثمة، وغيرهم. ولا يعلم لمن ذكرنا مخالف من الصحابة رضي الله عنهم إلا أن مموها موه برواية عبد الرزاق عن الأسلمي هو إبراهيم بن أبي يحيى عن رجل سماه عن محمد بن زياد عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس: أنه كان لا يكفر حتى يحنث وهذا باطل، لأن ابن أبي يحيى مذكور بالكذب، ثم عمن لم يسم. ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة، لأنه ليس فيه أن ابن عباس لم يجز الكفارة قبل الحنث، إنما فيه: أنه كان يؤخر الكفارة بعد الحنث فقط ونحن لا ننكر هذا.

1178 - مسألة: ومن حلف أن لا يعتق عبده هذا، فأعتقه ينوي بعتقه ذلك كفارة تلك اليمين لم يجزه. ومن حلف أن يتصدق على هؤلاء العشرة المساكين فأطعمهم ينوي بذلك كفارة يمينه لم يجزه، ولا يحنث بأن يتصدق عليهم بعد ذلك، وكذلك الكسوة، لكن عليه الكفارة. ومن حلف أن لا يصوم في هذه الجمعة، ولا يوما، ثم صام منها ثلاثة أيام ينوي بها كفارة يمينه تلك وهو من أهل الكفارة بالصيام لم يجزه، ولا يحنث بأن يصوم فيها بعد ذلك، وعليه الكفارة لأن معنى الكفارة بلا شك إسقاط الحنث، والحنث قد وجب بالعتق، والإطعام، والكسوة، فلا يحنث بعد في يمين قد حنث فيها، والكفارة لا تكون الحنث بلا شك، بل هي المبطلة له، والحق لا يبطل نفسه.

1179 - مسألة: وصفة الكفارة: هي أن من حنث، أو أراد الحنث وإن لم يحنث بعد، فهو مخير بين ما جاء به النص: وهو إما أن يعتق رقبة، وأما أن يكسو عشرة مساكين، وأما أن يطعمهم: أي ذلك فعل فهو فرض، ويجزيه، فإن لم يقدر على شيء من ذلك: ففرضه صيام ثلاثة أيام، ولا يجزئه الصوم ما دام يقدر على ما ذكرنا: من العتق، أو الكسوة، أو الإطعام. برهان ذلك: قول الله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم}. وما نعلم في هذا خلافا، ولا نبعده، لأن من قال في قول الله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما} أن هذا على الترتيب، لا على التخيير فغير مستبعد منه أن يقول في كفارة الأيمان أيضا: إنه على الترتيب. ونسأل الله التوفيق.


1180 - مسألة: ولا يجزيه بدل ما ذكرنا: صدقة، ولا هدي، ولا قيمة، ولا شيء سواه أصلا، لأن الله تعالى لم يوجب غير ما ذكرنا، فمن أوجب في ذلك قيمة فقد تعدى حدود الله: ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه وقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى وما كان ربك نسيا.



1181 - مسألة: ومن حنث وهو قادر على الإطعام، أو الكسوة، أو العتق، ثم افتقر فعجز عن كل ذلك: لم يجزه الصوم أصلا، لأنه قد تعين عليه حين وجوب الكفارة أحد هذه الوجوه بنص القرآن، فلا يجوز سقوط ما ألزمه الله تعالى يقينا بدعوى كاذبة، لكن يمهل حتى يجد أو لا يجد، فالله تعالى ولي حسابه; وأما ما لم يحنث فلم يتعين عليه وجوب كفارة بعد إلا أن يعجلها فتجزيه على ما قدمنا وبالله تعالى التوفيق.


1182 - مسألة: ومن حنث وهو عاجز عن كل ذلك: ففرضه الصوم قدر عليه حينئذ أو لم يقدر، متى قدر فلا يجزيه إلا الصوم، فإن أيسر بعد ذلك وقدر على العتق، والإطعام، والكسوة لم يجزه شيء من ذلك إلا الصوم، فإن مات ولم يصم صام عنه وليه، أو استؤجر عنه من رأس ماله من يصوم عنه، لأن الصوم قد تعين عليه وجوبه حين حنث، وصح لزومه إياه فلا يجوز سقوط ما أوجبه الله تعالى عليه يقينا، لا شك فيه بدعوى كاذبة. وقال بعض القائلين: إن أيسر قبل أن يصوم، أو قبل أن يتم الصوم: انتقل حكمه إلى العتق، أو الإطعام، أو الكسوة.

قال أبو محمد: وهذه دعوى فاسدة، وليت شعري ما الفرق بين أن يعسر بعد أن يوسر فلا ينقلونه إلى جواز الصيام عنه، أو وجوبه عليه، وبين أن يوسر بعد ما يعسر فينقلونه إلى وجوب العتق، أو الإطعام، أو الكسوة فإن قالوا: إنما لزمه الصيام لضرورة عدمه.

قلنا: كذب من قال هذا، وأخبر عن الله تعالى بالباطل، وقد وجدنا الله تعالى عوض من العتق في كفارة الظهار، وقتل الخطإ: الصيام لا الإطعام، ثم عوض من الصيام من لا يقدر عليه في كفارة الظهار الإطعام ولم يعوض منه في كفارة القتل إطعاما، وخير في جزاء الصيد بين الإطعام والصيام، والهدي، والله تعالى يفعل ما يشاء لا يسأل عما يفعل و يحكم لا معقب لحكمه، ولا يجوز تغيير ما أوجب الله تعالى عن ما أوجبه. واختلف المخالفون لنا في هذا: فقال أبو حنيفة، وأصحابه: إن قدر على الإطعام، أو الكسوة، أو العتق، قبل أن يتم جميع صيام الثلاثة الأيام: بطل حكم الصوم، ولزمه أحد ما قدر عليه من ذلك. قال الحكم بن عتيبة، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري: إن كان قد أتم صيام يومين صام اليوم الثالث فقط، وإن كان لم يصم تمام اليومين انتقل عن حكم الصوم ولزمه أحد ما قدر عليه من ذلك. وقال آخرون: إن كان قد تم له صيام يوم واحد تمادى على صيام اليومين الباقيين وأجزأه، وإن كان لم يتم له صيام يوم واحد انتقل عن حكم الصوم ولزمه أحد ما قدر عليه من ذلك هو قول أحمد بن حنبل، وإسحاق، وأحد قولي الشافعي.

وقال مالك: إن دخل في الصوم ثم أيسر فليتماد في صومه، وإن لم يدخل فيه بطل حكم الصوم وانتقل إلى العتق، أو الكسوة، أو الإطعام وهو قول الحسن، وعطاء.

وقال الله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}. وهذه أقوال لا نص قرآن فيها، ولا سنة: فصح أنها آراء مجردة، ولا فرق بين يساره قبل أن يشرع في الصوم، وبين يساره بعد أن يشرع فيه، وإنما الحكم للحال التي أوجب الله تعالى فيها عليه ما أوجب. ونسألهم كلهم عمن حنث وهو معسر: هل عليه لله تعالى كفارة مفترضة أم ليس لله تعالى عليه كفارة مفترضة، ولا بد من أحدهما فمن قولهم: إن لله تعالى عليه كفارة مفترضة ولو قالوا: غير هذا لخالفوا نص القرآن بلا برهان ; فإذ الكفارة عليه، ولا بد، فنسألهم ما هي ؟

فإن قالوا: هي التي افترض الله تعالى عليه في القرآن

قلنا: صدقتم، فإذ قد أقررتم بذلك فمن أين سقطت عندكم بيساره بعد ذلك، وليس هذا في القرآن، ولا في السنة وما كان هكذا فهو باطل بلا شك.

وإن قالوا: هي غير التي افترض الله تعالى عليه، أو قسموا كانوا قائلين بلا برهان، وكفونا مؤنتهم ولله تعالى الحمد. وقولنا هذا هو قول أبي سليمان وأصحابه.


1183 - مسألة: ويجزئ في العتق في كل ذلك: الكافر، والمؤمن، والصغير، والكبير، والمعيب، والسالم، والذكر، والأنثى، وولد الزنى، والمخدم، والمؤاجر، والمرهون، وأم الولد، والمدبرة، والمدبر، والمنذور عتقه، والمعتق إلى أجل، والمكاتب ما لم يؤد شيئا، فإن كان أدى من كتابته ما قل أو كثر لم يجز في ذلك، ولا يجزئ من يعتق على المرء بحكم واجب، ولا نصفا رقبتين.

وقد ذكرنا كل ذلك في " كتاب الصيام " فأغنى عن إعادته. وعمدة البرهان في ذلك: قول الله تعالى: {أو تحرير رقبة}. فلم يخص رقبة من رقبة وما كان ربك نسيا.

فإن قالوا: قسنا الرقبة في هذا على رقبة القتل لا تجزئ إلا مؤمنة. قلنا: فقيسوها عليها في تعويض الإطعام منها.

فإن قالوا: لا نفعل، لأننا نخالف القرآن ونزيد على ما فيه قلنا: وزيادتكم في كفارة اليمين أن تكون مؤمنة، ولا بد خلاف للقرآن وزيادة على ما فيه فإن كان القياس في أحد الحكمين جائزا فهو في الآخر جائز، وإن كان في أحدهما غير جائز فهو في الآخر غير جائز. فإن احتجوا بالخبر الذي فيه: إن القائل قال لرسول الله ﷺ إنه لطم وجه جارية له وعلي رقبة أفأعتقها فقال لها رسول الله ﷺ أين الله قالت: في السماء، قال: من أنا قالت: رسول الله، فقال عليه السلام: أعتقها فإنها مؤمنة فلا حجة لهم فيه، لأنها بنص الخبر لم تكن كفارة يمين، ولا وطء في رمضان، ولا عن ظهار. وهم يجيزون الكافرة في الرقبة المنذورة على الإنسان، فقد خالفوا ما في هذا الخبر، واحتجوا به فيما ليس فيه منه شيء.

وأيضا: فإنه ليس فيه أنه عليه السلام قال: لا تجزئ إلا مؤمنة، وإنما فيه: أعتقها فإنها مؤمنة، ونحن لا ننكر عتق المؤمنة، وليس فيه أن لا يجوز عتق الكافرة، فنحن لا نمنع من عتقها.

فإن قيل: قد رويتم هذا الخبر من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة أن الشريد قال: يا رسول الله إن أمي أمرتني أن أعتق عنها رقبة، وعندي أمة سوداء أفأعتقها فقال له النبي ﷺ ادع بها فقال لها النبي ﷺ من ربك قالت: الله، قال: فمن أنا قالت: رسول الله قال: أعتقها فإنها مؤمنة فهذا عليهم لا لهم لأنهم يجيزون في رقبة الوصية كافرة، وأما نحن فلو انسند لقلنا به في الموصى بعتقها كما ورد.

وقال بعضهم: كما لا يعطى من الزكاة كافر كذلك لا يعتق في الفرض كافر

قلنا: هذا قياس والقياس كله باطل، ثم هذا منه عين الباطل، لأنه دعوى لا تقابل إلا بالتكذيب والرد فقط، لأن الله تعالى لم يقل ذلك، ولا رسوله عليه السلام.

روينا من طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان الثوري، عن ابن أبي نجيح عن عطاء قال: يجزئ اليهودي، والنصراني، في كفارة اليمين.

ومن طريق جرير عن المغيرة عن إبراهيم مثله أيضا.

ومن طريق ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن جابر عن الشعبي قال: يجزئ الأعمى في الكفارة. وعن الحسن، وطاووس: يجزئ المدبر في الكفارة. وعن الحسن، وطاووس، والنخعي: تجزئ أم الولد في الكفارة.

وأما ولد الزنى: فإننا روينا من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن عائشة أم المؤمنين قالت: لان أتصدق بثلاث تمرات، أو أمتع بسوط في سبيل الله تعالى أحب إلي من أن أعتق ولد زنى.

ومن طريق أبي هريرة، أنه قال: لعبد له: لولا أنك ولد زنى لاعتقتك. وقال النخعي، والشعبي: لا يجزئ ولد الزنى في رقبة واجبة. وعن ابن عمر أنه أعتق ولد زنى.

واحتج من منع منه بخبر رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا العباس بن محمد الدورقي، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا إسرائيل عن زيد بن جبير عن أبي يزيد الضبي عن ميمونة مولاة رسول الله ﷺ: عن النبي عليه السلام: أنه سئل عن ولد الزنى فقال: لا خير فيه، نعلان أجاهد أو قال أجهز بهما أحب إلي من أن أعتق ولد الزنى.

قال أبو محمد: إسرائيل ضعيف، وأبو يزيد مجهول، ولو صح لقلنا به.

وروينا من طريق ابن أبي شيبة، حدثنا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم، والشعبي قالا جميعا: لا يجزئ في شيء من الواجب ولد زنى.

قال أبو محمد: وأجازه طاووس،، ومحمد بن علي. ولا يسمى نصفا رقبتين رقبة ومن أعتق بحكم فلم يعتق عن الكفارة فلا يجزئ فيها. وبالله تعالى التوفيق.


1184- مسألة: ولا يجزئ إطعام مسكين واحد أو ما دون العشرة يردد عليهم، لأن الله تعالى افترض عشرة مساكين، وهنا خلاف أمر الله تعالى.

وقال أبو حنيفة: يجوز وروينا مثل قول أبي حنيفة عن الحسن، وخالفه الشعبي، ولا يجزئ إلا مثل ما يطعم الإنسان أهله، فإن كان يعطي أهله الدقيق، فليعط المساكين الدقيق، وإن كان يعطي أهله الحب فليعط المساكين الحب، وإن كان يعطي أهله الخبز، فليعط المساكين الخبز، ومن أي شيء أطعم أهله فمنه يطعم المساكين، ولا يجزئه غير ذلك أصلا، لأنه خلاف نص القرآن ويعطي من الصفة، والمكيل الوسط لا الأعلى، ولا الأدنى كما قال عز وجل. وقد اختلف الناس في هذا: فصح عن عمر بن الخطاب في كفارة اليمين: لكل مسكين نصف صاع حنطة، أو صاع تمر، أو شعير. وعن علي مثله.

وروينا، عن ابن عمر: لكل مسكين نصف صاع حنطة. وعن زيد بن ثابت مثله. وعن عائشة أم المؤمنين: لكل مسكين نصف صاع بر أو صاع تمر وهو قول إبراهيم النخعي، وابن سيرين، وقال: أو أكلة مأدومة. وقال الحسن: مكوك حنطة، ومكوك تمر لكل مسكين. والمكوك نصف صاع. قال الحسن: وإن شاء أطعمهم أكلة خبزا، ولحما، فإن لم يجد فخبزا وسمنا ولبنا، فإن لم يجد فخبزا وخلا وزيتا فإن لم يجد صام ثلاثة أيام. وقال قتادة أيضا: مكوك تمر، ومكوك حنطة. وعن إبراهيم النخعي مد بر، ومد تمر هذا كله في كفارة اليمين. وقال عطاء، ومجاهد: عشرة أمداد لعشرة مساكين، ومدان للحطب، والإدام. وعن الحسن، وابن سيرين: يجمعهم فيشبعهم مرة واحدة. وصح أيضا عن سعيد بن المسيب، والحسن، وقتادة: مد تمر ومد حنطة لكل مسكين. وصح، عن ابن عباس: لكل مسكين مد حنطة. وعن زيد بن ثابت، وعن ابن عمر صحيح مثله أيضا. وعن عطاء وهو قول مالك، والشافعي.

وروينا، عن ابن بريدة الأسلمي إن كان خبزا يابسا: فعشاء وغداء. وعن علي يغديهم، ويعشيهم: خبزا، وزيتا، وسمنا، ولا يصح عنهما. وعن القاسم، وسالم، والشعبي، والنخعي، وغيرهم: غداء، وعشاء.

واحتج من ذهب إلى هذا: بما روينا من طريق ابن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن يعلى، حدثنا أبو المحياة عن ليث بن أبي سليم قال: قال ابن بريدة: قال رسول الله ﷺ: إن كان خبزا يابسا فغداء وعشاء وهذا مرسل وليث ضعيف.

وقال أبو حنيفة: نصف صاع بر لكل مسكين، أو صاع تمر، أو شعير، ومن دقيق البر وسويقه نصف صاع، ومن دقيق الشعير وسويقه صاع، فإن أطعمهم: فغداء، وعشاء أو غداء، وغداء أو عشاء وعشاء أو سحور وغداء أو سحور وعشاء. ولا يجزئ عند مالك، والشافعي: دقيق، ولا سويق.

قال أبو محمد: هذه أقوال مختلفة لا حجة بشيء منها من قرآن، ولا سنة، وموه بعضهم بأن رسول الله ﷺ أوجب في حلق الرأس للأذى للمحرم نصف صاع بين ستة مساكين وهذا حجة عليهم، لأن نص ذلك الخبر نصف صاع تمر لكل مسكين وهو خلاف قولهم. وموهوا أيضا بخبر رويناه من طريق أبي يحيى زكريا بن يحيى الساجي، حدثنا محمد بن موسى الحرشي، حدثنا زياد بن عبد الله، حدثنا عمر بن عبد الله الثقفي، حدثنا المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كفر رسول الله ﷺ بصاع من تمر، وأمر الناس أن يعطوا، فمن لم يجد فنصف صاع. وهذا خبر ساقط، لأن زياد بن عبد الله ضعيف، وعمر بن عبد الله، هو ابن يعلى بن مرة وقد ينسب إلى جده وهو ضعيف. ولو صح لكان خلافا لقولهم، لأنهم لا يجيزون نصف صاع تمر ألبتة.

وروينا من طريق ابن أبي شيبة، حدثنا معاوية الضرير عن عاصم، عن ابن سيرين عن ابن عمر قال: من أوسط ما تطعمون أهليكم قال: الخبز واللبن، والخبز والزيت، والخبز والسمن ومن أعلى ما يطعمهم: الخبز واللحم.

ومن طريق عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين: أن أبا موسى الأشعري كفر عن يمين فعجن فأطعمهم.

ومن طريق سفيان بن عيينة قال: قال سليمان بن أبي المغيرة وكان ثقة عن سعيد بن جبير قال ابن عباس: كان الرجل يقوت أهله قوتا فيه سعة، وبعضهم قوتا دونا، وبعضهم قوتا وسطا، فقيل من أوسط ما تطعمون أهليكم وعن ابن سيرين مثل قول ابن عمر.

وروينا نحو هذا عن شريح، والأسود بن يزيد، وسعيد بن جبير، والشعبي وهو قول أبي سليمان وهو قولنا، وهو نص القرآن.

وأما من حد كيلا ما، ومن منع من إطعام الخبز، والدقيق، ومن أوجب أكلتين، فأقوال لا حجة لها من قرآن، ولا سنة، ولا قياس، ولا قول صاحب لا مخالف له منهم وبالله تعالى نتأيد.


1185 - مسألة: وأما الكسوة فما وقع عليه اسم كسوة: قميص، أو سراويل، أو مقنع، أو قلنسوة، أو رداء، أو عمامة، أو برنس، أو غير ذلك، لأن الله تعالى عم ولم يخص. ولو أراد الله تعالى كسوة دون كسوة لبين لنا ذلك وما كان ربك نسيا فتخصيص ذلك لا يجوز.

وروينا عن عمران بن الحصين: أن رجلا سأله عن الكسوة في الكفارة فقال له عمران: أرأيت لو أن وفدا دخلوا على أميرهم فكسا كل رجل منهم قلنسوة، قال الناس: إنه قد كساهم روينا من طريق مسدد عن عبد الوارث التنوري عن محمد بن الزبير عن أبيه:

ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أشعث عن الحسن البصري قال: تجزئ العمامة في كفارة اليمين.

وهو قول سفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأبي سليمان.

وقال مالك: لا تجزي إلا ما تجوز فيه الصلاة وهذا لا وجه له، لأنه قول بلا برهان واختلف عن أبي حنيفة في السراويل وحدها، ولا يجزئ عنده عمامة فقط، وقالوا: لو أن إنسانا لم يلبس إلا عمامة فقط، لقال الناس: هذا عريان:

قال أبو محمد: وهذا ليس بشيء لأن الله تعالى لم يقل لنا: اكسوهم ما لا يقع عليهم به اسم عريان وما كان ربك نسيا. ولو أن امرأ لبس قميصا، وسراويل في الشتاء لقال الناس: هذا عريان والعجب كله من أبي حنيفة إذ يمنع من أن تجزئ العمامة وهي كسوة ثم يقول: لو كساهم ثوبا واحدا يساوي عشرة أثواب، أو أعطاهم بغلة، أو حمارة تساوي عشرة أثواب أجزأه: ثم تدبرنا هذا: فرأينا ضرورة أن الكسوة على الإطلاق منافية للعري، إذ ممتنع محال أن يكون كاسيا عاريا من وجه واحد، لكن يكون كذلك من وجهين: مثل أن يكون بعضه كاسيا، وبعضه عاريا أو يكون عليه كسوة تعمه، ولا تستر بشرته كما صح عن رسول الله ﷺ، أنه قال: نساء كاسيات عاريات لا يدخلن الجنة فصح يقينا أن الكسوة لا يكون معها عري إذا كانت على الإطلاق، والله تعالى قد أطلقها، ولم يذكرها بإضافة. ولا شك في أن من عليه كسوة سابغة إلا أن رأسه عار أو ظهره أو عورته، أو غير ذلك منه، فإنه لا يسمى كاسيا، ولا مكتسيا إلا بإضافة، فوجب ضرورة أن لا تكون الكسوة إلا عامة لجميع الجسم، ساترة له عن العيون، مانعة من البرد، لأنه بالضرورة يعلم أن من كان في " كانون الأول " مغطى برداء قصب فقط: أنه لا يسميه أحد كاسيا، بل هو عريان. وبالله تعالى التوفيق.


1186 - مسألة: ويجزئ كسوة أهل الذمة وإطعامهم إذا كانوا مساكين، بخلاف الزكاة، لأنه لم يأت ههنا نص بتخصيص المؤمنين. وقد جاء النص في الزكاة: أن تؤخذ من أغنياء المسلمين فترد في فقرائهم.

1187 - مسألة: ويجزئ الصوم للثلاثة الأيام متفرقة إن شاء وهو قول مالك، والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا تجزي إلا متتابعة واحتجوا بقياسها على كفارة الظهار، والقتل، وقالوا في قراءة ابن مسعود: " متتابعات ".

قال أبو محمد: من العجائب أن يقيس المالكيون: الرقبة في أن تكون مؤمنة في كفارة اليمين على كفارة القتل، ولا يقيسها الحنفيون عليها، ويقيس الحنفيون الصوم في كفارة اليمين في وجوب كونه متتابعا على صوم كفارة قتل الخطإ، والظهار، ولا يقيسه المالكيون عليه، فاعجبوا لهذه المقاييس المتخاذلة المحكوم بها في الدين مجازفة وأما قراءة ابن مسعود فهي من شرق الأرض إلى غربها أشهر من الشمس من طريق عاصم، وحمزة، والكسائي ليس فيها ما ذكروا ثم لا يستحيون من أن يزيدوا في القرآن الكذب المفترى نصرا لأقوالهم الفاسدة، وهم يأبون من قبول التغريب في الزنى، لأنه عندهم زيادة على ما في القرآن، وقد صح عن النبي ﷺ. ثم لا يستحيون من الله تعالى، ولا من الناس في أن يزيدوا في القرآن ما يكون من زاده فيه كافرا وما إن قرأ به في المحراب استتيب وإن كتبه في مصحف قطعت الورقة أو بشر نصرا لتقليدهم، فإذ لم يخص الله تعالى تتابعا من تفريق، فكيفما صامهن أجزأه وبالله تعالى التوفيق.

1188 - مسألة: ومن عنده فضل عن قوت يومه وقوت أهله ما يطعم منه عشرة مساكين لم يجزه الصوم أصلا، لأنه واجد، ولا يجزئ الواجد بنص القرآن إلا ما وجد، ولا يجزئ الصوم إلا من لم يجد. والعبد، والحر، في كل ذلك سواء وما كان ربك نسيا ومن حد بأكثر من هذا من قوت جمعة، أو أشهر، أو سنة ; كلف الدليل، ولا سبيل له إليه.

1189 - مسألة: ولا يجزئ إطعام بعض العشرة وكسوة بعضهم وهو قول مالك، والشافعي وقال أبو حنيفة، وسفيان: يجزئ وهذا خلاف القرآن وما نعلم أحدا قاله قبل أبي حنيفة.


1190 - مسألة: ومن حلف على إثم ففرض عليه أن لا يفعله ويكفر، فإن حلف على ما ليس إثما فلا يلزمه ذلك وقال بعض أصحابنا: يلزمه ذلك إذا رأى غيرها خيرا منها واحتجوا بقول رسول الله ﷺ: فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه.

قال أبو محمد: كان هذا احتجاجا صحيحا لولا ما رويناه في " كتاب الصلاة في باب الوتر من قول القائل للنبي ﷺ إذ ذكر له الصلوات الخمس فقال: هل علي غيرهن قال: لا إلا أن تطوع وقال في صوم رمضان والزكاة كذلك، والله لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن فقال عليه السلام: أفلح إن صدق، دخل الجنة إن صدق. ولا شك في أن التطوع بعد الفرض أفضل من ترك التطوع وخير من تركه، فلم ينكر النبي عليه السلام يمينه تلك، ولا أمره بأن يأتي الذي هو خير، بل حسن له ذلك.

فصح أن أمر النبي ﷺ بذلك إنما هو ندب وبالله تعالى التوفيق.

اخر كتاب الأيمان من المحلي يليه ان شاء الله كتاب الفرض


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مكتبات الكتاب الاسلامي

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أ...