مدونة استكمال مصنفات الإمامين ابن حزم والوكاني

الأحد، 20 مارس 2022

محلى ابن حزم - المجلد الأول/الصفحة التاسعة عشر/// من فقرة 141 حتي فقرة 178-



محلى ابن حزم - المجلد الأول/الصفحة التاسعة عشر


كتاب الطهارة

141 مسألة : والوضوء بالماء المستعمل جائز ، وكذلك الغسل به للجنابة ، وسواء وجد ماء آخر غيره أو لم يوجد ، وهو الماء الذي توضأ به بعينه لفريضة أو نافلة أو اغتسل به بعينه لجنابة أو غيرها ، وسواء كان المتوضئ به رجلا أو امرأة . برهان ذلك قول الله تعالى { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا } فعم تعالى كل ماء ولم يخصه ، فلا يحل لأحد أن يترك الماء في وضوئه وغسله الواجب وهو يجده إلا ما منعه منه نص ثابت أو إجماع متيقن مقطوع بصحته . وقال رسول الله ﷺ : { وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء } فعم أيضا عليه السلام ولم يخص ، فلا يحل تخصيص ماء بالمنع لم يخصه نص آخر أو إجماع متيقن . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا ابن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا مسدد ثنا عبد الله بن داود وهو الخريبي عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ قالت { إن رسول الله ﷺ مسح برأسه من فضل ماء كان بيده } . وأما من الإجماع فلا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أن كل متوضئ فإنه يأخذ الماء فيغسل به ذراعيه من أطراف أصابعه إلى مرفقه ، وهكذا كل عضو في الوضوء وفي غسل الجنابة ، وبالضرورة والحس يدري كل مشاهد لذلك أن ذلك الماء قد وضئت به الكف وغسلت ، ثم غسل به أول الذراع ثم آخره ، وهذا ماء مستعمل بيقين ، ثم إنه يرد يده إلى الإناء وهي تقطر من الماء الذي طهر به العضو ، فيأخذ ماء آخر للعضو الآخر ، فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه لم يطهر العضو الثاني إلا بماء جديد قد مازجه ماء آخر مستعمل في تطهير عضو آخر وهذا ما لا مخلص منه . وهو قول الحسن البصري وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح ، وهو أيضا قول سفيان الثوري وأبي ثور وداود وجميع أصحابنا . وقال مالك : يتوضأ به إن لم يجد غيره ولا يتيمم . وقال أبو حنيفة : لا يجوز الغسل ولا الوضوء بماء قد توضأ به أو اغتسل به ، ويكره شربه ، وروي عنه أنه طاهر ، والأظهر عنه أنه نجس ، وهو الذي روي عنه نصا ، وأنه لا ينجس الثوب إذا أصابه الماء المستعمل إلا أن يكون كثيرا فاحشا . وقال أبو يوسف : إن كان الذي أصاب الثوب منه شبر في شبر فقد نجسه ، وإن كان أقل لم ينجسه . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف إن كان رجل طاهر قد توضأ للصلاة أو لم يتوضأ لها فتوضأ في بئر فقد تنجس ماؤها كله وتنزح كلها ، ولا يجزيه ذلك الوضوء إن كان غير متوضئ ، فإن اغتسل فيها أرضا أنجسها كلها . وكذلك لو اغتسل وهو طاهر غير جنب في سبعة آبار نجسها كلها . وقال أبو يوسف : ينجسها كلها ولو أنها عشرون بئرا ، وقالا جميعا : لا يجزيه ذلك الغسل ، فإن طهر فيها يده أو رجله فقد تنجست كلها ، فإن كان على ذراعيه جبائر أو على أصابع رجليه جبائر فغمسها في البئر ينوي بذلك المسح عليها لم يجزه وتنجس ماؤها كله ، فلو كان على أصابع يده جبائر فغمسها في البئر ينوي بذلك المسح عليها أجزأه ولم ينجس ماؤها اليد بخلاف سائر الأعضاء ، فلو انغمس فيها ولم ينو غسلا ولا وضوءا ولا تدلك فيها لم ينجس الماء حتى ينوي الغسل أو الوضوء وقال أبو يوسف : لا يطهر بذلك الانغماس ، وقال محمد بن الحسن : يطهر به . قال أبو يوسف : فإن غمس رأسه ينوي المسح عليه لم ينجس الماء ، وإنما ينجسه نية تطهير عضو يلزم فيه الغسل ، قال فلو غسل بعض يده بنية الوضوء أو الغسل لم ينجس الماء حتى يغسل العضو بكماله ، فلو غمس رأسه أو خفه ينوي بذلك المسح أجزأه ولم يفسد الماء ، وإنما يفسده نية الغسل لا نية المسح . وهذه أقول هي إلى الهوس أقرب منها إلى ما يعقل . وقال الشافعي : لا يجزئ الوضوء ولا الغسل بماء قد اغتسل به أو توضأ به وهو طاهر كله ، وأصفق أصحابه على أن من أدخل يده في الإناء ليتوضأ فأخذ الماء فتمضمض واستنشق وغسل وجهه ثم أدخل يده في الإناء فقد حرم الوضوء بذلك الماء ؛ لأنه قد صار ماء مستعملا ، وإنما يجب أن يصب منه على يده ، فإذا وضأها أدخلها حينئذ في الإناء . قال أبو محمد : واحتج من منع ذلك بالحديث الثابت عن { رسول الله ﷺ من نهيه الجنب أن يغتسل في الماء الدائم } . قال أبو محمد : وقالوا : إنما نهى رسول الله ﷺ عن ذلك ، لأن الماء يصير مستعملا ، وقال بعض من خالفهم : بل ما نهى عن ذلك عليه السلام إلا خوف أن يخرج من إحليله شيء ينجس الماء . قال أبو محمد : وكلا القولين باطل نعوذ بالله من مثله ، ومن أن نقول رسول الله ﷺ ما لم يقل ، وأن نخبر عنه ما لم يخبر به عن نفسه ولا فعله ، فهذا هو الكذب على رسول الله ﷺ وهو من أكبر الكبائر ممن قطع به ، فإن لم يقطع به فإنما هو ظن ، وقد قال عز وجل : { إن الظن لا يغني من الحق شيئا } وقال رسول الله ﷺ : { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } ولا بد لمن قال بأحد هذين التأويلين من إحدى هاتين المنزلتين ، فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة . واحتج بعضهم فقال : لم يقل أحد للمتوضئ ولا للمغتسل أن يردد ذلك الماء على أعضائه ، بل أوجبوا عليه أخذ ماء جديد ، وبذلك جاء عمل النبي ﷺ في الوضوء والغسل فوجب أن لا يجزئ . قال أبو محمد : وهذا باطل ، لأنه لم ينه أحد من السلف عن ترديد الماء على الأعضاء في الوضوء والغسل ، ولا نهى عنه عليه السلام قط . ويقال للحنفيين : قد أجزتم تنكيس الوضوء ، ولم يأت قط عن النبي ﷺ أنه نكس وضوءه ، ولا أن أحدا من المسلمين فعل ذلك ، فأخذه عليه السلام ماء جديدا لكل عضو إنما هو فعل منه عليه السلام ، وأفعاله عليه السلام لا تلزم . وقد صح عنه مسح رأسه المقدس بفضل ماء مستعمل . فإن قيل : قد روي يؤخذ للرأس ماء جديد . قلنا : إنما رواه دهثم بن قران وهو ساقط لا يحتج به عن نمران بن جارية وهو غير معروف فكيف وقد أباح عليه السلام غسل الجنابة بغير تجديد ماء . كما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا إسحاق بن إبراهيم وأبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وابن أبي عمر كلهم عن سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة { أن رسول الله ﷺ قال لها في غسل الجنابة إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين } . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا أبو نعيم هو الفضل بن دكين ثنا معمر بن يحيى بن سام حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين { قال لي جابر سألني ابن عمك فقال : كيف الغسل من الجنابة ؟ فقلت : كان رسول الله ﷺ يأخذ ثلاثة أكف ويفيضها على رأسه ثم يفيض على سائر جسده } . قال أبو محمد ولو كان ما قاله أصحاب أبي حنيفة من تنجس الماء المستعمل لما صح طهر ولا وضوء ولا صلاة لأحد أبدا ، لأن الماء الذي يفيضه المغتسل على جسده يطهر منكبيه وصدره ، ثم ينحدر إلى ظهره وبطنه ، فكان يكون كل أحد مغتسلا بماء نجس ، ومعاذ الله من هذا ، وهكذا في غسله ذراعه ووجهه ورجله في الوضوء ، لأنه لا يغسل ذراعه إلا بالماء الذي غسل به كفه ، ولا يغسل أسفل وجهه إلا بالماء الذي قد غسل به أعلاه وكذلك رجله . وقال بعضهم : الماء المستعمل لا بد من أن يصحبه من عرق الجسم في الغسل والوضوء شيء فهو ماء مضاف . قال أبو محمد : وهذا غث جدا ، وحتى لو كان كما قالوا فكان ماذا ؟ ومتى حرم الوضوء والغسل بماء فيه شيء طاهر لا يظهر له في الماء رسم فكيف وهم يجيزون الوضوء بماء قد تبرد فيه من الحر وهذا أكثر في أن يكون فيه العرق من الماء المستعمل . وقال بعضهم : قد جاء أثر بأن الخطايا تخرج مع غسل أعضاء الوضوء . قلنا : نعم ولله الحمد فكان ماذا ؟ وإن هذا لمما يغيط باستعماله مرارا إن أمكن لفضله ، وما علمنا للخطايا أجراما تحل في الماء . وقال بعضهم : الماء المستعمل كحصى الجمار الذي رمى به لا يجوز أن يرمي به ثانية . قال أبو محمد : وهذا باطل ، بل حصى الجمار إذا رمى بها فجائز أخذها والرمي بها ثانية ، وما ندري شيئا يمنع من ذلك ، وكذلك التراب الذي تيمم به فالتيمم به جائز والثوب الذي سترت به العورة في الصلاة جائز أن تستر به أيضا العورة في صلاة أخرى ، فإن كانوا أهل قياس فهذا كله باب واحد . وقال بعضهم : الماء المستعمل بمنزلة الماء الذي طبخ فيه فول أو حمص . قال علي : وهذا هوس مردود على قائله ، وما ندري شيئا يمنع من جواز الوضوء والغسل بماء طبخ فيه فول أو حمص أو ترمس أو لوبيا ، ما دام يقع عليه اسم ماء . وقال بعضهم : لما لم يطلق على الماء المستعمل اسم الماء مفردا دون أن يتبع باسم آخر وجب أن لا يكون في حكم الماء المطلق . قال أبو محمد : وهذه حماقة ، بل يطلق عليه اسم ماء فقط ، ثم لا فرق بين قولنا ماء مستعمل فيوصف بذلك ، وبين قولنا ماء مطلق فيوصف بذلك ، وقولنا ماء ملح أو ماء عذب ، أو ماء مر ، أو ماء سخن أو ماء مطر ، وكل ذلك لا يمنع من جواز الوضوء به والغسل . ولو صح قول أبي حنيفة في نجاسة الماء المتوضأ به والمغتسل به لبطل أكثر الدين ؛ لأنه كان الإنسان إذا اغتسل أو توضأ ثم لبس ثوبه لا يصلي إلا بثوب نجس كله ، وللزمه أن يطهر أعضاءه منه بماء آخر . وقال بعضهم : لا ينجس إلا إذا فارق الأعضاء . قال أبو محمد : وهذه جرأة على القول بالباطل في الدين بالدعوى ، ويقال لهم : هل تنجس عندكم إلا بالاستعمال ؟ فلا بد من نعم ، فمن المحال أن لا ينجس في الحال المنجسة له ثم ينجس بعد ذلك ، ولا جرأة أعظم من أن يقال : هذا ماء طاهر تؤدى به الفرائض ، فإذا تقرب به إلى الله في أفضل الأعمال من الوضوء والغسل تنجس أو حرم أن يتقرب إلى الله تعالى به ، وما ندري من أين وقع لهم هذا التخليط . وقال بعضهم : قد جاء عن ابن عباس أن الجنب إذا اغتسل في الحوض أفسد ماءه ، وهذا لا يصح ، بل هو موضوع ، وإنما ذكره الحنفيون عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن ابن عباس ، ولا نعلم من هو قبل حماد ، ولا نعرف لإبراهيم سماعا من ابن عباس والصحيح عن ابن عباس خلاف هذا . قال أبو محمد : وقد ذكرنا عن ابن عباس قبل خلاف هذا من قوله : أربع لا تنجس الماء والأرض والإنسان ، وذكر رابعا . وذكروا عن رسول الله ﷺ في تحريمه الصدقة على آل محمد { إنما هي غسالة أيدي الناس } . وعن عمر مثل ذلك . قال أبو محمد : وهذا لا حجة فيه أصلا ، لأن اللازم لهم في احتجاجهم بهذا الخبر أن لا يحرم ذلك إلا على آل محمد خاصة ، فإنه عليه السلام لم يكره ذلك ولا منعه أحدا غيرهم ، بل أباحه لسائر الناس . وأما احتجاجهم بقول عمر فإنهم مخالفون له لأنهم يجيزون في أصل أقوالهم شرب ذلك الماء . وأيضا فإن غسالة أيدي الناس غير وضوئهم الذي يتقربون به إلى الله تعالى ، ولا عجب أكثر من إباحتهم غسالة أيدي الناس وفيها جاء ما احتجوا به . وقولهم إنها طاهرة ، وتحريمهم الماء الذي قد توضأ به قربة إلى الله تعالى وليس في شيء من هذين الأثرين نهي عنه ، ونعوذ بالله من الضلال وتحريف الكلم عن مواضعه . ونسأل أصحاب الشافعي عمن وضأ عضوا من أعضاء وضوئه فقط ينوي به الوضوء في ماء دائم أو غسله كذلك وهو جنب ، أو بعض عضو أو بعض أصبع أو شعرة واحدة أو مسح شعرة من رأسه أو خفه أو بعض خفه : حتى نعرف أقوالهم في ذلك . وقد صح { أن رسول الله ﷺ توضأ وسقى إنسانا ذلك الوضوء } ، وأنه عليه السلام { توضأ وصب وضوءه على جابر بن عبد الله } ، وأنه عليه السلام { كان إذا توضأ تمسح الناس بوضوئه } ، فقالوا بآرائهم الملعونة : إن المسلم الطاهر النظيف إذا توضأ بماء طاهر ثم صب ذلك الماء في بئر فهي بمنزلة لو صب فيها فأر ميت أو نجس ، ونسأل الله العافية من هذا القول .

142 مسألة : وونيم الذباب والبراغيث والنحل وبول الخفاش إن كان لا يمكن التحفظ منه وكان في غسله حرج أو عسر لم يلزم من غسله إلا ما لا حرج فيه ولا عسر . قال أبو محمد : قد قدمنا قول الله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقوله : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } فالحرج والعسر مرفوعان عنا ، وما كان لا حرج في غسله ولا عسر فهو لازم غسله ، لأنه بول ورجيع .

143 مسألة : والقيء من كل مسلم أو كافر حرام يجب اجتنابه ، لقول رسول الله ﷺ : { العائد في هبته كالعائد في قيئه } وإنما قال عليه السلام ذلك على منع العودة في الهبة .

144 مسألة : والخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس حرام واجب اجتنابه ، فمن صلى حاملا شيئا منها بطلت صلاته . قال الله تعالى : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } فمن لم يجتنب ذلك في صلاته فلم يصل كما أمر ، ومن لم يصل كما أمر فلم يصل .

145 مسألة : ونبيذ البسر والتمر والزهو والرطب والزبيب إذا جمع نبيذ واحد من هذه إلى نبيذ غيره فهو حرام واجب اجتنابه . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا موسى بن إسماعيل ثنا أبان هو ابن يزيد العطار ثنا يحيى هو ابن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن رسول الله ﷺ : { أنه نهى عن خليط الزبيب والتمر ، وعن خليط البسر والتمر ، وعن خليط الزهو والرطب ، وقال : انتبذوا كل واحد على حدة } وليس كذلك الخليطان من غير هذه الخمسة بل هو طاهر حلال ما لم يسكر ؛ لأنه لم ينه إلا عما ذكرنا .

146 مسألة : ولا يجوز استقبال القبلة واستدبارها للغائط والبول ، لا في بنيان ولا في صحراء ، ولا يجوز استقبال القبلة فقط كذلك في حال الاستنجاء . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى قال قلت لسفيان بن عيينة : سمعت الزهري يذكر عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب " أن رسول الله ﷺ قال : { إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط ولكن شرقوا أو غربوا } ؟ قال سفيان نعم . وقد روى أيضا النهي عن ذلك أبو هريرة وغيره ، وقد ذكرنا قبل حديث سلمان عن النبي ﷺ { : ألا يستنجي أحد مستقبل القبلة } ، في باب الاستنجاء . وممن أنكر ذلك أبو أيوب الأنصاري كما ذكرنا في البيوت نصا عنه ، وكذلك أيضا أبو هريرة وابن مسعود ، وعن سراقة بن مالك ألا تستقبل القبلة بذلك ، وعن السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم جملة ، وعن عطاء وإبراهيم النخعي ، وبقولنا في ذلك يقول سفيان الثوري والأوزاعي وأبو ثور ومنع أبو حنيفة من استقبالها لبول أو غائط ، وكل هؤلاء لم يفرق بين الصحاري والبناء في ذلك ، وروينا من طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر : أنه كان يكره أن تستقبل القبلتان بالفروج ، وهو قول مجاهد . قال أبو محمد : لا نرى ذلك في بيت المقدس ، لأن النهي عن ذلك لم يصح . وقال عروة بن الزبير وداود بن علي : يجوز استقبال الكعبة واستدبارها بالبول والغائط ، وروينا ذلك عن ابن عمر من طريق شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن نافع عن ابن عمر ، وروينا عن ابن عمر من طريق أبي داود عن محمد بن يحيى بن فارس عن صفوان بن عيسى عن الحسن بن ذكوان عن مروان الأصفر عن ابن عمر أنه قال : إنما نهي عن ذلك في الفضاء ، وأما إذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس ، وروينا أيضا هذا عن الشعبي ، وهو قول مالك والشافعي . فأما من أباح ذلك جملة فاحتجوا بحديث رويناه عن ابن عمر في بعض ألفاظه { رقيت على بيت أختي حفصة فرأيت رسول الله ﷺ قاعدا لحاجته مستقبل القبلة } وفي بعضها { رأيت رسول الله ﷺ يبول حيال القبلة } وفي بعضها : { اطلعت يوما ورسول الله ﷺ على ظهر بيت يقضي حاجته محجورا عليه بلبن فرأيته مستقبل القبلة } . وبحديث من طريق جابر { نهى رسول الله ﷺ أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها } وبحديث من طريق عائشة { أن رسول الله ﷺ ذكر عنده أن ناسا يكرهون استقبال القبلة بفروجهم فقال رسول الله ﷺ : قد فعلوها ؟ استقبلوا بمقعدتي القبلة } . قال علي : لا حجة لهم غير ما ذكرنا ، ولا حجة لهم في شيء منه . أما حديث ابن عمر ، فليس فيه أن ذلك كان بعد النهي ، وإذا لم يكن ذلك فيه فنحن على يقين من أن ما في حديث ابن عمر موافق لما كان الناس عليه قبل أن ينهى النبي ﷺ عن ذلك ، هذا ما لا شك فيه ، فإذا لا شك في ذلك فحكم حديث ابن عمر منسوخ قطعا بنهي النبي ﷺ عن ذلك ، هذا يعلم ضرورة ومن الباطل المحرم ترك اليقين بالظنون ، وأخذ المتيقن نسخه وترك المتيقن أنه ناسخ . وقد أوضحنا في غير هذا المكان أن كل ما صح أنه ناسخ لحكم منسوخ فمن المحال الباطل أن يكون الله تعالى يعيد الناسخ منسوخا والمنسوخ ناسخا ولا يبين ذلك تبيانا لا إشكال فيه ، إذ لو كان هذا لكان الدين مشكلا غير بين ، ناقصا غير كامل ، وهذا باطل ، قال الله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } وقال تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } وأيضا فإنما في حديث ابن عمر ذكر استقبال القبلة فقط ، فلو صح أنه ناسخ لما كان فيه نسخ تحريم استدبارها ، ولكان من أقحم في ذلك إباحة استدبارها كاذبا مبطلا لشريعة ثابتة ، وهذا حرام ، فبطل تعلقهم بحديث ابن عمر . وأما حديث عائشة فهو ساقط ؛ لأنه رواية خالد الحذاء وهو ثقة عن خالد بن أبي الصلت وهو مجهول لا يدرى من هو ، وأخطأ فيه عبد الرزاق فرواه عن خالد الحذاء عن كثير بن الصلت ، وهذا أبطل وأبطل ؛ لأن خالدا الحذاء لم يدرك كثير بن الصلت ، ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة ، لأن نصه يبين أنه إنما كان قبل النهي ؛ لأن من الباطل المحال أن يكون رسول الله ﷺ ينهاهم عن استقبال القبلة بالبول والغائط ثم ينكر عليهم طاعته في ذلك ، هذا ما لا يظنه مسلم ولا ذو عقل ، وفي هذا الخبر إنكار ذلك عليهم ، فلو صح لكان منسوخا بلا شك ، ثم لو صح لما كان فيه إلا إباحة الاستقبال فقط ، لا إباحة الاستدبار أصلا ، فبطل تعلقهم بحديث عائشة جملة . وأما حديث جابر فإنه رواية أبان بن صالح وليس بالمشهور ، وأيضا فليس فيه بيان أن استقباله القبلة عليه السلام كان بعد نهيه ، ولو كان ذلك لقال جابر ، ثم رأيته ، وأيضا فلو صح لما كان فيه إلا النسخ للاستقبال فقط ، وأما الاستدبار فلا أصلا ، ولا يحل أن يزاد في الأخبار ما ليس فيها ، فيكون من فعل ذلك كاذبا ، وليس إذا نهى عن شيئين ثم نسخ أحدهما وجب نسخ الآخر ، فبطل كل ما شغبوا به وبالله تعالى التوفيق ، وسقط قولهم لتعريه عن البرهان . وأما من فرق بين الصحاري والبناء في ذلك فقول لا يقوم عليه دليل أصلا ، إذ ليس في شيء من هذه الآثار فرق بين صحراء وبنيان ، فالقول بذلك ظن ، والظن أكذب الحديث ، ولا يغني عن الحق شيئا ، ولا فرق بين من حمل النهي على الصحاري دون البنيان ، وبين آخر قال بل النهي عن ذلك في المدينة أو مكة خاصة ، وبين آخر قال في أيام الحج خاصة ، وكل هذا تخليط لا وجه له . وقال بعضهم : إنما كان في الصحاري ، لأن هنالك قوما يصلون فيؤذون بذلك . قال أبو محمد : هذا باطل ؛ لأن وقوع الغائط كيفما وقع في الصحراء فموضعه لا بد أن يكون قبلة لجهة ما ، وغير قبلة لجهة أخرى ، فخرج قول مالك عن أن يكون له متعلق بسنة أو بدليل أصلا ، وهو قول خالف جميع أقوال الصحابة رضي الله عنهم إلا رواية عن ابن عمر قد روي عنه خلافها ، وبالله تعالى التوفيق .

147 مسألة : وكل ماء خالطه شيء طاهر مباح فظهر فيه لونه وريحه وطعمه إلا أنه لم يزل عنه اسم الماء ، فالوضوء به جائز والغسل به للجنابة جائز . برهان ذلك قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء } وهذا ماء ، سواء كان الواقع فيه مسكا أو عسلا أو زعفرانا أو غير ذلك . حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق ثنا ابن جريج أخبرني عطاء بن أبي رباح عن أم هانئ بنت أبي طالب أنها قالت : { دخلت على النبي ﷺ يوم الفتح وهو في قبة له ، فوجدته قد اغتسل بماء كان في صحفة ، إني لأرى فيها أثر العجين ، فوجدته يصلي الضحى } . وبه إلى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن أم هانئ قالت { نزل رسول الله ﷺ يوم الفتح بأعلى مكة فأتيته بماء في جفنة إني لأرى أثر العجين فيها ، فستره أبو ذر فاغتسل رسول الله ﷺ ثم ستر عليه السلام أبا ذر فاغتسل ، ثم صلى ثماني ركعات وذلك في الضحى } . حدثنا يونس بن عبد الله ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا أحمد بن خالد ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن زيد بن الحباب العكلي عن إبراهيم بن نافع عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم هانئ { أن ميمونة أم المؤمنين ورسول الله ﷺ اغتسلا من قصعة فيها أثر العجين } . قال علي : وهذا قول ثابت عن ابن مسعود قال : إذا غسل الجنب رأسه بالخطمي أجزأه ، وكذلك نصا عن ابن عباس . وروي أيضا هذا عن علي بن أبي طالب ، وثبت عن سعيد بن المسيب وابن جريج وعن صواحب النبي ﷺ من نساء الأنصار والتابعات منهن : أن المرأة الجنب والحائض إذا امتشطت بحناء رقيق أن ذلك يجزئها من غسل رأسها للحيضة والجنابة ولا تعيد غسله ، وثبت عن إبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن جبير أنهم قالوا في الجنب : يغسل رأسه بالسدر والخطمي : إنه يجزئه ذلك من غسل رأسه للجنابة . وقولنا في هذا هو قول أبي حنيفة والشافعي وداود . وروي عن مالك نحو هذا أيضا . وروى سحنون عن ابن القاسم أنه سأل مالكا عن الغدير ترده المواشي فتبول فيه وتبعر حتى يتغير لون الماء وريحه : أيتوضأ منه للصلاة ؟ قال مالك : أكرهه ولا أحرمه ، كان ابن عمر يقول : إني لأحب أن أجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال . والذي عليه أصحابه بخلاف هذا ، وهو أنه روي عنه في الماء يبل فيه الخبز أو يقع فيه الدهن : أنه لا يجوز الوضوء به وكذلك الماء ينقع فيه الجلد ، وهذا خطأ من القول ، لأنه لا دليل عليه من قرآن ولا من سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ، بل خالفوا فيه ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم لا يعرف لهم منهم مخالف ، وخالفوا فيه فقهاء المدينة كما ذكرنا ، وما نعلمهم احتجوا بأكثر من أن قالوا : ليس هو ماء مطلقا . قال أبو محمد : وهذا خطأ ، بل هو ماء مطلق وإن كان فيه شيء آخر ، ولا فرق بين ذلك الذي فيه وبين حجر يكون فيه ، وهم يجيزون الوضوء بالماء الذي تغير من طين موضعه ، وهذا تناقض . ومن العجب أنهم لم يجعلوا حكم الماء للماء الذي مازجه شيء طاهر لم يزل عنه اسم الماء ، وجعلوا للفضة المخلوطة بالنحاس خلطا يغيرها حكم الفضة المحصنة ، وكذلك في الذهب الممزوج فجعلوه كالذهب الصرف في الزكاة والصرف ، وهذا هو الخطأ وعكس الحقائق ، لأنهم أوجبوا الزكاة في الصفر الممازج للفضة ، وهذا باطل وأباحوا صرف فضة وصفر بمثل وزن الجميع من فضة محضة ، وهذا هو الربا بعينه وأما الوضوء بماء قد مازجه شيء طاهر فإنما يتوضأ ويغتسل بالماء ، ولا يضره مرور شيء طاهر على أعضائه مع الماء . وقال بعضهم : هو كماء الورد . قال أبو محمد وهذا باطل ، لأن ماء الورد ليس ماء أصلا ، وهذا ماء وشيء آخر معه فقط .

=====

من 148 حني 157-



كتاب الطهارة

148 - مسألة : فإن سقط عنه اسم الماء جملة ، كالنبيذ وغيره ، لم يجز الوضوء به ولا الغسل ، والحكم حينئذ التيمم ، وسواء في هذه المسألة والتي قبلها ، وجد ماء آخر أم لم يوجد . برهان ذلك قول الله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } ولقول رسول الله ﷺ { وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء } . ولما كان اسم الماء لا يقع على ما غلب عليه غير الماء حتى تزول عنه جميع صفات الماء التي منها يؤخذ حده ، صح أنه ليس ماء ، ولا يجوز الوضوء بغير الماء ، وهذا قول مالك والشافعي وأحمد وداود وغيرهم ، وقال به الحسن وعطاء بن أبي رباح وسفيان الثوري وأبو يوسف وإسحاق وأبو ثور وغيرهم . وروي عن عكرمة أن النبيذ وضوء إذا لم يوجد الماء ولا يتيمم مع وجوده . وقال الأوزاعي : لا يتيمم إذا عدم الماء ما دام يوجد نبيذ غير مسكر ، فإن كان مسكرا فلا يتوضأ به . وقال حميد صاحب الحسن بن حي : نبيذ التمر خاصة يجوز الوضوء به والغسل المفترض في الحضر والسفر ، وجد الماء أو لم يوجد ، ولا يجوز ذلك بغير نبيذ التمر ، وجد الماء أو لم يوجد . وقال أبو حنيفة في أشهر قوليه : إن نبيذ التمر خاصة إذا لم يسكر فإنه يتوضأ به ويغتسل - فيما كان خارج الأمصار والقرى خاصة - عند عدم الماء ، فإن أسكر ، فإن كان مطبوخا جاز الوضوء به والغسل كذلك ، فإن كان نيئا لم يجز استعماله أصلا في ذلك ، ولا يجوز الوضوء بشيء من ذلك ، لا عند عدم الماء ولا في الأمصار ولا في القرى أصلا - وإن عدم الماء - ولا بشيء من الأنبذة غير نبيذ التمر لا في القرى ولا في غير القرى ، ولا عند عدم الماء ، والرواية الأخرى عنه أن جميع الأنبذة يتوضأ بها ويغتسل ، كما قال في نبيذ التمر سواء سواء . وقال محمد بن الحسن : يتوضأ بنبيذ التمر عند عدم الماء ويتيمم معا . قال أبو محمد : أما قول عكرمة والأوزاعي والحسن بن حي ، فإنهم احتجوا بحديث رويناه من طريق ابن مسعود من طرق { أن رسول الله ﷺ قال له ليلة الجن : معك ماء ؟ قال ليس معي ماء ، ولكن معي إداوة فيها نبيذ ، فقال النبي ﷺ : تمرة طيبة وماء طهور ، فتوضأ ثم صلى الصبح } وفي بعض ألفاظه { أن رسول الله ﷺ توضأ بنبيذ وقال : تمرة طيبة وماء طهور } . وقال بعضهم : إن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ركبوا البحر فلم يجدوا إلا ماء البحر ونبيذا ، فتوضئوا بالنبيذ ولم يتوضئوا بماء البحر . وذكروا ما حدثناه محمد بن سعيد بن نبات قال : ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا يزيد بن هارون ثنا عبد الله بن ميسرة عن مزيدة بن جابر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : إذا لم تجد الماء فلتتوضأ بالنبيذ . قال محمد بن المثنى : وحدثنا أبو معاوية محمد بن خازم الضرير ثنا الحجاج بن أرطاة عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لا بأس بالوضوء بالنبيذ . قالوا : ولا مخالف لمن ذكرنا يعرف من الصحابة رضي الله عنهم ، فهو إجماع على قول بعض مخالفينا . وقالوا : النبيذ ماء بلا شك خالطه غيره ، فإذ هو كذلك فالوضوء به جائز . قال أبو محمد : هذا كل ما يمكن أن يشغبوا به ، ولا حجة لهم في شيء منه ، ولله الحمد . أما الخبر المذكور فلم يصح ؛ لأن في جميع طرقه من لا يعرف أو من لا خير فيه ، وقد تكلمنا عليه كلاما مستقصى في غير هذا الكتاب ، ثم لو صح بنقل التواتر لم يكن لهم فيه حجة ، لأن ليلة الجن كانت بمكة قبل الهجرة ولم تنزل آية الوضوء إلا بالمدينة في سورة النساء وفي سورة المائدة ، ولم يأت قط أثر بأن الوضوء كان فرضا بمكة ، فإذ ذلك كذلك فالوضوء بالنبيذ كلا وضوء ، فسقط التعلق به لو صح . وأما الذي رووه من فعل الصحابة رضي الله عنهم فهو عليهم لا لهم ؛ لأن الأوزاعي والحسن بن حي وأبا حنيفة وأصحابه كلهم مخالفون لما روي عن الصحابة في ذلك ، مجيزون للوضوء بماء البحر ، ولا يجيزون الوضوء بالنبيذ ، ما دام يوجد ماء البحر ، وكلهم - حاشا حميدا صاحب الحسن بن حي - لا يجيز الوضوء ألبتة بالنبيذ ما دام يوجد ماء البحر ، وحميد صاحب الحسن يجيز الوضوء بماء البحر مع وجود النبيذ ، فكلهم مخالف لما ادعوه من فعل الصحابة رضي الله عنهم في ذلك ، ومن الباطل أن يرى المرء حجة على خصمه ما لا يراه حجة عليه . وأما الأثر عن علي رضي الله عنه فلا حجة في أحد غير رسول الله ﷺ . وأيضا فإن حميدا صاحب الحسن بن حي يخالف الرواية عن علي في ذلك ، لأنه يرى الوضوء بنبيذ التمر مع وجود الماء ، وهذا خلاف قول علي ، ويرى أن سائر الأنبذة لا يحل بها الوضوء أصلا ، وهذا خلاف الرواية عن علي . وأما قولهم : إن في النبيذ ماء خالطه غيره ، فهو لازم لهم في لبن مزج بماء ، وفي الحبر ؛ لأنه ماء مع عفص وزاج ، وفي الأمراق ؛ لأنها ماء وزيت وخل ، أو ماء وزيت ومري ونحو ذلك ، وهم لا يقولون بشيء من هذا ، فظهر تناقضهم في كل ما احتجوا به . ولله الحمد . وأما قول أبي حنيفة فهو أبعدهم من أن يكون له في شيء مما ذكرنا حجة . أما الحديث المذكور فليس فيه أن النبي ﷺ كان حين الوضوء بالنبيذ خارج مكة ، فمن أين له بتخصيص جواز الوضوء بالنبيذ خارج الأمصار والقرى ؟ وهذا خلاف لما في ذلك الخبر ، لا سيما وهو لا يرى التيمم فيما يقرب من القرية ، ولا قصر الصلاة إلا في ثلاثة أيام ، أحد وعشرين فرسخا فصاعدا ، ولا سبيل له إلى دليل في شيء من ذلك إلا ودليله في ذلك جار في جميع هذه المسائل . وأما قوله الثاني الذي قاس فيه جميع الأنبذة على نبيذ التمر ، فهلا قاس أيضا داخل القرية على خارجها وما المجيز له أحد القياسين والمانع له من الآخر ؟ لا سيما مع ما في الخبر من قوله { تمرة طيبة وماء طهور } فإذ هو ماء طهور فما المانع من استعماله مع وجود ماء غيره ، وكلاهما ماء طهور ؟ وهذا ما لا انفكاك منه . وإن كان لا يجيزه مع وجود الماء فليجزه للمريض في الحضر مع عدم الماء . وأما فعل الصحابة رضي الله عنهم وقول علي فهو مخالف له ، لأنه لا يجيز الوضوء بالنبيذ مع وجود ماء البحر ، ولا يجيز الوضوء بالنبيذ وإن عدم الماء في القرى ، وليس هذا في قول علي ، ولم يخص علي نبيذ تمر من غيره ، وأبو حنيفة يخصه في أحد قوليه ، ولا أمقت في الدنيا والآخرة ممن ينكر على مخالفه ترك قول هو أول تارك له ولا سيما ومخالفه لا يرى ذلك الذي ترك حجة . قال الله تعالى : { لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } . وأما قولهم : إن النبيذ ماء وتمر فيلزمهم هذا كما قلنا في الأمراق وغيرها من الأنبذة وهو خلاف قوله . فظهر فساد قولي أبي حنيفة معا . الحمد لله رب العالمين . وأما قول محمد بن الحسن ففاسد ، لأنه لا يخلو أن يكون الوضوء بالنبيذ جائزا فالتيمم معه فضول . أو لا يكون الوضوء به جائزا فاستعماله فضول . لا سيما مع قوله : إنه إذا كان في ثوب المرء أكثر من قدر الدرهم البغلي من نبيذ مسكر بطلت صلاته . ولا شك أن المجتمع على جسد المتوضئ بالنبيذ أو المغتسل به وفي ثوبه أكثر من دراهم بغلية كثيرة . فإن قال من ينتصر له : إنا لا ندري أيلزم الوضوء به فلا يجزئ تركه أو لا يحل الوضوء به فلا يجزئ فعله . فجمعنا الأمرين . قيل لهم : الوضوء بالماء فرض متيقن عند وجوده ، فلا يجوز تركه ، والوضوء بالتيمم عند عدم ما يجزئ الوضوء به فرض متيقن ، والوضوء بالنبيذ عندكم غير متيقن ، وما لم يكن متيقنا فاستعماله لا يلزم ، وما لا يلزم فلا معنى لفعله ، ولو جئتم إلى استعمال كل ما تشكون في وجوبه لعظم الأمر عليكم ، لا سيما وأنتم على يقين من أنه نجس يفسد الصلاة كونه في الثوب ، وأنتم مقرون أن الوضوء بالنجس المتيقن لا يحل . وأما المالكيون والشافعيون فإنهم كثيرا ما يقولون في أصولهم وفروعهم : إن خلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف منهم لا يحل . وهذا مكان نقضوا فيه هذا الأصل وبالله تعالى التوفيق . وأبو حنيفة يقول بالقياس ، وقد نقض ههنا أصله في القول به ، فلم يقس الأمراق ولا سائر الأنبذة على نبيذ التمر ، وخالف أيضا أقوال طائفة من الصحابة رضي الله عنهم كما ذكرنا دون مخالف يعرف لهم في ذلك ، وهذا أيضا هادم لأصله ، فليقف على ذلك من أراد الوقوف على تناقض أقوالهم ، وهدم فروعهم لأصولهم . وبالله تعالى التوفيق .


149 - مسألة : وفرض على كل مستيقظ من نوم - قل النوم أو كثر ، نهارا كان أو ليلا ، قاعدا أو مضطجعا أو قائما . في صلاة أو في غير صلاة ، كيفما نام - ألا يدخل يده في وضوئه - في إناء كان وضوءه أو من نهر أو غير ذلك - حتى يغسلها ثلاث مرات ويستنشق ويستنثر ثلاث مرات . فإن لم يفعل لم يجزه الوضوء ولا تلك الصلاة . ناسيا ترك ذلك أو عامدا . وعليه أن يغسلها ثلاث مرات ويستنشق كذلك ثم يبتدي الوضوء والصلاة ، والماء طاهر بحسبه . فإن صب على يديه وتوضأ دون أن يغمس يديه فوضوءه غير تام وصلاته غير تامة . برهان ذلك ما حدثناه يونس بن عبد الله ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا أحمد بن خالد ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال { : إذا استيقظ أحدكم من نوم فلا يغمس - يعني يده - حتى يغسلها ثلاثا ، فإنه لا يدري أين باتت يده } . قال أبو محمد : زعم قوم أن هذا الغسل خوف نجاسة تكون في اليد ، وهذا باطل لا شك فيه ، لأنه عليه السلام لو أراد ذلك لما عجز عن أن يبينه ، ولما كتمه عن أمته ، وأيضا فلو كان ذلك خوف نجاسة لكانت الرجل كاليد في ذلك ، ولكان باطن الفخذين وما بين الأليتين أولى بذلك . ومن العجب على أصولهم أن يكون ظن كون النجاسة في اليد يوجب غسلها ثلاثا ، فإذا تيقن كون النجاسة فيها أجزأه إزالتها بغسلة واحدة ، وإنما السبب الذي من أجله وجب غسل اليد هو ما نص عليه السلام من مغيب النائم عن درايته أين باتت يده فقط ، ويجعل الله تعالى ما شاء سببا لما شاء ، كما جعل تعالى الريح الخارج من أسفل سببا يوجب الوضوء وغسل الوجه ومسح الرأس وغسل الذراعين والرجلين . وادعى قوم أن هذا في نوم الليل خاصة لقوله { أين باتت يده } وادعوا أن المبيت لا يكون إلا بالليل . قال أبو محمد : وهذا خطأ ، بل يقال : بات القوم يدبرون أمر كذا ، وإن كان نهارا . وحدثنا عبد الرحمن بن خالد الهمداني ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري عن إبراهيم بن حمزة هو الزبيري - عن ابن أبي حازم هو عبد العزيز - عن يزيد بن عبد الله هو ابن أسامة بن الهاد - عن محمد بن إبراهيم حدثه عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خيشومه } . كتب إلي سالم بن أحمد بن فتح قال : ثنا عبد الله بن سعيد الشنتجالي قال : ثنا عمر بن محمد بن داود السجستاني ثنا محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد حدثنا مسلم بن الحجاج حدثني بشر بن الحكم ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خيشومه } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أبو يحيى زكريا بن يحيى الساجي ثنا محمد بن زنبور المكي ثنا عبد العزيز بن أبي حازم ثنا يزيد بن الهاد أن محمد بن إبراهيم حدثه عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : { إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنشق ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خيشومه } . قال أبو محمد : أمر رسول الله ﷺ على الفرض . قال الله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } ومن توضأ بغير أن يفعل ما أمره رسول الله ﷺ أن يفعله فلم يتوضأ الوضوء الذي أمره الله تعالى به ، ومن لم يتوضأ كذلك فلا صلاة له ، لا سيما طرد الشيطان عن خيشوم المرء ، فما نعلم مسلما يستسهل الأنس بكون الشيطان هناك . وقد أوجب المالكيون متابعة الوضوء فرضا لا يتم الوضوء والصلاة إلا به ، وأوجب الشافعي الصلاة على رسول الله ﷺ فرضا لا تتم الصلاة إلا به ، وأوجب أبو حنيفة الاستنشاق والمضمضة في غسل الجنابة فرضا لا يتم الغسل والصلاة إلا به . وكل هذا لم يأمر الله تعالى به ولا رسوله ﷺ . فهذا الذي يجب أن ينكر لا فعل من أوجب ما أمر به رسول الله ﷺ . ولم يقل فيما قال له نبيه عليه السلام : افعل كذا ، فقال هو : لا أفعل إلا أن أشاء ، ودعوى الإجماع بغير يقين كذب على الأمة كلها . نعوذ بالله من ذلك . حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : أحق علي أن أستنشق ؟ قال نعم ، قلت كم ؟ قال ثلاثا ، قلت عمن ؟ قال عن عثمان . قال عبد الرزاق : ثنا معمر عن قتادة عن معبد الجهني قال في المضمضة والاستنشاق : إن كان جنبا فثلاثا ، وإن كان جاء من الغائط فاثنتين ، وإن كان جاء من البول فواحدة . وروي عن الحسن إعادة الوضوء والصلاة على من لم يغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها في الوضوء ، وبه يقول داود وأصحابنا .

150 - مسألة : ولا يجزئ غسل الجنابة في ماء راكد ، فإن اغتسل فيه فلم يغتسل ، والماء طاهر بحسبه ، وله أن يعيد الغسل منه ، وكذلك لا يجزئ الجنب أن يغتسل لفرض غير الجنابة في ماء ركاد ، فإن كان غير جنب أجزأه الاغتسال في الماء الراكد ، والوضوء جائز في الماء الراكد ، فمن اغتسل وهو جنب في جون من أجوان النهر والنهر راكد لم يجزه ، وأما البحر فهو جار أبدا مضطرب متحرك غير راكد ، هذا أمر مشاهد عيانا ، وكذلك من بال في ماء راكد ثم سرح لذلك الماء فجرى فلا يحل له الوضوء منه ولا الاغتسال ، لأنه قد حرم عليه الاغتسال والوضوء من عين ذلك الماء بالنص ، ولو بال في ماء جار ثم أغلق صببه فركد جاز له الوضوء منه والاغتسال منه ، لأنه لم يبل في ماء راكد ، والاغتسال للجنابة وغيرها في الماء الجاري مباح ، وإن بال فيه لم يحرم عليه بذلك الوضوء منه وفيه والغسل منه وفيه . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو الطاهر وهارون بن سعيد الأيلي عن ابن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله ﷺ { لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب } ، فقال : كيف يفعل يا أبا هريرة ؟ قال : يتناوله تناولا " . فهذا أبو هريرة لا يرى أن يغتسل الجنب في الماء الدائم ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي ، إلا أن أبا حنيفة قال : إن فعل تنجس الماء ، وقد بينا فساد هذا القول قبل ، وكرهه مالك ، وأجاز غسله إن اغتسل كذلك ، وهذا خطأ ، لخلافه أمر رسول الله ﷺ . وسواء كان الماء الراكد قليلا أو كثيرا ، ولو أنه فراسخ في فراسخ ، لا يجزئ الجنب أن يغتسل فيه ، لأن رسول الله ﷺ لم يخص ماء من ماء ، ولم ينه عن الوضوء فيه ولا عن الغسل لغير الجنب فيه ، فهو مباح { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } .


151 - مسألة : وكل ماء توضأت منه امرأة - حائض أو غير حائض - أو اغتسلت منه فأفضلت منه فضلا ، لم يحل لرجل الوضوء من ذلك الفضل ولا الغسل منه ، سواء وجدوا ماء آخر أو لم يجدوا غيره ، وفرضهم التيمم حينئذ ، وحلال شربه للرجال والنساء ، وجائز الوضوء به والغسل للنساء على كل حال . ولا يكون فضلا إلا أن يكون أقل مما استعملته منه ، فإن كان مثله أو أكثر فليس فضلا ، والوضوء والغسل به جائز للرجال والنساء . وأما فضل الرجال فالوضوء به والغسل جائز للرجل والمرأة ، إلا أن يصح خبر في نهي المرأة عنه فنقف عنده ، ولم نجده صحيحا فإن توضأ الرجل والمرأة من إناء واحد أو اغتسلا من إناء واحد يغترفان معا فذلك جائز ، ولا نبالي أيهما بدأ قبل ، أو أيهما أتم قبل . برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن ربيع قال ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود هو السجستاني - ثنا محمد بن بشار ثنا أبو داود هو الطيالسي - ثنا شعبة عن عاصم بن سليمان الأحول عن أبي حاجب هو سوادة بن عاصم - عن الحكم بن عمرو الغفاري " أن رسول الله ﷺ { نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة } أخبرني أصبغ قال ثنا إسحاق بن أحمد ثنا محمد بن عمر العقيلي ثنا علي بن عبد العزيز ثنا معلي بن أسد ثنا عبد العزيز بن المختار عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس { أن النبي ﷺ نهى أن يغتسل الرجل بفضل وضوء المرأة } . ولم يخبر عليه السلام بنجاسة الماء ، ولا أمر غير الرجال باجتنابه ، وبهذا يقول عبد الله بن سرجس والحكم بن عمرو ، وهما صاحبان من أصحاب رسول الله ﷺ وبه تقول جويرية أم المؤمنين وأم سلمة أم المؤمنين وعمر بن الخطاب ، وقد روي عن عمر أنه ضرب بالدرة من خالف هذا القول . وقال قتادة : سألت سعيد بن المسيب والحسن البصري عن الوضوء بفضل المرأة ، فكلاهما نهاني عنه . وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه لا بأس بفضل المرأة ما لم تكن حائضا أو جنبا . وقد صح { عن النبي ﷺ أنه كان يغتسل مع عائشة رضي الله عنها من إناء واحد معا حتى يقول أبقي لي وتقول له أبق لي } وهذا حق وليس شيء من ذلك فضلا حتى يتركه . هذا حكم اللغة بلا خلاف . واحتج من خالف هذا بخبر رويناه من طريق عبد الرزاق عن الثوري عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس { أن امرأة من نساء النبي ﷺ استحمت من جنابة فجاء النبي ﷺ فتوضأ من فضلها فقالت له : إني اغتسلت فقال : إن الماء لا ينجسه شيء } وبحديث آخر رويناه من طريق الطهراني عن عبد الرزاق : أخبرني ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس { أن رسول الله ﷺ كان يغتسل بفضل ميمونة ، مختصر } قال أبو محمد : هكذا في نفس الحديث مختصر . قال أبو محمد : وهذان حديثان لا يصحان ، فأما الحديث الأول فرواية سماك بن حرب ، وهو يقبل التلقين ، شهد عليه بذلك شعبة وغيره ، وهذه جرحة ظاهرة ( والثاني ) أخطأ فيه الطهراني بيقين ؛ لأن هذا أخبرناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - ومحمد بن حاتم قال إسحاق أخبرنا محمد بن بكر وقال ابن حاتم حدثنا محمد بن بكر وهو البرساني ثنا ابن جريج ثنا عمرو بن دينار قال : أكبر علمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني عن ابن عباس أنه أخبره { أن رسول الله ﷺ كان يغتسل بفضل ميمونة } . قال أبو محمد : فصح أن عمرو بن دينار شك فيه ولم يقطع بإسناده ، وهؤلاء أوثق من الطهراني وأحفظ بلا شك . ثم لو صح هذان الخبران ولم يكن فيهما مغمز لما كانت فيهما حجة ، لأن حكمهما هو الذي كان قبل نهي رسول الله ﷺ عن أن يتوضأ الرجل أو أن يغتسل بفضل طهور المرأة ، بلا شك في هذا ، فنحن على يقين من أن حكم هذين الخبرين منسوخ قطعا ، حين نطق عليه السلام بالنهي عما فيهما ، لا مرية في هذا ، فإذ ذلك كذلك فلا يحل الأخذ بالمنسوخ وترك الناسخ ، ومن ادعى أن المنسوخ قد عاد حكمه ، والناسخ قد بطل رسمه ، فقد أبطل وادعى غير الحق ، ومن المحال الممتنع أن يكون ذلك ولا يبينه رسول الله ﷺ وهو المفترض عليه البيان . وبالله تعالى التوفيق . على أن أبا حنيفة والشافعي - المحتجين بهذين الخبرين - مخالفان لما في أحدهما من قوله عليه السلام { الماء لا ينجس } ومن القبيح احتجاج قوم بما يقرون أنه حجة ثم يخالفونه وينكرون خلافه على من لا يراه حجة . وبالله تعالى التوفيق . وروينا إباحة وضوء الرجل من فضل المرأة عن عائشة وعلي ، إلا أنه لا يصح فأما الطريق عن عائشة ففيها العرزمي وهو ضعيف ، عن أم كلثوم وهي مجهولة لا يدرى من هي . وأما الطريق عن علي فمن طريق ابن ضميرة عن أبيه عن جده ، وهي صحيفة موضوعة مكذوبة لا يحتج بها إلا جاهل ، فبقي ما روي في ذلك عن ابن سرجس وغيره من الصحابة رضي الله عنهم لا مخالف له منهم ، يصح ذلك عنه أصلا وبالله تعالى التوفيق .


152 - مسألة : ولا يحل الوضوء بماء أخذ بغير حق ، ولا من إناء مغصوب أو مأخوذ بغير حق ، ولا الغسل ، إلا لصاحبه أو بإذن صاحبه ، فمن فعل ذلك فلا صلاة له ، وعليه إعادة الوضوء والغسل . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد حدثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا مسدد ثنا بشر هو ابن عمر - ثنا عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه { قعد النبي ﷺ على بعير فقال - وذكر الحديث وفيه - : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ليبلغ الشاهد الغائب ، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه } . ورويناه أيضا من طريق جابر بن عبد الله وابن عمر مسندا صحيحا . ومن طريق أبي هريرة عن النبي ﷺ { كل المسلم على المسلم حرام : دمه وعرضه وماله } . فكان من توضأ بماء مغصوب أو أخذ بغير حق أو اغتسل به أو من إناء كذلك فلا خلاف بين أحد من أهل الإسلام أن استعماله ذلك الماء وذلك الإناء في غسله ووضوئه حرام ، وبضرورة يدري كل ذي حس سليم أن الحرام المنهي عنه هو غير الواجب المفترض عمله ، فإذ لا شك في هذا فلم يتوضأ الوضوء الذي أمره الله تعالى به ، والذي لا تجزئ الصلاة إلا به ، بل هو وضوء محرم ، هو فيه عاص لله تعالى ، وكذلك الغسل ، والصلاة بغير الوضوء الذي أمر الله تعالى به وبغير الغسل الذي أمر الله تعالى به لا تجزئ ، وهذا أمر لا إشكال فيه . ونسأل المخالفين لنا عمن عليه كفارة إطعام مساكين ، فأطعمهم مال غيره ، أو من عليه صيام أيام ، فصام أيام الفطر والنحر والتشريق ، ومن عليه عتق رقبة فأعتق أمة غيره : أيجزيه ذلك مما افترض الله تعالى عليه ؟ فمن قولهم : لا ، فيقال لهم : فمن أين منعتم هذا وأجزتم الوضوء والغسل بماء مغصوب وإناء مغصوب ؟ وكل هؤلاء مفترض عليه عمل موصوف في مال نفسه ، محرم عليه ذلك من مال غيره بإقراركم سواء سواء . وهذا لا سبيل لهم إلى الانفكاك منه . وليس هذا قياسا بل هو حكم واحد داخل تحت تحريم الأموال ، وتحت العمل بخلاف أمر الله تعالى وقد قال رسول الله ﷺ { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وكل هؤلاء عمل عملا ليس عليه أمر الله تعالى وأمر رسول الله ﷺ فهو مردود بحكم النبي ﷺ وهم في هذا ومن قال إنما يحرم من الأموال البر والتمر ، وأما الشعير والزبيب فلا ، وهذا تحكم فاسد . والعجب أن الحنفيين يبطلون طهارة من تطهر بماء مستعمل ، وكذلك الشافعيون وأن المالكيين يبطلون طهارة من تطهر بماء بل فيه خبز ، دون نص في تحريم ذلك ، ولا حجة بأيديهم إلا تشغيب يدعون أنه نهى عن هذين الماءين ثم يجيزون الطهارة بماء وإناء ، يقرون كلهم بأنه قد صح النهي عنه ، وثبت تحريمه وتحريم استعماله في الوضوء والغسل عليه ، وهذا عجب لا يكاد يوجد مثله وهذا مما خالفوا فيه النص والإجماع المتيقن الذين هم من جملة المانعين منه في الأصل ، وخالفوا أيضا القياس وما تعلقوا في جوازه بشيء أصلا . وبالله تعالى التوفيق .

153 - مسألة : ولا يجوز الوضوء ولا الغسل من إناء ذهب ولا من إناء فضة لا لرجل ولا لامرأة . حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا عبد الله بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع ثنا شعبة عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن حذيفة قال { نهانا رسول الله ﷺ عن الحرير والديباج وآنية الذهب والفضة ، وقال : هو لهم في الدنيا وهو لكم في الآخرة } وقد روينا أيضا عن البراء بن عازب { عن رسول الله ﷺ النهي عن آنية الفضة } . فإن قيل : إنما نهى عن الأكل فيها والشرب . قلنا : هذان الخبران نهي عام عنهما جملة ، فهما زائدان حكما وشرعا على الأخبار التي فيها النهي عن الشرب فقط أو الأكل والشرب فقط ، والزيادة في الحكم لا يحل خلافها . فإن قيل : فقد جاء أن الذهب والحرير { حرام على ذكور أمتي حل لإناثها } قلنا : نعم ، وحديث النهي عن آنية الذهب والفضة مستثنى من إباحة الذهب للنساء ، لأنه أقل منه ، ولا بد من استعمال جميع الأخبار ، ولا يوصل إلى استعمالها إلا هكذا ، وهم قد فعلوا هذا في الشرب في إناء الذهب والفضة ، فإنهم منعوا النساء من ذلك واستثنوه من إباحة الذهب لهن . فإن قيل : فقد صح عن النبي ﷺ { أن ظرفا لا يحل شيئا ولا يحرم شيئا } قلنا نعم ، هذا حق وبه نقول ، والماء الذي في إناء الذهب والفضة شربه حلال ، والتطهر به حلال ، وإنما حرم استعمال الإناء ، فلما لم يكن بد في الشرب منه وفي التطهر منه من معصية الله تعالى - التي هي استعمال الإناء المحرم - صار فاعل ذلك مجرجرا في بطنه نار جهنم بالنص ، وكان في حال وضوئه وغسله عاصيا لله تعالى بذلك التطهر نفسه ، ومن الباطل أن تنوب المعصية عن الطاعة ، وأن يجزئ تطهير محرم عن تطهير مفترض . ثم نقول لهم : إن من العجب احتجاجكم بهذا الخبر علينا ، ونحن نقول به وأنتم تخالفونه ، فأبو حنيفة والشافعي يحرمون الوضوء والغسل بماء في إناء كان فيه خمر لم يظهر منها في الماء أثر ، فقد جعلوا هذا الإناء يحرم هذا الماء ، خلافا للخبر الثابت وأما مالك فإنه يحرم النبيذ الذي في الدباء والمزفت ، وهو الذي أبطل هذا الخبر وفيه ورد ، وقد صح عن عائشة رضي الله عنها إباحة الحلي للنساء ، وتحريم الإناء من الفضة أو الإناء المفضض عليهن . وهو قولنا وبالله تعالى التوفيق .

154 - مسألة : ولا يحل الوضوء من ماء بئار الحجر - وهي أرض ثمود - ولا الشرب ، حاشا بئر الناقة فكل ذلك جائز منها . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد حدثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا محمد بن مسكين ثنا يحيى بن حسان بن حيان ثنا سليمان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال { لما نزل رسول الله ﷺ الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها ، قالوا : قد عجنا منها واستقينا فأمرهم النبي ﷺ أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء } . وبه إلى البخاري : حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ثنا أنس بن عياض عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه أخبره { أن الناس نزلوا مع رسول الله ﷺ أرض ثمود الحجر واستقوا من بئرها واعتجنوا ، فأمرهم رسول الله ﷺ أن يهريقوا ما استقوا من بئارها ، وأن يعلفوا الإبل العجين ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة } قال أبو محمد : هي معروفة بتبوك .

155 - مسألة : وكل ماء اعتصر من شجر ، كماء الورد وغيره ، فلا يحل الوضوء به للصلاة ، ولا الغسل به لشيء من الفرائض ، لأنه ليس ماء ، ولا طهارة إلا بالماء والتراب أو الصعيد عند عدمه .

156 - مسألة : والوضوء للصلاة والغسل للفروض جائز بماء البحر وبالماء المسخن والمشمس وبماء أذيب من الثلج أو البرد أو الجليد أو من الملح الذي كان أصله ماء ولم يكن أصله معدنا . برهان ذلك أن كل ما ذكرنا يقع عليه اسم ماء ، وقال تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } والملح كان ماء ثم جمد كما يجمد الثلج ، فسقط عن كل ذلك اسم الماء ، فحرم الوضوء للصلاة به والغسل للفروض ، فإذا صار ماء عاد عليه اسم الماء ، فعاد حكم الوضوء والغسل به كما كان ، وليس كذلك الملح المعدني ، لأنه لم يكن قط ماء . وبالله تعالى التوفيق . وفي بعض هذا خلاف قديم : روينا عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة أن الوضوء للصلاة والغسل من ماء البحر لا يجوز ولا يجزئ ، ولقد كان يلزم من يقول بتقليد الصاحب ويقول إذا وافقه قوله : " مثل هذا لا يقال بالرأي " أن يقول بقولهم ههنا . وكذلك من لم يقل بالعموم ، لأن الخبر { هو الطهور ماؤه الحل ميتته } لا يصح . ولذلك لم نحتج به . وروي عن مجاهد الكراهة للماء المسخن وعن الشافعي الكراهة للماء المشمس ، وكل هذا لا معنى له ، ولا حجة لا في قرآن أو سنة ثابتة أو إجماع متيقن ، وبالله تعالى التوفيق .

157 - مسألة : الأشياء الموجبة للوضوء ولا يوجب الوضوء غيرها . قال قوم : ذهاب العقل بأي شيء ذهب ، من جنون أو إغماء أو سكر من أي شيء سكر . وقالوا هذا إجماع متيقن . وبرهان ذلك أن من ذهب عقله سقط عنه الخطاب ، وإذا كان كذلك فقد بطلت حال طهارته التي كان فيها ، ولولا صحة الإجماع أن حكم جنابته لا يرجع عليه لوجب أن يرجع عليه ، وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : وليس كما قالوا ، أما دعوى الإجماع فباطل ، وما وجدنا في هذا عن أحد من الصحابة كلمة ولا عن أحد التابعين ، إلا عن ثلاثة نفر : إبراهيم النخعي - على أن الطريق إليه واهية وحماد والحسن فقط ، عن اثنين منهم الوضوء وعن الثالث إيجاب الغسل ، روينا عن سعيد بن منصور عن سويد بن سعيد الحدثاني وهشيم ، قال سويد أخبرنا مغيرة عن إبراهيم في المجنون إذا أفاق : يتوضأ ، وقال هشيم عن بعض أصحابه عن إبراهيم مثله ، ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن حماد بن أبي سليمان قال : إذا أفاق المجنون توضأ وضوءه للصلاة ، ومن طريق عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن الحسن البصري قال : إذ أفاق المجنون اغتسل . فأين الإجماع ؟ ليت شعري ؟ فإن قالوا : قسناه على النوم ، قلنا : القياس باطل ، لكن قد وافقتمونا على أنه لا يوجب إحدى الطهارتين وهي الغسل ، فقيسوا على سقوطها سقوط الأخرى وهي الوضوء ، فهذا قياس ، يعارض قياسكم ، والنوم لا يشبه الإغماء ولا الجنون ولا السكر فيقاس عليه ، وقد اتفقوا على أنه لا يبطل إحرامه ولا صيامه ولا شيء من عقوده ، فمن أين لهم إبطال وضوئه بغير نص في ذلك ؟ وقد صح عن رسول الله ﷺ الخبر المشهور الثابت من طريق عائشة أم المؤمنين ، { أنه عليه السلام في علته التي مات فيها أراد الخروج للصلاة فأغمي عليه ، فلما أفاق اغتسل ، ولم تذكر وضوءا وإنما كان غسله ليقوى على الخروج فقط } .

==========

من فقرة 158 الي 163.


كتاب الطهارة

158 - مسألة : والنوم في ذاته حدث ينقض الوضوء سواء قل أو كثر ، قاعدا أو قائما ، في صلاة أو غيرها ، أو راكعا كذلك أو ساجدا كذلك أو متكئا أو مضطجعا ، أيقن من حواليه أنه لم يحدث أو لم يوقنوا . برهان ذلك ما حدثناه يونس بن عبد الله وعبد الله بن ربيع قالا : ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا محمد بن عبد الأعلى ويحيى بن آدم وقتيبة بن سعيد قال محمد ثنا شعبة وقال قتيبة ثنا سفيان بن عيينة وقال يحيى ثنا سفيان الثوري وزهير هو ابن معاوية - ومالك بن مغول وسفيان بن عيينة واللفظ ليحيى ، ثم اتفق شعبة وسفيان وزهير وابن مغول عن عاصم بن أبي النجود عن { زر بن حبيش قال : سألت صفوان بن عسال عن المسح على الخفين فقال كان رسول الله ﷺ يأمرنا إذا كنا مسافرين أن نمسح على خفافنا ولا ننزعها ثلاثة أيام من غائط وبول ونوم إلا من جنابة } . ولفظ شعبة في روايته { أن رسول الله ﷺ كان يأمرنا إذا كنا مسافرين ألا ننزعه ثلاثا إلا من جنابة ، لكن من غائط وبول ونوم } فعم عليه السلام كل نوم ، ولم يخص قليله من كثيره ، ولا حالا من حال ، وسوى بينه وبين الغائط والبول ، وهذا قول أبي هريرة وأبي رافع وعروة بن الزبير وعطاء والحسن البصري وسعيد بن المسيب وعكرمة والزهري والمزني وغيرهم كثير . وذهب الأوزاعي إلى أن النوم لا ينقض الوضوء كيف كان . وهو قول صحيح عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وعن ابن عمر وعن مكحول وعبيدة السلماني نذكر بعض ذلك بإسناده ؛ لأن الحاضرين من خصومنا لا يعرفونه ، ولقد ادعى بعضهم الإجماع على خلافه جهلا وجرأة . حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك قال " كان أصحاب رسول الله ﷺ ينتظرون الصلاة فيضعون جنوبهم فمنهم من ينام ثم يقومون إلى الصلاة " . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن حبيب الحارثي ثنا خالد هو ابن الحارث - ثنا شعبة عن قتادة قال سمعت أنسا يقول " كان أصحاب رسول الله ﷺ ينامون ثم يصلون ولا يتوضئون " فقلت لقتادة : سمعته من أنس ؟ قال إي والله . قال أبو محمد : لو جاز القطع بالإجماع فيما لا يتيقن أنه لم يشذ عنه أحد لكان هذا يجب أن يقطع فيه بأنه إجماع ، لا لتلك الأكاذيب التي لا يبالي من لا دين له بإطلاق دعوى الإجماع فيها . وذهب داود بن علي إلى أن النوم لا ينقض الوضوء إلا نوم المضطجع فقط ، وهو قول روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن ابن عباس ، ولم يصح عنهما ، وعن ابن عمر صح عنه ، وصح عن إبراهيم النخعي وعن عطاء والليث وسفيان الثوري والحسن بن حي . وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا ينقض النوم الوضوء إلا أن يضطجع أو يتكئ أو متوكئا على إحدى أليتيه أو إحدى وركيه فقط ، ولا ينقضه ساجدا أو قائما أو قاعدا أو راكعا ، طال ذلك أو قصر . وقال أبو يوسف : إن نام ساجدا غير متعمد فوضوءه باق ، وإن تعمد ذلك بطل وضوءه ، وهو لا يفرق بين العمد والغلبة فيما ينقض الوضوء والصلاة من غير هذا ، وهو قول لا نعلمه عن أحد من المتقدمين إلا أن بعضهم ذكر ذلك عن حماد بن أبي سليمان والحكم ، ولا نعلم كيف قالا . وقال مالك وأحمد بن حنبل : من نام نوما يسيرا وهو قاعد لم ينتقض وضوءه وكذلك النوم القليل للراكب ، وقد روي عنه نحو ذلك في السجود أيضا ، ورأي أيضا فيما عدا هذه الأحوال أن قليل النوم وكثيره ينقض الوضوء ، وهو قول الزهري وربيعة ، وذكر عن ابن عباس ولم يصح . وقال الشافعي : جميع النوم ينقض الوضوء ، قليله وكثيره إلا من نام جالسا غير زائل عن مستوى الجلوس ، فهذا لا ينتقض وضوءه ، طال نومه أو قصر ، وما نعلم هذا التقسيم يصح عن أحد من المتقدمين ، إلا أن بعض الناس ذكر ذلك عن طاوس وابن سيرين ولا نحققه . قال أبو محمد : احتج من لم ير النوم حدثا بالثابت عن رسول الله ﷺ من { أنه كان ينام ولا يعيد وضوءا ثم يصلي } . قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم ، لأن { عائشة رضي الله عنها ذكرت أنها قالت لرسول الله ﷺ أتنام قبل أن توتر ؟ قال : إن عيني تنامان ولا ينام قلبي } فصح أنه عليه السلام بخلاف الناس في ذلك ، وصح أن نوم القلب الموجود من كل من دونه هو النوم الموجب للوضوء ، فسقط هذا القول . ولله الحمد . ووجدنا من حجة من لا يرى الوضوء من النوم إلا من الاضطجاع حديثا روي فيه { إنما الوضوء على من نام مضطجعا فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله } وحديثا آخر فيه { أعلي في هذا وضوء يا رسول الله ؟ قال : لا إلا أن تضع جنبك } وحديثا آخر فيه { من وضع جنبه فليتوضأ } . قال أبو محمد : وهذا كله لا حجة فيه . أما الحديث الأول فإنه من رواية عبد السلام بن حرب عن أبي خالد الدالاني عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس ، وعبد السلام ضعيف لا يحتج به ، ضعفه ابن المبارك وغيره ، والدالاني ليس بالقوي ، روينا عن شعبة أنه قال : لم يسمع قتادة من أبي العالية إلا أربعة أحاديث ، ليس هذا منها ، فسقط جملة ولله الحمد . والثاني لا تحل روايته إلا على بيان سقوطه ؛ لأنه رواية بحر بن كنيز السقاء ، وهو لا خير فيه متفق على إطراحه ، فسقط جملة . والثالث رواه معاوية بن يحيى وهو ضعيف يحدث بالمناكير فسقط هذا الباب كله وبالله تعالى نتأيد . وذكروا أيضا حديثا فيه { إذا نام العبد ساجدا باهى الله به الملائكة } وهذا لا شيء ؛ لأنه مرسل لم يخبر الحسن ممن سمعه ، ثم لو صح لم يكن فيه إسقاط الوضوء عنه . وذكروا أيضا حديثين صحيحين أحدهما عن عطاء عن ابن عباس ، والآخر من طريق ابن جريج عن نافع عن ابن عمر فيهما { : أن النبي ﷺ أخر الصلاة حتى نام الناس ثم استيقظوا ثم ناموا ، ثم استيقظوا ، فجاء عمر فقال : الصلاة يا رسول الله فصلوا ، ولم يذكر أنهم توضئوا } . قال أبو محمد : والثاني من طريق شعبة عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس { : أقيمت الصلاة والنبي ﷺ يناجي رجلا ، فلم يزل يناجيه حتى نام أصحابه ، ثم جاء فصلى بهم } وحديثا ثابتا من طريق عروة عن عائشة قالت : { أعتم النبي ﷺ بالعشاء ، حتى ناداه عمر : نام النساء والصبيان ، فخرج عليه السلام } . قال أبو محمد : وكل هذا لا حجة فيه ألبتة لمن فرق بين أحوال النائم ولا بين أحوال النوم ، لأنها ليس في شيء منها ذكر حال من نام كيف نام ، من جلوس أو اضطجاع أو اتكاء أو تورك أو استناد ، وإنما يمكن أن يحتج بها من لا يرى الوضوء من النوم أصلا ، ومع ذلك فلا حجة لهم في شيء منه ؛ لأنه ليس في شيء منها أن رسول الله ﷺ علم بنوم من نام ، ولم يأمره بالوضوء ، ولا حجة لهم إلا فيما علمه النبي ﷺ فأقره ، أو فيما أمر به ، أو فيما فعله ، فكيف وفي حديث ابن عمر وعائشة { أنه لم يكن إسلام يومئذ إلا بالمدينة } ، فلو صح أنه عليه السلام علم ذلك منهم لكان حديث صفوان ناسخا له ؛ لأن إسلام صفوان متأخر فسقط التعلق بهذه الأخبار جملة ، وبالله تعالى التوفيق . وأما قول أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد فلا متعلق لمن ذهب إلى شيء منها لا بقرآن ولا بسنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا بعمل صحابة ولا بقول صح عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، ولا بقياس ولا باحتياط ، وهي أقوال مختلفة كما ترى ليس لأحد من مقلديهم أن يدعي عملا إلا كان لخصومه أن يدعي لنفسه مثل ذلك وقد لاح أن كل ما شغبوا به من أفعال الصحابة رضي الله عنهم فإنما هو إيهام مفتضح ، لأنه ليس في شيء من الروايات أنهم ناموا على الحال التي يسقطون الوضوء عمن نام كذلك ، فسقطت الأقوال كلها من طريق السنن إلا قولنا . والحمد لله رب العالمين . قال أبو محمد : وأما من طريق النظر فإنه لا يخلو النوم من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكون النوم حدثا وإما أن لا يكون حدثا ، فإن كان ليس حدثا فقليله وكثيره ، كيف كان لا ينقض الوضوء ، وهذا خلاف قولهم ، وإن كان حدثا فقليله وكثيره - كيف كان - ينقض الوضوء ، وهذا قولنا فصح أن الحكم بالتفريق بين أحوال النوم خطأ وتحكم بلا دليل ، ودعوى لا برهان عليها . فإن قال قائل : إن النوم ليس حدثا ، وإنما يخاف أن يحدث فيه المرء ، قلنا لهم : هذا لا متعلق لكم بشيء منه ، لأن الحدث ممكن كونه من المرء في أخف ما يكون من النوم ، كما هو ممكن أن يكون منه في النوم الثقيل وممكن أن يكون من الجالس كما هو ممكن أن يكون من المضطجع ، وقد يكون الحدث من اليقظان ، وليس الحدث عملا يطول ، بل هو كلمح البصر ، وقد يمكن أن يكون النوم الكثير من المضطجع لا حدث فيه ، ويكون الحدث في أقل ما يكون من نوم الجالس ، فهذا لا فائدة لهم فيه أصلا ، وأيضا فإن خوف الحدث ليس حدثا ولا ينتقض به الوضوء ، وإنما ينقض الوضوء يقين الحدث . وبالله تعالى التوفيق . وإذ الأمر كما ذكرنا فليس إلا أحد أمرين : إما أن يكون خوف كون الحدث حدثا ، فقليل النوم وكثيره يوجب نقض الوضوء ، لأن خوف الحدث جار فيه ، وإما أن يكون خوف الحدث ليس حدثا ، فالنوم قليله وكثيره لا ينقض الوضوء وبطلت أقوال هؤلاء على كل حال بيقين لا شك فيه . وقد ذكر قوم أحاديث منها ما يصح ومنها ما لا يصح ، يجب أن ننبه عليها بعون الله تعالى . منها حديث عائشة رضي الله عنها عن رسول الله ﷺ { إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم ؛ لأن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه } ، وفي بعض ألفاظه { لعله يدعو على نفسه وهو لا يدري } وحديث أنس عن النبي ﷺ { إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينم حتى يدري ما يقرأ } . قال أبو محمد : هذان صحيحان ، وهما حجة لنا ، لأن فيهما أن الناعس لا يدري ما يقرأ ولا ما يقول ، والنهي عن الصلاة على تلك الحال جملة ، فإذ الناعس لا يدري ما يقول فهو في حال ذهاب العقل بلا شك ، ولا يختلفون أن من ذهب عقله بطلت طهارته ، فيلزمهم أن يكون النوم كذلك . والآخر من طريق معاوية عن النبي ﷺ { العينان وكاء السه فإذا نامت العين استطلق الوكاء } والثاني من طريق علي عن النبي ﷺ { العينان وكاء السه فمن نام فليتوضأ } . قال علي بن أحمد : لو صحا لكانا أعظم حجة لقولنا ، لأن فيهما إيجاب الوضوء من النوم جملة ، دون تخصيص حال من حال ، ولا كثير نوم من قليله ، بل من كل نوم نصا ، ولكنا لسنا ممن يحتج بما لا يحل الاحتجاج به نصرا لقوله ، ومعاذ الله من ذلك . وهذان أثران ساقطان لا يحل الاحتجاج بهما . أما حديث معاوية فمن طريق بقية وهو ضعيف ، عن أبي بكر بن أبي مريم وهو مذكور بالكذب عن عطية بن قيس وهو مجهول . وأما حديث علي فراويه أيضا بقية عن الوضين بن عطاء ، وكلاهما ضعيف ، وبالله تعالى التوفيق .


159 - مسألة : والمذي والبول والغائط من أي موضع خرج من الدبر والإحليل أو من جرح في المثانة أو البطن أو غير ذلك من الجسد أو من الفم . فأما المذي فقد ذكرنا في باب تطهير المذي من كتابنا هذا قول رسول الله ﷺ فيمن وجده { وليتوضأ وضوءه للصلاة } وأما البول والغائط فإجماع متيقن ، وأما قولنا من أي موضع خرج فلعموم أمره عليه السلام بالوضوء منهما ، ولم يخص خروجهما من المخرجين دون غيرهما ، وهذان الاسمان واقعان عليهما في اللغة التي بها خاطبنا عليه السلام من حيث ما خرجا ، وممن قال بقولنا ههنا أبو حنيفة وأصحابه ، ولا حجة لمن أسقط الوضوء منهما إذا خرجا من غير المخرجين لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ، بل القرآن جاء بما قلناه ، قال الله تعالى { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء } وقد يكون خروج الغائط والبول من غير المخرجين ، فلم يخص تعالى بالأمر بالوضوء والتيمم من ذلك حالا دون حال ، ولا المخرجين من غيرهما ، وبالله التوفيق .


160 - مسألة : والريح الخارجة من الدبر - خاصة لا من غيره - بصوت خرجت أم بغير صوت . وهذا أيضا إجماع متيقن ، ولا خلاف في أن الوضوء من الفسو والضراط ، وهذان الاسمان لا يقعان على الريح ألبتة إلا إن خرجت من الدبر ، وإلا فإنما يسمى جشاء أو عطاسا فقط . وبالله تعالى التوفيق .




161 - مسألة : فمن كان مستنكحا بشيء مما ذكرنا توضأ - ولا بد - لكل صلاة فرضا أو نافلة ، ثم لا شيء عليه فيما خرج منه من ذلك في الصلاة أو فيما بين وضوئه وصلاته ، ولا يجزيه الوضوء إلا في أقرب ما يمكن أن يكون وضوءه من صلاته ، ولا بد للمستنكح أيضا أن يغسل ما خرج منه من البول والغائط والمذي حسب طاقته ، مما لا حرج عليه فيه ، ويسقط عنه من ذلك ما فيه عليه الحرج منه . برهان ذلك قول رسول الله ﷺ فيما قد ذكرناه في مسألة إبطال القياس من صدر كتابنا هذا ، من قول رسول الله ﷺ { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } وقول الله تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقوله تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } فصح أنه مأمور بالصلاة والوضوء من الحدث ، وهذا كله حدث ، فالواجب أن يأتي من ذلك ما يستطيع ، وما لا حرج عليه فيه ولا عسر ، وهو مستطيع على الصلاة وعلى الوضوء لها ، ولا حرج عليه في ذلك ، فعليه أن يأتي بهما ، وهو غير مستطيع للامتناع مما يخرج عنه من ذلك في الصلاة ، وفيما بين وضوئه وصلاته ، فسقط عنه ، وكذلك القول في غسل ما خرج منه من ذلك . قال أبو محمد : وهذا قول سفيان الثوري وأصحاب الظاهر . وقال أبو حنيفة : يتوضأ هؤلاء لكل وقت صلاة ، ويبقون على وضوئهم إلى دخول وقت صلاة آخر فيتوضئون . وقال مالك : لا وضوء عليه من ذلك . وقال الشافعي : يتوضأ لكل صلاة فرض فيصلي بذلك الوضوء ما شاء من النوافل خاصة . قال علي : إنما قالوا كل هذا قياسا على المستحاضة ، على حسب قول كل واحد منهم فيها ، والقياس باطل . ثم لو كان حقا لكان هذا منه باطلا ، لأن الثابت في المستحاضة هو غير ما قالوه لكن ما سنذكره إن شاء الله في باب المستحاضة ، وهو وجوب الغسل لكل صلاة فرض ، أو للجمع بين الظهر والعصر ثم بين المغرب والعتمة . ثم للصبح . ودخول وقت صلاة ما ليس حدثا بلا شك ، وإذا لم يكن حدثا فلا ينقض طهارة قد صحت بلا نص وارد في ذلك ، وإسقاط مالك الوضوء مما قد أوجبه الله تعالى منه ورسوله ﷺ منه بالإجماع وبالنصوص الثابتة خطأ لا يحل . وقد شغب بعضهم في هذا بما روينا عن عمر رضي الله عنه وعن سعيد بن المسيب في المذي . قال عمر : إني لأجده ينحدر على فخذي على المنبر فما أباليه وقال سعيد مثل ذلك عن نفسه في الصلاة : فأوهموا أنهما رضي الله عنهما كانا مستنكحين بذلك . قال أبو محمد : وهذا كذب مجرد ، لا ندري كيف استحله من أطلق به لسانه ، لأنه لم يأت في شيء من هذا الأثر ولا من غيره نص ولا دليل بذلك ، ونعوذ بالله من الإقدام على مثل هذا ، وإنما الحق من ذلك أن عمر كان لا يرى الوضوء منه وكذلك ابن المسيب ، لأن السنة في ذلك لم تبلغ عمر ثم بلغته فرجع إلى إيجاب الوضوء منه . حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا محمد بن أبي دليم ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا محمد بن بشر العبدي ثنا مسعر بن كدام عن مصعب بن شيبة عن أبي حبيب بن يعلى بن منية عن { ابن عباس أنه وعمر بن الخطاب أتيا إلى أبي بن كعب فخرج إليهما أبي وقال : إني وجدت مذيا فغسلت ذكري وتوضأت ، فقال له عمر : أو يجزئ ذلك ؟ قال نعم . قال عمر : أسمعته من رسول الله ؟ قال نعم } . حدثنا حمام ثنا ابن مفرح ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر وسفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : إنه ليخرج من أحدنا مثل الجمانة فإذا وجد أحدكم ذلك فليغسل ذكره وليتوضأ ، وبه إلى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب أنه قال في المذي : يغسل ذكره ويتوضأ وضوءه للصلاة ، فهذا هو الثابت عن عمر . وكذلك قول الشافعي أيضا خطأ ظاهر ؛ لأن من المحال الظاهر أن يكون إنسان متوضئا طاهرا لنافلة إن أراد أن يصليها غير متوضئ ولا طاهر لفريضة إن أراد أن يصليها ، فهذا قول لم يأت به قط نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ، ولا وجدوا له في الأصول نظيرا ، وهم يدعون أنهم أصحاب نظر وقياس ، وهذا مقدار نظرهم وقياسهم ، وبقي قول أبي حنيفة ومالك والشافعي عاريا من أن تكون له حجة من قرآن أو سنة صحيحة أو سقيمة أو من إجماع أو من قول صاحب أو من قياس أصلا

162 - مسألة : فهذه الوجوه تنقض الوضوء عمدا كان أو نسيانا أو بغلبة ، وهذا إجماع إلا ما ذكرنا مما فيه الخلاف ، وقام البرهان من ذلك على ما ذكرنا . وبالله تعالى التوفيق .


163 - مسألة : ومس الرجل ذكر نفسه خاصة عمدا بأي شيء مسه من باطن يده أو من ظاهرها أو بذراعه - حاشا مسه بالفخذ أو الساق أو الرجل من نفسه فلا يوجب وضوءا - ومس المرأة فرجها عمدا كذلك أيضا سواء سواء ، ولا ينقض الوضوء شيء من ذلك بالنسيان ، ومس الرجل ذكر غيره من صغير أو كبير ميت أو حي بأي عضو مسه عمدا من جميع جسده من ذي رحم محرمة أو من غيره ، ومس المرأة فرج غيرها عمدا أيضا كذلك سواء سواء ، لا معنى للذة في شيء من ذلك ، فإن كان كل ذلك على ثوب رقيق أو كثيف ، للذة أو لغير لذة ، باليد أو بغير اليد ، عمدا أو غير عمد ، لم ينقض الوضوء ، وكذلك إن مسه بغلبة أو نسيان فلا ينقض الوضوء . برهان ذلك ما حدثناه حمام بن أحمد قال : ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير قال { تذاكر هو ومروان الوضوء ، فقال مروان حدثتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله ﷺ يأمر بالوضوء من مس الفرج } . قال أبو محمد : فإن قيل : إن هذا خبر رواه الزهري عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عروة ، قلنا : مرحبا بهذا ، وعبد الله ثقة ، والزهري لا خلاف في أنه سمع من عروة وجالسه ، فرواه عن عروة ورواه أيضا عن عبد الله بن أبي بكر عن عروة ، فهذا قوة للخبر والحمد لله رب العالمين . قال علي : مروان ما نعلم له جرحة قبل خروجه على أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ، ولم يلقه عروة قط إلا قبل خروجه على أخيه لا بعد خروجه هذا ما لا شك فيه ، /126 L470 وبسرة /126 مشهورة من صواحب رسول الله ﷺ المبايعات المهاجرات - هي بسرة بنت صفوان بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بنت أخي ورقة بن نوفل وأبوها ابن عم خديجة أم المؤمنين لحا . ولفظ هذا الحديث عام يقتضي كل ما ذكرناه ، وأما مس الرجل فرج نفسه بساقه ورجله وفخذه فلا خلاف في أن المرء مأمور بالصلاة في قميص كثيف وفي مئزر وقميص ، ولا بد له ضرورة في صلاته كذلك من وقوع فرجه على ساقه ورجله وفخذه ، فخرج هذا بهذا الإجماع المنصوص عليه عن جملة هذا الخبر . وممن قال بالوضوء من مس الفرج سعد بن أبي وقاص وابن عمر رضي الله عنهما وعطاء وعروة وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد وأبان بن عثمان وابن جريج والأوزاعي والليث والشافعي وداود وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم ، إلا أن الأوزاعي والشافعي لم يريا الوضوء ينقض ذلك إلا بمسه بباطن الكف فقط لا بظاهرها . وقال عطاء بن أبي رباح : لا ينقض الوضوء مس الفرج بالفخذ والساق وينقض مسه بالذراع . وقال مالك : مس الفرج من الرجل فرج نفسه الذكر فقط بباطن الكف لا بظاهرها ولا بالذراع يوجب الوضوء ، فإن صلى ولم يتوضأ لم يعد الصلاة إلا في الوقت . وقال أبو حنيفة : لا ينقض الوضوء مس الذكر كيف كان وقال الشافعي ينقض الوضوء مس الدبر ومس المرأة فرجها ، وقال مالك لا ينقض الوضوء مس الدبر ولا مس المرأة فرجها إلا أن تقبض وتلطف ، أي تدخل أصبعها بين شفريها ، ونحا بعض أصحابه بنقض الوضوء من مس الذكر نحو اللذة . فأما قول الأوزاعي والشافعي ومالك في مراعاة باطن الكف دون ظاهرها فقول لا دليل عليه لا من قرآن ولا من سنة ولا من إجماع ولا من قول صاحب ولا من قياس ولا من رأي صحيح . وشغب بعضهم بأن قال : في بعض الآثار { من أفضى بيده إلى فرجه فليتوضأ } قال أبو محمد : وهذا لا يصح أصلا ، ولو صح لما كان فيه دليل على ما يقولون ؛ لأن الإفضاء باليد يكون بظاهر اليد كما يكون بباطنها ، وحتى لو كان الإفضاء بباطن اليد لما كان في ذلك ما يسقط الوضوء عن غير الإفضاء ، إذا جاء أثر بزيادة على لفظ الإفضاء ، فكيف والإفضاء يكون بجميع الجسد ، قال الله تعالى { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } . وأما قول مالك في إيجاب الوضوء منه ثم لم ير الإعادة إلا في الوقت ، فقول متناقض ؛ لأنه لا يخلو أن يكون انتقض وضوءه أو لم ينتقض ، فإن كان انتقض فعلى أصله يلزمه أن يعيد أبدا ، وإن كان لم ينتقض فلا يجوز له أن يصلي صلاة فرض واحدة في يوم مرتين ، وكذلك فرق مالك بين مس الرجل فرجه وبين مس المرأة فرجها فهو قول لا دليل عليه فهو ساقط . وأما إيجاب الشافعي الوضوء من مس الدبر فهو خطأ لأن الدبر لا يسمى فرجا ، فإن قال : قسته على الذكر قيل له : القياس عند القائلين به لا يكون إلا على علة جامعة بين الحكمين ، ولا علة جامعة بين مس الذكر ومس الدبر ، فإن قال : كلاهما مخرج للنجاسة ، قيل له : ليس كون الذكر مخرجا للنجاسة هو علة انتقاض الوضوء من مسه ، ومن قوله إن مس النجاسة لا ينقض الوضوء ، فكيف مس مخرجها . وبالله تعالى التوفيق . وأما أصحاب أبي حنيفة فاحتجوا بحديث طلق بن علي { أن رجلا سأل رسول الله ﷺ عن الرجل يمس ذكره بعد أن يتوضأ ، فقال رسول الله ﷺ : هل هو إلا بضعة منك } . قال علي : وهذا خبر صحيح ، إلا أنهم لا حجة لهم فيه لوجوه : أحدها أن هذا الخبر موافق لما كان الناس عليه قبل ورود الأمر بالوضوء من مس الفرج ، هذا لا شك فيه ، فإذ هو كذلك فحكمه منسوخ يقينا حين أمر رسول الله ﷺ بالوضوء من مس الفرج ، ولا يحل ترك ما تيقن أنه ناسخ والأخذ بما تيقن أنه منسوخ ، وثانيها أن كلامه عليه السلام { هل هو إلا بضعة منك } دليل بين على أنه كان قبل الأمر بالوضوء منه لأنه لو كان بعده لم يقل عليه السلام هذا الكلام بل كان يبين أن الأمر بذلك قد نسخ ، وقوله هذا يدل على أنه لم يكن سلف فيه حكم أصلا وأنه كسائر الأعضاء . قال أبو محمد : وقال بعضهم : يكون الوضوء من ذلك غسل اليد . قال أبو محمد : وهذا باطل ، لم يقل أحد إن غسل اليد واجب أو مستحب من مس الفرج ، لا المتأولون لهذا التأويل الفاسد ولا غيرهم ، ويقال لهم : إن كان كما تقولون فأنتم من أول من خالف أمر رسول الله ﷺ بما تأولتموه في أمره ، وهذا استخفاف ظاهر ، وأيضا فإنه لا يطلق الوضوء في الشريعة إلا لوضوء الصلاة فقط ، وقد أنكر رسول الله ﷺ إيقاع هذه اللفظة على غير الوضوء للصلاة ، كما رويناه من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن الحويرث عن ابن عباس قال { كنا عند رسول الله ﷺ فجاء من الغائط وأتي بطعام فقيل : ألا تتوضأ فقال عليه السلام : لم أصل فأتوضأ } فكيف وقد روينا من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول : إن مروان قال له : أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله ﷺ يقول : { إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ وضوءه للصلاة } ورواه أيضا غير مالك عن الثقات كذلك . كما حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبو صالح الحكم بن موسى ثنا شعيب بن إسحاق أخبرني هشام بن عروة عن أبيه أن مروان بن الحكم حدثه عن بسرة بنت صفوان - وكانت قد صحبت رسول الله ﷺ - أن رسول الله ﷺ قال { إذا مس أحدكم ذكره فلا يصل حتى يتوضأ } فأنكر ذلك عروة ، وسأل بسرة فصدقته بما قال . قال علي : أبو صالح وشعيب ثقتان مشهوران ، فبطل التعلل بمروان ، وصح أن بسرة مشهورة صاحبة ، ولقد كان ينبغي لهم أن ينكروا على أنفسهم شرع الدين وإبطال السنن برواية أبي نصر بن مالك وعمير والعالية زوجة أبي إسحاق وشيخ من بني كنانة ، وكل هؤلاء لا يدري أحد من الناس من هم ؟ وقال بعضهم : هذا مما تعظم به البلوى ، فلو كان لما جهله ابن مسعود ولا غيره من العلماء . قال أبو محمد وهذا حماقة ، وقد غاب عن جمهور الصحابة رضي الله عنهم الغسل من الإيلاج الذي لا إنزال معه ، وهو مما تكثر به البلوى ، ورأى أبو حنيفة الوضوء من الرعاف وهو مما تكثر به البلوى ولم يعرف ذلك جمهور العلماء ورأى الوضوء من ملء الفم من القلس ولم يره من أقل من ذلك ، وهذا تعظم به البلوى ، ولم يعرف ذلك أحد من ولد آدم قبله ، ومثل هذا لهم كثير جدا ، ومثل هذا من التخليط لا يعارض به سنن رسول الله ﷺ إلا مخذول . وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : والماس على الثوب ليس ماسا ، ولا معنى للذة ؛ لأنه لم يأت بها نص ولا إجماع ، وإنما هي دعوى بظن كاذب ، وأما النسيان في هذا فقد قال الله تعالى { ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وهذا قول ابن عباس ، وروينا من طريق وكيع عن خصيف عن عكرمة عنه أنه قال : مس الذكر عمدا ينقض الوضوء ولا ينقضه بالنسيان .

====

من 164. الي 168-


كتاب الطهارة

164 - مسألة : وأكل لحوم الإبل نيئة ومطبوخة أو مشوية عمدا وهو يدري أنه لحم جمل أو ناقة فإنه ينقض الوضوء ، ولا ينقض الوضوء أكل شحومها محضة ولا أكل شيء منها غير لحمها ، فإن كان يقع على بطونها أو رءوسها أو أرجلها اسم لحم عند العرب نقض أكلها الوضوء وإلا فلا ، ولا ينقض الوضوء كل شيء مسته النار غير ذلك ، وبهذا يقول أبو موسى الأشعري وجابر بن سمرة ، ومن الفقهاء أبو خيثمة زهير بن حرب ويحيى بن يحيى وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو كامل الفضيل بن حسين الجحدري والقاسم بن زكريا ، قال الفضيل ثنا أبو عوانة عن عثمان بن عبد الله بن موهب وقال القاسم حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن عثمان بن عبد الله بن موهب وأشعث بن أبي الشعثاء كلاهما عن جعفر بن أبي ثور عن جابر بن سمرة قال { سأل رجل رسول الله ﷺ أأتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : إن شئت فتوضأ ، وإن شئت فلا تتوضأ ، قال : أتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : نعم فتوضأ من لحوم الإبل } . وحدثنا يحيى بن عبد الرحمن ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي ثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان الثوري عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال { سئل رسول الله ﷺ : أنتوضأ من لحوم الإبل ، قال : نعم } . قال أبو محمد : عبد الله بن عبد الله الرازي أبو جعفر قاضي الري ثقة . قال أبو محمد : وقد مضى الكلام في الفصل الذي قبل هذا في إبطال قول من تعلل في رد السنن بأن هذا مما تعظم به البلوى ، وإبطال قول من قال : لعل هذا الوضوء غسل اليد ، فأغنى عن إعادته ، ولو أن المعترض بهذا ينكر على نفسه القول بالوضوء من القهقهة في الصلاة ولا يرى فيها الوضوء في غير الصلاة - : لكان أولى به . وأما الوضوء مما مست النار ، فإنه قد صحت في إيجاب الوضوء منه أحاديث ثابتة من طريق عائشة وأم حبيبة أمي المؤمنين وأبي أيوب وأبي طلحة وأبي هريرة وزيد بن ثابت رضي الله عنهم ، وقال به كل من ذكرنا وابن عمر وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك وأبو مسعود ، وجماعة من التابعين منهم أهل المدينة جملة وسعيد بن المسيب وأبو ميسرة وأبو مجلز ويحيى بن يعمر والزهري وستة من أبناء النقباء من الأنصار والحسن البصري وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز ومعمر وأبو قلابة وغيرهم ، ولولا أنه منسوخ لوجب القول به . كما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا عمرو بن منصور ثنا علي بن عياش ثنا شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر قال سمعت جابر بن عبد الله قال : { كان آخر الأمرين من رسول الله ﷺ ترك الوضوء مما مست النار } فصح نسخ تلك الأحاديث ولله الحمد . قال علي : وقد ادعى قوم أن هذا الحديث مختصر من الحديث الذي حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا إبراهيم بن الحسن الخثعمي ثنا حجاج قال : قال ابن جريج أخبرني محمد بن المنكدر سمعت جابر بن عبد الله يقول { قرب لرسول الله ﷺ خبز ولحم فأكل ثم دعا بوضوء فتوضأ به ثم صلى الظهر ثم دعا بفضل طعامه فأكل ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ } قال أبو محمد : القطع بأن ذلك الحديث مختصر من هذا قول بالظن ، والظن أكذب الحديث بل هما حديثان كما وردا . قال علي : وأما كل حديث احتج به من لا يرى الوضوء مما مست النار من { أن رسول الله ﷺ أكل كتف شاة ولم يتوضأ } ونحو ذلك - : فلا حجة لهم فيه لأن أحاديث إيجاب الوضوء هي الواردة بالحكم الزائدة على هذه التي هي موافقة لما كان الناس عليه قبل ورود الأمر بالوضوء مما مست النار ، ولولا حديث شعيب بن أبي حمزة الذي ذكرنا لما حل لأحد ترك الوضوء مما مست النار . قال أبو محمد : فإن قيل : لم خصصتم لحوم الإبل خاصة من جملة ما نسخ من الوضوء مما مست النار ؟ قلنا : لأن الأمر الوارد بالوضوء من لحوم الإبل إنما هو حكم فيها خاصة ، سواء مستها النار أو لم تمسها النار ، فليس مس النار إياها - إن طبخت - يوجب الوضوء منها ، بل الوضوء واجب منها كما هي ، فحكمها خارج عن الأخبار الواردة بالوضوء مما مست النار ، وبنسخ الوضوء منه ، وبالله تعالى التوفيق . وأما أكلها بنسيان أو بغير علم أنه من لحوم الإبل فقد ذكرنا قول الله تعالى : { ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } فمن فعل شيئا عن غير قصد فسواء ذلك وتركه إلا أن يأتي نص في إيجاب حكم النسيان فيوقف عنده ، وبالله تعالى التوفيق .


165 - مسألة : ومس الرجل المرأة والمرأة الرجل بأي عضو مس أحدهما الآخر ، إذا كان عمدا ، دون أن يحول بينهما ثوب أو غيره ، سواء أمه كانت أو ابنته ، أو مست ابنها أو أباها ، الصغير والكبير سواء ، لا معنى للذة في شيء من ذلك وكذلك لو مسها على ثوب للذة لم ينتقض وضوءه ، وبهذا يقول الشافعي وأصحاب الظاهر . برهان ذلك قول الله تبارك وتعالى { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } . قال أبو محمد : والملامسة فعل من فاعلين ، وبيقين ندري أن الرجال والنساء مخاطبون بهذه الآية ، لا خلاف بين أحد من الأمة في هذا لأن أول الآية وآخرها عموم للجميع من الذين آمنوا ، فصح أن هذا الحكم لازم للرجال إذا لامسوا النساء ، والنساء إذا لامسن الرجال ، ولم يخص الله تعالى امرأة من امرأة ، ولا لذة من غير لذة ، فتخصيص ذلك لا يجوز ، وهو قول ابن مسعود وغيره . وادعى قوم أن اللمس المذكور في هذه الآية هو الجماع . قال أبو محمد : وهذا تخصيص لا برهان عليه ، ومن الباطل الممتنع أن يريد الله عز وجل لماسا من لماس فلا يبينه . نعوذ بالله من هذا . قال علي : واحتج من رأى اللماس المذكور في هذه الآية هو الجماع بحديث فيه { أن رسول الله ﷺ كان يقبل ولا يتوضأ } وهذا حديث لا يصح ؛ لأن راويه أبو روق وهو ضعيف ، ومن طريق رجل اسمه عروة المزني ، وهو مجهول ، رويناه من طريق الأعمش عن أصحاب له لم يسمهم عن عروة المزني ، وهو مجهول ولو صح لما كان لهم فيه حجة لأن معنى هذا الخبر منسوخ بيقين لأنه موافق لما كان الناس عليه قبل نزول الآية ، ووردت الآية بشرع زائد لا يجوز تركه ولا تخصيصه . وذكروا أيضا حديثين صحيحين : أحدهما من طريق عائشة أم المؤمنين { التمست رسول الله ﷺ في الليل فلم أجده ، فوقعت يدي على باطن قدمه وهو ساجد } . قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه لأن الوضوء إنما هو على القاصد إلى اللمس ، لا على الملموس دون أن يقصد هو إلى فعل الملامسة ؛ لأنه لم يلامس ، ودليل آخر ، وهو أنه ليس في هذا الخبر أنه عليه السلام كان في صلاة ، وقد يسجد المسلم في غير صلاة ، لأن السجود فعل خير ، وحتى لو صح لهم أنه عليه السلام كان في صلاة - وهذا ما لا يصح - فليس في الخبر أنه عليه السلام لم ينتقض وضوءه ، ولا أنه صلى صلاة مستأنفة دون تجديد وضوء ، فإذا ليس في الخبر شيء من هذا فلا متعلق لهم به أصلا . ثم لو صح أنه عليه السلام كان في صلاة ، وصح أنه عليه السلام تمادى عليها أو صلى غيرها دون تجديد وضوء - وهذا كله لا يصح أبدا - فإنه كان يكون هذا الخبر موافقا للحال التي كان الناس عليها قبل نزول الآية بلا شك ، وهي حال لا مرية في نسخها وارتفاع حكمه بنزول الآية ، ومن الباطل الأخذ بما قد تيقن نسخه وترك الناسخ ، فبطل أن يكون لهم متعلق بهذا الخبر . والحمد لله رب العالمين . والخبر الثاني من طريق أبي قتادة { أن رسول الله ﷺ حمل أمامة بنت أبي العاص - وأمها زينب بنت رسول الله ﷺ - على عاتقه يضعها ، إذا سجد ، ويرفعها إذا قام } قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه أصلا لأنه ليس فيه نص أن يديها ورجليها لمست شيئا من بشرته عليه السلام ، إذ قد تكون موشحة برداء أو بقفازين وجوربين ، أو يكون ثوبها سابغا يواري يديها ورجليها ، وهذا الأولى أن يظن بمثلها بحضرة الرجال ، وإذا لم يكن ما ذكرنا في الحديث فلا يحل لأحد أن يزيد فيه ما ليس فيه ، فيكون كاذبا ، وإذا كان ما ظنوا ليس في الخبر وما قلنا ممكنا ، والذي لا يمكن غيره ، فقد بطل تعلقهم به ، ولم يحل ترك الآية المتيقن وجوب حكمها لظن كاذب ، وقال تعالى : { إن الظن لا يغني من الحق شيئا } . وأيضا فإن هذا الخبر والذي قبله ليس فيهما أيهما كان بعد نزول الآية ، والآية متأخرة النزول ، فلو صح أنه عليه السلام مس يديها ورجليها في الصلاة لكان موافقا للحال التي كان الناس عليها قبل نزول الآية ، وعلى كل حال فنحن على يقين من أن معنى هذا الخبر - لو صح لهم كما يريدون - فإنه منسوخ بلا شك ولا يحل الرجوع إلى المتيقن أنه منسوخ وترك الناسخ . فصح أنهم يوهمون بأخبار لا متعلق لهم بشيء منها ، يرومون بها ترك اليقين من القرآن والسنن . وقال أبو حنيفة : لا ينقض الوضوء قبلة ولا ملامسة للذة كانت أو لغير لذة ، ولا أن يقبض بيده على فرجها كذلك ، إلا أن يباشرها بجسده دون حائل وينعظ فهذا وحده ينقض الوضوء . وقال مالك : لا وضوء من ملامسة المرأة الرجل ، ولا الرجل المرأة ، إذا كانت لغير شهوة ، تحت الثياب أو فوقها ، فإن كانت الملامسة للذة فعلى الملتذ منهما الوضوء سواء كان فوق الثياب أو تحتها ، أنعظ أو لم ينعظ ، والقبلة كالملامسة في كل ذلك ، وهو قول أحمد بن حنبل . وقال الشافعي كقولنا ، إلا أنه روي عنه أن مس شعر المرأة خاصة لا ينقض الوضوء . قال أبو محمد أما قول أبي حنيفة فظاهر التناقض ، ولا يمكنه التعلق بالتأويل الذي تأوله قوم في الآية : إن الملامسة المذكورة فيها هو الجماع فقط لأنه أوجب الوضوء من المباشرة إذا كان معها إنعاظ ، وأما مناقضته فتفريقه بين القبلة يكون معها إنعاظ فلا ينقض الوضوء . وبين المباشرة يكون معها إنعاظ فتنقض الوضوء ، وهذا فرق لم يؤيده قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ، بل هو مخالف لكل ذلك ، ومن مناقضاته أيضا أنه جعل القبلة لشهوة واللمس لشهوة بمنزلة القبلة لغير الشهوة ، واللمس لغير الشهوة لا ينقض الوضوء شيء من ذلك ، ثم رأى أن القبلة لشهوة واللمس لشهوة رجعة في الطلاق ، بخلاف القبلة لغير شهوة واللمس لغير شهوة ، وهذا كما ترى لا اتباع القرآن ، ولا التعلق بالسنة ولا طرد قياس ولا سداد رأي ولا تقليد صاحب ، ونسأل الله التوفيق . وأما قول مالك في مراعاة الشهوة واللذة ، فقول لا دليل عليه لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا قول صاحب ولا ضبط قياس ولا احتياط ، وكذلك تفريق الشافعي بين الشعر وغيره ، فقول لا يعضده أيضا قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ، بل هو خلاف ذلك كله ، وهذه الأقوال الثلاثة كما أوردناها لم نعرف أنه قال بها أحد قبلهم ، وبالله تعالى التوفيق . فإن قيل : قد رويتم عن النخعي والشعبي : إذا قبل أو لمس لشهوة فعليه الوضوء وعن حماد : أي الزوجين قبل صاحبه والآخر لا يريد ذلك ، فلا وضوء على الذي لا يريد ذلك ، إلا أن يجد لذة ، وعلى القاصد لذلك الوضوء . قلنا : قد صح عن الشعبي والنخعي وحماد إيجاب الوضوء من القبلة على القاصد بكل حال ، وإذ ذلك كذلك فاللذة داخلة في هذا القول ، وبه نقول ، وليس ذلك قول مالك . والعجب أن مالكا لا يرى الوضوء من الملامسة إلا حتى يكون معها شهوة ، ثم لا يرى الوضوء يجب من الشهوة دون ملامسة فكل واحد من المعنيين لا يوجب الوضوء على انفراده فمن أين له إيجاب الوضوء عند اجتماعهما ؟


166 - مسألة : وإيلاج الذكر في الفرج يوجب الوضوء ، كان معه إنزال أو لم يكن . برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو كريب محمد بن العلاء ثنا أبو معاوية محمد بن خازم ثنا هشام هو ابن عروة - عن أبيه عن أبي أيوب الأنصاري عن أبي بن كعب قال : { سألت رسول الله ﷺ عن الرجل يصيب من المرأة ثم يكسل ، قال : يغسل ما أصابه من المرأة ثم يتوضأ ويصلي } . ورويناه أيضا عن شعبة عن الحكم عن أبي صالح عن ذكوان عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ فالوضوء لا بد منه مع الغسل على ما نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى .

167 - مسألة : وحمل الميت في نعش أو في غيره . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : { من غسل ميتا فليغتسل ومن حملها فليتوضأ } قال أبو محمد : يعني الجنازة . ورويناه أيضا من طريق سفيان بن عيينة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن إسحاق مولى زائدة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ وإسحاق مولى زائدة ثقة مدني وتابعي ، وثقه أحمد بن صالح الكوفي وغيره ، وروى عن سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة . ورويناه بالسند المذكور إلى حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال : كنت مع عبد الله بن عتبة بن مسعود في جنازة ، فلما جئنا دخل المسجد ، فدخل عبد الله بيته يتوضأ ثم خرج إلى المسجد فقال لي : أما توضأت ؟ قلت : لا ، فقال : كان عمر بن الخطاب ومن دونه من الخلفاء إذا صلى أحدهم على الجنازة ثم أراد أن يصلي المكتوبة توضأ ، حتى إن أحدهم كان يكون في المسجد فيدعو بالطشت فيتوضأ فيها . قال أبو محمد : لا يجوز أن يكون وضوءهم رضي الله عنهم ، لأن الصلاة على الجنازة حدث ، ولا يجوز أن يظن بهم إلا إتباع السنة التي ذكرنا ، والسنة تكفي . وقد ذكرنا من أقوال أبي حنيفة ومالك والشافعي التي لم يقلها أحد قبلهم كثيرا ، كالأبواب التي قبل هذا الباب ببابين ، وكنقض الوضوء بملء الفم من القلس دون ما لا يملؤه منه ، وسائر الأقوال التي ذكرنا عنهم ، لم يتعلقوا فيها بقرآن ولا سنة ولا بقياس ولا بقول قائل . وبالله تعالى التوفيق .

168 - مسألة : وظهور دم الاستحاضة أو العرق السائل من الفرج إذا كان بعد انقطاع الحيض فإنه يوجب الوضوء ولا بد لكل صلاة تلي ظهور ذلك الدم سواء تميز دمها أو لم يتميز ، عرفت أيامها أو لم تعرف . برهان ذلك ما حدثنا يونس بن عبد الله ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي عن حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : { استحيضت فاطمة بنت أبي حبيش فسألت النبي ﷺ : قالت يا رسول الله : إني أستحاض فلا أطهر ، فأدع الصلاة ؟ فقال رسول الله ﷺ : إنما ذلك عرق وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك أثر الدم وتوضئي وصلي فإنما ذلك عرق وليست بالحيضة } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن أبي عدي من كتابه عن محمد هو ابن عمرو بن علقمة بن وقاص - عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير { عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها رسول الله ﷺ : إذا كان الحيض فإنه دم أسود يعرف ، فأمسكي عن الصلاة ، وإذا كان الآخر فتوضئي فإنه عرق } . قال علي : فعم عليه السلام كل دم خرج من الفرج بعد دم الحيضة ولم يخص وأوجب الوضوء منه ، لأنه عرق . وممن قال بإيجاب الوضوء لكل صلاة على التي يتمادى بها الدم من فرجها متصلا بدم المحيض : عائشة أم المؤمنين وعلي بن أبي طالب وابن عباس وفقهاء المدينة عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله ومحمد بن علي بن الحسين وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري ، وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وغيرهم . قالت عائشة رضي الله عنها : تغتسل وتتوضأ لكل صلاة رويناه من طريق وكيع عن إسماعيل عن أبي خالد عن الشعبي عن امرأة مسروق عن عائشة ، ومن طريق عدي بن ثابت عن أبيه عن علي بن أبي طالب : المستحاضة تتوضأ لكل صلاة ، وعن شعبة عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس : المستحاضة تتوضأ لكل صلاة ، وعن قتادة عن الحسن وسعيد بن المسيب : المستحاضة تتوضأ لكل صلاة . وعن عبد الرزاق عن ابن جريج عن هشام بن عروة في التي يتمادى بها الدم إنها تتوضأ لكل صلاة ، وعن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن محمد بن علي بن الحسين : المستحاضة تتوضأ لكل صلاة . قال أبو محمد : وقال أبو حنيفة في المتصلة الدم كما ذكرنا : إنها تتوضأ لدخول كل وقت صلاة ، فتكون طاهرا بذلك الوضوء ، حتى يدخل وقت صلاة أخرى فينتقض وضوءها ويلزمها أن تتوضأ لها . وروى عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في هذه : إذا توضأت إثر طلوع الشمس للصلاة أنها تكون طاهرا إلى خروج وقت الظهر ، وأنكر ذلك عليه أبو يوسف ، وحكى أنه لم يرو عن أبي حنيفة إلا أنها تكون طاهرا إلى دخول وقت الظهر . وغلب بعض أصحابه رواية محمد . قال أبو محمد : وليس كما قال . بل قول أبي يوسف أشبه بأقوال أبي حنيفة . وقال مالك : لا وضوء عليها من هذا الدم إلا استحبابا لا إيجابا ، وهي طاهر ما لم تحدث حدثا آخر . وقال الشافعي وأحمد : عليها فرضا أن تتوضأ لكل صلاة فرض وتصلي بين ذلك من النوافل ما أحبت ، قبل الفرض وبعده بذلك الوضوء . قال أبو محمد : أما قول مالك فخطأ ، لأنه خلاف للحديث الوارد في ذلك ، والعجب أنهم يقولون بالمنقطع من الخبر إذا وافقهم ، وههنا منقطع أحسن من كل ما أخذوا به ، وهو ما رويناه من طريق ابن أبي شيبة وموسى بن معاوية عن وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة قالت { جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله عليه السلام فقالت : إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ قال لا ، إنما ذلك عرق وليس بالحيضة ، فاجتنبي الصلاة أيام محيضك ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة وصلي ، وإن قطر الدم على الحصير } . قال : قالوا هذا على الندب ، قيل لهم : وكل ما أوجبتموه منا لاستطهار وغير ذلك لعله ندب ، ولا فرق ، وهذا قول يؤدي إلى إبطال الشرائع كلها مع خلافه لأمر الله تعالى في قوله : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وما نعلم لهم متعلقا في قولهم هذا ، لا بقرآن ولا بسنة ولا بدليل ولا بقول صاحب ولا بقياس . وأما قول أبي حنيفة ففاسد أيضا لأنه مخالف للخبر الذي تعلق به ، ومخالف للمعقول وللقياس ، وما وجدنا قط طهارة تنتقض بخروج وقت وتصح بكون الوقت قائما ، وموه بعضهم في هذا بأن قالوا : قد وجدنا الماسح في السفر والحضر تنتقض طهارتهما بخروج الوقت المحدود لهما فنقيس عليهما المستحاضة . قال أبو محمد : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ؛ لأنه قياس خطأ وعلى خطإ ، وما انتقضت قط طهارة الماسح بانقضاء الأمد المذكور بل هو طاهر كما كان ، ويصلي ما لم ينتقض وضوءه بحدث من الأحداث ، وإنما جاءت السنة بمنعه من الابتداء للمسح فقط ، لا بانتقاض طهارته ، ثم لو صح لهم ما ذكروا في الماسح - وهو لا يصح - لكان قياسهم هذا باطلا لأنهم قاسوا خروج وقت كل صلاة في السفر والحضر على انقضاء يوم وليلة في الحضر ، وعلى انقضاء ثلاثة أيام بلياليهن في السفر . وهذا قياس سخيف جدا ، وإنما كانوا يكونون قائسين على ما ذكروا لو جعلوا المستحاضة تبقى بوضوئها يوما وليلة في الحضر ، وثلاثة في السفر ، ولو فعلوا هذا لوجدوا فيما يشبه بعض ذلك سلفا ، وهو سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد ، فقد صح عنهم أنها تغتسل من الظهر إلى الظهر ، وأما قولهم هذا فعار من أن يكون لهم فيه سلف ، وما نعلم لقولهم حجة ، لا من قرآن ولا من سنة ولا من قول صاحب ولا من قياس ولا من معقول . وأما المسألة التي اختلف فيها عن أبي حنيفة فإن قول أبي يوسف أشبه بأصولهم ؛ لأن أثر طلوع الشمس ليس هو وقت صلاة فرض مارا إلى وقت الظهر ، وهو وقت تطوع ، فالمتوضئة فيه للصلاة كالمتوضئة لصلاة العصر في وقت الظهر ، ولا يجزيها ذلك عندهم . وأما قول الشافعي وأحمد فخطأ ومن المحال الممتنع في الدين الذي لم يأت به قط نص ولا دليل أن يكون إنسان طاهرا إن أراد أن يصلي تطوعا ومحدثا غير طاهر في ذلك الوقت بعينه إن أراد أن يصلي فريضة ، هذا ما لا خفاء به وليس إلا طاهرا أو محدثا ، فإن كانت طاهرا فإنها تصلي ما شاءت من الفرائض والنوافل ، وإن كانت محدثة فما يحل لها أن تصلي لا فرضا ولا نافلة . وأقبح من هذا يدخل على المالكيين في قولهم : من تيمم لفريضة فله أن يصلي بذلك التيمم بعد أن يصلي الفريضة ما شاء من النوافل ، وليس له أن يصلي نافلة قبل تلك الفريضة بذلك التيمم ، ولا أن يصلي به صلاتي فرض ، فهذا هو نظرهم وقياسهم وأما تعلق بأثر ، فالآثار حاضرة وأقواله حاضرة . قال أبو محمد ، وهم كلهم يشغبون بخلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف منهم وجميع الحنفيين والمالكيين والشافعيين قد خالفوا في هذه المسألة عائشة وعليا وابن عباس رضي الله عنهم ، ولا مخالف لهم يعرف من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك وخالف المالكيون في ذلك فقهاء المدينة كما أوردنا ، فصارت أقوالهم مبتدأة ممن قالها بلا برهان أصلا . وبالله تعالى التوفيق .

========




كتاب الطهارة

169 - مسألة : قال علي : لا ينقض الوضوء شيء غير ما ذكرنا ، لا رعاف ولا دم سائل من شيء من الجسد أو من الحلق أو من الأسنان أو من الإحليل أو من الدبر ، ولا حجامة ولا فصد ، ولا قيء كثر أو قل ، ولا قلس ولا قيح ولا ماء ولا دم تراه الحامل من فرجها ، ولا أذى المسلم ولا ظلمه ، ولا مس الصليب والوثن ولا الردة ولا الإنعاظ للذة أو لغير لذة ، ولا المعاصي من غير ما ذكرنا ، ولا شيء يخرج من الدبر لا عذرة عليه ، سواء في ذلك الدود والحجر والحيات ، ولا حقنة ولا تقطير دواء في المخرجين ولا مس حيا بهيمة ولا قبلها ، ولا حلق الشعر بعد الوضوء ، ولا قص الظفر ولا شيء يخرج من فرج المرأة من قصة بيضاء أو صفرة أو كدرة أو كغسالة اللحم أو دم أحمر لم يتقدمه حيض ، ولا الضحك في الصلاة ، ولا شيء غير ذلك . قال أبو محمد : برهان إسقاطنا الوضوء من كل ما ذكرنا ، هو أنه لم يأت قرآن ولا سنة ولا إجماع بإيجاب وضوء في شيء من ذلك ، ولا شرع الله تعالى على أحد من الإنس والجن إلا من أحد هذه الوجوه ، وما عداها فباطل ، ولا شرع إلا ما أوجبه الله تبارك وتعالى وأتانا به رسوله ﷺ وفي كل ما ذكرنا خلاف نذكر منه ما كان المخالفون فيه حاضرين ، ونضرب عما قد درس القول به إلا ذكرا خفيفا . وبالله تعالى التوفيق .

قال علي : قال أبو حنيفة : كل دم سائل أو قيح سائل أو ماء سائل من أي موضع سال من الجسد فإنه ينقض الوضوء ، فإن لم يسل لم ينقض الوضوء منه ، إلا أن يكون خرج ذلك من الأنف أو الأذن ، فإن خرج من الأنف أو الأذن فإن كان ذلك دما أو قيحا فبلغ إلى موضع الاستنشاق من الأنف أو إلى ما يلحقه الغسل من داخل الأذن فالوضوء منتقض ، وإن لم يبلغ إلى ما ذكرنا لم ينتقض الوضوء ، فإن خرج من الأنف مخاط أو ماء فلا ينتقض الوضوء ، وكذلك إن خرج من الأذن ماء فلا ينتقض الوضوء . قال : فإن خرج من الجوف إلى الفم أو من اللثات دم فإن كان غالبا على البزاق ففيه الوضوء وإن لم يملأ الفم ، وإن لم يغلب على البزاق فلا وضوء فيه ، فإن تساويا فيستحسن فيأمر فيه بالوضوء ، فإن خرج من الجرح دم فظهر ولم يسل فلا وضوء فيه ، فإن سال ففيه الوضوء ، فلو خرج من الجرح دود أو لحم فلا وضوء فيه ، فإن خرج الدود من الدبر ففيه الوضوء ، فإن عصب الجرح نظر ، فإن كان لو ترك سال ففيه الوضوء ، وإن كان لو ترك لم يسل فلا وضوء . قال وأما القيء والقلس وكل شيء خرج من الجوف إلى الفم ، فإن ملأ الفم نقض الوضوء وإن لم يملأ الفم لم ينقض الوضوء ، وحد بعضهم ما يملأ الفم بمقدار اللقمة - على أن اللقمة تختلف - وحد بعضهم ما لا يقدر على إمساكه في الفم قال أبو حنيفة حاشا البلغم فلا وضوء فيه وإن ملأ الفم وكثر جدا ، قال أبو يوسف : بل فيه الوضوء إذا ملأ الفم . وقال محمد بن الحسن كقول أبي حنيفة في كل ذلك إلا الدم ، فإن قوله فيه : إن خرج من اللثاة أو في الجسد أو من الفم كقول أبي حنيفة ، فإن خرج من الجوف لم ينقض الوضوء إلا أن يملأ الفم فينقض الوضوء حينئذ ، وقال زفر كقول أبي حنيفة في كل شيء إلا القلس ، فإنه قال ينقض الوضوء قليله وكثيره . قال علي : مثل هذا لا يقبل - ولا كرامة - إلا من رسول الله ﷺ المبلغ عن خالقنا ورازقنا تعالى أمره ونهيه ، وأما من أحد دونه فهو هذيان وتخليط كتخليط المبرسم وأقوال مقطوع على أنه لم يقلها أحد قبل أبي حنيفة ، ولم يؤيدها معقول ولا نص ولا قياس ، أفيسوغ لمن يأتي بهذه الوساوس أن ينكر على من اتبع أمر رسول الله ﷺ في البائل في الماء الراكد وفي الفأرة تموت في السمن ؟ إن هذا لعجب ما مثله عجب . قال أبو محمد : وموه بعضهم بخبر رويناه عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن أبيه يرفعه إلى رسول الله ﷺ قال { الوضوء من القيء وإن كان قلسا يقلسه فليتوضأ إذا رعف أحد في الصلاة أو ذرعه القيء ، وإن كان قلسا يقلسه ، أو وجد مذيا فلينصرف وليتوضأ ثم يرجع فيتم ما بقي من صلاته ولا يستقبلها جديدا } وخبر آخر رويناه من طريق إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن أبيه وعن ابن أبي مليكة عن عائشة { عن رسول الله ﷺ قال إذا قاء أحدكم أو قلس فليتوضأ ثم ليبن على ما مضى ما لم يتكلم } . قال أبو محمد : وهذان الأثران ساقطان ؛ لأن والد ابن جريج لا صحبة له فهو منقطع ، والآخر من رواية إسماعيل بن عياش وهو ساقط ، لا سيما فيما روي عن الحجازيين ، ثم لو صحا لكانا حجة على الحنفيين لأنه ليس شيء من هذين الخبرين يفرق بين ملء الفم من القيء والقلس وما دون ملء الفم من القيء والقلس ، ولا بين ما يخرج من نفاطة فينقض الوضوء وما يسيل من الأنف فلا ينقض الوضوء ولا فيه ذكر دم خارج من الجوف ولا من الجسد ولا من اللثاة ولا من الجرح ، وإنما فيهما القيء والقلس والرعاف فقط فلا على الخبرين اقتصروا ، كما فعلوا بزعمهم في خبر الوضوء من القهقهة والوضوء بالنبيذ ، ولا قاسوا عليهما فطردوا قياسهم ، لكن خلطوا تخليطا خرجوا به إلى الهوس المحض فقط ، فهو حجة عليهم - لو صح - وقد خالفوه . واحتجوا أيضا بحديث رويناه من طريق الأوزاعي عن يعيش بن الوليد عن أبيه عن معدان بن أبي طلحة { عن أبي الدرداء أن رسول الله ﷺ قاء فتوضأ ، فلقيت ثوبان فذكرت ذلك له فقال : صدقت ، أنا صببت له وضوءه يعني النبي ﷺ } ورويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش بن الوليد عن خالد بن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء قال { استقاء رسول الله ﷺ فأفطر ودعا بماء فتوضأ } . قال أبو محمد : هذا الحديث الأول فيه يعيش بن الوليد عن أبيه وليسا مشهورين والثاني مدلس لم يسمعه يحيى من يعيش ، ثم لو صح لما كان لهم فيه متعلق ؛ لأنه ليس فيه أن رسول الله ﷺ قال من تقيأ فليتوضأ ، ولا أن وضوءه عليه السلام كان من أجل القيء ، وقد صح عنه عليه السلام التيمم لذكر الله تعالى ، وهم لا يقولون بذلك ، وليس فيه أيضا فرق بين ما يملأ الفم من القيء وبين ما لا يملؤه ، ولا فيهما شيء غير القيء ، فلا على ما فيهما اقتصروا ، ولا قاسوا عليهما قياسا مطردا . وذكروا أيضا الحديث الثابت عن رسول الله ﷺ في فاطمة بنت أبي حبيش - وقد ذكرناه قبل - وهو قوله عليه السلام { إنما ذلك عرق وليس بالحيضة } وأوجب عليه السلام فيه الوضوء ، قالوا : فوجب ذلك في كل عرق سائل . قال علي : وهذا قياس ، والقياس باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل لأنه إذا لم يجز أن يقيسوا دم العرق الخارج من الفرج على دم الحيض الخارج من الفرج ، وكلاهما دم خارج من الفرج ، وكان الله تعالى قد فرق بين حكميهما فمن الباطل أن يقاس دم خارج من غير الفرج على دم خارج من الفرج ، وأبطل من ذلك أن يقاس القيح على الدم ، ولا يقدرون على ادعاء إجماع في ذلك ، فقد صح عن الحسن وأبي مجلز الفرق بين الدم والقيح ، وأبطل من ذلك أن يقاس الماء الخارج من النفاطة على الدم والقيح ، ولا يقاس الماء الخارج من الأنف والأذن على الماء الخارج من النفاطة ، وأبطل من ذلك أن يكون دم العرق الخارج من الفرج يوجب الوضوء ، قليله وكثيره ، ويكون القيء المقيس عليه لا ينقض الوضوء إلا حتى يملأ الفم ، ثم لم يقيسوا الدود الخارج من الجرح على الدود الخارج من الدبر ، وهذا من التخليط في الغاية القصوى . فإن قالوا : قسنا كل ذلك على الغائط لأن كل ذلك نجاسة قلنا لهم : قد وجدنا الريح تخرج من الدبر فتنقض الوضوء وليست نجاسة ، فهلا قستم عليها الجشوة والعطسة ، لأنها ريح خارجة من الجوف كذلك ولا فرق ؟ وأنتم قد أبطلتم قياسكم هذا فنقضتم الوضوء بقليل البول والغائط وكثيره ، ولم تنقضوا الوضوء من القيح والقيء والدم والماء إلا بمقدار ملء الفم أو بما سال أو بما غلب ، وهذا تخليط وترك للقياس . فإن قالوا : قد روي الوضوء من الرعاف ومن كل دم سائل عن عطاء وإبراهيم ومجاهد وقتادة وابن سيرين وعروة بن الزبير وسعيد بن المسيب والحسن البصري وفي الرعاف عن الزهري ، نعم . وعن علي وابن عمر رضي الله عنهم وعن عطاء الوضوء من القلس والقيء والقيح ، وعن قتادة في القيح ، وعن الحكم بن عتيبة في القلس ، وعن ابن عمر في القيء ، قلنا : نعم إلا أنه ليس منهم أحد حد شيئا من ذلك بملء الفم ، ولو كان فلا حجة في قول أحد دون رسول الله ﷺ وقد خالف هؤلاء نظراؤهم ، فصح عن أبي هريرة : أنه أدخل إصبعه في أنفه فخرج فيها دم ففته بأصبعه ثم صلى ولم يتوضأ ، وعن ابن عمر : أنه عصر بثرة بوجهه فخرج منها دم ففته بين إصبعيه وقام فصلى ، وعن طاوس أنه كان لا يرى في الرعاف وضوءا وعن عطاء أنه كان لا يرى في الرعاف وضوءا ، وعن الحسن أنه كان لا يرى في القلس وضوءا ، وعن مجاهد أنه كان لا يرى في القلس وضوءا . والعجب كله أن أبا حنيفة وأصحابه لا يرون الغسل من المني إذا خرج من الذكر لغير لذة ، وهو المني نفسه الذي أوجب الله تعالى ورسوله عليه السلام فيه الغسل ثم يوجبون الوضوء من القيح يخرج من الوجه قياسا على الدم يخرج من الفرج والعجب كله أنهم سمعوا قول رسول الله ﷺ في نهيه عن الذكية بالسن فإنه عظم ، فرأوا الذكاة غير جائزة بكل عظم ، ثم أتوا إلى قوله عليه السلام في وضوء المستحاضة { فإنه عرق } فقاسوا على دم الرعاف واللثاة والقيح فهذا مقدار علمهم بالقياس ، ومقدار اتباعهم للآثار ، ومقدار تقليدهم من سلف . وأما الشافعي فإنه جعل العلة في نقض الوضوء للمخرج وجعله أبو حنيفة للخارج وعظم تناقضه في ذلك كما ذكرنا ، وتعليل كلا الرجلين مضاد لتعليل الآخر ومعارض له ، وكلاهما خطأ ؛ لأنه قول بلا برهان ، ودعوى لا دليل عليها ، قال الله تعالى { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } . قال أبو محمد : ويقال للشافعيين والحنفيين معا : قد وجدنا الخارج من المخرجين مختلف الحكم ، فمنه ما يوجب الغسل كالحيض والمني ودم النفاس ، ومنه ما يوجب الوضوء فقط كالبول والغائط والريح والمذي ، ومنه ما لا يوجب شيئا كالقصة البيضاء ، فمن أين لكم أن تقيسوا ما اشتهيتم فأوجبتم فيه الوضوء قياسا على ما يوجب الوضوء من ذلك ، دون أن توجبوا فيه الغسل قياسا على ما يوجب الغسل من ذلك ، أو دون أن لا توجبوا فيه شيئا قياسا على ما لا يجب فيه شيء من ذلك ؟ وهل هذا إلا التحكم بالهوى الذي حرم الله تعالى الحكم به وبالظن الذي أخبر تعالى أنه لا يغني من الحق شيئا ، ومع فساد القياس ومعارضة بعضه بعضا . وأما المالكيون فلم يقيسوا ههنا فوفقوا ، ولا عللوا ههنا بخارج ولا بمخرج ولا بنجاسة فأصابوا ، ولو فعلوا ذلك في تعليلهم الملامسة بالشهوة ، وفي تعليلهم النهي عن البول في الماء الراكد ، والفأرة تموت في السمن ، لوفقوا ولكن لم يطردوا أقوالهم . فالحمد لله على عظم نعمه علينا . وهم يدعون أنهم يقولون بالمرسل ، وقد أوردنا في هذا الباب مرسلات لم يأخذوا بها ، وهذا أيضا تناقض . وأما الوضوء من أذى المسلم فقد روينا عن عائشة رضي الله عنها قالت : يتوضأ أحدكم من الطعام الطيب ، ولا يتوضأ من الكلمة العوراء يقولها لأخيه وعن ابن مسعود رضي الله عنه : لأن أتوضأ من الكلمة الخبيثة أحب إلي من أن أتوضأ من الطعام الطيب . وعن ابن عباس : الحدث حدثان ، حدث الفرج وحدث اللسان وأشدهما حدث اللسان . وعن إبراهيم النخعي : إني لأصلي الظهر والعصر والمغرب بوضوء واحد ، إلا أن أحدث أو أقول منكرا ، الوضوء من الحدث وأذى المسلم . وعن عبيدة السلماني : الوضوء يجب من الحدث وأذى المسلم . وروينا من طريق داود بن المحبر عن شعبة عن قتادة عن أنس { أن النبي ﷺ كان يتوضأ من الحدث وأذى المسلم } . قال علي : داود بن المحبر كذاب ، مشهور بوضع الحديث ، ولكن لا فرق بين تقليد من ذكرنا قبل في الوضوء من الرعاف والقيء والقلس ، والأخذ بذلك الأثر الساقط ، وبين تقليد من ذكرنا ههنا في الوضوء من أذى المسلم ، والأخذ بهذا الأثر الساقط ، بل هذا على أصولهم أوكد لأن الخلاف هنالك بين الصحابة رضي الله عنهم موجود ، ولا مخالف يعرف ههنا لعائشة وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم ، وهم يشنعون مثل هذا إذا وافقهم . وأما نحن فلا حجة عندنا إلا فيما صح عن رسول الله ﷺ من قرآن أو خبر . وأما مس الصليب والوثن فإننا روينا عن عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن عمار الدهني عن أبي عمرو الشيباني " أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه استتاب المستورد العجلي ، وأن عليا مس بيده صليبا كانت في عنق المستورد فلما دخل علي في الصلاة قدم رجلا وذهب ، ثم أخبر الناس أنه لم يفعل ذلك لحدث أحدثه ، ولكنه مس هذه الأنجاس فأحب أن يحدث منها وضوءا " وروينا أثرا من طريق يعلى بن عبيد عن صالح بن حيان عن ابن بريدة عن أبيه { أن رسول الله ﷺ أمر بريدة وقد مس صنما فتوضأ } . قال علي : صالح بن حيان ضعيف لا يحتج به ، ولقد كان يلزم من يعظم خلاف الصاحب ويرى الأخذ بالآثار الواهية مثل الذي قدمنا أن يأخذ بهذا الأثر ، فهو أحسن من كثير مما يأخذون به قد ذكرناه ، ولا يعرف لعلي ههنا مخالف من الصحابة رضي الله عنهم ، وهذا مما تناقضوا فيه . وأما نحن فلا حجة عندنا إلا في خبر ثابت عن رسول الله ﷺ أو القرآن . والحمد لله رب العالمين . لا سيما وعلي رضي الله عنه قد قطع صلاة الفرض بالناس من أجل ذلك ، وما كان رضي الله عنه ليقطعها فيما لا يراه واجبا . فإن قالوا : لعل هذا استحباب قلنا : ولعل كل ما أوجبتم فيه الوضوء من الرعاف وغيره تقليدا لمن سلف إنما هو استحباب وكذلك المذي ، وهذا كله لا معنى له وإنما هي دعاو مخالفة للحقائق . وبالله تعالى التوفيق . وأما الردة فإن المسلم لو توضأ واغتسل للجنابة أو كانت امرأة فاغتسلت من الحيض ثم ارتدا ثم راجعا - الإسلام دون حدث يكون منهما ، فإنه لم يأت قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ولا إجماع ولا قياس بأن الردة حدث ينقض الطهارة ، وهم يجمعون معنا على أن الردة لا تنقض غسل الجنابة ولا غسل الحيض ولا أحباسه السالفة ولا عتقه السالف ولا حرمة الرجل ، فمن أين وقع لهم أنها تنقض الوضوء وهم أصحاب قياس ، فهلا قاسوا الوضوء على الغسل في ذلك ، فكان يكون أصح قياس لو كان شيء من القياس صحيحا ، فإن ذكروا قول الله تعالى { لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } قلنا هذا على من مات كافرا لا على من راجع الإسلام . يبين ذلك قول الله تعالى { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم } وقوله تعالى { ولتكونن من الخاسرين } شهادة صحيحة قاطعة لقولنا ، لأنه لا خلاف بين أحد من الأمة في أن من ارتد ثم راجع الإسلام ومات مسلما فإنه ليس من الخاسرين ، بل من الرابحين المفلحين ، وإنما الخاسر من مات كافرا ، وهذا بين والحمد لله . وأما الدم الظاهر من فرج المرأة الحامل فقد اختلف الناس فيه ، فروينا من طريق أم علقمة عن عائشة أم المؤمنين أن الحامل تحيض ، وهو أحد قولي الزهري وهو قول عكرمة وقتادة وبكر بن عبد الله المزني وربيعة ومالك والليث والشافعي ، وروينا عن سعيد بن المسيب والحسن وحماد بن أبي سليمان أنها مستحاضة لا حائض وروي عن مالك أنه قال في الحامل ترى الدم أنها لا تصلي إلا أن يطول ذلك بها فحينئذ تغتسل وتصلي ، ولم يحد في الطول حدا ، وقال أيضا ليس أول الحمل كآخره ، ويجتهد لها ولا حد في ذلك . وروينا من طريق عطاء عن عائشة أم المؤمنين : أن الحامل وإن رأت الدم فإنها تتوضأ وتصلي ، وهو قول عطاء والحكم بن عتيبة والنخعي والشعبي وسليمان بن يسار ونافع مولى ابن عمر ، وأحد قولي الزهري ، وهو قول سفيان الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد وداود وأصحابهم : قال أبو محمد : صح { أن رسول الله ﷺ نهى عن طلاق الحائض وأمر بالطلاق في حال الحمل } ، وإذا كانت حائلا فصح أن حال الحائض والحائل غير حال الحامل وقد اتفق المخالفون لنا على أن ظهور الحيض استبراء وبراءة من الحمل ، فلو جاز أن تحيض - الحامل لما كان الحيض براءة من الحمل ، وهذا بين جدا والحمد لله ، وإذا كان ليس - حيضا ولا عرق استحاضة فهو غير موجب للغسل ولا للوضوء إذ لم يوجب ذلك نص ولا إجماع وكذلك دم النفاس فإنما يوجب الغسل ، لأنه دم حيض على ما بينا بعد هذا والحمد لله رب العالمين . وكذلك القول في الذبح والقتل وإن كان معصية ، فإن كل ذلك لا ينقض الطهارة ، لأنه لم يأت بذلك قرآن ولا سنة ، وكذلك من مس المرأة على ثوب ، لأنه إنما لامس الثوب لا المرأة ، وكذلك مس الرجل الرجل بغير الفرج ومس المرأة المرأة وبغير الفرج والإنعاظ والتذكر وقرقرة البطن في الصلاة ومس الإبط ونتفه ومس الأنثيين والرفغين وقص الشعر والأظفار لأن كل ما ذكرنا لم يأت نص ولا إجماع بإيجاب الوضوء في شيء منه . وقد أوجب الوضوء في بعض ما ذكرنا بل في أكثره بل في كله ، طوائف من الناس ، فأوجب الوضوء من قرقرة البطن في الصلاة إبراهيم النخعي ، وأوجب الوضوء في الإنعاظ والتذكر والمس على الثوب لشهوة بعض المتأخرين ، وروينا إيجاب الوضوء في مس الإبط عن عمر بن الخطاب ومجاهد ، وإيجاب الغسل من نتفه عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو . وعن مجاهد الوضوء من تنقية الأنف . وروينا عن علي بن أبي طالب ومجاهد وذر والد عمر بن ذر إيجاب الوضوء من قص الأظفار وقص الشعر ، وأما الدود والحجر يخرجان من الدبر فإن الشافعي أوجب الوضوء من ذلك ولم يوجبه مالك ولا أصحابنا ، وقد روينا { عن رسول الله ﷺ من مس أنثييه أو رفغيه فليتوضأ } ولكنه مرسل لا يسند . وأما الصفرة والكدرة والدم الأحمر فسيذكر في الكلام في الحيض - إن شاء الله - حكمه وإنه ليس - حيضا ولا عرقا ، فإذا ليس حيضا ولا عرقا فلا وضوء فيه . إذ لم يوجب في ذلك قرآن ولا سنة ولا إجماع . وأما الضحك في الصلاة فإنا روينا في إيجاب الوضوء منه أثرا واهيا لا يصح لأنه إما مرسل من طريق أبي العالية وإبراهيم النخعي وابن سيرين والزهري وعن الحسن عن معبد بن صبيح ومعبد الجهني ، وإما مسند من طريق أنس وأبي موسى وأبي هريرة وعمران بن حصين وجابر وأبي المليح ، وروينا إيجاب الوضوء منه عن أبي موسى الأشعري وإبراهيم النخعي والشعبي وسفيان الثوري والأوزاعي والحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن وأبي حنيفة وأصحابه . فأما حديث أنس فإنه من طريق أحمد بن عبد الله بن زيادة التتري عن عبد الرحمن بن عمر وأبي حيلة وهو مجهول ، وأما حديث أبي موسى ففيه محمد بن نعيم وهو مجهول ، وأما حديث أبي هريرة ففيه عبد الكريم بن أبي المخارق وهو غير ثقة وأما حديث عمران بن حصين ففيه إسماعيل بن عياش وعبد الوهاب بن نجدة وهما ضعيفان ، وأما حديث جابر ففيه أبو سفيان وهو ضعيف ، وأما حديث أبي المليح ففيه الحسن بن دينار وهو مذكور بالكذب . ولا حجة إلا في القرآن أو - أثر صحيح مسند . وقد كان يلزم المالكيين والشافعيين القائلين بالمتواتر من الأخبار حتى ادعوا التواتر لحديث معاذ { أجتهد رأيي } والقائلين بمرسل سعيد وطاوس أن يقولوا بهذه الآثار ، فإنها أشد تواترا مما ادعوا له التواتر ، وأكثر ظهورا في عدد من أرسله من النهي عن بيع اللحم والحيوان بالحيوان ، وسائر ما قالوا به من المراسيل . وكذلك كان يلزم أبا حنيفة وأصحابه المخالفين الخبر الصحيح - في المصراة وفي حج المرأة عن الهرم الحي وفي سائر ما تركوا فيه السنن الثابتة للقياس - أن يرفضوا هذا الخبر الفاسد قياسا على ما أجمع عليه من أن الضحك لا ينقض الوضوء في غير الصلاة ، فكذلك لا يجب أن ينقضه في الصلاة ، ولكنهم لا يطردون القياس ولا يتبعون السنن ولا يلتزمون ما أحلوا من قبول المرسل والمتواتر ، إلا ريثما يأتي موافقا لآرائهم أو تقليدهم ، ثم هم أول رافضين له إذا خالف تقليدهم وآراءهم . وحسبنا الله ونعم الوكيل . ويقال لهم : في أي قرآن أو في أي سنة أو في أي قياس وجدتم تغليظ بعض الأحداث فينقض الوضوء قليلها وكثيرها ، وتخفيف بعضها قد ينقض الوضوء إلا مقدارا حددتموه منها ؟ والنص فيها كلها جاء مجيئا واحدا ، فقال رسول الله ﷺ { لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ } ولا يخفى على ذي عقل أن بعض الحدث حدث ، فإذا هو كذلك فقليله وكثيره ينقض الطهارة ، وما لم يكن حدثا فكثيره وقليله لا ينقض الطهارة . وبالله تعالى التوفيق .

=======




كتاب الطهارة


باب الأشياء الموجبة غسل الجسد كله

170 - مسألة : إيلاج الحشفة أو إيلاج مقدارها من الذكر الذاهب الحشفة والذاهب أكثر من الحشفة - في فرج المرأة الذي هو مخرج الولد منها بحرام أو حلال ، إذا كان بعمد أنزل أو لم ينزل ، فإن عمدت هي أيضا لذلك ، فكذلك أنزلت أو لم تنزل ، فإن كان أحدهما مجنونا أو سكرانا أو نائما أو مغمى عليه أو مكرها ، فليس على من هذه صفته منهما إلا الوضوء فقط إذا أفاق أو استيقظ إلا أن ينزل ، فإن كان أحدهما غير بالغ فلا غسل عليه ولا وضوء ، فإذا بلغ لزمه الغسل فيما يحدث لا فيما سلف له من ذلك والوضوء . برهان ذلك ما حدثنا أحمد الطلمنكي ثنا محمد بن أحمد بن مفرج ثنا محمد بن أيوب الصموت ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ثنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ثنا هشام بن حسان عن حميد بن هلال عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه عن عائشة عن النبي قال : { إذا التقى الختانان وجب الغسل } . وحدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا أحمد بن زهير بن حرب ثنا مسلم بن إبراهيم ثنا شعبة وهشام الدستوائي كلاهما عن قتادة عن الحسن البصري عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : { إذا قعد بين شعبها الأربع وألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل } . قال أحمد بن زهير : وحدثنا عفان بن مسلم ثنا همام بن يحيى وأبان بن يزيد العطار قالا جميعا ثنا قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : { إذا قعد بين شعبها الأربع وأجهد نفسه فقد وجب عليه الغسل أنزل أو لم ينزل } . قال أبو محمد : هذا فيه زيادة ثابتة عن الأحاديث التي فيها إسقاط الغسل ، والزيادة شريعة واردة لا يجوز تركها . وإنما قلنا في مخرج الولد ، لأنه لا ختان إلا هنالك ، فسواء كان مختونا أو غير مختون لأن لفظة { أجهد نفسه } تقتضي ذلك ، ولم يخص عليه السلام حراما من حلال . وإنما قلنا بذلك في العمد دون الأحوال التي ذكرنا لأن قوله عليه السلام { إذا قعد ثم أجهد } وهذا الإطلاق ليس إلا للمختار القاصد ، ولا يسمى المغلوب أنه قعد ولا النائم ولا المغمى عليه . وأما المجنون فقد ذكرنا قول رسول الله ﷺ : { رفع القلم عن ثلاثة } فذكر عليه السلام { المجنون حتى يفيق والصبي حتى يبلغ } فإذا زالت هذه الأحوال كلها من الجنون والإغماء والنوم والصبا فالوضوء لازم لهم فقط لأنهم يصيرون مخاطبين بالصلاة وبالوضوء لها جملة ، وبالغسل إن كانوا مجنبين ، وهؤلاء ليسوا بمجنبين . وبالله تعالى التوفيق . فإن قيل : فهلا أوجبتم الغسل بقوله عليه السلام : { إذا التقى الختانان وجب الغسل } ؟ قلنا : هذا الخبر أعم من قوله عليه السلام : { إذا أقحطت أو أكسلت فلا غسل عليك } . فوجب أن يستثنى الأقل من الأعم ولا بد ، ليؤخذ بهما معا ، ثم حديث أبي هريرة زائد حكما على حديث الإكسال فوجب إعماله أيضا . وأما كل موضع لا ختان فيه ولا يمكن فيه الختان فلم يأت نص ولا سنة بإيجاب الغسل من الإيلاج فيه ، وممن رأى أن لا غسل من الإيلاج في الفرج إن لم يكن أنزل : عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود ورافع بن خديج وأبو سعيد الخدري وأبي بن كعب وأبو أيوب الأنصاري وابن عباس والنعمان بن بشير وزيد بن ثابت وجمهور الأنصار رضي الله عنهم ، وعطاء بن أبي رباح وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وهشام بن عروة والأعمش وبعض أهل الظاهر . وروي الغسل في ذلك عن عائشة أم المؤمنين وأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر والمهاجرين رضي الله عنهم ، وبه يقول أبو حنيفة ومالك والشافعي وبعض أصحاب الظاهر .

171 - مسألة : فلو أجنب كل من ذكرنا وجب عليه غسل الرأس وجميع الجسد إذا أفاق المغمى عليه والمجنون وانتبه النائم وصحا السكران وأسلم الكافر ، وبالإجناب يجب الغسل . برهان ذلك قول الله تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فلو اغتسل الكافر قبل أن يسلم والمجنون قبل أن يفيق أو غسل المغمى عليه قبل أن يفيق والسكران لم يجزهم ذلك من غسل الجنابة وعليهم إعادة الغسل ، لأنهم بخروج الجنابة منهم صاروا جنبا ووجب الغسل به ، ولا يجزي الفرض المأمور به إلا بنية أدائه قصدا إلى تأدية ما أمر الله تعالى به . قال الله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } وكذلك لو توضئوا في هذه الأحوال للحدث لم يجزهم ولا بد من إعادته بعد زوالها لما ذكرنا .

172 - مسألة : والجنابة هي الماء الذي يكون من نوعه الولد ، وهو من الرجل أبيض غليظ رائحته رائحة الطلع ، وهو من المرأة رقيق أصفر ، وماء العقيم والعاقر يوجب الغسل ، وماء الخصي لا يوجب الغسل ، وأما المجبوب الذكر السالم الأنثيين أو إحداهما فماؤه يوجب الغسل . برهان ذلك ما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا عباس بن الوليد ثنا يزيد بن ربيع ثنا سعيد هو ابن أبي عروبة - عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم أن أم سليم حدثت { أنها سألت نبي الله ﷺ عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل ؟ فقال رسول الله ﷺ : إذا رأت المرأة ذلك فلتغتسل ، قيل : وهل يكون هذا ؟ قال رسول الله ﷺ : نعم ، فمن أين يكون الشبه إن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر ، فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه } . قال أبو محمد : فهذا هو الماء الذي يوجب الغسل وماء العقيم والعاقر والسالم الخصية ، وإن كان مجبوبا ، فهذه صفته وقد يولد لهذا ، وأما ماء الخصي فإنما هو أصفر ، فليس هو الماء الذي جاء النص بإيجاب الغسل فيه فلا غسل فيه ، ولو أن امرأة شفرت وهي بالغ أو غير بالغ ، فدخل المني فرجها فحملت فالغسل عليها ولا بد لأنها قد أنزلت الماء يقينا .

173 - مسألة : وكيفما خرجت الجنابة المذكورة بضربة أو علة أو لغير لذة أو لم يشعر به حتى وجده أو باستنكاح فالغسل واجب في ذلك . برهان ذلك قوله تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } وأمره عليه السلام إذا فضخ الماء أن يغتسل ، وهذا عموم لكل من خرجت منه الجنابة ، ولم يستثن عز وجل ولا رسوله عليه السلام حالا من حال ، فلا يحل لأحد أن يخص النص برأيه بغير نص ، وهذا هو قول الشافعي وداود . وقال أبو حنيفة ومالك : من خرج منه المني - لعلة ، قال أبو حنيفة : أو ضرب على استه فخرج منه المني فعليه الوضوء ولا غسل عليه ، وهذا قول خلاف للقرآن وللسنن الثابتة وللقياس ، وما نعلمه عن أحد من السلف إلا عن سعيد بن جبير وحده فإنه ذكر عنه لا غسل إلا من شهوة . قال أبو محمد : أما خلافهم للقياس فإن الغائط والبول والريح موجبة للوضوء ولا يختلفون أن كيفما خرج ذلك فالوضوء فيه ، وكذلك الحيض موجب للغسل ، وكيفما خرج فالغسل فيه ، فكان الواجب أن يكون المني كذلك ، فلا بالقرآن أخذوا ولا بالسنة عملوا ولا القياس طردوا . والعجب أن بعضهم احتج في ذلك بأن الغائط والبول ليس في خروجهما حال تحيل الجسد . قال : والمني إذا خرج لشهوة أذهب الشهوة وأحدث في الجسد أثرا فوجب أن يكون بخلافهما . قال علي : وهذا تخليط ، بل اللذة في خروج البول والغائط والريح أشد عند الحاجة إلى خروجها منها في خروج المني ، وضرر ألم امتناع خروجها أشد من ضرر امتناع خروج المني فقد استوى الحكم في ذلك ، وبالله تعالى التوفيق ، فإن تأذى المستنكح بالغسل فليتيمم ؛ لأنه غير واجد ما يقدر على الغسل به ، فحكمه التيمم بنص القرآن . وبالله تعالى التوفيق .

174 - مسألة : ولو أن امرأة وطئت ثم اغتسلت ثم خرج ماء الرجل من فرجها فلا شيء عليها ، لا غسل ولا وضوء ، لأن الغسل إنما يجب عليها من إنزالها لا من إنزال غيرها ، والوضوء إنما يجب عليها من حدثها لا من حدث غيرها وخروج ماء الرجل من فرجها ليس إنزالا منها ولا حدثا منها ، فلا غسل عليها ولا وضوء . وقد روي عن الحسن أنها تغسل ، وعن قتادة والأوزاعي وأحمد وإسحاق تتوضأ . قال علي : ليس قول أحد حجة دون رسول الله ﷺ .

175 - مسألة : فلو أن امرأة شفرها رجل فدخل ماؤه فرجها فلا غسل عليها إذا لم تنزل هي . وقد روي عن عطاء والزهري وقتادة : عليها الغسل . قال علي : إيجاب الغسل لا يلزم إلا بنص قرآن أو سنة ثابتة عن رسول الله ﷺ .

176 - مسألة : ولو أن رجلا أو امرأة أجنبا وكان منهما وطء دون إنزال فاغتسلا وبالا أو لم يبولا ثم خرج منهما أو من أحدهما بقية من الماء المذكور أو كله فالغسل واجب في ذلك ولا بد ، فلو صليا قبل ذلك أجزأتهما صلاتهما ، ثم لا بد من الغسل ، فلو خرج في نفس الغسل وقد بقي أقله أو أكثره لزمهما أو الذي خرج ذلك منه ابتداء الغسل ولا بد . برهان ذلك عموم قوله عز وجل : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } والجنب هو من ظهرت منه الجنابة . وقوله عليه السلام : { إذا فضخ الماء فليغتسل } ولا يجوز تخصيص هذا العموم بالرأي . وقال أبو حنيفة : إن كان الذي خرج منه المني قد بال قبل ذلك فالغسل عليه ، وإن كان لم يبل فلا غسل عليه . وقال مالك : لا غسل عليه بال أو لم يبل . وقال الشافعي كقولنا . قال أبو محمد : واحتج من لم ير الغسل بأنه قد اغتسل والغسل إنما هو لنزول الجنابة من الجسد وإن لم تظهر . قال علي : وهذا ليس كما قالوا بل ما الغسل إلا من ظهور الجنابة لقوله عليه السلام : { إذا رأت الماء } ولو أن امرأ التذ بالتذكر حتى أيقن أن المني قد صار في المثانة ولم يظهر ما وجب عليه غسل ، لأنه ليس جنبا بعد ، ومن ادعى عليه وجوب الغسل فعليه البرهان من القرآن أو السنة . فإن قيل : قد روي نحو قول مالك عن علي وابن عباس وعطاء . قلنا : لا حجة في قول أحد دون رسول الله ﷺ وقد صح عن علي وابن عباس وابن الزبير إيجاب الغسل على المستحاضة لكل صلاة ، فلم يأخذ بذلك مالك ولا أبو حنيفة ، ومن الباطل أن يكون علي وابن عباس رضي الله عنهما حجة في مسألة غير حجة في أخرى . وبالله تعالى التوفيق

177 - مسألة : ومن أولج في الفرج وأجنب فعليه النية في غسله ذلك لهما معا ، وعليه أيضا الوضوء ولا بد ، ويجزيه في أعضاء الوضوء غسل واحد ينوي به الوضوء والغسل من الإيلاج ومن الجنابة ، فإن نوى بعض هذه الثلاثة ولم ينو سائرها أجزأه لما نوى ، وعليه الإعادة لما لم ينو ، فإن كان مجنبا باحتلام أو يقظة من غير إيلاج فليس عليه إلا نية واحدة للغسل من الجنابة فقط . برهان ذلك { أن رسول الله ﷺ أوجب الغسل من الإيلاج وإن لم يكن إنزال ومن الإنزال وإن لم يكن إيلاج ، وأوجب الوضوء من الإيلاج } ، فهي أعمال متغايرة وقد قال عليه السلام : { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } فلا بد لكل عمل مأمور به من القصد إلى تأديته كما أمره الله تعالى ، ويجزئ من كل ذلك عمل واحد ؛ لأنه قد صح عنه ﷺ أنه كان يغتسل غسلا واحدا من كل ذلك ، فأجزأ ذلك بالنص ، ووجبت النيات بالنص ، ولم يأت نص بأن نية لبعض ذلك تجزئ عن نية الجميع ، فلم يجز ذلك . وبالله تعالى التوفيق .

178 - مسألة : وغسل يوم الجمعة فرض لازم لكل بالغ من الرجال والنساء وكذلك الطيب والسواك . برهان ذلك ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا علي هو ابن المديني - ثنا حرمي بن عمارة ثنا شعبة عن أبي بكر بن المنكدر حدثني عمرو بن سليم الأنصاري قال : أشهد على أبي سعيد الخدري قال : أشهد على رسول الله ﷺ قال : { الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستن وأن يمس طيبا } قال عمرو بن سليم : أما الغسل فأشهد أنه واجب ، وأما الاستنان والطيب فالله أعلم أواجب هو أم لا ، ولكن هكذا في الحديث . وروينا إيجاب الغسل أيضا مسندا من طريق عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس وأبي هريرة كلها في غاية الصحة ، فصار خبرا متواترا يوجب العلم ، وممن قال بوجوب فرض الغسل يوم الجمعة عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة رضي الله عنهم لم يخالفه فيه أحد منهم ، وأبو هريرة وابن عباس وأبو سعيد الخدري وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعمرو بن سليم وعطاء وكعب والمسيب بن رافع . أما عمر فإنه قال على المنبر لعثمان يوم الجمعة - وقد قال عثمان : ما هو إلا أن سمعت الأذان الأول فتوضأت وخرجت فقال له عمر : والله لقد علمت ما هو بالوضوء ، والوضوء أيضا { وقد علمت أن رسول الله ﷺ كان يأمر بالغسل } . وروينا عن أبي هريرة أنه قال : لله على كل مسلم أن يغتسل من كل سبعة أيام يوما فيغسل كل شيء منه ويمس طيبا إن كان لأهله ، والغسل يوم الجمعة واجب كغسل الجنابة . فأما اللفظ الأول فمن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن طاوس عن أبي هريرة واللفظ الثاني عن مالك بن أنس عن سعيد المقبري عن أبي هريرة . وعن سعد بن أبي وقاص : ما كنت أرى مسلما يدع الغسل يوم الجمعة . وقال ابن مسعود في شيء ظن به : لأنا أحمق من الذي لا يغتسل يوم الجمعة . قال أبو محمد : لا يحمق من ترك ما ليس فرضا لأن رسول الله ﷺ قال فيه : { أفلح إن صدق ، دخل الجنة إن صدق } والمفلح المضمون له الجنة ليس أحمق . وعن عمار بن ياسر في شيء ظن به : أنا إذن كمن لا يغتسل يوم الجمعة . وعن أبي سعيد الخدري : { أوجب رسول الله ﷺ الغسل يوم الجمعة على كل محتلم } . وعن ابن عمر - وسئل عن الغسل يوم الجمعة فقال : { أمرنا به رسول الله ﷺ } . وعن كعب أنه قال : لله على كل حالم أن يغتسل في كل سبعة أيام مرة فيغسل رأسه وجسده ، وهو يوم الجمعة فقال ابن عباس : وأنا أرى أن يتطيب من طيب أهله إن كان لهم . وسئل ابن عباس عن غسل يوم الجمعة فقال : اغتسل . وروينا أمره بالطيب من طريق حماد بن سلمة عن جعفر بن أبي وحشية عن مجاهد عن ابن عباس . وأمره بالغسل عن ابن جريج عن عطاء عنه . وروينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري أن غسل يوم الجمعة واجب . وروينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال : سمعت أبا هريرة يوجب الطيب يوم الجمعة . وروينا من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال : سمعت أبا سعيد الخدري يقول : ثلاث هن على كل مسلم يوم الجمعة : الغسل والسواك ويمس من طيب إن وجده . قال أبو محمد : ما نعلم أنه يصح عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم إسقاط فرض الغسل يوم الجمعة . وذهب جماعة من المتأخرين إلى أنه ليس بواجب ، واحتجوا بحديث عمر وعثمان الذي ذكرناه وبحديث رويناه من طريق عائشة رضي الله عنها { كان الناس يأتون الجمعة من منازلهم ومن العوالي فيأتون في العباء ويصيبهم الغبار فيخرج منهم الريح فأتى رسول الله ﷺ إنسان منهم وهو عندي ، فقال رسول الله ﷺ : لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا } وعنها أيضا { كان الناس أهل عمل ولم يكن لهم كفاة ، فكان يكون لهم تفل فقيل لهم لو اغتسلتم يوم الجمعة } ، وبحديث عن الحسن { أنبأنا أن رسول الله ﷺ كان لا يغتسل يوم الجمعة ، ولكن كان أصحابه يغتسلون } . وبحديث من طريق ابن عباس { كان رسول الله ﷺ ربما اغتسل وربما لم يغتسل يوم الجمعة } . وبحديث آخر من طريق ابن عباس في الغسل يوم الجمعة { أنه خير لمن اغتسل ، ومن لم يغتسل فليس بواجب ، وسأخبركم كيف بدأ الغسل ، كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون على ظهورهم ، وكان مسجدهم ضيقا مقارب السقف ، فخرج رسول الله ﷺ في يوم حار وعرق الناس في الصوف حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضا ، فلما وجد رسول الله ﷺ الريح قال : أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا وليمس أحدكم طيبا ، أفضل ما يجد من دهنه وطيبه } . قال ابن عباس : ثم جاء الله بالخير ، ولبسوا غير الصوف ، وكفوا العمل ، ووسعوا مسجدهم ، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضا من العرق " . وبحديث عن سمرة عن النبي ﷺ { من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل } . ومثله من طريق أنس عنه عليه السلام نصا . وكذلك من طريق الحسن ، ومن طريق جابر عنه عليه السلام ، ومثله نصا عن عبد الرحمن بن سمرة وأبي هريرة ، ومثله عن يزيد بن عبد الله أبي العلاء . وهذا كل ما شغبوا به ، وكله لا حجة لهم فيه لأن كل هذه الآثار لا خير فيها ، حاشا حديث عائشة وعمر فهما صحيحان ، ولا حجة لهم فيهما على ما سنبين إن شاء الله تعالى . أما حديث الحسن ويزيد بن عبد الله فمرسلان ، وكم من مرسل للحسن لا يأخذون به ، كمرسله في الوضوء من الضحك في الصلاة ، لا يأخذ به المالكيون والشافعيون ، وكمرسله { إن الأرض لا تنجس } لا يأخذ به الحنفيون ، وكذلك ليزيد بن عبد الله ، ومما يوجب المقت من الله تعالى أن يجعلوا المرسل حجة ، ثم لا يأخذون به ، أو أن لا يروه حجة ثم يحتجون به ، فيقولون ما لا يفعلون { كبر مقتا عند الله } . وأما حديثا ابن عباس فأحدهما من طريق محمد بن معاوية النيسابوري ، وهو معروف بوضع الأحاديث والكذب والثاني من طريق عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة وقد روينا من طريق عمرو بن أبي عمرو - هذه نفسها - عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي ﷺ { من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه } فإن كان خبر عمرو حجة فليأخذوا بهذا ، وإن كان ليس بحجة فلا يحل لهم الاحتجاج به في رد السنن الثابتة ، وأما عمرو فضعيف لا نحتج به لنا ، ولا نقبله حجة علينا ، وهذا هو الحق الذي لا يحل خلافه ، ولو احتججنا به في موضع واحد لأخذنا بخبره في كل موضع . فإن قالوا : قد صح عن ابن عباس خلاف ما روى عنه عمرو في قتل البهيمة ومن أتاها ، قلنا لهم : وقد صح عن ابن عباس خلاف ما روى عنه عمرو في إسقاط غسل الجمعة ولا فرق ، ثم لو صح حديث عمرو هذا لما كان لهم فيه حجة ، بل لكان لنا حجة عليهم ؛ لأنه ليس فيه من كلام النبي ﷺ إلا الأمر بالغسل وإيجابه ، وأما كل ما تعلقوا به من إسقاط وجوب الغسل فليس من كلامه عليه السلام ، وإنما هو من كلام ابن عباس وظنه ، ولا حجة في أحد دونه عليه السلام . وأما حديث سمرة فإنما هو من طريق الحسن عن سمرة ، ولا يصح للحسن سماع من سمرة إلا حديث العقيقة وحده ، فإن أبوا إلا الاحتجاج به ، قلنا لهم : قد روينا من طريق الحسن عن سمرة عن النبي ﷺ { من قتل عبده قتلناه ومن جدعه جدعناه } والحنفيون والمالكيون والشافعيون لا يأخذون بهذا ، وروينا أيضا عنه عن سمرة عن النبي ﷺ : { عهدة الرقيق أربع } وهم لا يأخذون بهذا . ومن الباطل والعار احتجاجهم في الدين برواية ما إذا وافقت تقليدهم ، ومخالفتهم لها بعينها إذا خالفت تقليدهم ، ما نرى دينا يبقى مع هذا لأنه اتباع الهوى في الدين . وأما حديث أنس فهو من رواية يزيد الرقاشي وهو ضعيف ، صح عن شعبة أنه قال : لأن أقطع الطريق وأزني أحب إلي من أن أروي عن يزيد الرقاشي ، ورب حديث ليزيد الرقاشي تركوه لم يحتجوا فيه إلا بضعفه فقط ، ومن رواية الضحاك بن حمزة ، وهو هالك ، عن الحجاج بن أرطاة ، وهو ساقط ، عن إبراهيم بن مهاجر وهو ضعيف . ثم نظرنا في حديث جابر فوجدناه ساقطا لأنه لم يرو إلا من طرق في أحدها رجل مسكوت عن اسمه لا يعرف من هو ، وفي ثانيهما أبو سفيان عن جابر وهو ضعيف ، ومحمد بن الصلت وهو مجهول ، وفي الثالث منها الحسن عن جابر ولا يصح سماع الحسن من جابر . وأما حديث عبد الرحمن بن سمرة فهو من طريق سلم بن سليمان أبي هشام البصري وليس بالقوي . وأما حديث أبي هريرة فهو من رواية أبي بكر الهذلي ، وهو ضعيف جدا فسقطت هذه الآثار كلها ، ثم لو صحت لم يكن فيها نص ولا دليل على أن غسل الجمعة ليس بواجب ، وإنما فيها أن الوضوء نعم العمل ، وأن الغسل أفضل وهذا لا شك فيه ، وقد قال الله تعالى : { ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم } فهل دل هذا اللفظ على أن الإيمان والتقوى ليس فرضا ؟ حاشا لله من هذا ، ثم لو كان في جميع هذه الأحاديث نص على أن غسل الجمعة ليس فرضا لما كان في ذلك حجة ، لأن ذلك كان يكون موافقا لما كان الأمر عليه قبل قوله عليه السلام { غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وعلى كل مسلم } وهذا القول منه عليه السلام شرع وارد وحكم زائد ناسخ للحالة الأولى بيقين لا شك فيه ، ولا يحل ترك الناسخ بيقين ، والأخذ بالمنسوخ . وأما حديث عائشة رضي الله عنها { كانوا عمال أنفسهم ويأتون في العباء والغبار من العوالي فتثور لهم روائح ، فقال رسول الله ﷺ : لو تطهرتم ليومكم هذا } أو { أولا تغتسلون } . فهو خبر صحيح ، إلا أنه لا حجة لهم فيه أصلا ، لأنه لا يخلو هذا من أن يكون قبل أن يخطب عليه السلام على المنبر فأمر الناس بالغسل يوم الجمعة ، وقبل أن يخبر عليه السلام بأن غسل يوم الجمعة واجب على كل مسلم وكل محتلم ، والطيب والسواك ، وقبل أن يخبر عليه السلام أنه حق لله تعالى على كل مسلم ، أو يكون بعد كل ما ذكرنا ، ولا سبيل إلى قسم ثالث ، فإن كان خبر عائشة قبل ما رواه عمر بن الخطاب وابنه وأبو هريرة وابن عباس وأبو سعيد الخدري وجابر ، فلا يشك ذو حس سليم في أن الحكم للمتأخر ، وإن كان خبر عائشة بعد كل ما ذكرنا من إيجاب الغسل يوم الجمعة والسواك والطيب وأنه حق الله تعالى على كل مسلم ، فليس فيه نص ولا دليل على نسخ الإيجاب المتقدم ، ولا على إسقاط حق الله تعالى المنصوص على إثباته ، وإنما هو تبكيت لمن ترك الغسل المأمور به الموجب فقط ، وهذا تأكيد للأمر المتيقن لا إسقاط له ، فقد { نهى رسول الله ﷺ عن الوصال فلم ينتهوا فواصل بهم } تنكيلا لهم ، أفيسوغ في عقل أحد أن ذلك نسخ للنهي عن الوصال ؟ وكل ما أخبر عليه السلام أنه واجب على كل مسلم ، وحق الله تعالى على كل محتلم ، فلا يحل تركه ولا القول بأنه منسوخ أو أنه ندب ، إلا بنص جلي بذلك ، مقطوع على أنه وارد بعده ، مبين أنه - ندب أو أنه قد نسخ ، لا بالظنون الكاذبة المتروك لها اليقين . هذا لو صح أن خبر عائشة كان بعد الإيجاب للغسل . وهذا لا يصح أبدا ، بل في خبر عائشة دليل بين على أنه كان قبل الإيجاب لأنها ذكرت أن ذلك كان والناس عمال أنفسهم ، وفي ضيق من الحال وقلة من المال ، وهذه صفة أول الهجرة بلا شك ، والراوي لإيجاب الغسل أبو هريرة ، وابن عباس ، وكلاهما متأخر الإسلام والصحبة . أما أبو هريرة فإسلامه إثر فتح خيبر ، حيث اتسعت أحوال المسلمين ، وارتفع الجهد والضيق عنهم . وأما ابن عباس فبعد فتح مكة قبل موت رسول الله ﷺ بعامين ونصف فقط ، فارتفع الإشكال جملة والحمد لله رب العالمين . وأما حديث عمر فإنهم قالوا : لو كان غسل الجمعة واجبا عند عمر وعثمان ومن حضر من الصحابة رضي الله عنهم لما تركه عثمان ولا أقر عمر وسائر الصحابة عثمان على تركه وقالوا : فدل هذا على أنه عندهم غير فرض . قال أبو محمد : هذا قول لا ندري كيف استطلقت به ألسنتهم لأنه كله قول بما ليس في الخبر منه شيء لا نص ولا دليل ، بل نصه ودليله بخلاف ما قالوه . أول ذلك أن يقال لهم : من لكم بأن عثمان لم يكن اغتسل في صدر يومه ذلك ؟ ومن لكم بأن عمر لم يأمره بالرجوع للغسل ؟ فإن قالوا : ومن لكم بأن عثمان كان اغتسل في صدر يومه ؟ ومن لكم بأن عمر أمره بالرجوع إلى الغسل قلنا : هبكم أنه لا دليل عندنا بهذا ، ولا دليل عندكم بخلافه . فمن جعل دعواكم في الخبر ، وتكهنكم ما ليس فيه ، وقفوكم ما لا علم لكم به ، أولى من مثل ذلك من غيركم ؟ وإنما الحق في هذا - إذ دعواكم ودعوانا ممكنة - أن يبقى الخبر لا حجة فيه لكم ولا عليكم ، ولا لنا ولا علينا ، هذا ما لا مخلص منه ، فكيف ومعنا الدليل على ما قلناه ؟ . وأما عثمان رضي الله عنه فإن عبد الله بن يوسف حدثنا قال : ثنا أحمد بن فتح حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو كريب محمد بن العلاء وإسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - كلاهما عن وكيع عن مسعر بن كدام عن جامع بن شداد قال : سمعت حمران بن أبان قال : كنت أضع لعثمان طهوره فما أتى عليه يوم إلا وهو يفيض عليه نطفة . فقد ثبت بأصح إسناد أن عثمان كان يغتسل كل يوم ، فيوم الجمعة يوم من الأيام بلا شك ، ولو لم يكن هذا الخبر عندنا ، لوجب أن لا يظن بمثله رضي الله عنه خلاف أمر رسول الله ﷺ بل لا يقطع عليه إلا بطاعته ، وإن لم يعين ذلك في خبر ، كما يقطع بأنه صلى الصبح في ذلك اليوم وسائر اللوازم له بلا شك وإن لم يرو لنا ذلك . وأما عمر رضي الله عنه ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم ، فهذا الخبر عنهم حجة لنا ظاهرة بلا شك لأن عمر قطع الخطبة منكرا على عثمان أن لم يصل الغسل بالرواح ، فلو لم يكن ذلك فرضا عنده وعندهم لما قطع له الخطبة ، وعمر قد حلف " والله ما هو بالوضوء " فلو لم يكن الغسل عنده فرضا لما كانت - يمينه صادقة والذي حصل من عمر بن الخطاب ومن الصحابة بلا شك فهو إنكار ترك الغسل ، والإعلان بأن رسول الله ﷺ كان يأمر بالغسل يوم الجمعة ، ولا يجوز أن نظن بأحد من الصحابة رضي الله عنهم أن يستجيز خلاف أمره عليه السلام ، مع قول الله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } فصح ذلك الخبر حجة لنا وإجماعا من الصحابة رضي الله عنهم إذ لم يكن فيهم آخر يقول لعمر : ليس ذلك عليه واجبا . قال أبو محمد : وبيقين ندري أن عثمان قد أجاب عمر في إنكاره عليه وتعظيمه أمر الغسل بأحد أجوبة لا بد من أحدها : إما أن يقول له قد كنت اغتسلت قبل خروجي إلى السوق ، وإما أن يقول له : بي عذر مانع من الغسل ، أو يقول له : أنسيت وها أنا ذا راجع فأغتسل ، فداره كانت على باب المسجد مشهورة إلى الآن أو يقول له : سأغتسل ، فإن الغسل لليوم لا للصلاة . فهذه أربعة أجوبة كلها موافقة لقولنا . أو يقول له : هذا أمر ندب وليس فرضا ، وهذا الجواب موافق لقول خصومنا . فليت شعري من الذي جعل لهم التعلق بجواب واحد من جملة خمسة أجوبة كلها ممكن ، وكلها ليس في الخبر شيء منها أصلا ؟ دون أن يحاسبوا أنفسهم بالأجوبة الأخر التي هي أدخل في الإمكان من الذي تعلقوا به ، لأنها كلها موافقة لأمر رسول الله ﷺ ولما خاطبه به عمر رضي الله عنه بحضرة الصحابة رضي الله عنهم . والذي تعلقوا هم به تكهن مخالف لأمر رسول الله ﷺ ولما أجمع عليه الصحابة . ثم لو صح لهم ما يدعونه من الباطل من أن عمر ومن بحضرته رأوا الأمر بالغسل ندبا ، وهذا لا يصح ، بل الصحيح خلافه بنص الخبر ، فقد أوردنا عن أبي هريرة وسعد وأبي سعيد وابن عباس القطع بإيجاب الغسل يوم الجمعة بعد موت عمر بدهر فصح وجود خلاف ما يدعونه بالدعوى الكاذبة إجماعا ، وإذا وجد التنازع فليس قول بعضهم أولى من قول بعض بل الواجب حينئذ الرد إلى سنة رسول الله ﷺ وسنته عليه السلام قد جاءت بإيجاب الغسل والسواك والطيب ، إلا أن يدعوا أن أبا هريرة وسعدا وأبا سعيد وابن مسعود وابن عباس خالفوا الإجماع ، فحسبهم بهذا ضلالا . ثم لو صح لهم أن عمر وعثمان قالا بأن الغسل يوم الجمعة ندب - ومعاذ الله من أن يصح هذا عنهما - فمن أين لهم تعظيم خلاف عمر وعثمان في هذا الباطل المتكهن ؟ ولم يعظموا على أنفسهم خلاف عمر وعثمان بحضرة الصحابة رضي الله عنهم في هذا الخبر نفسه ، في ترك عمر الخطبة ، وأخذه في الكلام مع عثمان ، ومجاوبة عثمان له بعد شروع عمر في الخطبة ، وهم لا يجيزون هذا . وكذلك الخبر الثابت من طريق مالك عن هشام بن عروة عن أبيه : أن عمر قرأ السجدة على المنبر يوم الجمعة فنزل وسجد وسجدوا معه ، ثم قرأها في الجمعة الأخرى فتهيئوا للسجود ، فقال لهم عمر : على رسلكم ، إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء . فقال المالكيون : ليس العمل على هذا ، وقال الحنفيون : السجود واجب . قال أبو محمد : أفيكون أعجب من هذا أو أدخل في الباطل منه أن يكون كلام عمر مع عثمان في الخطبة بما لا يجدونه فيه من إسقاط فرض غسل الجمعة حجة عندهم ، ثم لا يبالون مخالفة عمر في عمله وقوله بحضرة الصحابة رضي الله عنهم أن السجود ليس مكتوبا علينا عند قراءة السجدة ، وفي نزوله عن المنبر للسجود إذا قرأ السجدة ؟ أفيكون في العجب أكثر من هذا ؟ وإن هذا إلا تلاعب أقرب إلى الجد . وكم قصة خالفوا فيها عمر وعثمان تقليدا لآراء من لا يضمن له الصواب في كل أقواله ، كقول عثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم : أن لا غسل من الإيلاج إذا لم يكن هنالك إمناء ، وكقول عمر وابن مسعود : من أجنب ولم يجد الماء فلا يجوز له التيمم ولا الصلاة ، ولو بقي كذلك شهرا ، وكما روي عن عمر وعثمان بالقضاء بأولاد الغارة رقيقا لسيدها ، ومثل هذا كثير جدا . وقال بعضهم : هذا مما تعظم به البلوى ، فلو كان فرضا لما خفي على العلماء . قلنا نعم ما خفي ، قد عرفه جميع الصحابة رضي الله عنهم وقالوا به . وهؤلاء الحنفيون قد أوجبوا الوضوء من كل دم خارج من اللثات أو الجسد أو من القلس ، وهو أمر تعظم به البلوى ، ولا يعرفه غيرهم ، فلم يروا ذلك حجة على أنفسهم . والمالكيون يوجبون التدلك في الغسل فرضا ، والفور في الوضوء فرضا ، تبطل الطهارة والصلاة بتركه ، وهذا أمر تعظم به البلوى ، ولا يعرف ذلك غيرهم ، فلم يروا ذلك حجة على أنفسهم . والشافعيون يرون الوضوء من مس الدبر ، ومن مس الرجل ابنته وأمه ، وهو أمر تعظم به البلوى ، ولا يعرف ذلك غيرهم ، فلم يروا ذلك حجة على أنفسهم ، ثم يرونه حجة إذا خالف أهواءهم وتقليدهم ، ونعوذ بالله من مثل هذا العمل في الدين ومن أن يقول رسول الله ﷺ في شيء : إنه واجب على كل مسلم وعلى كل محتلم ، وإنه حق الله تعالى على كل مسلم محتلم . ثم نقول نحن : ليس هو واجبا ولا هو حق الله تعالى . هذا أمر تقشعر منه الجلود ، والحمد لله رب العالمين على عظيم نعمته .

============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مكتبات الكتاب الاسلامي

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أ...