مدونة استكمال مصنفات الإمامين ابن حزم والوكاني

الأحد، 20 مارس 2022

محلى ابن حزم - المجلد الأول/الصفحة السادسة والعشرون{ 179 الي 223 -}

تابع كتاب الطهارة 
باب الأشياء الموجبة غسل الجسد كله

179 - مسألة : وغسل يوم الجمعة إنما هو لليوم لا للصلاة ، فإن صلى الجمعة والعصر ثم اغتسل أجزأه ذلك ، وأول أوقات الغسل المذكور إثر طلوع الفجر من يوم الجمعة ، إلى أن يبقى من قرص الشمس مقدار ما يتم غسله قبل غروب آخره ، وأفضله أن يكون متصلا بالرواح إلى الجمعة ، وهو لازم للحائض والنفساء كلزومه لغيرهما . برهان ذلك ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ثنا شعيب هو ابن أبي حمزة - عن الزهري ، قال طاوس : قلت لابن عباس : ذكروا أن النبي ﷺ قال : { اغتسلوا يوم الجمعة وإن لم تكونوا جنبا وأصيبوا من الطيب } قال : أما الغسل فنعم ، وأما الطيب فلا أدري . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج حدثني محمد بن حاتم ثنا بهز ثنا وهيب هو ابن خالد - حدثنا عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال { حق الله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام ، يغسل رأسه وجسده } . حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي حدثنا محمد بن أحمد بن مفرج ثنا محمد بن أيوب الصموت ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ثنا يحيى بن حبيب بن عربي ثنا روح بن عبادة ثنا شعبة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن أبي هريرة رفعه قال { على كل مسلم في كل سبعة أيام غسل وهو يوم الجمعة } . وهكذا رويناه من طريق جابر والبراء مسندا ، فصح بهذا أنه لليوم لا للصلاة وروينا عن نافع عن ابن عمر : أنه كان يغتسل بعد طلوع الفجر يوم الجمعة فيجتزئ به من غسل الجمعة ، وعن شعبة - عن منصور بن المعتمر عن مجاهد قال : إذا اغتسل الرجل بعد طلوع الفجر أجزأه . وعن الحسن : إذا اغتسل يوم الجمعة بعد طلوع الفجر أجزأه للجمعة ، فإذن هو لليوم ، ففي أي وقت من اليوم اغتسل أجزأه ، وعن إبراهيم النخعي كذلك . فإن قال قائل : فإنكم قد رويتم من طريق شعبة عن الحكم عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله ﷺ : { إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل } . ورويتم من طريق الليث عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ : { إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل } وعن الليث عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه { عن رسول الله ﷺ أنه قال وهو قائم على المنبر من جاء منكم الجمعة فليغتسل } . قلنا نعم ، وهذه - آثار صحاح ، وكلها لا خلاف فيها لما قلنا . أما قوله عليه السلام { من جاء منكم الجمعة فليغتسل } فهو نص قولنا ، وإنما فيه أمر لمن جاء الجمعة بالغسل ، وليس فيه أي وقت يغتسل ، لا بنص ولا بدليل ، وإنما فيه بعض ما في الأحاديث الأخر لأن في هذا إيجاب الغسل على كل من جاء إلى الجمعة ، فليس فيه إسقاط الغسل عمن لا يأتي الجمعة ، وفي الأحاديث الأخر التي من طريق ابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وغيرهم إيجاب الغسل على كل مسلم وعلى كل محتلم ، فهي زائدة حكما على ما في حديث ابن عمر ، فالأخذ بها واجب . وأما قوله عليه السلام : { إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل } فكذلك أيضا سواء سواء ، وقد يريد الرجل أن يأتي الجمعة من أول النهار ، وليس في هذا الخبر ولا في غيره إلزامه أن يكون إتيانه الجمعة لا من أول النهار ، وليس في هذا الخبر ولا في غيره إلزامه أن يكون أتى متصلا بإرادته لإتيانها ، بل جائز أن يكون بينهما ساعات ، فليس في هذا اللفظ أيضا دليل ولا نص يوجب أن يكون الغسل متصلا بالرواح . وأما قوله عليه السلام : { إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل } فظاهر هذا اللفظ أن الغسل بعد الرواح ، كما قال تعالى : { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } ومع الرواح كما قال تعالى : { إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } أو قبل الرواح كما قال تعالى : { إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } فلما كان كل ذلك ممكنا ، ولم يكن في هذا اللفظ نص ولا دليل على وجوب اتصال الغسل بالرواح أصلا صح قولنا ، والحمد لله رب العالمين . وأيضا فإننا إذا حققنا مقتضى ألفاظ حديث ابن عمر كان ذلك دالا على قولنا لأنه إنما فيها { إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل } { أو أراد أحدكم أن يأتي إلى الجمعة فليغتسل } . { من جاء منكم الجمعة فليغتسل } وهذه ألفاظ ليس يفهم منها إلا أن من كان من أهل الرواح إلى الجمعة ، وممن يجيء إلى الجمعة ، ومن أهل الإرادة للإتيان إلى الجمعة فعليه الغسل ، ولا مزيد ، وليس في شيء منها وقت الغسل ، فصارت ألفاظ خبر ابن عمر موافقة لقولنا . وعهدنا بخصومنا يقولون : إن من روى حديثا فهو أعرف بتأويله ، وهذا ابن عمر راوي هذا الخبر قد روينا عنه أنه كان يغتسل يوم الجمعة إثر طلوع الفجر من يومها . وقال مالك والأوزاعي : لا يجزئ غسل يوم الجمعة إلا متصلا بالرواح ، إلا أن الأوزاعي قال : إن اغتسل قبل الفجر ونهض إلى الجمعة أجزأه . وقال مالك : إن بال أو أحدث بعد الغسل لم ينتقض غسله ويتوضأ فقط ، فإن أكل أو نام انتقض غسله . قال أبو محمد : وهذا عجب جدا . وقال أبو حنيفة والليث وسفيان وعبد العزيز بن أبي سلمة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود كقولنا ، وقال طاوس والزهري وقتادة ويحيى بن أبي كثير : من اغتسل للجمعة ثم أحدث فيستحب أن يعيد غسله . قال علي : ما نعلم مثل قول مالك عن أحد من الصحابة التابعين ، ولا له حجة من قرآن ولا سنة ولا قياس ولا قول صاحب ، وكثيرا ما يقولون في مثل هذا بتشنيع خلاف قول الصاحب الذي لا يعرف له من الصحابة مخالف ، وهذا مكان خالفوا فيه ابن عمر ، وما يعلم له من الصحابة في ذلك مخالف . فإن قالوا : من قال قبلكم إن الغسل لليوم ؟ قلنا : كل من ذكرنا عنه في ذلك قولا من الصحابة رضي الله عنهم ، فهو ظاهر قولهم ، وهو قول أبي يوسف نصا وغيره ، وأعجب شيء أن يكونوا مبيحين للغسل يوم الجمعة في كل وقت ، ومبيحين لتركه في اليوم كله ، ثم ينكرون على من قال بالغسل في وقت هم يبيحونه فيه . وبالله تعالى التوفيق

180 - مسألة : وغسل كل ميت من المسلمين فرض ولا بد ، فإن دفن بغير غسل أخرج ولا بد ، ما دام يمكن أن يوجد منه شيء ويغسل إلا الشهيد الذي قتله المشركون في المعركة فمات فيها ، فإنه لا يلزم غسله . برهان ذلك ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا إسماعيل بن عبد الله هو ابن أبي أويس - حدثني مالك عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أم عطية الأنصارية : { أن رسول الله ﷺ دخل عليهن حين توفيت ابنته فقال : اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك } فأمر عليه السلام بالغسل ثلاثا ، وأمره فرض وخير في أكثر على الوتر ، وأما الشهيد فمذكور في الجنائز إن شاء الله عز وجل .


181 - مسألة : ومن غسل ميتا متوليا ذلك بنفسه - بصب أو عرك - فعليه أن يغتسل فرضا . برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا أحمد بن صالح ثنا ابن أبي فديك حدثني ابن أبي ذئب عن القاسم بن عباس عن عمرو بن عمير عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { من غسل الميت فليغتسل ، ومن حمله فليتوضأ } قال أبو داود : وحدثنا حامد بن يحيى عن سفيان بن عيينة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن إسحاق مولى زائدة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ بمعناه . وحدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة { عن النبي ﷺ قال من غسل ميتا فليغتسل ومن حملها فليتوضأ } قال أبو محمد : يعني من حمل الجنازة . وممن قال بهذا علي بن أبي طالب وغيره ، روينا ذلك من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن هشام الدستوائي عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن علي قال : من غسل ميتا فليغتسل ، ومن طريق وكيع عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي عن مكحول أن حذيفة سأله رجل مات أبوه ، فقال حذيفة : اغسله فإذا فرغت فاغتسل وعن أبي هريرة - من غسل ميتا فليغتسل ، ومن طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال كان أصحاب علي يغتسلون منه . يعني من غسل الميت . قال علي : وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وداود : لا يجب الغسل من غسل الميت ، واحتج أصحابنا في ذلك بالأثر الذي فيه { إنما الماء من الماء } . قال علي : وهذا لا حجة فيه لأن الأمر بالغسل من غسل الميت ومن الإيلاج وإن لم يكن إنزال - هما شرعان زائدان على خبر { الماء من الماء } والزيادة واردة من عند الله تعالى على لسان رسوله ﷺ فرض الأخذ بها . واحتج غيرهم في ذلك بأثر رويناه من طريق ابن وهب قال : أخبرني من أثق به يرفع الحديث إلى رسول الله ﷺ قال : { لا تتنجسوا من موتاكم } وكره ذلك لهم . وعن رجال من أهل العلم عن سعيد وجابر وابن مسعود وابن عباس وابن عمر أنه لا غسل من غسل الميت ، وبحديث رويناه من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن أسماء بنت عميس غسلت أبا بكر الصديق ، فلما فرغت قالت لمن حضرها من المهاجرين إني صائمة وإن هذا يوم شديد البرد فهل علي من غسل ؟ قالوا : لا ، وعن إبراهيم النخعي : كان ابن مسعود وأصحابه لا يغتسلون من غسل الميت ، وبحديث رويناه من طريق شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة العدوية : سئلت عائشة رضي الله عنها : أيغتسل من غسل المتوفين ؟ قالت لا . قال أبو محمد : وكل هذا لا حجة لهم فيه ، أما الخبر عن رسول الله ﷺ ففي غاية السقوط لأن ابن وهب لم يسم من أخبره ، والمسافة بين ابن وهب وبين رسول الله ﷺ بعيدة جدا ، ثم لو صح بنقل الكافة ما كان لهم فيه متعلق ؛ لأنه ليس فيه إلا أن لا نتنجس من موتانا فقط ، وهذا نص قولنا ، ومعاذ الله أن نكون نتنجس من ميت مسلم ، أو أن يكون المسلم نجسا ، بل هو طاهر حيا وميتا ، وليس الغسل الواجب من غسل الميت لنجاسته أصلا ، لكن كغسل الميت الواجب عندنا وعندهم ، كما غسل رسول الله ﷺ وهو أطهر ولد آدم حيا وميتا ، وغسل أصحابه رضي الله عنهم إذ ماتوا ، وهم الطاهرون الطيبون أحياء وأمواتا ، وكغسل الجمعة ، ولا نجاسة هنالك ، فبطل تمويههم بهذا الخبر . وأما حديث أسماء فإن عبد الله بن أبي بكر لم يكن ولد يوم مات أبو بكر الصديق نعم ولا أبوه أيضا ، ثم لو صح كل ما ذكروا عن الصحابة لكان قد عارضه ما رويناه من خلاف ذلك عن علي وحذيفة وأبي هريرة ، وإذا وقع التنازع وجب الرد إلى ما افترض الله تعالى الرد إليه ، من كلامه وكلام رسول الله ﷺ والسنة قد ذكرناها بالإسناد الثابت بإيجاب الغسل من غسل الميت ، وكم قصة خالفوا فيها الجمهور من الصحابة لا يعرف منهم مخالف ، وقد أفردنا لذلك كتابا ضخما ، والعجب من احتجاجهم بقول عائشة وهم قد خالفوها في إيجاب الوضوء مما مست النار وخالفوا علي بن أبي طالب وابن عباس وابن الزبير في إيجاب الغسل على المستحاضة لكل صلاة أو للجمع بين صلاتين ، وعائشة في قولها : تغتسل كل يوم عند صلاة الظهر ، ولا مخالف يعرف لهؤلاء من الصحابة رضي الله عنهم ، ومثل هذا كثير جدا


182 - مسألة : ومن صب على مغتسل ونوى ذلك المغتسل الغسل أجزأه . برهان ذلك أن الغسل هو إمساس الماء البشرة بالقصد إلى تأدية ما افترض الله تعالى من ذلك ، فإذا نوى ذلك لمرء فقد فعل الغسل الذي أمر به ، ولم يأت نص ولا إجماع بأن يتولى هو ذلك بيده ، وبالله تعالى التوفيق


183 - مسألة : وانقطاع دم الحيض في مدة الحيض - ومن جملته دم النفاس - يوجب الغسل لجميع الجسد والرأس وهذا إجماع متيقن ، من خالفه كفر عن نصوص ثابتة ، وبالله تعالى نتأيد . وقد ذكرنا أن الحامل لا تحيض ، ودم النفاس هو الخارج إثر وضع المرأة آخر ولد في بطنها ؛ لأنه المتفق عليه ، وأما الخارج قبل ذلك فليست نفساء ، وليس دم نفاس ، ولا نص فيه ولا إجماع ، وسنذكر في الكلام في الحيض مدة الحيض ومدة النفاس إن شاء الله تعالى . /


184 - مسألة : والنفساء والحائض شيء واحد ، فأيتهما أرادت الحج أو العمرة ففرض عليها أن تغتسل ثم تهل . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج حدثني هناد بن السري وزهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة ، كلهم عن عبدة بن سليمان عن عبيد الله بن عمر عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين قالت { نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر الصديق بالشجرة ، فأمر رسول الله ﷺ أبا بكر أن تغتسل وتهل } . وجاء في الخبر الصريح : { نفست أسماء بنت عميس بالشجرة بمحمد بن أبي بكر فذكر ذلك لرسول الله ﷺ } { وحاضت عائشة وأم سلمة أما المؤمنين رضي الله عنهما ، فقال رسول الله ﷺ لكل واحدة منهما : أنفست ؟ قالت نعم } . فصح أن الحيض يسمى نفاسا ، فصح أنهما شيء واحد وحكم واحد ولا فرق . وأمر عليه السلام التي ترى الدم الأسود بترك الصلاة ، وحكم بأنه حيض وأنها حائض ، وأن الدم الآخر ليس حيضا ولا هي به حائض ، وأخبر أن الحيض شيء كتبه الله تعالى على بنات آدم ، فكل دم أسود ظهر من فرج المرأة من مكان خروج الولد فهو حيض ، إلا ما ورد النص بإخراجه من هذه الجملة وهي الحامل والتي لا يتميز دمها ولا ينقطع ، وبالله تعالى التوفيق .

185 - مسألة : والمرأة تهل بعمرة ثم تحيض ففرض عليها أن تغتسل ثم تعمل في حجها ، ما سنذكره في الحج إن شاء الله تعالى . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا قتيبة بن سعيد ثنا الليث هو ابن سعد - عن أبي الزبير عن جابر قال : { أقبلنا مع رسول الله ﷺ مهلين بحج مفردا وأقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كنا بسرف عركت } ثم ذكر الحديث وفيه { أن رسول الله ﷺ دخل عليها فقالت : قد حضت وحل الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت ، والناس يذهبون إلى الحج ، فقال لها رسول الله ﷺ : إن هذا كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج ففعلت } .

186 - مسألة : والمتصلة الدم الأسود الذي لا يتميز ولا تعرف أيامها فإن الغسل فرض عليها إن شاءت لكل صلاة فرض أو تطوع ، وإن شاءت إذا كان قرب آخر وقت الظهر اغتسلت وتوضأت وصلت الظهر بقدر ما تسلم منها بعد دخول وقت العصر ، ثم تتوضأ وتصلي العصر ، ثم إذا كان قبل غروب الشفق اغتسلت وتوضأت وصلت المغرب بقدر ما تفرغ منها بعد غروب الشفق ، ثم تتوضأ وتصلي العتمة ، ثم تغتسل وتتوضأ لصلاة الفجر ، وإن شاءت حينئذ أن تتنفل عند كل صلاة فرض وتتوضأ بعد الفريضة أو قبلها فلها ذلك ، وسنذكر البرهان على ذلك في كلامنا في الحيض إن شاء الله تعالى .

187 - مسألة : ولا يوجب الغسل شيء غير ما ذكرنا أصلا لأنه لم يأت في غير ذلك أثر يصح ألبتة ، وقد جاء أثر في الغسل من موارة الكافر ، فيه ناجية بن كعب وهو مجهول ، والشرائع لا تؤخذ إلا من كلام الله أو من كلام رسوله ﷺ . وممن لا يرى الغسل من الإيلاج في حياء البهيمة إن لم يكن إنزال أبي حنيفة والشافعي . وقال مالك في الوطء في الدبر : لا غسل فيه إن لم يكن إنزال ، فمن قاس ذلك على الوطء في الفرج قيل له : بل هو معصية ، فقياسها على سائر المعاصي من القتل وترك الصلاة أولى ، ولا غسل في شيء من ذلك بإجماع ، فكيف والقياس كله باطل .

===







كتاب الطهارة


صفة الغسل الواجب في كل ما ذكرنا

188 - مسألة : أما غسل الجنابة فيختار - دون أن يجب ذلك فرضا - أن يبدأ بغسل فرجه إن كان من جماع ، وأن يمسح بيده الجدار أو في الأرض بعد غسله ثم يمضمض ويستنشق ويستنثر ثلاثا ثلاثا ثم يغمس يده في الإناء بعد أن يغسلها ثلاثا فرضا ولا بد ، إن قام من نوم وإلا فلا ، فيخلل أصول شعره حتى يوقن أنه قد بل الجلد ، ثم يفيض الماء على رأسه ثلاثا بيده وأن يبدأ بميامنه ، وأما الفرض الذي لا بد منه فأن يغسل يديه ثلاثا قبل أن يدخلها في الماء إن كان قام من نوم وإلا فلا ، ويغسل فرجه إن كان من جماع ، ثم يفيض الماء على رأسه ثم جسده بعد رأسه ولا بد إفاضة يوقن أنه قد وصل الماء إلى بشرة رأسه وجميع شعره وجميع جسده . برهان ذلك قوله - عز وجل - : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فكيفما أتى بالطهور فقد أدى ما افترض الله تعالى عليه . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا مسدد ، ثنا يحيى بن سعيد هو القطان ، ثنا عوف هو ابن أبي جميلة ، حدثنا أبو رجاء عن عمران هو ابن حصين قال { كنا مع رسول الله ﷺ في سفر ، فذكر الحديث وفيه : أن رسول الله ﷺ أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء وقال : اذهب فأفرغه عليك } . وإنما استحببنا ما ذكرنا قبل لما رويناه بالسند المذكور إلى البخاري ثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن كريب عن ابن عباس عن ميمونة { أن النبي ﷺ اغتسل من الجنابة فغسل فرجه بيده ثم دلك بها الحائط ثم غسلها ثم توضأ وضوءه للصلاة ، فلما فرغ من غسله غسل رجليه } . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا علي بن حجر السعدي ثنا عيسى بن يونس ثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن كريب عن ابن عباس حدثتني خالتي ميمونة قالت : { أدنيت لرسول الله ﷺ غسله من الجنابة فغسل كفيه مرتين أو ثلاثا ، ثم أدخل يده في الإناء ، ثم أفرغ على فرجه وغسله بشماله ، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكا شديدا ، ثم توضأ وضوءه للصلاة ، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه ، ثم غسل سائر جسده ثم تنحى عن مقامه فغسل رجليه ، ثم أتيته بالمنديل فرده } وقد ذكرنا قوله عليه السلام لأم سلمة : { إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثم تفيضي الماء عليك فإذا بك قد طهرت } . فله أن يقدم غسل فرجه وأعضاء وضوئه قبل رأسه فقط إن شاء ، فإن انغمس في ماء جار فعليه أن ينوي تقديم رأسه على جسده ، ولا يلزمه ذلك في سائر الأغسال الواجبة إذ لم يأت بذلك نص ، إلا أن يصح أن هكذا علمه رسول الله ﷺ في الحيض فنقف عنده وإلا فلا ، ولم يأت ذلك في الحيض إلا من طريق إبراهيم بن المهاجر وهو ضعيف ، ورويناه من طريق عبد بن حميد عن عبد الرزاق ، وليس ذكر الحيض محفوظا عن عبد الرزاق أصلا فإن صح ذلك في الحيض قلنا به ، ولم نستجز مخالفته . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا حفص بن عمر ثنا شعبة أخبرني أشعث بن سليم قال : سمعت أبي عن مسروق عن عائشة قالت : { كان رسول الله ﷺ يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله } .


189 - مسألة : - وليس عليه أن يتدلك : وهو قول سفيان الثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وداود وأبي حنيفة والشافعي ، وقال مالك بوجوب التدلك . قال أبو محمد : برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم وعمرو الناقد وابن أبي عمر ، كلهم عن سفيان بن عيينة ، عن أيوب بن موسى عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت : { قلت يا رسول الله : إني امرأة أشد ضفر رأسي ، أفأنقضه لغسل الجنابة ؟ فقال : لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضي عليك فتطهرين } . وبهذا جاءت الآثار كلها في صفة غسله عليه السلام ، لا ذكر للتدلك في شيء من ذلك . وروينا عن عمر بن الخطاب أنه قال في الغسل من الجنابة : فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اغسل رأسك ثلاثا ثم أفض الماء على جلدك . وعن الشعبي والنخعي والحسن في الجنب ينغمس في الماء إنه يجزيه من الغسل . واحتج من رأى التدلك فرضا بأن قال : قد صح الإجماع على أن الغسل إذا تدلك فيه فإنه قد تم ، واختلف فيه إذا لم يتدلك ، فالواجب أن لا يجزئ زوال الجنابة إلا بالإجماع . وذكروا حديثا فيه أن رسول الله { ﷺ علم عائشة الغسل من الجنابة فقال لها عليه السلام : يا عائشة اغسلي يديك ثم قال لها تمضمضي ثم استنشقي وانتثري ثم اغسلي وجهك ثم قال : اغسلي يديك إلى المرفقين ثم قال : أفرغي على رأسك ثم قال : أفرغي على جلدك ثم أمرها تدلك وتتبع بيدها كل شيء لم يمسه الماء من جسدها ثم قال : يا عائشة أفرغي على رأسك الذي بقي ثم ادلكي جلدك وتتبعي } . وبحديث آخر فيه أنه عليه السلام قال { إن تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشر } . وبحديث آخر فيه : { خلل أصول الشعر وأنق البشر } وبحديث آخر فيه : { أن امرأة سألته عليه السلام عن غسل الجنابة . فقال عليه السلام : تأخذ إحداكن ماءها فتطهر فتحسن الطهور أو تبلغ في الطهور ثم تصب الماء على رأسها فتدلك حتى يبلغ شئون رأسها ثم تفيض الماء على رأسها } وقال بعضهم : قسنا ذلك على غسل النجاسة لا يجزئ إلا بعرك وقال بعضهم : قوله تعالى : { فاطهروا } دليل على المبالغة . قال أبو محمد : هذا كل ما شغبوا به ، وكله إيهام وباطل . أما قولهم : إن الغسل إذا كان بتدلك فقد أجمع على تمامه ولم يجمع على تمامه دون تدلك فقول فاسد ، أول ذلك أنه ليس ذلك مما يجب أن يراعى في الدين لأن الله تعالى إنما أمرنا باتباع الإجماع فيما صح وجوبه من طريق الإجماع أو صح تحريمه من طريق الإجماع أو صح تحليله من طريق الإجماع ، فهذا هو الحق : وأما العمل الذي ذكروا فإنما هو إيجاب اتباع الاختلاف لا وجوب اتباع الإجماع . وهذا باطل لأن التدلك لم يتفق على وجوبه ولا جاء به نص . وفي العمل الذي ذكروا إيجاب القول بما لا نص فيه ولا إجماع ، وهذا باطل ، ثم هم أول من نقض هذا الأصل ، وإن اتبعوه بطل عليهم أكثر من تسعة أعشار مذاهبهم ، أول ذلك أنه يقال لهم إن اغتسل ولم يمضمض ولا استنشق فأبو حنيفة يقول لا غسل له ولا تحل له الصلاة بهذا الاغتسال ، فيقال لهم : فيلزمكم إيجاب المضمضة والاستنشاق في الغسل فرضا لأنهما إن أتى بهما المغتسل فقد صح الإجماع على أنه قد اغتسل ، وإن لم يأت بهما فلم يصح الإجماع على أنه قد اغتسل ، فالواجب أن لا يزول حكم الجنابة إلا بالإجماع . وهكذا فيمن اغتسل بماء من بئر قد بالت فيه شاة فلم يظهر فيها للبول أثر ، وهكذا فيمن نكس وضوءه ، وهذا أكثر من أن يحصر ، بل هو داخل في أكثر مسائلهم ، وما يكاد يخلص لهم ولغيرهم مسألة من هذا الإلزام ، ويكفي من هذا أنه حكم فاسد لم يوجبه قرآن ولا سنة لأن الله تعالى لم يأمرنا بالرد عند التنازع إلا إلى القرآن والسنة فقط ، وحكم التدلك مكان تنازع فلا يراعى فيه الإجماع أصلا . وأما خبر عائشة رضي الله عنها فساقط لأنه من طريق عكرمة بن عمار عن عبد الله بن عبيد بن عمير أن عائشة ، وعكرمة ساقط ، وقد وجدنا عنه حديثا موضوعا في نكاح رسول الله ﷺ أم حبيبة بعد فتح مكة ، ثم هو مرسل ؛ لأن عبد الله بن عبيد بن عمير لم يدرك عائشة ، وأبعد ذكره رواية ابن عمر أيام ابن الزبير ، فسقط هذا الخبر . ثم لو صح لكان حجة عليهم ، لأنه جاء فيه الأمر بالتدلك ، كما جاء فيه بالمضمضة والاستنثار والاستنشاق ولا فرق ، وهم لا يرون شيئا من ذلك فرضا ، وأبو حنيفة يرى كل ذلك فرضا ، ولا يرى التدلك فرضا ، فكلهم إن احتج بهذا الخبر فقد خالفوا حجتهم وأسقطوها ، وعصوا ما أقروا أنه لا يحل عصيانه ، وليس لإحدى الطائفتين من أن تحمل ما وافقها على الفرض وما خالفها على الندب ، إلا مثل ما للأخرى من ذلك ، وأما نحن فإنه لو صح لقلنا بكل ما فيه ، فإذ لم يصح فكله متروك . وأما الخبر { إن تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشر } فإنه من رواية الحارس بن وجيه ، وهو ضعيف ، ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة ، لأنه ليس فيه إلا غسل الشعر وإنقاء البشر ، وهذا صحيح ولا دليل على أن ذلك لا يكون إلا بالتدلك ، بل هو تام دون تدلك . وأما الخبر الذي فيه { خلل أصول الشعر وأنق البشر } فهو من رواية يحيى بن عنبسة عن حميد عن أنس ، ويحيى بن عنبسة مشهور برواية الكذب ، فسقط ، ثم لو صح لما كان فيه إلا إيجاب التخليل فقط لا التدلك وهذا خلاف قولهم ، لأنهم لا يختلفون فيمن صب الماء على رأسه ومعك بيديه دون أن يخلله أن يجزيه ، فسقط تعلقهم بهذا الخبر ولله الحمد . وأما حديث { تأخذ إحداكن ماءها } فإنه من طريق إبراهيم بن مهاجر عن صفية عن عائشة ، وإبراهيم هذا ضعيف ، ثم لو صح لما كان إلا عليهم لا لهم ، لأنه ليس فيه إلا دلك شئون رأسها فقط ، وهذا خلاف قولهم ، فسقط كل ما تعلقوا به من الأخبار . وأما قولهم قسنا ذلك على غسل النجاسة ، فالقياس كله باطل ، ثم لو صح لكان هذا منه عين الباطل ؛ لأن حكم النجاسة يختلف ، فمنها ما يزال بثلاثة أحجار دون ماء . ومنها ما يزال بصب الماء فقط دون عرك . ومنها ما لا بد من غسله وإزالة عينه فما الذي جعل غسل الجنابة أن يقاس على بعض ذلك دون بعض ؟ فكيف وهو فاسد على أصول أصحاب القياس ، لأن النجاسة عين تجب إزالتها ، وليس في جلد الجنب عين تجب إزالتها ، فظهر فساد قولهم جملة ، وبالله تعالى التوفيق . وأيضا فإن عين النجاسة إذا زال بصب الماء فإنه لا يحتاج فيها إلى عرك ولا دلك ، بل يجزئ الصب ، فهلا قاسوا غسل الجنابة على هذا النوع من إزالة النجاسة فهو أشبه به ؟ إذ كلاهما لا عين هناك تزال . وبالله تعالى التوفيق . وأما قولهم : إن قوله تعالى : ( فاطهروا ) دليل على المبالغة ، فتخليط لا يعقل ، ولا ندري في أي شريعة وجدوا هذا ، أو في أي لغة ؟ وقد قال تعالى في التيمم { ولكن يريد ليطهركم } وهو مسح خفيف بإجماع منا ومنهم ، فسقط كل ما موهوا به ، ووضح أن التدلك لا معنى له في الغسل ، وبالله تعالى التوفيق . وما نعلم لهم سلفا من الصحابة رضي الله عنهم في القول بذلك . 

190 - مسألة : ولا معنى لتخليل اللحية في الغسل ولا في الوضوء ، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وداود . والحجة في ذلك ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا محمد بن المثنى ثنا يحيى هو ابن سعيد القطان - عن سفيان الثوري ثنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال { ألا أخبركم بوضوء رسول الله ﷺ ؟ فتوضأ مرة مرة } . قال علي : وغسل الوجه مرة لا يمكن معه بلوغ الماء إلى أصول الشعر ، ولا يتم ذلك إلا بترداد الغسل والعرك ، وقال - عز وجل - : { فاغسلوا وجوهكم } والوجه هو ما واجه ما قابله بظاهره ، وليس الباطن وجها وذهب إلى إيجاب التخليل قوم ، كما روينا عن مصعب بن سعد أن عمر بن الخطاب رأى قوما يتوضئون ، فقال خللوا وعن ابنه عبد الله أيضا مثل ذلك ، وعن ابن جريج عن عطاء أنه قال : اغسل أصول شعر اللحية ، قال ابن جريج : قلت لعطاء أيحق علي أن أبل أصل كل شعرة في الوجه ؟ قال نعم ، قال ابن جريج : وأن أزيد مع اللحية الشاربين والحاجبين ؟ قال : نعم ، وعن ابن سابط وعبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير إيجاب تخليل اللحية في الوضوء والغسل ، وروينا عن غير هؤلاء فعل التخليل دون أن يأمروا بذلك ، فروينا عن عثمان بن عفان أنه توضأ فخلل لحيته وعن عمار بن ياسر مثل ذلك ، وعن عبد الله بن أبي أوفى وعن أبي الدرداء وعلي بن أبي طالب مثل ذلك ، وإلى هذا كان يذهب أحمد بن حنبل ، وهو قول أبي البختري وأبي ميسرة وابن سيرين والحسن وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود وعبد الرزاق وغيره . قال أبو محمد : واحتج من رأى إيجاب ذلك بحديث رويناه عن أنس { أن رسول الله ﷺ كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته وقال : بهذا أمرني ربي } . وبحديث آخر عن أنس عن رسول الله ﷺ قال : { أتاني جبريل فقال : إن ربك يأمرك بغسل الفنيك والفنيك الذقن خلل لحيتك عند الطهور } وعن ابن عباس { كان رسول الله ﷺ يتطهر ويخلل لحيته ، ويقول : هكذا أمرني ربي ومن طريق وهب هكذا أمرني ربي } . قال أبو محمد : وكل هذا لا يصح ، ولو صح لقلنا به : أما حديث أنس فإنه من طريق الوليد بن زوران وهو مجهول والطريق الآخر فيها عمر بن ذؤيب وهو مجهول والطريق الثالثة من طريق مقاتل بن سليمان وهو مغموز بالكذب ، والطريق الرابعة فيها الهيثم بن جماز وهو ضعيف ، عن يزيد الرقاشي وهو لا شيء ، فسقطت كلها . ثم نظرنا في حديث ابن عباس فوجدناه من طريق نافع مولى يوسف وهو ضعيف منكر الحديث ، والأخرى فيها مجهولون لا يعرفون ، والذي من طريق ابن وهب لم يسم فيه ممن بين ابن وهب ورسول الله ﷺ أحد ، فسقط كل ذلك . وأما من استحب التخليل فاحتجوا بحديث من طريق عثمان بن عفان { أن رسول الله ﷺ كان يخلل لحيته } وعن عمار بن ياسر مثل ذلك . وعن عائشة مثل ذلك . وعن عبد الله بن أوفى مثل ذلك . وعن الحسن مثل ذلك . وعن أبي أيوب مثل ذلك . وعن أنس مثل ذلك . وعن أم سلمة مثل ذلك ، وعن جابر مثل ذلك وعن عمرو بن الحارث مثل ذلك . قال أبو محمد : وهذا كله لا يصح منه شيء : أما حديث عثمان فمن طريق إسرائيل وليس بالقوي ، عن عامر بن شقيق ، وليس مشهورا بقوة النقل . وأما حديث عمار فمن طريق حسان بن بلال المزني وهو مجهول ، وأيضا فلا يعرف له لقاء لعمار وأما حديث عائشة فإنه من طريق رجل مجهول لا يعرف من هو ؟ شعبة يسميه عمرو بن أبي وهب . وأمية بن خالد يسميه عمران بن أبي وهب . وأما حديث ابن أبي أوفى فهو من طريق أبي الورقاء فائد بن عبد الرحمن العطار وهو ضعيف أسقطه أحمد ويحيى والبخاري وغيرهم . وأما حديث أبي أيوب فمن طريق واصل بن السائب وهو ضعيف ، وأبو أيوب المذكور فيه ليس هو أبا أيوب الأنصاري صاحب النبي ﷺ قاله ابن معين . وأما حديث أنس فهو من طريق أيوب بن عبد الله وهو مجهول . وأما حديث أم سلمة فهو من طريق خالد بن إلياس المديني ، من ولد أبي الجهم بن حذيفة العدوي وهو ساقط منكر الحديث ، وليس هو خالد بن إلياس الذي يروي عنه شعبة ، ذا بصري ثقة . وأما حديث جابر فهو من طريق أصرم بن غياث ، وهو ساقط ألبتة لا يحتج به . وأما حديث الحسن وعمرو بن الحارث فمرسلان ، فسقط كل ما في هذا الباب ولقد كان يلزم من يحتج بحديث معاذ " أجتهد رأيي " ويجعله أصلا في الدين وبأحاديث الوضوء بالنبيذ وبالوضوء من القهقهة في الصلاة ، وبحديث بيع اللحم بالحيوان ، ويدعي فيها الظهور والتواتر - أن يحتج بهذه الأخبار فهي أشد ظهورا وأكثر تواترا - من تلك ، ولكن القوم إنما همهم نصر ما هم فيه في الوقت فقط . واحتج أيضا من رأى التخليل بأن قالوا : وجدنا الوجه يلزم غسله بلا خلاف قبل نبات اللحية ، فلما نبتت ادعى قوم سقوط ذلك وثبت عليه آخرون ، فواجب أن لا يسقط ما اتفقنا عليه إلا بنص آخر أو إجماع قال أبو محمد : وهذا حق ، وقد سقط ذلك بالنص ؛ لأنه إنما يلزم غسله ما دام يسمى وجها ، فلما خفي بنبات الشعر سقط عنه اسم الوجه ، وانتقل هذا الاسم إلى ما ظهر على الوجه من الشعر ، وإذ سقط اسمه سقط حكمه ، وبالله تعالى التوفيق .


191 - مسألة : وليس على المرأة أن تخلل شعر ناصيتها أو ضفائرها في غسل الجنابة فقط ، لما ذكرناه قبل هذا ببابين في باب التدلك وهو قول الحاضرين من المخالفين لنا .


192 - مسألة : ويلزم المرأة حل ضفائرها وناصيتها في غسل الحيض وغسل الجمعة والغسل من غسل الميت ومن النفاس . لما حدثناه يونس بن عبد الله بن مغيث ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا أحمد بن خالد ثنا محمد بن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي ﷺ قال لها في الحيض { انقضي رأسك واغتسلي } . قال علي : والأصل في الغسل الاستيعاب لجميع الشعر ، وإيصال الماء إلى البشرة بيقين ، بخلاف المسح ، فلا يسقط ذلك إلا حيث أسقطه النص ، وليس ذلك إلا في الجنابة فقط ، وقد صح الإجماع بأن غسل النفاس كغسل الحيض . فإن قيل : فإن عبد الله بن يوسف حدثكم قال : ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج حدثنا عبد بن حميد عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أيوب بن موسى عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن رافع عن أم سلمة أم المؤمنين قالت { يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للحيضة والجنابة ؟ قال : لا } . قال علي : قوله ههنا راجع إلى الجنابة لا غير ، وأما النقض في الحيض فالنص قد ورد به ، ولو كان كذلك لكان الأخذ به واجب إلا أن حديث عائشة رضي الله عنها نسخ ذلك بقول النبي ﷺ لها في غسل الحيض { انقضي رأسك واغتسلي } فوجب الأخذ بهذا الحديث . قال علي : قلنا نعم ، إلا أن حديث هشام بن عروة عن عائشة الوارد بنقض ضفرها في غسل الحيضة - هو زائد حكما ومثبت شرعا على حديث أم سلمة ، والزيادة لا يجوز تركها . قال أبو محمد : وقد روينا حديثا ساقطا عن عبد الملك بن حبيب عن عبد الله بن عبد الحكم عن ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن رسول الله ﷺ في المرأة تغتسل من حيضة أو جنابة { لا تنقض شعرها } وهذا حديث لو لم يكن فيه إلا ابن لهيعة لكفى سقوطا ، فكيف وفيه عبد الملك بن حبيب وحسبك به ، ثم لم يقل فيه أبو الزبير " حدثنا " وهو مدلس في جابر ما لم يقله . فإن قيل : قسنا غسل الحيض على غسل الجنابة ، قلنا القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ؛ لأن الأصل يقين إيصال الماء إلى جميع الشعر ، وهم يقولون : إن ما خرج عن أصله لم يقس عليه ، وأكثرهم يقول : لا يؤخذ به كما فعلوا في حديث المصراة ، وخبر جعل الآبق ، وغير ذلك . فإن قيل : فإن عائشة قد أنكرت نقض الضفائر ، كما حدثكم عبد الله بن يوسف قال ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى ثنا إسماعيل ابن علية عن أيوب السختياني عن أبي الزبير عن عبيد بن عمير قال { بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو بن العاص يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن فقالت : يا عجبا لابن عمرو هذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن . أولا يأمرهن أن يحلقن رءوسهن ؟ لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله ﷺ من إناء واحد ، وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات } . قال أبو محمد : هذا لا حجة علينا فيه لوجوه : أحدها أن عائشة رضي الله عنها لم تعن بهذا إلا غسل الجنابة فقط وهكذا نقول ، وبيان ذلك إحالتها في آخر الحديث على غسلها مع رسول الله ﷺ من إناء واحد ، وهذا إنما هو بلا شك للجنابة لا للحيض ، والثاني أنه لو صح فيه أنها أرادت الحيض لما كان علينا فيه حجة لأننا لم نؤمر بقبول رأيها ، إنما أمرنا بقبول روايتها ، فهذا هو الفرض اللازم ، والثالث أنه قد خالفها عبد الله بن عمرو ، وهو صاحب ، وإذا وقع التنازع ، وجب الرد إلى القرآن والسنة ، لا إلى قول أحد المتنازعين دون الآخر ، وفي السنة ما ذكرنا ، والحمد لله رب العالمين .


193 - مسألة : فلو انغمس من عليه غسل واجب - أي غسل كان - في ماء جار أجزأه إذا نوى به ذلك الغسل ، وكذلك لو وقف تحت ميزاب ونوى به ذلك الغسل أجزأه ، إذا عم جميع جسده ، لما قد ذكرنا من أن التدلك لا معنى له ، وهو قد تطهر واغتسل كما أمر ، وهو قول أبي حنيفة وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وداود وغيرهم .

=======




كتاب الطهارة


صفة الغسل الواجب في كل ما ذكرنا


194 - مسألة : فلو انغمس من عليه غسل واجب في ماء راكد ، ونوى الغسل أجزأه من الحيض ومن النفاس ومن غسل الجمعة ومن الغسل من غسل الميت ولم يجزه للجنابة ، فإن كان جنبا ونوى بانغماسه في الماء الراكد غسلا من هذه الأغسال ولم ينو غسل الجنابة أو نواه ، لم يجزه أصلا لا للجنابة ولا لسائر الأغسال ، والماء في كل ذلك طاهر بحسبه ، قل أو كثر ، مطهر له إذا تناوله ، ولغيره على كل حال ، وسواء في كل ما ذكرنا كان ماء قليلا في مطهرة أو جب أو بئر ، أو كان غديرا راكدا فراسخ في فراسخ ، كل ذلك سواء . برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو الطاهر وهارون بن سعيد الأيلي عن ابن وهب ثنا عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله ﷺ : { لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب } فقيل : كيف يفعل يا أبا هريرة ؟ قال يتناوله تناولا " . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا مسدد ثنا يحيى هو ابن سعيد القطان - عن محمد بن عجلان قال : سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة } . حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا محمد بن أبي دليم ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا علي بن هاشم عن ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر قال " كنا نستحب أن نأخذ من ماء الغدير ونغتسل به في ناحية " . قال أبو محمد ، فنهى رسول الله ﷺ الجنب عن أن يغتسل في الماء الدائم - في رواية أبي السائب عن أبي هريرة - جملة فوجب منه أن كل من اغتسل وهو جنب في ماء دائم ، فقد عصى الله تعالى إن كان عالما بالنهي ، ولا يجزيه لأي غسل نواه ، لأنه خالف ما أمره به رسول الله ﷺ جملة . وهذا الحديث أعم من حديث ابن عجلان عن أبيه ، لأنه لو لم يكن إلا حديث ابن عجلان لأجزأ الجنب أن يغتسل في الماء الدائم لغير الجنابة ، لكن العموم وزيادة العدل لا يحل خلافها . وممن رأى أن اغتسال الجنب في الماء الدائم لا يجزيه أبو حنيفة ، إلا أنه عم بذلك كل غسل وكل وضوء ، وخص بذلك ما كان دون الغدير الذي إذا حرك طرفه لم يتحرك الآخر ، ورأى الماء يفسد بذلك ، فكان ما زاد بذلك على أمر رسول الله ﷺ - من عموم كل غسل - خطأ ، ومن تنجيس الماء وكان ما نقص بذلك من أمره عليه السلام من تخصيصه بعض المياه الرواكد دون بعض - خطأ وكان ما وافق فيه أمره عليه السلام صوابا ، وقاله أيضا الحسن بن حي ، إلا أنه خص به ما دون الكر من الماء ، فكان هذا التخصيص خطأ . وقال به أيضا الشافعي ، إلا أنه خص به ما دون خمسمائة رطل ، فكان هذا التخصيص خطأ ، وعم به كل غسل ، فكان هذا الذي زاده خطأ ، ورأى الماء لا يفسد ، فأصاب ، وكره مالك ذلك . وأجازه إذا وقع ، فكان هذا منه خطأ ، لأن رسول الله ﷺ قال : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } ومن المحال أن يجزئ غسل نهى عنه رسول الله ﷺ عن غسل أمر به ، أبى الله أن تنوب المعصية عن الطاعة وأن يجزئ الحرام مكان الفرض . وقولنا هو قول أبي هريرة وجابر من الصحابة رضي الله عنهم ، وما نعلم لهما في ذلك مخالفا من الصحابة رضي الله عنهم . قال علي : فلو غسل الجنب شيئا من جسده في الماء الدائم لم يجزه ، ولو أنه شعرة واحدة ، لأن بعض الغسل غسل ، ولم ينه عليه السلام عن أن يغتسل غير الجنب في الماء الدائم { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } { وما كان ربك نسيا } فصح أن غير الجنب يجزيه أن يغتسل في الماء الدائم لكل غسل واجب أو غير واجب ، وبالله تعالى التوفيق .




195 - مسألة : ومن أجنب يوم الجمعة من رجل أو امرأة - فلا يجزيه إلا غسلان غسل ينوي به الجنابة ولا بد ، وغسل آخر ينوي به الجمعة ولا بد ، فلو غسل ميتا أيضا لم يجزه إلا غسل ثالث ينوي به ولا بد ، فلو حاضت امرأة بعد أن وطئت فهي بالخيار إن شاءت عجلت الغسل للجنابة وإن شاءت أخرته حتى تطهر ، فإذا طهرت لم يجزها إلا غسلان ، غسل تنوي به الجنابة وغسل آخر تنوي به الحيض ، فلو صادفت يوم جمعة وغسلت ميتا لم يجزها إلا أربعة أغسال كما ذكرنا فلو نوى بغسل واحد غسلين مما ذكرنا فأكثر ، لم يجزه ولا لواحد منهما ، وعليه أن يعيدهما ، وكذلك إن نوى أكثر من غسلين ، ولو أن كل من ذكرنا يغسل كل عضو من أعضائه مرتين إن كان عليه غسلان - أو ثلاثا - إن كان عليه ثلاثة أغسال - أو أربعا - إن كان عليه أربعة أغسال - ونوى في كل غسلة الوجه الذي غسله له أجزأه ذلك وإلا فلا ، فلو أراد من ذكرنا : الوضوء لم يجزه إلا المجيء بالوضوء بنية الوضوء مفردا عن كل غسل ذكرنا ، حاشا غسل الجنابة وحده فقط فإنه إن نوى بغسل أعضاء الوضوء غسل الجنابة والوضوء معا أجزأه ذلك ، فإن لم ينو إلا الغسل فقط لم يجزه للوضوء ولو نواه للوضوء فقط لم يجزه للغسل ، ولا يجزئ للوضوء ما ذكرنا إلا مرتبا على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى . برهان ذلك قول الله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } وقول رسول الله ﷺ : { إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى } فصح يقينا أنه مأمور بكل غسل من هذه الأغسال ، فإذ قد صح ذلك فمن الباطل أن يجزئ عمل واحد عن عملين أو عن أكثر ، وصح يقينا أنه إن نوى أحد ما عليه من ذلك فإنما له - بشهادة رسول الله ﷺ الصادقة - الذي نواه فقط وليس له ما لم ينوه ، فإن نوى بعمله ذلك غسلين فصاعدا فقد خالف ما أمر به ، لأنه مأمور بغسل تام لكل وجه من الوجوه التي ذكرنا ، فلم يفعل ذلك ، والغسل لا ينقسم ، فبطل عمله كله ، لقول رسول الله ﷺ { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وأما غسل الجنابة والوضوء فإنه أجزأ فيهما عمل واحد بنية واحدة لهما جميعا للنص الوارد في ذلك ، كما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله بن يوسف ثنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي ﷺ { كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيده ، ثم يفيض الماء على جلده كله } . وهكذا رواه أبو معاوية وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة وغيرهم عن هشام عن أبيه عن عائشة . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا علي بن حجر السعدي ثنا عيسى بن يونس ثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن كريب عن ابن عباس قال : حدثتني خالتي ميمونة قالت { أدنيت لرسول الله ﷺ غسله من الجنابة فغسل كفيه مرتين أو ثلاثا ، ثم أدخل يده في الإناء ، ثم أفرغ على فرجه وغسله بشماله ، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكا شديدا ، ثم توضأ وضوءه للصلاة ، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفيه ، ثم غسل سائر جسده ، ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه ، ثم أتيته بالمنديل فرده } فهذا رسول الله ﷺ لم يعد غسل أعضاء الوضوء في غسله للجنابة ، ونحن نشهد الله أن رسول الله ﷺ ما ضيع نية كل عمل افترضه الله عليه ، فوجب ذلك في غسل الجنابة خاصة وبقيت سائر الأغسال على حكمها قال أبو محمد : وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي : يجزئ غسل واحد للجنابة والحيض . وقال بعض أصحاب مالك : يجزئ غسل واحد للجمعة والجنابة ، وقال بعضهم : إن نوى الجنابة يجزه من الجمعة ، وإن نوى الجمعة أجزأه ، من الجنابة قال علي : وهذا في غاية الفساد ، لأن غسل الجمعة عندهم تطوع ، فكيف يجزئ تطوع عن فرض ؟ أم كيف تجزئ نية في فرض لم تخلص وأضيف إليها نية تطوع ؟ إن هذا لعجب قال علي : واحتجوا في ذلك بأن قالوا : وجدنا وضوءا واحدا وتيمما واحدا يجزئ عن جميع الأحداث الناقضة للوضوء ، وغسلا واحدا يجزئ عن جنابات كثيرة ، وغسلا واحدا يجزئ عن حيض أيام ، وطوافا واحدا يجزئ عن عمرة وحج في القرآن ، فوجب أن يكون كذلك كل ما يوجب الغسل . قال أبو محمد : وهذا قياس والقياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل لأنه لو صح القياس لم يكن القياس لأن يجزئ غسل واحد عن غسلين مأمور بهما على ما ذكروا في الوضوء : بأولى من أن يقاس حكم من عليه غسلان على من عليه يومان من - شهر رمضان ، أو رقبتان عن ظهارين ، أو كفارتان عن يمينين ، أو هديان عن متعتين ، أو صلاتا ظهر من يومين ، أو درهمان من عشرة دراهم عن مالين مختلفين ، فيلزمهم أن يجزئ في كل ذلك صيام يوم واحد ، ورقبة واحدة ، وكفارة واحدة ، وهدي واحد ، وصلاة واحدة ودرهم واحد ، وهكذا في كل شيء من الشريعة وهذا ما لا يقوله أحد ، فبطل قياسهم الفاسد . ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق : أما الوضوء فإن رسول الله ﷺ قال : { لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ } وسنذكره إن شاء الله تعالى بإسناده في باب الحدث في الصلاة ، فصح بهذا الخبر أن الوضوء من الحدث جملة ، فدخل في ذلك كل حدث . وقال تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فدخل في ذلك كل جنابة . وصح أيضا عن رسول الله ﷺ وضوء واحد للصلاة من كل حدث سلف ، من نوم وبول وحاجة المرء وملامسة ، وإنه عليه السلام كان يطوف على نسائه بغسل واحد كما حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا ابن أبي دليم ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا هشيم ثنا حميد الطويل عن أنس { أن رسول الله ﷺ كان يطوف على نسائه في ليلة بغسل واحد } . وأما - طواف واحد وسعي واحد في القران عن الحج والعمرة ، فلقول رسول الله ﷺ : { طواف واحد يكفيك لحجك وعمرتك } وقوله عليه السلام : { دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة } . والعجب كله من أبي حنيفة إذ يجزئ عنده غسل واحد عن الحيض والجنابة والتبرد ، ولا يجزئ عنده للحج والعمرة في القران إلا طوافان وسعيان . وهذا عكس الحقائق وإبطال السنن . قال أبو محمد " وممن قال بقولنا جماعة من السلف كما روينا عن عبد الرحمن بن مهدي قال : ثنا حبيب وسفيان الثوري وعبد الله بن المبارك وعبد الأعلى وبشر بن منصور . قال حبيب عمرو بن هرم قال : سئل جابر بن زيد هو أبو الشعثاء - عن المرأة تجامع ثم تحيض ؟ قال عليها أن تغتسل - يعني للجنابة - وقال سفيان عن ليث والمغيرة بن مقسم وهشام بن حسان . قال ليث : عن طاوس ، وقال المغيرة عن إبراهيم النخعي . وقال هشام عن الحسن . قالوا كلهم في المرأة تجنب ثم تحيض أنها تغتسل - يعنون للجنابة - وقال ابن المبارك عن الحجاج عن ميمون بن مهران وعمرو بن شعيب في المرأة تكون جنبا ثم تحيض ، قالا جميعا : تغتسل ، يعنيان للجنابة ، قال وسألت عنها الحكم بن عتيبة قال : تصب عليها الماء ، غسلة دون غسلة وقال عبد الأعلى ثنا معمر ويونس بن عبيد وسعيد بن أبي عمرويه ، قال معمر عن الزهري ، وقال يونس عن الحسن وقال سعيد عن قتادة قالوا كلهم في المرأة تجامع ثم تحيض ، أنها تغتسل لجنابتها ، وقال بشر بن منصور عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح في المرأة تجامع ثم تحيض أنها تغتسل ، فإن أخرت فغسلان عند طهرها . فهؤلاء جابر بن زيد والحسن وقتادة وإبراهيم النخعي والحكم وطاوس وعطاء وعمرو بن شعيب والزهري وميمون بن مهران ، وهو قول داود وأصحابنا .


196 - مسألة : ويكره للمغتسل أن يتنشف في ثوب غير ثوبه الذي يلبس ، فإن فعل فلا حرج ، ولا يكره ذلك في الوضوء . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا ابن مفرج ثنا ابن السكن ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا موسى ثنا أبو عوانة ثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن كريب عن ابن عباس عن ميمونة بنت الحارث قالت { وضعت لرسول الله ﷺ غسلا وسترته - فذكرت صفة غسله عليه السلام قالت - وغسل رأسه ثم صب على جسده ، ثم تنحى فغسل قدميه ، فناولته خرقة ، فقال بيده هكذا ولم يردها } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا هشام ثنا أبو مروان ومحمد بن المثنى قالا حدثنا الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي سمعت يحيى بن أبي كثير يقول : حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن قيس بن سعد قال : { زارنا رسول الله ﷺ في منزلنا - فذكر الحديث وفيه - أن رسول الله ﷺ أمر له سعد بغسل فاغتسل ، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران أو ورس فاشتمل بها رسول الله ﷺ } . قال أبو محمد : هذا لا يضاد الأول ، لأنه عليه السلام اشتمل فيها فصارت لباسه حينئذ ، وقال بهذا بعض السلف ، كما روينا عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء : أنه سئل عن المنديل المهذب أيمسح به الرجل الماء ؟ فأبى أن يرخص فيه ، وقال هو شيء أحدث . قلت : أرأيت إن كنت أريد أن يذهب عني المنديل برد الماء قال فلا بأس به إذن ، ولم ينه عليه السلام عن ذلك في الوضوء فهو مباح فيه .

197 - مسألة : وكل غسل ذكرنا فللمرء أن يبدأ به من رجليه أو من أي أعضائه شاء ، حاشا غسل الجمعة والجنابة ، فلا يجزئ فيهما إلا البداءة بغسل الرأس أولا ثم الجسد ، فإن انغمس في ماء فعليه أن ينوي البداءة برأسه ثم بجسده ولا بد . برهان ذلك قول رسول الله ﷺ - الذي قد ذكرناه بإسناده { حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما ، يغسل رأسه وجسده } وقد صح عن رسول الله ﷺ أنه قال { ابدءوا بما بدأ الله به } وسنذكره في ترتيب الوضوء بإسناده إن شاء الله تعالى . وقد بدأ عليه السلام بالرأس قبل الجسد ، وقال تعالى : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } فصح أن ما ابتدأ به رسول الله ﷺ في نطقه فعن وحي أتاه من عند الله تعالى ، فالله تعالى هو الذي بدأ بالذي بدأ به رسول الله ﷺ .


198 - مسألة : وصفة الوضوء أنه إن كان انتبه من نوم فعليه أن يغسل يديه ثلاثا كما قد ذكرنا قبل ، وأن يستنشق وأن يستنثر ثلاثا ليطرد الشيطان عن خيشومه كما قد وصفنا ، وسواء تباعد ما بين نومه ووضوئه أو لم يتباعد ، فإن كان قد فعل كل ذلك فليس عليه أن يعيد ذلك الوضوء من حدث غير النوم ، فلو صب على يديه من إناء دون أن يدخل يده فيه لزمه غسل يده أيضا ثلاثا إن قام من نومه ، ثم نختار له أن يتمضمض ثلاثا ، وليست المضمضة فرضا ، وإن تركها فوضوءه تام وصلاته تامة ، عمدا تركها أو نسيانا ، ثم ينوي وضوءه للصلاة كما قدمنا ، ثم يضع الماء في أنفه ويجبذه بنفسه ولا بد ، ثم ينثره بأصابعه ولا بد مرة فإن فعل الثانية والثالثة فحسن ، وهما فرضان لا يجزئ الوضوء ولا الصلاة دونهما ، لا عمدا ولا نسيانا ، ثم يغسل وجهه من حد منابت الشعر في أعلى الجبهة إلى أصول الأذنين معا إلى منقطع الذقن ويستحب أن يغسل ذلك ثلاثا أو ثنتين وتجزئ مرة ، ليس عليه أن يمس الماء ما انحدر من لحيته تحت ذقنه ، ولا أن يخلل لحيته ، ثم يغسل ذراعيه من منقطع الأظفار إلى أول المرافق مما يلي الذراعين ، فإن غسل ذلك ثلاثا فحسن ، ومرتين حسن ، وتجزئ مرة ، ولا بد ضرورة من إيصال الماء بيقين إلى ما تحت الخاتم بتحريكه عن مكانه ، ثم يمسح رأسه كيفما مسحه أجزأه ، وأحب إلينا أن يعم رأسه بالمسح ، فكيفما مسحه بيديه أو بيد واحدة أو بأصبع واحدة أجزأه . فلو مسح بعض رأسه أجزأه وإن قل ، ونستحب أن يمسح رأسه ثلاثا أو مرتين وواحدة تجزئ ، وليس على المرأة والرجل مس ما انحدر من الشعر عن منابت الشعر على القفا والجبهة ثم يستحب له مسح أذنيه ، إن شاء بما مسح به رأسه وإن شاء بماء جديد ، ويستحب تجديد الماء لكل عضو ، ثم يغسل رجليه من مبتدإ منقطع الأظفار إلى آخر الكعبين مما يلي الساق ، فإن غسل ذلك ثلاثا فحسن ، ومرتين حسن ومرة تجزئ ، وتستحب تسمية الله تعالى على الوضوء ، وإن لم يفعل فوضوءه تام . أما قولنا في المضمضة فلم يصح بها عن رسول الله ﷺ أمر ، وإنما هي فعل فعله عليه السلام ، وقد قدمنا أن أفعاله ﷺ ليست فرضا ، وإنما فيها الإيتار به عليه السلام ، لأن الله تعالى إنما أمرنا بطاعة أمر نبيه عليه السلام ولم يأمرنا بأن نفعل أفعاله . قال تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وقال تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } وأما الاستنشاق والاستنثار فإن عبد الله بن ربيع حدثنا قال ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرنا محمد بن منصور ثنا سفيان هو ابن عيينة - عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم ليستنثر } ورويناه أيضا من طريق همام بن منبه عن أبي هريرة مسندا ، ومن طريق سلمة بن قيس عن رسول الله ﷺ قال علي : قال مالك والشافعي : ليس الاستنشاق والاستنثار فرضا في الوضوء ولا في الغسل من الجنابة ، وقال أبو حنيفة : هما فرض في الغسل من الجنابة وليسا فرضا في الوضوء ، وقال أحمد بن حنبل وداود : الاستنشاق والاستنثار فرضان في الوضوء وليسا فرضين في الغسل من الجنابة ، وليست المضمضة فرضا لا في الوضوء ولا في غسل الجنابة ، وهذا هو الحق . وممن صح عنه الأمر بذلك جماعة من السلف . روينا عن علي بن أبي طالب إذا توضأت فانثر فأذهب ما في المنخرين من الخبث ، وعن شعبة : قال حماد بن أبي سليمان فيمن نسي أن يمضمض ويستنشق قال : يستقبل . وعن شعبة عن الحكم بن عتيبة فيمن صلى وقد نسي أن يمضمض ويستنشق قال : أحب إلي أن يعيد يعني الصلاة . وعن وكيع عن سفيان الثوري عن مجاهد : الاستنشاق شطر الوضوء وعن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن حماد بن أبي سليمان وابن أبي ليلى قالا جميعا " إذا نسي المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد " يعنون الصلاة - وعن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري من نسي المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد - يعني الصلاة - وعن ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن هشام عن الحسن في المضمضة والاستنشاق والاستنثار وغسل الوجه واليدين والرجلين : ثنتان تجزيان وثلاث أفضل . قال علي وشغب قوم بأن الاستنشاق والاستنثار ليسا مذكورين في القرآن وأن رسول الله ﷺ قال : { لا تتم صلاة أحدكم حتى يتوضأ كما أمره الله تعالى } . قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى يقول : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } فكل ما أمر به رسول الله ﷺ فالله تعالى أمر به . وأما قولنا في الوجه ، فإنه لا خلاف في أن الذي قلنا فرض غسله قبل خروج اللحية ، فإذا خرجت اللحية فهي مكان ما سترت ، ولا يسقط غسل شيء يقع عليه اسم الوجه بالدعوى ، ولا يجوز أن يؤخذ بالرأي فرق بين ما يغسل الأمرد من وجهه والكوسج والألحى . وأما ما انحدر عن الذقن من اللحية وما انحدر عن منابت الشعر من القفا والجبهة ، فإنما أمرنا عز وجل بغسل الوجه ومسح الرأس وبالضرورة يدري كل أحد أن رأس الإنسان ليس في قفاه ، وأن الجبهة من الوجه المغسول ، لا حظ فيها للرأس الممسوح ، وأن الوجه ليس في العنق ولا في الصدر فلا يلزم في كل ذلك شيء ، إذ لم يوجبه قرآن ولا سنة . وأما قولنا في غسل الذراعين وما تحت الخاتم والمرفقين ، فإن الله تعالى قال : { وأيديكم إلى المرافق } فمن ترك شيئا ولو قدر شعرة مما أمر الله تعالى بغسله فلم يتوضأ كما أمره الله تعالى ، ومن لم يتوضأ كما أمره الله تعالى فلم يتوضأ أصلا ، ولا صلاة له فوجب إيصال الماء بيقين إلى ما ستر الخاتم من الأصبع ، وأما المرافق فإن " إلى " في لغة العرب التي بها نزل القرآن تقع على معنيين ، تكون بمعنى الغاية ، وتكون بمعنى مع ، قال الله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } بمعنى مع أموالكم ، فلما كانت تقع " إلى " على هذين المعنيين وقوعا صحيحا مستويا ، لم يجز أن يقتصر بها على أحدهما دون الآخر ، فيكون ذلك تخصيصا لما تقع عليه بلا برهان ، فوجب أن يجزئ غسل الذراعين إلى أول المرفقين بأحد المعنيين ، فيجزئ ، فإن غسل المرافق فلا بأس أيضا . وأما قولنا في مسح الرأس فإن الناس اختلفوا ، فقال مالك بعموم مسح الرأس في الوضوء . وقال أبو حنيفة يمسح من الرأس فرضا مقدار ثلاث أصابع ، وذكر عنه تحديد الفرض مما يمسح من الرأس بأنه ربع الرأس ، وإنه إن مسح رأسه بأصبعين أو بأصبع لم يجزه ذلك ، فإن مسح بثلاث أصابع أجزأه . وقال سفيان الثوري : يجزئ من الرأس مسح بعضه ولو شعرة واحدة ، ويجزئ مسحه بأصبع وببعض أصبع ، وحد أصحاب الشافعي ما يجزئ من مسح الرأس بشعرتين ، ويجزئ بأصبع وببعض أصبع ، وأحب ذلك إلى الشافعي العموم بثلاث مرات . وقال أحمد بن حنبل : يجزئ المرأة أن تمسح بمقدم رأسها ، وقال الأوزاعي والليث : يجزئ مسح مقدم الرأس فقط ومسح بعضه كذلك ، وقال داود : يجزئ من ذلك ما وقع عليه اسم مسح . وكذلك بما مسح من أصبع أو أقل أو أكثر وأحب إليه العموم ثلاثا ، وهذا هو الصحيح ، وأما الاقتصار على بعض الرأس فإن الله تعالى يقول : { وامسحوا برءوسكم } والمسح في اللغة التي نزل بها القرآن هو غير الغسل بلا خلاف ، والغسل يقتضي الاستيعاب والمسح لا يقتضيه حدثنا حمام بن أحمد ثنا عباس بن أصبغ حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا التيمي هو سليمان - عن بكر بن عبد الله المزني عن الحسن هو البصري - عن ابن المغيرة بن شعبة هو حمزة - عن أبيه { أن رسول الله ﷺ توضأ فمسح بناصيته ومسح على الخفين والعمامة } حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي حدثنا أبو داود ثنا مسدد عن المعتمر بن سليمان التيمي قال : سمعت أبي يحدث عن بكر بن عبد الله المزني عن الحسن عن ابن المغيرة بن شعبة عن أبيه { أن رسول الله ﷺ كان يمسح على الخفين وعلى ناصيته وعلى عمامته } قال بكر : وقد سمعته من ابن المغيرة . وممن قال بهذا جماعة من السلف . روينا عن معمر عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر : أنه كان يدخل يده في الوضوء فيمسح به مسحة واحدة اليافوخ فقط . ورويناه أيضا من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر . وعن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير : إنها كانت تمسح عارضها الأيمن بيدها اليمنى ، وعارضها الأيسر بيدها اليسرى من تحت الخمار وفاطمة هذه أدركت جدتها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وروت عنها . وعن وكيع عن قيس عن أبي هاشم عن النخعي قال : إن أصاب هذا - يعني مقدم رأسه وصدغيه - أجزأه - يعني في الوضوء - وعن وكيع عن إسماعيل الأزرق عن الشعبي قال : إن مسح جانب رأسه أجزأه وروي أيضا عن عطاء وصفية بنت أبي عبيد وعكرمة والحسن وأبي العالية وعبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهم . قال أبو محمد : ولا يعرف عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم خلاف لما رويناه عن ابن عمر في ذلك ، ولا حجة لمن خالفنا فيمن روى عنه من الصحابة وغيرهم مسح جميع رأسه ؛ لأننا لا ننكر ذلك بل نستحبه ، وإنما نطالبهم بمن أنكر الاقتصار على بعض الرأس في الوضوء فلا يجدونه . قال علي : ومن خالفنا في هذا فإنهم يتناقضون ، فيقولون في المسح على الخفين : إنه خطوط لا يعم الخفين ، فما الفرق بين مسح الخفين ومسح الرأس ؟ وأخرى وهي أن يقال لهم : إن كان المسح عندكم يقتضي العموم فهو والغسل سواء ، وما الفرق بينه وبين الغسل ؟ وإن كان كذلك فلم تنكرون مسح الرجلين في الوضوء وتأبون إلا غسلهما إن كان كلاهما يقتضي العموم ؟ وأيضا فإنكم لا تختلفون في أن غسل الجنابة يلزم تقصي الرأس بالماء ، وأن ذلك لا يلزم في الوضوء ، فقد أقررتم بأن المسح بالرأس خلاف الغسل ، وليس هنا فرق إلا أن المسح لا يقتضي العموم فقط ، وهذا ترك لقولكم . وأيضا فما تقولون فيمن ترك بعض شعرة واحدة في الوضوء فلم يمسح عليها ؟ فمن قولهم : إنه يجزيه ، وهذا ترك منهم لقولهم . فإن قالوا : إنما نقول بالأغلب ، قيل لهم : فترك شعرتين أو ثلاثا ؟ وهكذا أبدا ، فإن حدوا حدا قالوا بباطل لا دليل عليه ، وإن تمادوا صاروا إلى قولنا ، وهو الحق . فإن قالوا : من عم رأسه فقد صح أنه توضأ ، ومن لم يعمه فلم يتفق على أنه توضأ قلنا لهم فأوجبوا بهذا الدليل نفسه الاستنشاق فرضا والترتيب فرضا ، وغير ذلك مما فيه ترك لجمهور مذهبهم . إن قالوا : مسحه عليه السلام مع ناصيته على عمامته يدل على العموم ، قلنا : هذا أعجب شيء لأنكم لا تجيزون ذلك من فعل من فعله ، فكيف تحتجون بما لا يجوز عندكم وأيضا فمن لكم بأنه فعل واحد ؟ بل هما فعلان متغايران على ظاهر الأخبار في ذلك . وأما تخصيص أبي حنيفة لربع الرأس أو لمقدار ثلاثة أصابع ففاسد ؛ لأنه قول لا دليل عليه ، فإن قالوا : هو مقدار الناصية ، قلنا لهم : ومن لكم بأن هذا هو مقدار الناصية ؟ والأصابع تختلف ، وتحديد ربع الرأس يحتاج إلى تكسير ومساحة وهذا باطل ، وكذلك قولهم في منع المسح بأصبع أو بأصبعين . فإن قالوا : إنما أردنا أكثر اليد ، قلنا لهم : أنتم لا توجبون المسح باليد فرضا ، بل تقولون إنه لو وقف تحت ميزاب فمس الماء منه مقدار ربع رأسه أجزأه ، فظهر فساد قولهم . ويسألون أيضا عن قولهم بأكثر اليد ؟ فإنهم لا يجدون دليلا على تصحيحه ، وكذلك يسألون عن اقتصارهم على مقدار الناصية ؟ فإن قالوا : اتباعا للخبر في ذلك ، قيل لهم : فلم تعديتم الناصية إلى مؤخر الرأس ؟ وما الفرق بين تعديكم الناصية إلى غيرها وبين تعدي مقدارها إلى غير مقدارها ؟ وأما قول الشافعي فإن النص لم يأت بمسح الشعر فيكون ما قال من مراعاة عدد الشعر ، وإنما جاء القرآن بمسح الرأس ، فوجب أن لا يراعى إلا ما يسمى مسح الرأس فقط ، والخبر الذي ذكرنا عن النبي ﷺ في ذلك هو بعض ما جاء به القرآن فالآية أعم من ذلك الخبر ، وليس في الخبر منع من استعمال الآية ، ولا دليل على الاقتصار على الناصية فقط . وبالله تعالى التوفيق .


199 - مسألة : وأما مسح الأذنين فليسا فرضا ، ولا هما من الرأس لأن الآثار في ذلك واهية كلها ، قد ذكرنا فسادها في غير هذا المكان ، ولا يختلف أحد في أن البياض الذي بين منابت الشعر من الرأس وبين الأذنين ليس هو من الرأس في حكم الوضوء ، فمن المحال أن يكون يحول بين أجزاء رأس الحي عضو ليس من الرأس ، وأن يكون بعض رأس الحي مباينا لسائر رأسه ، وأيضا فلو كان الأذنان من الرأس لوجب حلق شعرهما في الحج ، وهم لا يقولون هذا . وقد ذكرنا البرهان على صحة الاقتصار على بعض الرأس في الوضوء ، فلو كان الأذنان من الرأس لأجزأ أن يمسحا عن مسح الرأس . وهذا لا يقوله أحد ، ويقال لهم : إن كانتا من الرأس فما بالكم تأخذون لهما ماء جديدا وهما بعض الرأس ؟ وأين رأيتم عضوا يجدد لبعضه ماء غير الماء الذي مسح به سائره . ثم لو صح الأثر أنهما من الرأس لما كان علينا في ذلك نقض لشيء من أقوالنا . وبالله تعالى التوفيق .

=========




كتاب الطهارة


صفة الغسل الواجب في كل ما ذكرنا

200 - مسألة : وأما قولنا في الرجلين فإن القرآن نزل بالمسح . قال الله تعالى : { وامسحوا برءوسكم وأرجلكم } وسواء قرئ بخفض اللام أو بفتحها هي على كل حال عطف على الرءوس : إما على اللفظ وإما على الموضع ، لا يجوز غير ذلك . لأنه لا يجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدأة . وهكذا جاء عن ابن عباس : نزل القرآن بالمسح - يعني في الرجلين في الوضوء - وقد قال بالمسح على الرجلين جماعة من السلف ، منهم علي بن أبي طالب وابن عباس والحسن وعكرمة والشعبي وجماعة غيرهم ، وهو قول الطبري ، ورويت في ذلك آثار . منها أثر من طريق همام عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثنا علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن عمه - هو رفاعة بن رافع - أنه سمع رسول الله ﷺ يقول : إنها { لا تجوز صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عز وجل ثم يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين } . وعن إسحاق بن راهويه ثنا عيسى بن يونس عن الأعمش عن عبد خير عن علي " كنت أرى باطن القدمين أحق بالمسح حتى رأيت رسول الله ﷺ يمسح ظاهرهما " . قال علي بن أحمد : وإنما قلنا بالغسل فيهما لما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا مسدد ثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال { تخلف النبي ﷺ في سفر فأدركنا وقد أرهقنا العصر ، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار ، مرتين أو ثلاثا } . كتب إلي سالم بن أحمد قال : ثنا عبد الله بن سعيد الشنتجالي ثنا عمر بن محمد السجستاني ثنا محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ثنا إسحاق بن راهويه ثنا جرير هو ابن عبد الحميد - عن منصور هو ابن المعتمر - عن هلال بن إساف عن أبي يحيى هو مصدع الأعرج - عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال { خرجنا مع رسول الله ﷺ من مكة إلى المدينة حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر ، فتوضئوا وهم عجال ، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء ، فقال رسول الله ﷺ : ويل للأعقاب من النار ، أسبغوا الوضوء } فأمر عليه السلام بإسباغ الوضوء في الرجلين ، وتوعد بالنار على ترك الأعقاب . فكان هذا الخبر زائدا على ما في الآية ، وعلى الأخبار التي ذكرنا ، وناسخا لما فيها ، ولما في الآية والأخذ بالزائد واجب ، ولقد كان يلزم من يقول بترك الأخبار للقرآن أن يترك هذا الخبر للآية ، ولقد كان يلزم من يترك الأخبار الصحاح للقياس أن يترك هذا الخبر : لأننا وجدنا الرجلين يسقط حكمهما في التيمم ، كما يسقط الرأس فكان حملهما على ما يسقطان بسقوطه ويثبتان بثباته أولى من حملهما على ما لا يثبتان بثباته . وأيضا فالرجلان مذكوران مع الرأس ، فكان حملهما على ما ذكرا معه أولى من حملهما على ما لم يذكرا معه . وأيضا فالرأس طرف والرجلان طرف ، فكان قياس الطرف على الطرف أولى من قياس الطرف على الوسط ، وأيضا فإنهم يقولون بالمسح على الخفين ، فكان تعويض المسح من المسح أولى من تعويض المسح من الغسل . وأيضا فإنه لما جاز المسح على ساتر للرجلين ولم يجز على ساتر دون الوجه والذراعين دل - على أصول أصحاب القياس - أن أمر الرجلين أخف من أمر الوجه والذراعين ، فإذ ذلك كذلك فليس إلا المسح ولا بد . فهذا أصح قياس في الأرض لو كان القياس حقا . وقد قال بعضهم : قد سقط حكم الجسد في التيمم ولم يدل ذلك على أن حكمه المسح . قال أبو محمد : فنقول صدقت وهذا يبطل قولكم بالقياس ، ويريكم تفاسده كله وبالله تعالى التوفيق . وهكذا كل ما رمتم الجمع بينهما بالقياس ، لاجتماعهما في بعض الصفات ، فإنه لا بد فيهما من صفة يفترقان فيها . قال علي : وقال بعضهم : لما قال الله تعالى في الرجلين { إلى الكعبين } كما قال في الأيدي { إلى المرافق } دل على أن حكم الرجلين حكم الذراعين ، قيل له : ليس ذكر المرفقين والكعبين دليلا على وجوب غسل ذلك ؛ لأنه تعالى قد ذكر الوجه ولم يذكر في مبلغه حدا وكان حكمه الغسل ، لكن لما أمر الله تعالى في الذراعين بالغسل كان حكمهما الغسل ، وإذا لم يذكر ذلك في الرجلين وجب أن لا يكون حكمهما ما لم يذكر فيهما إلا أن يوجبه نص آخر قال علي : والحكم للنصوص لا للدعاوى والظنون . وبالله تعالى التوفيق .


201 - مسألة : وكل ما لبس على الرأس من عمامة أو خمار أو قلنسوة أو بيضة أو مغفر أو غير ذلك : أجزأ المسح عليها ، المرأة والرجل سواء في ذلك ، لعلة أو غير علة . برهان ذلك حديث المغيرة الذي ذكرنا آنفا ، حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني الحكم بن موسى ثنا بشر بن إسماعيل عن الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف - حدثني عمرو بن أمية الضمري { أنه رأى رسول الله ﷺ يمسح على الخفين والعمامة } . ورويناه من طريق البخاري عن عبدان عن عبد الله بن داود الخريبي عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن أبيه . وهذا قوة للخبر لأن أبا سلمة سمعه من عمرو بن أمية الضمري سماعا ، وسمعه أيضا من جعفر ابنه عنه كما فعل بكر بن عبد الله المزني الذي سمع حديث المغيرة من حمزة بن المغيرة وسمعه أيضا من الحسن عن حمزة . وحدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب محمد بن العلاء وإسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - قال أبو بكر وأبو كريب : ثنا معاوية وقال ابن راهويه ، ثنا عيسى بن يونس ، ثم اتفق أبو معاوية وعيسى كلاهما عن الأعمش عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة عن بلال { أن رسول الله ﷺ مسح على الخفين والخمار } وروينا أيضا من طريق أبي إدريس الخولاني عن بلال { أنه عليه السلام مسح على العمامة والموقين } وروينا أيضا من طريق أيوب السختياني عن أبي قلابة عن سلمان ومن طريق مخلد بن الحسين عن هشام بن حسان عن حميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر { رأيت رسول الله ﷺ توضأ ومسح على الموقين والخمار } . فهؤلاء ستة من الصحابة رضي الله عنهم : المغيرة بن شعبة وبلال وسلمان وعمرو بن أمية وكعب بن عجرة وأبو ذر ، كلهم يروي ذلك عن رسول الله ﷺ بأسانيد لا معارض لها ولا مطعن فيها . وبهذا القول يقول جمهور الصحابة والتابعين ، كما روينا من طريق ابن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير وإسماعيل بن علية كلاهما عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني عن عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي قال : رأيت أبا بكر الصديق يمسح على الخمار ، يعني في الوضوء . وعن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن عمران بن مسلم عن سويد بن غفلة قال : سأل نباتة الجعفي عمر بن الخطاب عن المسح على العمامة ؟ فقال له عمر بن الخطاب : إن شئت فامسح على العمامة وإن شئت فدع . وعن عبد الرحمن بن مهدي عن أبي جعفر عبد الله بن عبد الله الرازي عن زيد بن أسلم قال : قال عمر بن الخطاب : من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله . وعن حماد بن سلمة عن ثابت البناني وعبيد الله بن أبي بكر بن أنس كلاهما عن أنس بن مالك : أنه كان يمسح على الجوربين والخفين والعمامة ، وهذه أسانيد في غاية الصحة . وعن الحسن البصري عن أمه : أن أم سلمة أم المؤمنين كانت تمسح على الخمار وعن سلمان الفارسي : أنه قال لرجل : امسح على خفيك وعلى خمارك ، وامسح بناصيتك . وعن أبي موسى الأشعري : أنه خرج من حدث فمسح على خفيه وقلنسوته وعن أبي أمامة الباهلي أنه كان يمسح على الجوربين والخفين والعمامة وعن علي بن أبي طالب : أنه سئل عن المسح على الخفين ؟ فقال نعم ، وعلى النعلين والخمار . وهو قول سفيان الثوري ، رويناه عن عبد الرزاق عنه قال : القلنسوة بمنزلة العمامة - يعني في جواز المسح عليها - وهو قول الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وداود بن علي وغيرهم . وقال الشافعي : إن صح الخبر عن رسول الله ﷺ فبه أقول . قال علي : والخبر - ولله الحمد - قد صح فهو قوله . وقال أبو حنيفة ومالك : لا يمسح على عمامة ولا خمار ولا غير ذلك وهو قول الشافعي ، قال : إلا أن يصح الخبر . قال علي : ما نعلم للمانعين من ذلك حجة أصلا ، فإن قالوا جاء القرآن بمسح الرءوس ، قلنا نعم ، وبالمسح على الرجلين ، فأجزتم المسح على الخفين ، وليس بأثبت من المسح على العمامة ، والمانعون من المسح على الخفين من الصحابة رضي الله عنهم أكثر من المانعين من المسح على العمامة ، فما روي المنع من المسح على العمامة إلا عن جابر وابن عمر ، وقد جاء المنع من المسح على الخفين عن عائشة وأبي هريرة وابن عباس ، وأبطلتم مسح الرجلين - وهو نص القرآن - بخبر يدعي مخالفنا ومخالفكم أننا سامحنا أنفسنا وسامحتم أنفسكم فيه ، وأنه لا يدل على المنع من مسحها ، وقد قال بمسحها طائفة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وقلتم بالمسح على الجبائر ولم يصح فيه أثر عن رسول الله ﷺ وهذا تخليط . وقال بعضهم : حديث المغيرة بن شعبة فيه { إنه مسح بناصيته وعلى عمامته } فأما من لا يرى المسح على الناصية يجزئ فقد جاهر الله تعالى والناس في احتجاجه بهذا الخبر ، وهو عاص لكل ما فيه . وأما من يرى المسح على بعض الرأس يجزئ فإنهم قالوا : إن الذي أجزأه عليه السلام فهو مسح الناصية فقط وكان مسح العمامة فضلا . قال أبو محمد : رام هؤلاء أن يجعلوا كل ما في خبر المغيرة حكاية عن وضوء واحد وهذا كذب وجرأة على الباطل ، بل هو خبر عن عملين متغايرين ، هذا ظاهر الحديث ومقتضاه ، وكيف قد رواه جماعة غير المغيرة : وقال بعضهم أخطأ الأوزاعي في حديث عمرو بن أمية ، لأن هذا خبر رواه - عن يحيى بن أبي كثير شيبان وحرب بن شداد وبكر بن نضر وأبان العطار وعلي بن المبارك ، فلم يذكروا فيه المسح على العمامة . قال علي : فقلنا لهم فكان ماذا ؟ قد علم كل ذي علم بالحديث أن الأوزاعي أحفظ من كل واحد من هؤلاء ، وهو حجة عليهم ، وليسوا حجة عليه ، والأوزاعي ثقة ، وزيادة الثقة لا يحل ردها ، وما الفرق بينكم وبين من قال في كل خبر احتججتم به : إن راويه أخطأ فيه ، لأن فلانا وفلانا لم يرو هذا الخبر ؟ وقال بعضهم : لا يجوز المسح على العمامة كما لا يجوز المسح على القفازين . قال أبو محمد : وهذا قياس ، والقياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ، لأنهم يعارضون فيه ، فيقال لهم إن كان هذا القياس عندكم صحيحا فأبطلوا به المسح على الخفين ؟ لأن الرجلين باليدين أشبه منهما بالرأس ، فقولوا : كما لا يجوز المسح على القفازين كذلك لا يجوز المسح على الخفين ولا فرق . فإن قالوا : قد صح المسح على الخفين عن رسول الله ﷺ ، قيل لهم : وقد صح المسح على العمامة عن رسول الله ﷺ . ويعارضون أيضا بأن يقال لهم : إن الله تعالى قرن الرءوس بالأرجل في الوضوء وأنتم تجيزون المسح على الخفين فأجيزوا المسح على العمامة ، لأنهما جميعا عضوان يسقطان في التيمم ، ولأنه لما جاز تعويض المسح عندكم من غسل الرجلين فينبغي أن يكون يجوز تعويض المسح من المسح في العمامة على الرأس أولى ، ولأن الرأس طرف ، والرجلان طرف ، وأيضا فقد صح تعويض المسح من جميع أعضاء الوضوء فعوض المسح بالتراب في الوجه والذراعين من غسل كل ذلك ، وعوض المسح على الخفين من غسل الرجلين ، فوجب أيضا أن يجوز تعويض المسح على العمامة من المسح على الرأس ، لتتفق أحكام جميع أعضاء الوضوء في ذلك . قال علي : كل هذا إنما أوردناه معارضة لقياسهم الفاسد وأنه لا شيء من الأحكام قالوا فيه بالقياس إلا ولمن خالفهم - من التعلق بالقياس - كالذي لهم أو أكثر فيظهر بذلك بطلان القياس لكل من أراد الله توفيقه وقال بعضهم : إنما مسح رسول الله ﷺ على العمامة والخمار لمرض كان في رأسه . قال علي : هذا كلام من لا مؤنة عليه من الكذب ، ومن يستغفر الله تعالى من مكالمة مثله ؛ لأنه متعمد للكذب والإفك بقول لم يأت به قط لا نص ولا دليل ، وقد عجل الله العقوبة لمن هذه صفته ، بأن تبوأ مقعده من النار ، لكذبه على رسول الله ﷺ . ثم يقال لهم : قولوا مثل هذا في المسح على الخفين ، إنه كان لعلة بقدميه ولا فرق على أن امرأ لو قال هذا لكان أعذر منهم ؛ لأننا قد روينا عن ابن عباس أنه قال في المسح على الخفين : لو قلتم ذلك في البرد الشديد أو السفر الطويل ، ولم يرو قط عن أحد من الصحابة أنه قال ذلك في المسح على العمامة والخمار ، فبطل قول من منع المسح على العمامة والخمار ، وصح خلافه للسنن الثابتة ، ولأبي بكر وعمر وعلي وأنس وأم سلمة وأبي موسى الأشعري وأبي أمامة وغيرهم ، وللقياس إن كان من أهل القياس . فإن قال قائل : إنه لم يأت عن النبي ﷺ أنه مسح على غير العمامة والخمار ، فلا يجوز ترك ما جاء في القرآن من مسح الرأس لغير ما صح النص به ، والقياس باطل ، وليس فعله عليه السلام عموم لفظ فيحمل على عمومه . قلنا : هذا خطأ ؛ لأنه عليه السلام لم يقل إنه لا يمسح إلا على عمامة أو خمار ، لكن علمنا بمسحه عليها أن مباشرة الرأس بالماء ليس فرضا ، فإذ ذلك كذلك ، فأي شيء لبس على الرأس جاز المسح عليه . ثم نقول لهم : قولوا لنا لو أن الراوي قال مسح رسول الله ﷺ على عمامة صفراء من كتان مطوية ثلاث طيات ، أكان يجوز عندكم المسح على حمراء من قطن ملوية عشر مرات أم لا ؟ وكذلك لو قال مسح عليه السلام على خفين أسودين ، أكان يجوز على أبيضين أم لا ؟ فإن لزموا قول الراوي أحدثوا دينا جديدا ، وإن لم يراعوه رجعوا إلى قولنا .

202 - مسألة : قال أبو محمد : وسواء لبس ما ذكرنا على طهارة أو غير طهارة قال أبو ثور : لا يمسح على العمامة والخمار إلا من لبسهما على طهارة ، قياسا على الخفين ، وقال أصحابنا كما قلنا قال علي : القياس باطل ، وليس هنا علة جامعة بين حكم المسح على العمامة والخمار والمسح على الخفين ، وإنما نص رسول الله ﷺ في اللباس على الطهارة ، على الخفين ، ولم ينص ذلك في العمامة والخمار ، قال الله تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } { وما كان ربك نسيا } فلو وجب هذا في العمامة والخمار لبينه عليه السلام ، كما بين ذلك في الخفين ، ومدعي المساواة في ذلك بين العمامة والخمار وبين الخفين ، مدع بلا دليل ، ويكلف البرهان على صحة دعواه في ذلك ، فيقال له من أين وجب ، إذ نص عليه السلام في المسح على الخفين أنه لبسهما على طهارة ، أن يجب هذا الحكم في العمامة والخمار ولا سبيل له إليه أصلا بأكثر من قضية من رأيه ، وهذا لا معنى له قال الله تعالى : { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } .

203 - مسألة : ويمسح على كل ذلك أبدا بلا توقيت ولا تحديد ، وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه التوقيت في ذلك ثابتا عنه ، كالمسح على الخفين وبه قال أبو ثور ، وقال أصحابنا كما قلنا . ولا حجة في قول أحد دون رسول الله ﷺ ، والقياس باطل ، وقول القائل : لما كان المسح على الخفين موقتا بوقت محدود في السفر ووقت في الحضر وجب أن يكون المسح على العمامة كذلك ، دعوى بلا برهان على صحتها وقول لا دليل على وجوبه ، ويقال له ما دليلك على صحة ما تذكر من أن يحكم للمسح على العمامة بمثل الوقتين المنصوصين في المسح على الخفين ؟ وهذا لا سبيل إلى وجوده بأكثر من الدعوى ، وقد { مسح رسول الله ﷺ على العمامة والخمار ، ولم يوقت في ذلك وقتا ووقت في المسح على الخفين } ، فيلزمنا أن نقول ما قال عليه السلام وأن لا نقول في الدين ما لم يقله عليه السلام ، قال الله تعالى : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } .

204 - مسألة : فلو كان تحت ما لبس على الرأس خضاب أو دواء جاز المسح عليهما كما قلنا ولا فرق ، وكذلك لو تعمد لباس ذلك ليمسح عليه جاز المسح أيضا ، وإنما المسح المذكور في الوضوء خاصة ، وأما في كل غسل واجب فلا ، ولا بد من خلع كل ذلك وغسل الرأس . برهان ذلك { أن رسول الله ﷺ مسح على العمامة وعلى الخمار } ، ولم يخص لنا حالا من حال ، فلا يجوز أن يخص بالمسح حال دون حال ، وإذا كان المسح جائزا فالقصد إلى الجائز جائز ، وإنما مسح عليه السلام في الوضوء خاصة ، فلا يجوز أن يضاف إلى ذلك ما لم يفعله عليه السلام ، ولا يجوز أن يزاد في السنن ما لم يأت فيها ، ولا أن ينقص منها ما اقتضاه لفظ الخبر بها ، وبالله تعالى التوفيق . وهكذا يقول خصومنا في المسح على الخفين سواء سواء .

205 - مسألة : ومن ترك مما يلزمه غسله في الوضوء أو الغسل الواجب ولو قدر شعرة عمدا أو نسيانا ، لم تجزه الصلاة بذلك الغسل والوضوء حتى يوعبه كله ، لأنه لم يصل بالطهارة التي أمر بها ، وقال عليه السلام { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } .

206 - مسألة : ومن نكس وضوءه أو قدم عضوا على المذكور قبله في القرآن عمدا أو نسيانا لم تجزه الصلاة أصلا ، وفرض عليه أن يبدأ بوجهه ثم ذراعيه ثم رأسه ثم رجليه ، ولا بد في الذراعين والرجلين من الابتداء باليمين قبل اليسار كما جاء في السنة ، فإن جعل الاستنشاق والاستنثار في آخر وضوئه أو بعد عضو من الأعضاء المذكورة لم يجز ذلك ، فإن فعل شيئا مما ذكرنا لزمه أن يعود إلى الذي بدأ به قبل الذي ذكره الله تعالى قبله فيعمله إلى أن يتم وضوءه ، وليس عليه أن يبتدئ من أول الوضوء ، وهو قول الشافعي وأبي ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق ، فإن انغمس في ماء جار وهو جنب ونوى الغسل والوضوء معا لم يجزه ذلك من الوضوء ولا من الغسل ، وعليه أن يأتي به مرتبا ، وهو قول إسحاق . برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا إبراهيم بن هارون البلخي ثنا حاتم بن إسماعيل ثنا جعفر بن محمد عن أبيه قال : { دخلنا على جابر بن عبد الله فقلت : أخبرني عن حجة رسول الله عليه السلام قال جابر خرجنا معه - فذكر الحديث وفيه - أن رسول الله ﷺ خرج من الباب إلى الصفا ، فلما دنا إلى الصفا قال : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ابدءوا بما بدأ الله به } . قال علي : وهذا عموم لا يجوز أن يخص منه شيء ، وإنما قلنا : لا يجزئ في الأعضاء المغموسة معا لا الوضوء ولا الغسل إذا نوى بذلك الغمس كلا الأمرين فلأنه لم يأت بالوضوء كما أمر ، ولم يخلص الغسل فيجزيه ، لكن خلطه بعمل فاسد فبطل أيضا الغسل في تلك الأعضاء ؛ لأنه أتى به بخلاف ما أمره الله تعالى به ، وأما الاستنشاق والاستنثار فلم يأت فيهما في الوضوء ذكر بتقديم ولا تأخير ، فكيفما أتى بهما في وضوئه أو بعد وضوئه ، وقبل صلاته أو قبل وضوئه : أجزأه . قال علي : وقال أبو حنيفة : جائز تنكيس الوضوء والأذان والطواف والسعي والإقامة . وقال مالك : يجوز تنكيس الوضوء ولا يجوز تنكيس الطواف ولا السعي ولا الأذان ولا الإقامة . قال أبو محمد : لا يجوز تنكيس شيء من ذلك كله ، ولا يجزئ شيء منه منكسا فأما قول مالك فظاهر التناقض ؛ لأنه فرق بين ما لا فرق بينه ، وأما أبو حنيفة فإنه أطرد قولا ، وأكثر خطأ ، والقوم أصحاب قياس بزعمهم ، فهلا قاسوا ذلك على ما اتفق عليه من المنع من تنكيس الصلاة ؟ على أنه قد صح الإجماع في بعض الأوقات على تنكيس الصلاة ، وهي حال من وجد الإمام جالسا أو ساجدا ، فإنه يبدأ بذلك وهو آخر الصلاة ، وهذا مما تناقضوا فيه في قياسهم . وقد روينا عن علي بن أبي طالب وابن عباس جواز تنكيس الوضوء ، ولكن لا حجة في أحد مع القرآن إلا في الذي أمر ببيانه وهو رسول الله ﷺ ، وهذا مما تناقض فيه الشافعيون فتركوا فيه قول صاحبين لا يعرف لهما من الصحابة مخالف . وبالله تعالى التوفيق . والعجب كله أن المالكيين أجازوا تنكيس الوضوء الذي لم يأت نص من الله تعالى ولا من رسوله ﷺ فيه ، ثم أتوا إلى ما أجاز الله تعالى تنكيسه فمنعوا من ذلك ، وهو الرمي والحلق والنحر والذبح والطواف ، فإن رسول الله ﷺ أجاز تقديم بعض ذلك على بعض ، كما سنذكر إن شاء الله تعالى في كتاب الحج ، فقالوا : لا يجوز تقديم الطواف على الرمي ، ولا تقديم الحلق على الرمي ، وهذا كما ترى . حدثنا أحمد بن قاسم ثنا أبي حدثني جدي قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن وضاح ثنا أحمد بن واقد ثنا زهير بن معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ { إذا توضأتم ولبستم فابدءوا بميامنكم } . وأما وجوب تقديم الاستنشاق والاستنثار ولا بد ، فلحديث رفاعة بن رافع أن رسول الله ﷺ قال : { لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله - عز وجل - ويغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين } فصح أن ههنا إسباغا عطف عليه غسل الوجه ، وليس إلا الاستنشاق والاستنثار .

========




كتاب الطهارة


صفة الغسل الواجب في كل ما ذكرنا

207 - مسألة : ومن فرق وضوءه أو غسله أجزأه ذلك ، وإن طالت المدة في خلال ذلك أو قصرت ، ما لم يحدث في خلال وضوئه ما ينقض الوضوء ، وما لم يحدث في خلال غسله ما ينقض الغسل . برهان ذلك أن الله عز وجل أمر بالتطهر من الجنابة والحيض ، وبالوضوء من الأحداث ، ولم يشترط عز وجل في ذلك متابعة ، فكيفما أتى به المرء أجزأه ؛ لأنه قد وقع عليه اسم الأخبار بأنه تطهر ، وبأنه غسل وجهه وذراعيه ومسح رأسه وغسل رجليه . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبي سلمة وهو ابن عبد الرحمن بن عوف - عن عائشة قالت { كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن يغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثلاثا ، ثم يأخذ بيمينه فيصب على يساره فيغسل فرجه حتى ينقيه ، ثم يغسل يديه غسلا حسنا ، ثم يمضمض ثلاثا ، ثم يستنشق ثلاثا ويغسل وجهه ثلاثا ، ويغسل ذراعيه ثلاثا ، ثم يصب على رأسه ثلاثا ثم يغسل جسده غسلا ، فإذا خرج من مغتسله غسل رجليه } . قال علي : إذا جاز أن يجعل رسول الله ﷺ بين وضوئه وغسله وبين تمامهما بغسل رجليه مهلة خروجه من مغتسله ، فالتفريق بين المدد لا نص فيه ولا برهان ، وهذا قول السلف كما روينا من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر : أنه بال بالسوق ثم توضأ فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه ثم دعي لجنازة حين دخل المسجد ليصلي عليها فمسح على خفيه ثم صلى عليها . - وروينا عن سفيان الثوري عن المغيرة عن إبراهيم قال : كان أحدهم يغسل رأسه من الجنابة بالسدر ثم يمكث ساعة ثم يغسل سائر جسده ، وإبراهيم تابع أدرك أكابر التابعين وصغار الصحابة رضي الله عنهم ، قال إبراهيم في الرجل تكون له المرأة والجارية فيرافث امرأته بالغسل أنه لا بأس بأن يغسل رأسه ثم يمكث ثم يغسل سائر جسده بعد ولا يغسل رأسه وعن عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال : إن غسل الجنب رأسه بالسدر أو بالخطمي ثم يجلس حتى يجف رأسه فحسبه ذلك . وهو قول أبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري والأوزاعي والحسن بن حي ، وقد روي نحو هذا عن سعيد بن المسيب وطاوس . وقال مالك : إن طال الأمد ابتدأ الوضوء ، وإن لم يطل بنى على وضوئه ، وقد روينا عن قتادة وابن أبي ليلى وغيرهم نحو هذا . وحد بعضهم ذلك بالجفوف ، وحد بعضهم ذلك بأن يكون في طلب الماء فيبني أو يترك وضوءه ويبتدئ . قال أبو محمد : أما تحديد مالك بالطول فإنه يكلف المنتصر له بيان ما ذلك الطول الذي تجب به شريعة ابتداء الوضوء ، والقصر الذي لا تجب به هذه الشريعة ، فلا سبيل لهم إلى ذلك إلا بالدعوى التي لا يعجز عنها أحد ، وما كان من الأقوال لا برهان على صحته فهو باطل ، إذ الشرائع غير واجبة على أحد حتى يوجبها الله تعالى على لسان رسوله ﷺ . وأما من حد ذلك بجفوف الماء فخطأ ظاهر ، لأنه دعوى بلا برهان ، وما كان هكذا فهو باطل لما ذكرناه ، وأيضا فإن في الصيف في البلاد الحارة لا يتم أحد وضوءه حتى يجف وجهه ، ولا يصح وضوء على هذا . وأما من حد في ذلك بما دام في طلب الماء ، فقول أيضا لا دليل على صحته ، والدعوى لا يعجز عنها أحد ، والعجب أن مالكا يجيز أن يجعل المرء إذا رعف بين أجزاء صلاته مدة وعملا ليس من الصلاة ، ثم يمنع من ذلك في الوضوء . قال علي : فإن تعلق بعضهم بخبر رويناه عن رسول الله ﷺ من طريق بقية عن بحير عن خالد عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ { أن رسول الله ﷺ رأى رجلا يصلي وفي قدمه لمعة لم يصبها الماء ، فأمره عليه السلام أن يعيد الوضوء والصلاة } فإن هذا خبر لا يصح لأن راويه بقية ، وليس بالقوي ، وفي السند من لا يدري من هو ، وروينا أيضا عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمر بن الخطاب وعن أبي سفيان عن جابر عن عمر بن الخطاب : أنه رأى رجلا يصلي وقد ترك من رجله موضع ظفر فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة . قال علي : أما الرواية عن عمر أيضا فلا تصح ؛ لأن أبا قلابة لم يدرك عمر ، وأبو سفيان ضعيف . وقد جاء أثر عن رسول الله ﷺ هو أحسن من هذا ، رويناه من طريق قاسم بن أصبغ ثنا بكر بن مضر عن حرملة بن يحيى ثنا ابن وهب عن جرير بن حازم عن قتادة عن أنس { أن رسول الله ﷺ أتاه وقد توضأ وترك موضع الظفر لم يصبه الماء ، فقال له رسول الله ﷺ ارجع فأحسن وضوءك } وعن ابن وهب عن ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر عن عمر مثل هذا أيضا . قال علي : لا يصح عن أحد من الصحابة خلاف فعل عمر هذا ، فقد خالفوا ههنا صاحبا لا يعرف له من الصحابة مخالف ، وبيقين يدري كل ذي علم أن مرور الأوقات ليس من الأحداث الناقضة للوضوء ، وقد تناقض مالك في هذا المكان فرأى أن من نسي عضوا من أعضاء وضوئه فإن غسله أجزأه ، ورأى فيمن توضأ ومسح على خفيه وبقي كذلك نهاره ثم خلع خفيه فإن وضوء رجليه عنده قد انتقض وأنه ليس عليه إلا غسل رجليه فقط ، وهذا تبعيض الوضوء الذي منع منه ، وبالله تعالى التوفيق .


208 - مسألة : ويكره الإكثار من الماء في الغسل والوضوء ، والزيادة على الثلاث في غسل أعضاء الوضوء ومسح الرأس ؛ لأنه لم يأت عن رسول الله ﷺ أكثر من ذلك . وروينا من طريق سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي حية بن قيس { أن عليا توضأ ثلاثا ثلاثا ، وقال هكذا رأيت رسول الله ﷺ } وعن ابن المبارك عن الأوزاعي حدثني المطلب بن عبد الله بن حنطب { أن عبد الله بن عمر توضأ ثلاثا ، يسند ذلك إلى رسول الله ﷺ } وعن عثمان أيضا مثل ذلك فلم يخص في هذه الآثار رأسا من غيره . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرنا محمد بن منصور ثنا سفيان عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد الذي أري النداء قال { رأيت رسول الله ﷺ توضأ فغسل وجهه ثلاثا ويديه مرتين ومسح برأسه مرتين } . وقد روينا عن أنس مسح رأسه في الوضوء ثلاثا واثنتين ، وعن عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء : أكثر ما أمسح برأسي ثلاث مرات لا أزيد بكف واحدة لا أزيد ولا أنقص . وعن حماد بن سلمة ثنا جرير بن حازم : رأيت محمد بن سيرين توضأ فمسح برأسه مسحتين إحداهما ببلل يديه والأخرى بماء جديد ، وعن أبي عبيد ثنا هشيم ثنا العوام : أن إبراهيم التيمي كان يمسح رأسه ثلاثا ، وهو قول الشافعي وداود وغيرهم ، وأما الإكثار من الماء فمذموم من الجميع . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن نافع ثنا شبابة ثنا ليث هو ابن سعد - عن يزيد بن أبي حبيب عن عراك بن مالك عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر - وكانت تحت المنذر بن الزبير - قالت { إن عائشة أم المؤمنين أخبرتها أنها كانت تغتسل هي ورسول الله ﷺ في إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريبا من ذلك } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن حبيب الأنصاري قال : سمعت عباد بن تميم عن جدتي - وهي أم عمارة { أن النبي ﷺ توضأ فأتي بإناء فيه قدر ثلثي المد } . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن سلمة المرادي ثنا ابن وهب عن عياض بن عبد الله الفهري عن مخرمة بن سليمان القرشي عن كريب مولى ابن عباس أن ابن عباس أخبره { أنه رأى رسول الله ﷺ قام من النوم فعمد إلى شجب من ماء فتسوك وتوضأ فأسبغ الوضوء ولم يهرق من الماء إلا قليلا } وذكر الحديث . قال علي : وقد جاءت آثار أنه { عليه السلام توضأ بالمد واغتسل بالصاع } ، وأنه { عليه السلام توضأ بمكوك واغتسل بخمس مكاكي } ، وأنه { عليه السلام كان يتوضأ من إناء فيه مد وربع } ، وكل هذا صحيح لا يختلف ، وإنما هو ما أجزأ فقط وبالله تعالى التوفيق .


209 - مسألة : ومن كان على ذراعيه أو أصابعه أو رجليه جبائر أو دواء ملصق لضرورة فليس عليه أن يمسح على شيء من ذلك ، وقد سقط حكم ذلك المكان ، فإن سقط شيء من ذلك بعد تمام الوضوء فليس عليه إمساس ذلك المكان بالماء ، وهو على طهارته ما لم يحدث . برهان ذلك قول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقول رسول الله ﷺ { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } فسقط بالقرآن والسنة كل ما عجز عنه المرء ، وكان التعويض منه شرعا ، والشرع لا يلزم إلا بقرآن أو سنة ، ولم يأت قرآن ولا سنة بتعويض المسح على الجبائر والدواء من غسل ما لا يقدر على غسله ، فسقط القول بذلك فإن قيل فإنه قد روي من طريق زيد عن أبيه عن جده عن علي { قلت يا رسول الله أمسح على الجبائر ؟ قال نعم امسح عليها } قلنا : هذا خبر لا تحل روايته إلا على بيان سقوطه ؛ لأنه انفرد به أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي وهو مذكور بالكذب . فإن قيل : فقد جاء أنه { عليه السلام أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين } قلنا : هذا لا يصح من طريق الإسناد ، ولو كان لما كانت فيه حجة ، لأن العصائب هي العمائم ، قال الفرزدق : وركب كأن الريح تطلب عندهم لها ترة من جذبها بالعصائب والتساخين هي الخفاف . وإنما أوجب من أوجب المسح على الجبائر قياسا على المسح على الخفين ، والقياس باطل ، ثم لو كان القياس حقا لكان هذا منه باطلا ، لأن المسح على الخفين فيه توقيت ، ولا توقيت في المسح على الجبائر ، مع أن قول القائل : لما جاز المسح على الخفين وجب المسح على الجبائر ، دعوى بلا دليل ، وقضية من عنده ، ثم هي أيضا موضوعة وضعا فاسدا لأنه إيجاب فرض قيس على إباحة وتخيير ، وهذا ليس من القياس في شيء . وقد روينا مثل قولنا عن بعض السلف ، كما روينا من طريق ابن المبارك عن سفيان الثوري عن عبد الملك بن أبجر عن الشعبي أنه قال في الجراحة : اغسل ما حولها ، فإن قيل : قد رويتم عن ابن عمر أنه ألقم أصبع رجله مرارة فكان يمسح عليها . قلنا : هذا فعل منه ، وليس إيجابا للمسح عليها ، وقد صح عنه { رضي الله عنه أنه كان يدخل الماء في باطن عينيه في الوضوء والغسل } ، وأنتم لا ترون ذلك ، فضلا عن أن توجبوه فرضا ، وصح أن كان يجيز بيع الحامل واستثناء ما في بطنها ، وهذا عندكم حرام ، ومن المقت عند الله تعالى أن تحتجوا به فيما اشتهيتم وتسقطوا الحجة به حيث لم تشتهوا ، وهذا عظيم في الدين جدا . وإذ قد صح ما ذكرنا فالوضوء إذا تم وجازت به الصلاة فلا ينقضه إلا حدث أو نص جلي وارد بانتقاضه ، وليس سقوط اللصقة أو الجبيرة أو الرباط حدثا ، ولا جاء نص بإيجاب الوضوء من ذلك ، والشرائع لا تؤخذ إلا عن الله تعالى على لسان رسول الله ﷺ وممن رأى المسح على الجبائر أبو حنيفة ومالك والشافعي ولم ير ذلك داود وأصحابنا ، وبالله تعالى التوفيق .




210 - مسألة : ولا يجوز لأحد مس ذكره بيمينه جملة إلا عند ضرورة لا يمكنه غير ذلك ، ولا بأس بأن يمس بيمينه ثوبا على ذكره ، ومس الذكر بالشمال مباح ، ومسح سائر أعضائه بيمينه وبشماله مباح ، ومس الرجل ذكر صغير لمداواة أو نحو ذلك من أبواب الخير كالختان ونحوه ، جائز باليمين والشمال ، ومس المرأة فرجها بيمينها وشمالها جائز ، وكذلك مسها ذكر زوجها أو سيدها بيمينها أو بشمالها جائز . برهان ذلك أن كل ما ذكرنا فلا نص في النهي عنه ، وكل ما لا نص في تحريمه فهو مباح بقول الله تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } وقول رسول الله ﷺ { من أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته } . وقوله عليه السلام : { دعوني ما تركتكم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه } أو كما قال عليه السلام ، فنص تعالى على أن كل محرم قد فصل لنا باسمه ، فصح أن ما لم يفصل تحريمه فلم يحرم ، وكذلك بالخبرين المذكورين . وقد جاء النهي عن مس الرجل ذكره بيمينه ، كما حدثنا حمام وعبد الله بن يوسف ، قال عبد الله ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا ابن أبي عمر ثنا الثقفي هو عبد الوهاب بن عبد المجيد - عن أيوب السختياني ، وقال حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا أحمد بن محمد البرتي قاضي بغداد ثنا أبو نعيم هو الفضل بن دكين - ثنا سفيان هو الثوري عن معمر ، ثم اتفق أيوب السختياني ومعمر كلاهما عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال : { نهى رسول الله ﷺ أن يمس الرجل ذكره بيمينه } هذا لفظ معمر . ولفظ أيوب { نهى رسول الله ﷺ أن يتنفس في الإناء وأن يمس ذكره بيمينه وأن يستطيب بيمينه } . وبهذا الخبر حرم أن يزيل أحد أثر البول بيمينه بغسل أو مسح ، لأنه استطابة . قال علي : رواية معمر وأيوب زائدة على كل ما رواه غيرهما عن يحيى بن أبي كثير من الاقتصار بالنهي عن مس الذكر باليمين في حال البول ، وعند دخول الخلاء ، والزيادة مقبولة لا يجوز ردها ، لا سيما وأيوب ومعمر أحفظ ممن روى بعض ما روياه ، وكل ذلك حق ، وأخذ كل ذلك فرض لا يحل رد شيء مما رواه الثقات ، فمن أخذ برواية أيوب ومعمر فقد أخذ برواية همام وهشام الدستوائي والأوزاعي وأبي إسماعيل ، ومن أخذ برواية هؤلاء وخالف رواية أيوب ومعمر فقد عصى . وقد روينا مثل قولنا هذا عن بعض السلف ، كما روينا من طريق وكيع عن الصلت بن دينار عن عقبة بن صهبان : سمعت أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه يقول : ما مسست ذكري بيميني مذ بايعت بها رسول الله ﷺ . وبه إلى وكيع عن خالد بن دينار سمعت أبا العالية يقول : ما مسست ذكري بيميني مذ ستين سنة أو سبعين سنة . وروينا عن مسلم بن يسار - وكان من خيار التابعين - أنه قال : لا أمس ذكري بيميني وأنا أرجو أن آخذ بها كتابي . وبالله تعالى التوفيق .


211 - مسألة : ومن أيقن بالوضوء والغسل ثم شك هل أحدث أو كان منه ما يوجب الغسل أم لا فهو على طهارته ، وليس عليه أن يجدد غسلا ولا وضوءا ، فلو اغتسل وتوضأ ثم أيقن أنه كان محدثا أو مجنبا ، أو أنه قد أتى بما يوجب الغسل لم يجزه الغسل ولا الوضوء اللذان أحدثا بالشك ، وعليه أن يأتي بغسل آخر ووضوء آخر ، ومن أيقن بالحدث وشك في الوضوء أو الغسل فعليه أن يأتي بما شك فيه من ذلك ، فإن لم يفعل وصلى بشكه ثم أيقن أنه لم يكن حدثا ولا كان عليه غسل لم تجزه صلاته تلك أصلا . برهان ذلك قول الله تعالى : { إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } ، وقال رسول الله ﷺ : { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد ثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد حركة في دبره أحدث أو لم يحدث فأشكل عليه ، فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا } وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وداود ، وقال مالك : يتوضأ في كلا الوجهين ، واحتج بعض مقلديه بأن رسول الله ﷺ { أمر من شك فلم يدر كم صلى بأن يلغي الشك ويبني على اليقين } قال أبو محمد : وهذا خطأ من وجهين ، أحدهما تركهم للخبر الوارد في المسألة بعينها ومخالفتهم له ، وأن يجعلوا هذا الأمر حدثا يوجب الوضوء في غير الصلاة ولا يوجبه في الصلاة ، وهذا تناقض قد أنكروا مثله على أبي حنيفة في الوضوء من القهقهة في الصلاة دون غيرها وأخذهم بخبر جاء في حكم آخر . والثاني أنهم احتجوا بخبر هو حجة عليهم ؛ لأنه عليه السلام لم يجعل للشك حكما ، وأبقاه على اليقين عنده بلا شك ، وإن جاز أن يكون الأمر كما ظن - هذا - إلى تناقضهم ، فإنهم يقولون : من شك أطلق أم لم يطلق ، وأيقن بصحة النكاح فلا يلزمه طلاق ، ومن أيقن بصحة الملك فشك أنه أعتق أم لم يعتق فلا يلزمه عتق ، ومن تيقنت حياته وشك في موته فهو على الحياة ، وهكذا في كل شيء . قال علي : فإذا هو كما ذكرنا فإن توضأ كما ذكرنا وهو شاك في الحدث ثم أيقن بأنه كان أحدث لم يجزه ذلك الوضوء ، لأنه لم يتوضأ الوضوء الواجب عليه ، وإنما توضأ وضوءا لم يؤمر به ، ولا ينوب وضوء لم يأمر الله عز وجل به عن وضوء أمر الله تعالى به . وبالله تعالى التوفيق

========




كتاب الطهارة


صفة الغسل الواجب في كل ما ذكرنا

212 - مسألة : والمسح على كل ما لبس في الرجلين - مما يحل لباسه مما يبلغ فوق الكعبين سنة ، سواء كانا خفين من جلود أو لبود أو عود أو حلفاء أو جوربين من كتان أو صوف أو قطن أو وبر أو شعر - كان عليهما جلد أو لم يكن - أو جرموقين أو خفين على خفين أو جوربين على جوربين أو ما كثر من ذلك أو هراكس . وكذلك إن لبست المرأة ما ذكرنا من الحرير ، فكل ما ذكرنا إذا لبس على وضوء جاز المسح عليه للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن ، ثم لا يحل له المسح ، فإذا انقضى هذان الأمدان - يعني أحدهما - لمن وقت له صلى بذلك المسح ما لم تنتقض طهارته ، فإن انتقضت لم يحل له أن يمسح ، لكن يخلع ما على رجليه ويتوضأ ولا بد ، فإن أصابه ما يوجب الغسل خلعهما ولا بد ، ثم مسح كما ذكرنا إن شاء ، وهكذا أبدا كما وصفنا . برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن عبد الله بن نمير ثنا أبي ثنا زكريا بن أبي زائدة عن عامر - هو الشعبي - ثنا عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه قال { كنت مع رسول الله ﷺ فذكر وضوءه عليه السلام ، قال المغيرة ثم أهويت لأنزع الخفين فقال عليه السلام : دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ، ومسح عليهما } . حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي ثنا ابن مفرج ثنا إبراهيم بن أحمد بن علي بن أحمد بن فراس ثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ ثنا سعيد بن منصور ثنا أبو الأحوص ثنا الأعمش عن أبي وائل عن { حذيفة قال كنت أمشي مع رسول الله ﷺ بالمدينة فانتهى إلى سباطة ناس فبال عليها قائما ثم توضأ ومسح على خفيه } . حدثنا عبد الله بن ربيع ويحيى بن عبد الرحمن بن مسعود قال عبد الله - ثنا محمد بن معاوية القرشي الهشامي ثنا أحمد بن شعيب ثنا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - وقال يحيى ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي ، ثم اتفق أحمد وإسحاق واللفظ لأحمد قالا : ثنا وكيع ثنا سفيان الثوري عن أبي قيس عبد الرحمن بن ثروان عن هزيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة " أن رسول الله ﷺ { توضأ ومسح على الجوربين والنعلين } . حدثنا يونس بن عبد الله حدثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا هناد بن السري عن أبي معاوية عن الأعمش عن الحكم - هو ابن عتيبة - عن القاسم بن مخيمرة عن { شريح بن هانئ قال : سألت عائشة أم المؤمنين عن المسح على الخفين فقالت : ائت علي بن أبي طالب فإنه أعلم بذلك مني ، فأتيت عليا فسألته عن المسح ؟ فقال : كان رسول الله ﷺ يأمرنا أن يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثا } . ورويناه أيضا كذلك من طريق مسلم بن الحجاج عن إسحاق بن راهويه عن عبد الرزاق وزكريا بن عدي ، قال عبد الرزاق أنبأنا سفيان الثوري عن عمرو بن قيس الملائي - وكان سفيان إذا ذكره أثنى عليه - . وقال زكريا عن عبيد الله بن عمرو الرقي عن زيد بن أبي أنيسة ، ثم اتفق زيد وعمرو عن الحكم بن عتيبة بمثل حديث الأعمش عن الحكم وإسناده . حدثنا هشام بن سعيد الخير ثنا عبد الجبار بن أحمد المقري ثنا الحسن بن الحسين النجيرمي ثنا جعفر بن محمد بن الحسن الأصبهاني ثنا يونس بن حبيب بن عبد القاهر حدثنا أبو داود الطيالسي ثنا حماد بن سلمة وحماد بن زيد وهمام بن يحيى وشعبة بن الحجاج كلهم عن عاصم بن أبي النجود عن { زر بن حبيش قال : أتيت صفوان بن عسال فقلت : إنه حك في نفسي من المسح على الخفين شيء ، فهل سمعت من رسول الله ﷺ في ذلك شيئا ؟ فقال : كنا مع رسول الله ﷺ في سفر فأمرنا أن نمسح عليهما ثلاثة أيام ولياليهن من غائط وبول ونوم إلا من جنابة } . ورويناه أيضا من طريق معمر وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة ، كلهم عن عاصم عن زر عن صفوان عن رسول الله ﷺ بمثله . وهذا نقل تواتر يوجب العلم ، ففي حديث المغيرة أن المسح إنما هو على من أدخل الرجلين وهما طاهرتان . وفي حديث حذيفة المسح في الحضر ، وفي حديث هزيل عن المغيرة المسح على الجوربين . وفي حديث علي عموم المسح على كل ما لبس في الرجلين يوما وليلة للمقيم وثلاثا للمسافر ، وأن لا يخلع إلا لغسل الجنابة في حديث صفوان . وأما قولنا إنه إذا انقضى أحد الأمدين المذكورين صلى الماسح بذلك المسح ما لم ينتقض وضوءه ، ولا يجوز له أن يمسح إلا حتى ينزعهما ويتوضأ ، فلأن رسول الله ﷺ أمره أن يمسح إن كان مسافرا ثلاثا فقط ، وإن كان مقيما يوما وليلة فقط ، وأمر عليه السلام بالصلاة بذلك المسح ، ولم ينهه عن الصلاة به بعد أمده المؤقت له ، وإنما نهاه عن المسح فقط ، وهذا نص الخبر في ذلك . وممن قال بالمسح على الجوربين جماعة من السلف ، كما روينا عن سفيان الثوري عن الزبرقان بن عبد الله العبدي ويحيى بن أبي حية والأعمش ، قال الزبرقان عن كعب بن عبد الله قال : رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه بال فمسح على جوربيه ونعليه ، وقال يحيى عن أبي الجلاس عن ابن عمر : أنه كان يمسح على جوربيه ونعليه وقال الأعمش عن إسماعيل بن رجاء وإبراهيم النخعي وسعيد بن عبد الله بن ضرار قال إسماعيل عن أبيه قال : رأيت البراء بن عازب يمسح على جوربيه ونعليه . وقال إبراهيم عن همام بن الحارث عن أبي مسعود البدري أنه كان يمسح على جوربيه ونعليه . وقال سعيد بن عبد الله : رأيت أنس بن مالك أتى الخلاء ثم خرج وعليه قلنسوة بيضاء مزرورة فمسح على القلنسوة وعلى جوربين له من خز عربي أسود ثم صلى . ومن طريق الضحاك بن مخلد عن سفيان الثوري حدثني عاصم الأحول قال : رأيت أنس بن مالك مسح على جوربيه . وعن حماد بن سلمة عن ثابت البناني وعبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك قالا جميعا : كان أنس بن مالك يمسح على الجوربين والخفين والعمامة . وعن حماد بن سلمة عن أبي غالب عن أبي أمامة الباهلي أنه كان يمسح على الجوربين والخفين والعمامة وعن وكيع عن أبي جناب عن أبيه عن خلاس بن عمرو عن ابن عمر قال : بال عمر بن الخطاب يوم جمعة ثم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين وصلى بالناس الجمعة . وعن وكيع عن مهدي بن ميمون عن واصل الأحدب عن أبي وائل عن أبي مسعود أنه مسح على جوربين له من شعر . وعن وكيع عن يحيى البكاء قال : سمعت ابن عمر يقول : المسح على الجوربين كالمسح على الخفين . وعن قتادة عن سعيد بن المسيب : الجوربان بمنزلة الخفين في المسح . وعن عبد الرزاق عن ابن جريج ، قلت لعطاء : نمسح على الجوربين ؟ قال نعم امسحوا عليهما مثل الخفين . وعن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن إبراهيم النخعي : أنه كان لا يرى بالمسح على الجوربين بأسا . وعن أبي نعيم الفضل بن دكين قال : سمعت الأعمش سئل عن الجوربين أيمسح عليهما من بات فيهما ؟ قال نعم . وعن قتادة عن الحسن وخلاس بن عمرو أنهما كانا يريان الجوربين في المسح بمنزلة الخفين . وقد روي أيضا عن عبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسهل بن سعد وعمرو بن حريث . وعن سعيد بن جبير ونافع مولى ابن عمر - فهم عمر وعلي وعبد الله بن عمرو وأبو مسعود والبراء بن عازب وأنس بن مالك وأبو أمامة وابن مسعود وسعد وسهل بن سعد وعمرو بن حريث ، لا يعرف لهم ممن يجيز المسح على الخفين من الصحابة رضي الله عنهم مخالف . ومن التابعين سعيد بن المسيب وعطاء وإبراهيم النخعي والأعمش وخلاس بن عمرو وسعيد بن جبير ونافع مولى ابن عمر ، وهو قول سفيان الثوري والحسن بن حي وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وأبي ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي وغيرهم . وقال أبو حنيفة : لا يمسح على الجوربين ، وقال مالك : لا يمسح عليهما إلا أن يكون أسفلهما قد خرز عليه جلد ، ثم رجع فقال : لا يمسح عليهما ، وقال الشافعي لا يمسح عليهما إلا أن يكونا مجلدين . قال علي : اشتراط التجليد خطأ لا معنى له ، لأنه لم يأت به قرآن ولا سنة ولا قياس ولا صاحب ، والمنع من المسح على الجوربين خطأ لأنه خلاف السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ ، وخلاف الآثار ، ولم يخص عليه السلام في الأخبار التي ذكرنا خفين من غيرهما . والعجب أن الحنفيين والمالكيين والشافعيين يشنعون ويعظمون مخالفة الصاحب إذا وافق تقليدهم وهم قد خالفوا ههنا أحد عشر صاحبا ، لا مخالف لهم من الصحابة ممن يجيز المسح ، فيهم عمر وابنه وعلي وابن مسعود وخالفوا أيضا من لا يجيز المسح من الصحابة ، فحصلوا على خلاف كل من روي عنه في هذه المسألة شيء من الصحابة رضي الله عنهم ، وخالفوا السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ والقياس بلا معنى . وبالله تعالى التوفيق . وأما القائلون بالتوقيت في المسح من الصحابة رضي الله عنهم فروينا من طريق شعبة وابن المبارك عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي قال : شهدت سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر اختلفا في المسح ، فمسح سعد ولم يمسح ابن عمر ، فسألوا عمر بن الخطاب وأنا شاهد فقال عمر : امسح يومك وليلتك إلى الغد ساعتك . وعن شعبة عن عمران بن مسلم سمعت سويد بن غفلة قال بعثنا نباتة الجعفي إلى عمر بن الخطاب يسأله عن المسح على الخفين ، قال فسأله فقال عمر : للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة يمسح على الخفين والعمامة ، وهذان إسنادان لا نظير لهما في الصحة والجلالة . وقد روينا ذلك أيضا من طريق سعيد بن المسيب وزيد بن الصلت كلاهما عن عمر . ومن طريق سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن عبد الله بن مسعود قال ثلاثة أيام لمسافر ويوم للمقيم يعني في المسح . وروينا أيضا من طريق شقيق بن سلمة عن ابن مسعود ، وهذا أيضا إسناد صحيح . ومن طريق وكيع عن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن القاسم بن مخيمرة عن شريح بن هانئ الحارثي : سألت عليا عن المسح فقال : للمسافر ثلاثا وللمقيم يوما وليلة . وعن شعبة عن قتادة عن موسى بن سلمة قال : سألت ابن عباس عن المسح على الخفين فقال : ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ، ويوما وليلة للمقيم ، وهذا إسناد في غاية الصحة . وعن الشعبي عن عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه قال : صارت سنة للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة في المسح . وعن حماد بن سلمة عن سعيد بن قطن عن أبي زيد الأنصاري صاحب رسول الله ﷺ قال : يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن والمقيم يوما وليلة . وعن عبد الرزاق عن ابن جريج ومحمد بن راشد ويحيى بن ربيعة ، قال ابن جريج أخبرني أبان بن صالح أن عمر بن شريح أخبره أن شريكا القاضي كان يقول : للمقيم يوم إلى الليل وللمسافر ثلاث . وقال ابن أبي راشد : أخبرني سليمان بن موسى قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل المصيصة : أن اخلعوا الخفاف في كل ثلاث وقال يحيى بن ربيعة : سألت عطاء بن أبي رباح عن المسح على الخفين فقال : ثلاث للمسافر ويوم للمقيم ، وقد روي أيضا عن الشعبي . وهو قول سفيان الثوري والأوزاعي والحسن بن حي وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وداود بن علي وجميع أصحابهم ، وهو قول إسحاق بن راهويه وجملة أصحاب الحديث . وقد رواه أيضا أشهب عن مالك والرواية عن مالك مختلفة ، فالأظهر عنه كراهة المسح للمقيم وقد روي عنه إجازة المسح للمقيم ، وأنه لا يرى التوقيت لا للمقيم ولا للمسافر وأنهما يمسحان أبدا ما لم يجنبا . وتعلق مقلدوه في ذلك بأخبار ساقطة لا يصح منها شيء ، أرفعها من طريق خزيمة بن ثابت ، رواه أبو عبد الله الجدلي صاحب راية الكافر المختار ، ولا يعتمد على روايته ، ثم لو صح لما كانت لهم فيه حجة ؛ لأنه ليس فيه أن رسول الله ﷺ أباح المسح أكثر من ثلاث ، ولكن في آخر الخبر من قول الراوي : ولو تمادى السائل لزادنا . وهذا ظن وغيب لا يحل القطع به في أخبار الناس ، فكيف في الدين إلا أنه صح من هذا اللفظ أن السائل لم يتماد فلم يزدهم شيئا ، فصار هذا الخبر لو صح - حجة لنا عليهم ، ومبطلا لقولهم ، ومبينا لتوقيت الثلاثة أيام في السفر واليوم والليلة في الحضر . وآخر من طريق أنس ، رواه أسد بن موسى عن حماد بن سلمة ، وأسد منكر الحديث ، ولم يرو هذا الخبر أحد من ثقات أصحاب حماد بن سلمة . وآخر من طريق أنس منقطع ، ليس فيه إلا { إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليصل فيهما وليمسح عليهما ما لم يخلعهما إلا من جنابة } . ثم لو صح لكانت أحاديث التوقيت زائدة عليه ، والزيادة لا يحل تركها . وآخر من طريق أبي بن عمارة ، فيه يحيى بن أيوب الكوفي وأخر مجهولون . وآخر فيه : قال عمر بن إسحاق بن يسار - أخو محمد بن إسحاق : قرأت في كتاب لعطاء بن يسار مع عطاء بن يسار : { سألت ميمونة عن المسح على الخفين فقالت قلت : يا رسول الله أكل ساعة يمسح الإنسان على الخفين ولا ينزعهما ؟ قال : نعم } . قال علي : هذا لا حجة فيه لأن عطاء بن يسار لم يذكر لعمر بن إسحاق أنه هو السائل ميمونة ، ولعل السائل غيره ، ولا يجوز القطع في الدين بالشك ، ثم لو صح لم تكن فيه حجة لهم ، لأنه ليس فيه إلا إباحة المسح في كل ساعة ، وهكذا نقول : إذا أتى بشروط المسح من إتمام الوضوء ولباسهما على طهارة وإتمام الوقت المحدود وخلعهما للجنابة ، وهذا كله ليس مذكورا منه شيء في هذا الخبر ، فبطل تعلقهم به . وذكروا آثارا عن الصحابة رضي الله عنهم لا تصح . منها أثر عن أسد بن موسى عن حماد بن سلمة عن محمد بن زياد عن زبيد بن الصلت ، سمعت عمر بن الخطاب يقول : إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليمسح عليهما وليصل فيهما ما لم يخلعهما إلا من جنابة . وهذا مما انفرد به أسد بن موسى عن حماد ، وأسد منكر الحديث لا يحتج به ، وقد أحاله ، والصحيح من هذا الخبر هو ما رويناه من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن محمد بن زياد قال سمعت زبيد بن الصلت سمعت عمر بن الخطاب يقول : إذا توضأ أحدكم وأدخل خفيه في رجليه وهما طاهرتان فليمسح عليهما إن شاء ولا يخلعهما إلا من جنابة ، وهذا ليس فيه " ما لم يخلعهما " كما روى أسد ، والثابت عن عمر في التوقيت - برواية نباتة الجعفي وأبي عثمان النهدي ، وهما من أوثق التابعين - هو الزائد على ما في هذا الخبر . وآخر من طريق حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر : أن عمر بن الخطاب كان لا يجعل في المسح على الخفين وقتا ، وهذا منقطع ؛ لأن عبيد الله بن عمر لم يدرك أحدا أدرك عمر ، فكيف عمر . وآخر من طريق كثير بن شنظير عن الحسن : سافرنا مع أصحاب رسول الله ﷺ فكانوا يمسحون على خفافهم من غير وقت ولا عذر ، وكثير ضعيف جدا . وخبر رويناه من طريق عبد الرحمن بن مهدي ثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد بن يزيد عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر أن عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة بعثاه بريدا إلى أبي بكر برأس سان - فذكر الحديث وفيه : ثم أقبل على عقبة وقال : مذ كم لم تنزع خفيك ؟ قال من الجمعة إلى الجمعة ، قال أصبت . وقد حدث به عبد الرحمن مرة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة . قال علي : هذا أقرب ما يمكن أن يغلط فيه من لا يعرف الحديث ، وهذا خبر معلول ؛ لأن يزيد بن أبي حبيب لم يسمعه من علي بن رباح ولا من أبي الخير ، وإنما سمعه من عبد الله بن الحكم البلوي عن علي بن رباح . وعبد الله بن الحكم مجهول ، هكذا رويناه من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث والليث بن سعد كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن الحكم أنه سمع علي بن رباح اللخمي يخبر أن عقبة بن عامر الجهني قال : قدمت على عمر بفتح الشام وعلي خفان لي جرموقان غليظان ، فقال لي عمر : كم لك مذ لم تنزعهما ؟ قلت لبستهما يوم الجمعة واليوم الجمعة ، قال أصبت . قال ابن وهب : وسمعت زيد بن الحباب يذكر عن عمر بن الخطاب أنه قال : لو لبست الخفين ورجلاي طاهرتان وأنا على وضوء لم أبال أن لا أنزعهما حتى أبلغ العراق . قال علي : فهكذا هو الحديث ، فسقط جملة - ولله الحمد - وزيد بن الحباب لم يلق أحدا رأى عمر فكيف عمر . وقد روي أيضا هذا الخبر من طريق معاوية بن صالح عن عياض القرشي عن يزيد بن أبي حبيب أن عقبة وهذا أسقط وأخبث ؛ لأن يزيد لم يدرك عقبة وفيه معاوية بن صالح وليس بالقوي ، فبطل كل ما جاء في هذا الباب . ولا يصح خلاف التوقيت عن أحد من الصحابة إلا عن ابن عمر فقط ، فإننا روينا من طريق هشام بن حسان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يوقت في المسح على الخفين شيئا . قال أبو محمد : وهذا لا حجة فيه ؛ لأن ابن عمر لم يكن عنده المسح ولا عرفه ، بل أنكره حتى أعلمه به سعد بالكوفة ، ثم أبوه بالمدينة في خلافته ، فلم يكن في علم المسح كغيره ، وعلى ذلك فقد روي عنه التوقيت . روينا من طريق حماد بن زيد عن محمد بن عبيد الله العرزمي عن نافع عن ابن عمر قال : أين السائلون عن المسح على الخفين ؟ للمسافر ثلاثا وللمقيم يوما وليلة . ثم لو صح عن أبي بكر وعمر وعقبة رضي الله عنهم ما ذكرنا ، وكان قد خالف ذلك علي وابن مسعود وغيرهما ، لوجب عند التنازع الرد إلى بيان رسول الله ﷺ وبيانه عليه السلام قد صح بالتوقيت ، ولم يصح عنه شيء غيره أصلا ، فكيف ولم يصح قط عن عمر إلا التوقيت . قال علي : فإذا انقضى الأمدان المذكوران ، فإن أبا حنيفة والشافعي وبعض أصحابنا قالوا : يخلعهما ويغسل رجليه ولا بد ، وقال أبو حنيفة : إذا قعد الإنسان مقدار التشهد في آخر صلاته ثم أحدث عمدا أو نسيانا ببول أو ريح أو غير ذلك أو تكلم عمدا أو نسيانا فقد تمت صلاته ، وليس السلام من الصلاة فرضا . قال : فإن قعد مقدار التشهد في آخر صلاته وانقضى وقت المسح بعد ذلك فقد بطلت صلاته وبطلت طهارته ما لم يسلم ، وفي هذا من التناقض والخطأ ما لا يحتاج معه إلا تكليف رد عليه ، والحمد لله على السلامة . وقد قال الشافعي مرة : يبتدئ الوضوء . وقال إبراهيم النخعي والحسن البصري وابن أبي ليلى وداود : يصلي ما لم تنتقض طهارته بحدث ينقض الوضوء ، وهذا هو القول الذي لا يجوز غيره ، لأنه ليس في شيء من الأخبار أن الطهارة تنتقض عن أعضاء الوضوء ولا عن بعضها بانقضاء وقت المسح ، وإنما نهي عليه السلام عن أن يمسح أحد أكثر من ثلاث للمسافر أو يوم وليلة للمقيم . فمن قال غير هذا فقد أقحم في الخبر ما ليس فيه ، وقول رسول الله ﷺ ما لم يقل ، فمن فعل ذلك واهما فلا شيء عليه ، ومن فعل ذلك عامدا بعد قيام الحجة عليه فقد أتى كبيرة من الكبائر ، والطهارة لا ينقضها إلا الحدث ، وهذا قد صحت طهارته ولم يحدث فهو طاهر ، والطاهر يصلي ما لم يحدث أو ما لم يأت نص جلي في أن طهارته انتقضت وإن لم يحدث ، وهذا الذي انقضى وقت مسحه لم يحدث ولا جاء نص في أن طهارته انتقضت لا عن بعض أعضائه ولا عن جميعها ، فهو طاهر يصلي حتى يحدث ، فيخلع خفيه حينئذ وما على قدميه ويتوضأ ثم يستأنف المسح توقيتا آخر ، وهكذا أبدا وبالله تعالى التوفيق . وأما من قال إن الطهارة تنتقض عن قدميه خاصة ، فقول فاسد لا دليل عليه لا من سنة ، ولا من قرآن ، ولا من خبر واه ، ولا من إجماع ، ولا من قول صاحب ، ولا من قياس ، ولا رأي سديد أصلا ، وما علم في الدين قط حدث ينقض الطهارة - بعد تمامها وبعد جواز الصلاة بها - عن بعض الأعضاء دون بعض ، وبالله تعالى التوفيق . وأما تقسيم أبي حنيفة فما روي قط عن أحد من الناس قبله ، وبالله تعالى نتأيد .




213 - مسألة : ويبدأ بعد اليوم والليلة المقيم وبعد الثلاثة أيام بلياليها المسافر من حين يجوز له المسح إثر حدثه ، سواء مسح وتوضأ أو لم يمسح ولا توضأ ، عامدا أو ساهيا ، فإن أحدث يومه بعد ما مضى أكثر هذين الأمدين أو أقلهما كان له أن يمسح باقي الأمدين فقط ، ولو مسح قبل انقضاء أحد الأمدين بدقيقة كان له أن يصلي به ما لم يحدث . قال علي : قال أبو حنيفة والشافعي والثوري : يبتدئ بعد هذين الوقتين من حين يحدث . وقال أحمد بن حنبل : يبدأ بعدهما من حين يمسح ، وروي عن الشعبي يمسح لخمس صلوات فقط إن كان مقيما ، ولا يمسح لأكثر ، ويمسح لخمس عشرة صلاة فقط ، إن كان مسافرا ، ولا يمسح لأكثر وبه يقول إسحاق بن راهويه وسليمان بن داود الهاشمي وأبو ثور . قال علي : فلما اختلفوا وجب أن ننظر في هذه الأقوال ونردها إلى ما افترض الله عز وجل علينا أن نردها عليه من القرآن وسنة رسول الله ﷺ ففعلنا ، فنظرنا في قول من قال يبدأ بعد الوقتين من حين يحدث ، فوجدناه ظاهر الفساد ؛ لأن أمر رسول الله ﷺ - الذي به تعلقوا كلهم وبه أخذوا أو وقفوا في أخذهم به - إنما جاءنا بالمسح مدة أحد الأمدين المذكورين ، وهم يقرون بهذا ، ومن المحال الباطل أن يجوز له المسح في الوضوء في حال الحدث ، هذا ما لا يقولون به هم ولا غيرهم ، ووجدنا بعض الأحداث قد تطول جدا الساعة والساعتين والأكثر كالغائط . ومنها ما يدوم أقل كالبول ، فسقط هذا القول بيقين لا شك فيه وهو أيضا مخالف لنص الخبر ، ولا حجة لهم فيه أصلا . ثم نظرنا في قول من حد ذلك بالصلوات الخمس أو الخمس عشرة ، فوجدناهم لا حجة لهم فيه إلا مراعاة عدد الصلوات في اليوم والليلة وفي الثلاثة الأيام بلياليهن وهذا لا معنى له ، لأنه إذا مسح المرء بعد الزوال في آخر وقت الظهر فإنه يمسح إلى صلاة الصبح ثم لا يكون له أن يصلي الضحى بالمسح ، ولا صلاة بعدها إلى الظهر وكذلك من مسح لصلاة الصبح في آخر وقتها فإنه يمسح إلى أن يصلي العتمة ، ثم لا يكون له أن يوتر ولا أن يتهجد ولا أن يركع ركعتي الفجر بمسح ، وهذا خلاف لحكم رسول الله ﷺ لأنه عليه السلام فسح للمقيم في مسح يوم وليلة ، وهم منعوه من المسح إلا يوما وبعض ليلة ، أو ليلة وأقل من نصف يوم ، وهذا خطأ بين . وأيضا فإنه يلزمهم أن من عليه خمس صلوات نام عنهن ثم استيقظ - وكان قد توضأ ولبس خفيه على طهارة ثم نام - أنه يمسح عليهما ، فإذا أتمهن لم يجز أن يمسح بعدهن باقي يومه وليلته ، وهذا خلاف الخبر ، فسقط هذا القول بمخالفته للخبر وتعريه من أن يكون لصحته برهان . ثم نظرنا في قول أحمد فوجدناه يلزمه إن كان إنسان فاسق قد توضأ ولبس خفيه على طهارة ثم بقي شهرا لا يصلي عامدا ثم تاب : أن له أن يمسح من حين توبته يوما وليلة أو ثلاثا إن كان مسافرا . وكذلك إن مسح يوما ثم تعمد ترك الصلاة أياما فإن له أن يمسح ليلة ، وهكذا في المسافر ، فعلى هذا يتمادى ماسحا عاما وأكثر ، وهذا خلاف نص الخبر ، فسقط أيضا هذا القول ولم يبق إلا قولنا . فنظرنا فيه فوجدناه موافقا لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي صح عنه وموافقا لنص الخبر الوارد في ذلك ، ولم يبق غيره فوجب القول به ؛ لأن رسول الله ﷺ أمره بأن يمسح يوما وليلة ، فله أن يمسح إن شاء ، وأن يخلع ما على رجليه ، لا بد له من أحدهما ، ولا يجزيه غيرهما ، وهو عاص لله عز وجل ، فاسق إن لم يأت بأحدهما ، فإن مسح فله ذلك وقد أحسن ، وإن لم يمسح فقد عصى الله ، أو أخطأ إن فعل ذلك ناسيا ولا حرج عليه ، وقد مضى من الأمد الذي وقت رسول الله ﷺ مدة ، وبقي باقيها فقط ، وهكذا إن تعمد أو نسي حتى ينقضي اليوم والليلة للمقيم والثلاثة الأيام بلياليهن للمسافر ، فقد مضى الوقت الذي وقته له الله تعالى على لسان نبيه ﷺ وليس له أن يمسح في غير الوقت الذي أمره الله تعالى بالمسح فيه . فلو كان فرضه التيمم ولم يجد ماء فتيمم ثم لبس خفيه ، فله أن يمسح إذا وجد الماء ، لأن التيمم طهارة تامة . قال الله تعالى وقد ذكر التيمم : { ولكن يريد ليطهركم } ومن جازت له الصلاة بالتيمم فهو طاهر بلا شك ، وإذا كان طاهرا كله فقدماه طاهرتان بلا شك ، فقد أدخل خفيه القدمين وهما طاهرتان ، فجائز له المسح عليهما الأمد المذكور للمسافر ، فإن لم يجد الماء إلا بعد تمام الثلاث بأيامها - من حين أحدث بعد لباس خفيه على طهارة التيمم - لم يجز له المسح ، لأن الأمد قد تم ، وقد كان ممكنا له أن يمسح بنزول مطر أو وجود من معه ماء . وكذلك لو لم يجد الماء إلا بعد مضي بعض الأمد المذكور ، فليس له أن يمسح إلا باقي الأمد فقط . قال علي : فإذا تم حدثه فحينئذ جاز له الوضوء والمسح ولا يبالي بالاستنجاء لأن الاستنجاء بعد الوضوء جائز ، وليس فرضه أن يكون قبل الوضوء ولا بد ؛ لأنه لم يأت بذلك أمر في قرآن ولا سنة ، وإنما هي عين أمرنا بإزالتها بصفة ما للصلاة فقط ، فمتى أزيلت قبل الصلاة وبعد الوضوء أو قبل الوضوء ، فقد أدى مزيلها ما عليه وليس بقاء البول في ظاهر الخرت وبقاء النجو في ظاهر المخرج حدثا ، إنما الحدث خروجهما من المخرجين فقط ، فإذا ظهرا فإنما خبثان في الجلد تجب إزالتهما للصلاة فقط ، فمن حينئذ يعد ، سواء كان وقت صلاة أو لم يكن ؛ لأن التطهر للصلاة قبل دخول وقتها جائز ، وقد يصلي بذلك الوضوء في ذلك الوقت صلاة فائتة ، أو ركعتي دخول المسجد ، فإن كان مقيما فإلى مثل ذلك الوقت من الغد إن كان ذلك نهارا ، وإلى مثله من الليلة القابلة إن كان ذلك ليلا ، فإن انقضى له الأمد المذكور وقد مسح أحد خفيه ولم يمسح شيئا من الآخر بطل المسح ، ولزمه خلعهما وغسلهما ، لأنه لم يتم له مسحه إلا في وقت قد حرم عليه فيه المسح ، وإن كان مسافرا فإلى مثل ذلك الوقت من اليوم الرابع إن كان حدثه نهارا أو إلى مثل ذلك الوقت من الليلة الرابعة إن كان ذلك ليلا ، وبالله تعالى التوفيق .


214 - مسألة : والرجال والنساء في كل ما ذكرنا سواء ، وسفر الطاعة والمعصية في كل ذلك سواء ، وكذلك ما ليس طاعة ولا معصية ، وقليل السفر وكثيره سواء . برهان ذلك عموم أمر رسول الله ﷺ وحكمه ، ولو أراد عليه السلام تخصيص سفر من سفر ، ومعصية من طاعة ، لما عجز عن ذلك ، وواهب الرزق والصحة وعلو اليد للعاصي والمرجو للمغفرة له يتصدق عليه من فسح الدين بما شاء ، وقولنا هو قول أبي حنيفة . ولا معنى لتفريق من فرق في ذلك بين سفر الطاعة وسفر المعصية - لا من طريق الخبر ولا من طريق النظر . أما الخبر فالله تعالى يقول : { لتبين للناس ما نزل إليهم } فلو كان ههنا فرق لما أهمله رسول الله ﷺ ، ولا كلفنا علم ما لم يخبرنا به ، ولا ألزمنا العمل بما لم يعرفنا به ، هذا أمر قد أمناه ولله الحمد . وأما من طريق النظر فإن المقيم قد تكون إقامته إقامة معصية وظلم للمسلمين وعدوانا على الإسلام أشد من سفر المعصية ، وقد يطيع المسافر في المعصية في بعض أعماله ، وأولها الوضوء الذي يكون فيه المسح المذكور الذي منعوه منه ، فمنعوه من المسح الذي هو طاعة ، وأمروه بالغسل الذي هو طاعة أيضا ، وهذا فساد من القول جدا ، وأطلقوا المسح للمقيم العاصي في إقامته . فإن قالوا المسح رخصة ورحمة ، قلنا ما حجر على الله الترخيص للعاصي في بعض أعمال طاعته ، ولا رحمة الله تعالى له إلا جاهل بالله تعالى ، قائل بما لا علم له به ، وكل سفر تقصر فيه الصلاة فيمسح فيه مسح سفر ، وما لا قصر فيه فهو حضر وإقامة ، لا يمسح فيه إلا مسح المقيم ، وبالله تعالى التوفيق .

215 - مسألة : ومن توضأ فلبس أحد خفيه بعد أن غسل تلك الرجل ثم إنه غسل الأخرى بعد لباسه الخف على المغسولة ، ثم لبس الخف الآخر ثم أحدث فالمسح له جائز كما لو ابتدأ لباسهما بعد غسل كلتي رجليه ، وبه يقول أبو حنيفة وداود وأصحابهما . وهو قول يحيى بن آدم وأبي ثور والمزني ، وقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل : لا يمسح لكن إن خلع التي لبس أولا ثم أعادها من حينه فإن له المسح . قال علي : كلا القولين عمدة أهله على قول رسول الله ﷺ { دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين } ، فوجب النظر في أي القولين هو أسعد بهذا القول ، فوجدنا من طهر إحدى رجليه ثم ألبسها الخف فلم يلبس الخفين وإنما لبس الواحد ولا أدخل القدمين الخفين ، إنما أدخل القدم الواحدة ، فلما طهر الثانية ثم ألبسها الخف الثاني صار حينئذ مستحقا لأن يخبر عنه أنه أدخلهما طاهرتين ولم يستحق هذا الوصف قبل ذلك ، فصح أن له أن يمسح ، ولو أراد رسول الله ﷺ ما ذهب إليه مالك والشافعي لما قال هذا اللفظ ، وإنما كان يقول : دعهما فإني ابتدأت إدخالهما في الخفين بعد تمام طهارتهما جميعا ، فإذ لم يقل عليه السلام هذا القول فكل من صدق الخبر عنه بأنه أدخل قدميه جميعا في الخفين وهما طاهرتان فجائز له أن يمسح إذا أحدث بعد الإدخال ، وما علمنا خلع خف وإعادته في الوقت يحدث طهارة لم تكن ، ولا حكما في الشرع لم يكن ، فالموجب له مدع بلا برهان . وبالله تعالى التوفيق .

======







كتاب الطهارة


صفة الغسل الواجب في كل ما ذكرنا

216 - مسألة : فإن كان في الخفين أو فيما لبس على الرجلين خرق صغير أو كبير ، طولا أو عرضا ، فظهر منه شيء من القدم ، أقل القدم أو أكثرها أو كلاهما فكل ذلك سواء ، والمسح على كل ذلك جائز ، ما دام يتعلق بالرجلين منهما شيء ، وهو قول سفيان الثوري وداود وأبي ثور وإسحاق بن راهويه ويزيد بن هارون . قال أبو حنيفة : إن كان في كل واحد من الخفين خرق عرضا يبرز من كل خرق أصبعان فأقل أو مقدار أصبعين فأقل : جاز المسح عليهما ، فإن ظهر من أحدهما دون الآخر ثلاثة أصابع أو مقدارها فأكثر لم يجز المسح عليهما قال : فإن كان الخرق طويلا مما لو فتح ظهر منه أكثر من ثلاثة أصابع جاز المسح . وقال مالك : إن كان الخرق يسيرا لا يظهر منه القدم جاز المسح ، وإن كان كبيرا فاحشا لم يجز المسح عليهما ، فيهما كان أو في أحدهما . وقال الحسن بن حي والشافعي وأحمد : إن ظهر من القدم شيء من الخرق لم يجز المسح عليهما ، فإن لم يظهر من الخرق شيء من القدم جاز المسح عليهما . قال الحسن بن حي : فإن كان من تحت الخرق قل أو كثر جورب يستر القدم جاز المسح . وقال الأوزاعي : إن انكشف من الخرق في الخف شيء من القدم مسح على الخفين وغسل ما انكشف من القدم أو القدمين وصلى ، فإن لم يغسل ما ظهر أعاد الصلاة . قال علي : فلما اختلفوا وجب أن ننظر ما احتجت به كل طائفة لقولها ، فوجدنا قول مالك لا معنى له ، لأنه منع من المسح في حال ما وأباحه في حال أخرى ، ولم يبين لمقلديه ولا لمريدي معرفة قوله ولا لمن استفتاه ، ما هي الحال التي يحل فيها المسح ، ولا ما الحال الذي يحرم فيها المسح فهذا إنشاب للمستفتي فيما لا يعرف وأيضا فإنه قول لا دليل على صحته ، ودعوى لا برهان عليها ، فسقط هذا القول . ثم نظرنا في قول أبي حنيفة فكان تحكما بلا دليل ، وفرقا بلا برهان ، لا يعجز عن مثله أحد ، ولا يحل القول في الدين بمثل هذا ، وأيضا فالأصابع تختلف في الكبر والصغر تفاوتا شديدا ، فليت شعري أي الأصابع أراد وما نعلم أحدا سبقه إلى هذا القول مع فساده ، فسقط أيضا هذا القول بيقين . ثم نظرنا في قول الحسن بن حي والشافعي وأحمد فوجدنا حجتهم أن فرض الرجلين الغسل إن كانتا مكشوفتين أو المسح إن كانتا مستورتين ، فإذا انكشف شيء منهما وإن قل فقد انكشف شيء فرضه الغسل ، قالوا : ولا يجتمع غسل ومسح في رجل واحدة ، ما نعلم لهم حجة غير هذا . قال علي : كل ما قالوه صحيح ، إلا قولهم إذا انكشف من القدم شيء فقد انكشف شيء فرضه الغسل ، فإنه قول غير صحيح ، ولا يوافقون عليه ، إذ لم يأت به قرآن ولا سنة ولا إجماع ، لكن الحق في ذلك ما جاءت به السنة المبينة للقرآن من أن حكم القدمين اللتين ليس عليهما شيء ملبوس يمسح عليه أن يغسلا ، وحكمهما إذا كان عليهما شيء ملبوس أن يمسح على ذلك الشيء ، بهذا جاءت السنة { وما كان ربك نسيا } . وقد علم رسول الله ﷺ - إذ أمر بالمسح على الخفين وما يلبس في الرجلين ومسح على الجوربين - أن من الخفاف والجوارب وغير ذلك مما يلبس على الرجلين المخرق خرقا فاحشا أو غير فاحش ، وغير المخرق ، والأحمر والأسود والأبيض ، والجديد والبالي ، فما خص عليه السلام بعض ذلك دون بعض ، ولو كان حكم ذلك في الدين يختلف لما أغفله الله تعالى أن يوحي به ، ولا أهمله رسول الله ﷺ المفترض عليه البيان ، حاشا له من ذلك فصح أن حكم ذلك المسح على كل حال ، والمسح لا يقتضي الاستيعاب في اللغة التي بها خوطبنا ، وهكذا روينا عن سفيان الثوري أنه قال : امسح ما دام يسمى خفا ، وهل كانت خفاف المهاجرين والأنصار إلا مشققة مخرقة ممزقة ؟ وأما قول الأوزاعي فنذكره إن شاء الله في المسألة التالية لهذه وبالله التوفيق .


217 - مسألة : فإن كان الخفان مقطوعين تحت الكعبين فالمسح جائز عليهما ، وهو قول الأوزاعي ، روي عنه أنه قال : يمسح المحرم على الخفين المقطوعين تحت الكعبين ، وقال غيره لا يمسح عليها إلا أن يكونا فوق الكعبين . قال علي : قد { صح عن رسول الله ﷺ الأمر بالمسح على الخفين ، وأنه مسح على الجوربين } ، ولو كان ههنا حد محدود لما أهمله عليه السلام ولا أغفله فوجب أن كل ما يقع عليه اسم خف أو جورب أو لبس على الرجلين فالمسح عليه جائز ، وقد ذكرنا بطلان قول من قال : إن المسح لا يجوز إلا على ما يستر جميع الرجلين والكعبين . وبذلك الدليل يبطل هذا القول الذي لهم في هذه المسألة ، لا سيما قول أبي حنيفة المجيز المسح على الخفين اللذين يظهر منهما مقدار أصبعين من كل خف ، فإنه يلزمه إن ظهر من الكعبين من كل قدم فوق الخف مقدار أصبعين فالمسح جائز وإلا فلا . وكذلك يلزم المالكيين أن يقولوا : إن كان الظاهر من الكعبين فوق الخف يسيرا جاز المسح ، وإن كان فاحشا لم يجز ، وما ندري علام بنوا هذين القولين فإنهما لا نص ولا قياس ولا اتباع . وبالله التوفيق . قال علي : وأما قول الأوزاعي في الجمع بين الغسل والمسح في رجل واحدة فقول لا دليل على صحته ، لا من نص ولا من إجماع ولا قياس ولا قول صاحب ، وحكم الرجلين الملبوس عليهما شيء المسح فقط بالسنن الثابتة ، فلا معنى لزيادة الغسل على ذلك .


218 - مسألة : ومن لبس خفيه أو جوربيه أو غير ذلك على طهارة ثم خلع أحدهما دون الآخر ، فإن فرضه أن يخلع الآخر إن كان قد أحدث ولا بد ، ويغسل قدميه . وقد روى المعافى بن عمران ومحمد بن يوسف الفريابي عن سفيان الثوري أنه يغسل الرجل المكشوفة ويمسح على الأخرى المستورة . وروى الفضل بن دكين عنه ، أنه ينزع ما على الرجل الأخرى ويغسلهما ، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي . قال علي : فنظرنا في ذلك فوجدنا نص حكمه عليه السلام أنه مسح عليهما لأنه أدخلهما طاهرتين . وأمر عليه السلام بغسل القدمين المكشوفتين فكان هذان النصان لا يحل الخروج عنهما . ووجدنا من غسل رجلا ومسح على الأخرى قد عمل عملا لم يأت به قرآن ولا سنة ولا دليل من لفظيهما . ولا يجوز في الدين إلا ما وجد في كلام الله تعالى أو كلام نبيه عليه السلام . فوجب أن لا يجزئ غسل رجل ومسح على الأخرى . وأنه لا بد من غسلهما أو المسح عليهما . سواء في ذلك في الابتداء أو بعد المسح عليهما . وقد حدثنا يونس بن عبد الله بن مغيث قال : ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا أحمد بن خالد ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن إدريس - هو الأودي - عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد - هو المقبري - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ { إذا لبس أحدكم فليبدأ باليمنى وإذا خلعه فليبدأ باليسرى ، ولا يمشي في نعل واحدة ولا خف واحدة ، ليخلعهما جميعا أو ليمش فيهما جميعا } . فأوجب عليه السلام خلعهما ولا بد أو تركهما جميعا ، فإن خلع إحداهما دون الأخرى فقد عصى الله في إبقائه الذي أبقى ، وإذا كان بإبقائه عاصيا فلا يحل له المسح على خف فرضه نزعه ، فإن كان ذلك لعلة برجله لم يلزمه في تلك الرجل شيء أصلا ، لا مسح ولا غسل ، لأن فرضه قد سقط . ووجدنا بعض الموافقين لنا قد احتج في هذا بأنه لما لم يجز عند أحد ابتداء الوضوء بغسل رجل ومسح على خف على أخرى لم يجز ذلك بعد نزع أحد الخفين . قال أبو محمد : وهذا كلام فاسد ؛ لأن ابتداء الوضوء يرد على رجلين غير طاهرتين ، وليس كذلك الأمر بعد صحة المسح عليهما بعد إدخالهما طاهرتين . فبين الأمرين أعظم فرق . وبالله تعالى التوفيق .


219 - مسألة : ومن مسح كما ذكرنا على ما في رجليه ثم خلعهما لم يضره ذلك شيئا ، ولا يلزمه إعادة وضوء ولا غسل رجليه ، بل هو طاهر كما كان ويصلي كذلك وكذلك لو مسح على عمامة أو خمار ثم نزعهما فليس عليه إعادة وضوء ولا مسح رأسه بل هو طاهر كما كان ويصلي كذلك ، وكذلك لو مسح على خف على خف ثم نزع الأعلى فلا يضره ذلك شيئا ، ويصلي كما هو دون أن يعيد مسحا . وكذلك من توضأ أو اغتسل ثم حلق شعره أو تقصص أو قلم أظفاره ، فهو في كل ذلك على وضوئه وطهارته ويصلي كما هو دون أن يمسح مواضع القص . وهذا قول طائفة من السلف ، كما روينا عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن هشام بن حسان ، وروينا عن سفيان الثوري عن الفضيل بن عمرو عن إبراهيم النخعي : أنه كان يحدث ثم يمسح على جرموقين له من لبود ثم ينزعهما ، فإذا قام إلى الصلاة لبسهما وصلى . وأما أبو حنيفة فإنه قال : من توضأ ثم مسح على خفيه ثم أخرج قدمه الواحدة من موضعها إلى موضع الساق ، أو أخرج كلتيهما كذلك فقد بطل مسحه ، ويلزمه أن يخرج قدميه جميعا ويغسلهما ، وكذلك عنده لو أخرجهما بالكل . قال أبو يوسف وكذلك إذا أخرج أكثر من نصف القدم إلى موضع الساق . قال فلو لبس جرموقين على خفين ثم مسح عليهما ثم خلع أحد الجرموقين فعليه أن يمسح على الخف الذي كان تحت الجرموق ويمسح أيضا على الجرموق الثاني ولا بد ، لأن بعض المسح إذا انتقض انتقض كله . قال : فلو توضأ ثم جز شعره وقص شاربه وأظفاره فهو على طهارته ، وليس عليه أن يمس الماء شيئا من ذلك . وأما مالك فإنه قال : من مسح على خفيه ثم خلع أحدهما فإنه يلزمه أن يخلع الثاني ويغسل رجليه . وكذلك لو خلعهما جميعا . وكذلك من أخرج إحدى رجليه أو كلتيهما من موضع القدم إلى موضع الساق فإنه يخلعهما جميعا ولا بد ويغسل قدميه فإن لم يغسل قدميه في فوره ذلك لزمه ابتداء الوضوء ، فلو توضأ وجز بعد ذلك شعره أو قص أظفاره فليس عليه أن يمس شيئا من ذلك الماء ، قال فلو أخرج عقبيه أو إحداهما من موضع القدم إلى موضع الساق إلا أن سائر قدميه في موضع القدم فليس عليه أن يخرج رجليه لذلك وهو على طهارته . وقال الشافعي : من خلع أحد خفيه لزمه خلع الثاني وغسل قدميه ، فإن خلعهما جميعا فكذلك ، فلو أخرج رجليه كليهما عن موضعهما ولم يخرجهما ولا شيئا منهما عن موضع ساق الخف فهو على طهارته ، ولا شيء عليه حتى يخرج شيئا مما يجب غسله عن جميع الخف ، فيلزمه أن يخلعهما حينئذ ويغسلهما ، فإن توضأ ثم جز شعره أو قص أظفاره فهو على طهارته ، وليس عليه أن يمس الماء شيئا من ذلك . وقال الأوزاعي : إن خلع خفيه أو جز شعره أو قص أظفاره لزمه أن يبتدئ الوضوء في خلع الخفين وأن يمسح على رأسه ويمس الماء موضع القطع من أظفاره في الجز والقص ، وهو قول عطاء . وكذلك قال الأوزاعي فيمن مسح على عمامته ثم نزعها فإنه يمسح رأسه بالماء . قال علي : أما قول أبي يوسف في مراعاة إخراج أكثر من نصف القدم عن موضعها فيلزمه الغسل في رجليه معا أو إخراج نصفها فأقل فلا يلزمه غسل رجليه ، فتحكم في الدين ظاهر وشرع لم يأذن به الله تعالى ، ولا أوجبه قرآن ولا سنة ، ولا قياس ولا قول صاحب ولا رأي مطرد ، لأنهم يرون مرة الكثير أكثر من النصف ، ومرة الثلث ، ومرة الربع ، ومرة شبرا في شبر ، ومرة أكثر من قدر الدرهم ، وكل هذا تخليط . وأما فرق مالك بين إخراج العقب إلى موضع الساق فلا ينتقض المسح ، وبين إخراج القدم كلها إلى موضع الساق فينتقض المسح ، فتحكم أيضا لا يجوز القول به ولا يوجبه قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا قول صاحب ولا قياس ولا رأي مطرد ؛ لأنه يرى أن بقاء العقب في الوضوء لا يطهر ، إن فاعل ذلك لا وضوء له ، فإن كان المسح قد انتقض عن الرجل بخروجها عن موضع القدم ، فلا بد من انتقاض المسح عن العقب بخروجها عن موضعها إلى موضع الساق ، لا يجوز غير ذلك ، وإن كان المسح لا ينتقض عن العقب بخروجها إلى موضع الساق ، فإنه لا ينتقض أيضا بخروج القدم إلى موضع الساق كما قال الشافعي . وأما تفريقهم جميعهم بين المسح على الخفين ثم يخلعان فينتقض المسح ويلزم إتمام الوضوء ، وبين الوضوء ثم يجز الشعر وتقص الأظفار فلا ينتقض الغسل عن مقص الأظفار ولا المسح على الرأس ففرق فاسد ظاهر التناقض ولو عكس إنسان هذا القول فأوجب مسح الرأس على من حلق شعره ومس مجز الأظفار بالماء ولم ير المسح على من خلع خفيه ، لما كان بينها فرق . قال علي : وما وجدنا لهم في ذلك متعلقا أصلا إلا أن بعضهم قال : وجدنا مسح الرأس وغسل القدمين في الوضوء إنما قصد به الرأس لا الشعر ، وإنما قصد به الأصابع لا الأظافر ، فلما جز الشعر وقطعت الأظفار بقي الوضوء بحسبه ، وأما المسح فإنما قصد به الخفان لا الرجلان ، فلما نزعا بقيت الرجلان لم توضآ ، فهو يصلي برجلين لا مغسولتين ولا ممسوح عليهما فهو ناقص الوضوء . قال أبو محمد : وهذا لا شيء لأنه باطل وتحكم بالباطل ، فلو عكس عليه قوله فقيل له : بل المسح على الرأس وغسل الأظفار إنما قصد به الشعر والأظفار فقط ، بدليل أنه لو كان على الشعر حناء وعلى الأظفار كذلك لم يجز الوضوء ، وأما الخفان فالمقصود بالمسح القدمان لا الخفان ، لأن الخفين لولا القدمان لم يجز المسح عليهما فصح أن حكم القدمين الغسل ، إن كانتا مكشوفتين ، والمسح إن كانتا في خفين لما كان بين القولين فرق . ثم يقال لهم : هبكم أن الأمر كما قلتم في أن المقصود بالمسح الخفان ، وبالمسح في الوضوء الرأس ، وبغسل اليدين للأصابع لا للأظفار . فكان ماذا ؟ أو من أين وجب من هذا أن يعاد المسح بخلع الخفين ولا يعاد بحلق الشعر ؟ قال علي : فظهر فساد هذا القول . وأما قولهم : إنه يصلي بقدمين لا مغسولتين ولا ممسوح عليهما - فباطل ، بل ما يصلي - إلا على قدمين ممسوح على خفين عليهما . قال علي : فبطل هذا القول كما بينا ، وكذلك قولهم : يغسل رجليه فقط ، فهو باطل متيقن ، لأنه قد كان بإقرارهم قد تم وضوءه وجازت له الصلاة به ثم أمرتموه بغسل رجليه فقط ، ولا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكون الوضوء الذي قد كان تم قد بطل أو يكون لم يبطل ، فإن كان لم يبطل فهذا قولنا وإن كان قد بطل فعليه أن يبتدئ الوضوء ، وإلا فمن المحال الباطل الذي لا يخيل أن يكون وضوء قد تم ثم ينقض بعضه ولا ينقض بعضه ، هذا أمر لا يوجبه نص ولا قياس ولا رأي يصح . فبطلت هذه الأقوال كلها ولم يبق إلا قولنا أو قول الأوزاعي . فنظرنا في ذلك فوجدنا البرهان قد صح بنص السنة والقرآن على أن من توضأ ومسح على عمامته وخفيه فإنه قد تم وضوءه وارتفع حدثه وجازت له الصلاة . وأجمع هؤلاء المخالفون لنا على ذلك فيمن مسح رأسه وخفيه ثم إنه لما خلع خفيه وعمامته وحلق رأسه أو تقصص وقطع أظفاره : قال قوم : قد انتقض وضوءه ، وقال آخرون لم ينتقض وضوءه فنظرنا في ذلك فوجدنا الحلق وقص الشعر وقص الأظفار وخلع الخفين والعمامة ليس شيء منه حدثا ، والطهارة لا ينقضها إلا الأحداث ، أو نص وارد بانتقاضها وأنه لم يكن حدث ولا نص ههنا على انتقاض طهارته ولا على انتقاض بعضها فبطل هذا القول ، وصح القول بأنه على طهارته ، وأنه يصلي ما لم يحدث ، ولا يلزمه مسح رأسه ولا أظفاره ولا غسل رجليه ولا إعادة وضوئه ، وكان من أوجب الوضوء من ذلك كمن أوجبه من المشي أو من الكلام أو من خلع قميصه ولا فرق . وبالله التوفيق .


220 - مسألة : ومن تعمد لباس الخفين على طهارة ليمسح عليهما أو خضب رجليه أو حمل عليهما دواء ثم لبسهما ليمسح على ذلك . أو خضب رأسه أو حمل عليه دواء ثم لبس العمامة أو الخمار ليمسح على ذلك ، فقد أحسن . وذلك لأنه قد جاء النص بإباحة المسح على كل ذلك مطلقا . ولم يحظر عليه شيئا من هذا كله نص : { وما كان ربك نسيا } وبلغنا عن بعض المتقدمين أنه قال : من توضأ ثم لبس خفيه ليبيت فيها ليمسح عليهما فلا يجوز له المسح . وهذا خطأ لأنه دعوى بلا برهان وتخصيص للسنة بلا دليل . وكل قول لم يصححه النص فهو باطل . وبالله تعالى التوفيق .

221 - مسألة : ومن مسح في الحضر ثم سافر - قبل انقضاء اليوم والليلة أو بعد انقضائهما - مسح أيضا حتى يتم لمسحه في كل ما مسح في حضره وسفره معا ثلاثة أيام بلياليها . ثم لا يحل له المسح ، فإن مسح في سفر ثم أقام أو دخل موضعه ابتدأ مسح يوم وليلة إن كان قد مسح في السفر يومين وليلتين فأقل ، ثم لا يحل له المسح ، فإن كان مسح في سفره أقل من ثلاثة أيام بلياليها وأكثر من يومين وليلتين مسح باقي اليوم الثالث وليلته فقط ، ثم لا يحل له المسح ، فإن كان قد أتم في السفر مسح ثلاثة أيام بلياليها خلع ولا بد ، ولا يحل له المسح حتى يغسل رجليه . برهان ذلك ما قد ذكرناه من أن رسول الله ﷺ لم يبح المسح إلا ثلاثة أيام للمسافر بلياليها ويوما وليلة للمقيم ، فصح يقينا أنه لم يبح لأحد أن يمسح أكثر من ثلاثة أيام بلياليها ، لا مقيما ولا مسافرا ، وإنما نهى عن ابتداء المسح - لا عن الصلاة بالمسح المتقدم - فوجب ما قلنا ، فلو مسح في الحضر يوما وليلة ثم سافر ثم رجع قبل أن يتم يوما وليلة في السفر أو بعد أن أتمهما لم يجز له المسح أصلا ، لأنه لو مسح لكان قد مسح وهو في الحضر أكثر من يوم وليلة ، وهذا لا يحل ألبتة . وقال أبو حنيفة وسفيان : من مسح وهو مقيم فإن كان لم يتم يوما وليلة حتى سافر مسح حتى يتم ثلاثة أيام بلياليها من حين أحدث وهو مقيم ، فإن كان قد أتم يوما وليلة في حضره ثم سافر لم يجز له المسح ، ولا بد له من غسل رجليه . قال : فإن سافر فمسح يوما وليلة فأكثر ثم قدم أو أقام لم يجز له المسح حتى يغسل رجليه فلو مسح في سفره أقل من يوم وليلة ثم قدم أو أقام كان له أن يمسح تمام ذلك اليوم والليلة فقط ، وليس له أن يستأنف مسح يوم وليلة . وقال الشافعي : من مسح في الحضر ثم سافر ، فإن كان قد أتم اليوم والليلة خلع ولا بد ، وإن كان لم يتم يوما وليلة مسح باقي ذلك اليوم فقط ثم يخلع . وكذلك لو مسح في السفر ثم قدم سواء سواء ، إن كان مسح في سفره يوما وليلة وقدم أو أقام فإنه يخلع ولا بد ، وإن كان مسح أقل من يوم وليلة في سفره أتم باقي ذلك اليوم والليلة بالمسح فقط . واختلف أصحابنا ، فقال بعضهم كما قلنا ، وقال بعضهم : إذا مسح في سفره أقل من ثلاثة أيام بلياليها ، أو ثلاثة أيام بلياليها لا أكثر وقدم استأنف مسح يوم وليلة فإن لم يزد على ذلك حتى سافر استأنف ثلاثة أيام بلياليها ، واحتج هؤلاء بظاهر لفظ الخبر في ذلك . قال علي : وظاهر لفظه يوجب صحة قولنا ، لأن الناس قسمان : مقيم ومسافر ، ولم يبح عليه السلام للمسافر إلا ثلاثا ، ولا أباح للمقيم إلا بعض الثلاث فلم يبح لأحد - لا مقيم ولا مسافر - أكثر من ثلاث ، ومن خرج إلى سفر تقصر في مثله الصلاة مسح مسح مسافر ، ثلاثا بلياليهن ، ومن خرج دون ذلك مسح مسح مقيم ؛ لأن حكم هذا البروز حكم الحضر وبالله تعالى التوفيق .

222 - مسألة : والمسح على الخفين وما لبس على الرجلين إنما هو على ظاهرهما فقط ، ولا يصح معنى لمسح باطنهما الأسفل تحت القدم ، ولا لاستيعاب ظاهرهما ، وما مسح من ظاهرهما بأصبع أو أكثر أجزأ . برهان ذلك ما حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا محمد بن العلاء ثنا حفص بن غياث ثنا الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد خير عن { علي قال : لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ، وقد رأيت رسول الله ﷺ يمسح على ظاهر الخفين } . وبه يقول أبو حنيفة وسفيان الثوري وداود ، وهو قول علي بن أبي طالب كما ذكرنا وقيس بن سعد . كما روينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي ثنا سفيان الثوري ثنا أبو إسحاق هو السبيعي عن يزيد بن أبي العلاء قال : رأيت قيس بن سعد بال ثم أتى رحله فتوضأ ومسح على خفيه على أعلاهما حتى رأيت أثر أصابعه على خفيه . وروينا عن معمر بن أيوب السختياني قال : رأيت الحسن بال ثم توضأ ثم مسح على خفيه على ظاهرهما مسحة واحدة ، فرأيت أثر أصابعه على الخفين . وروينا عن ابن جريج قلت لعطاء : أمسح على بطون الخفين ؟ قال لا إلا بظهورهما . قال علي : والمسح لا يقتضي الاستيعاب ، فما وقع عليه اسم مسح فقد أدى فرضه إلا أن أبا حنيفة قال : لا يجزئ المسح على الخفين إلا بثلاثة أصابع لا بأقل ، وقال سفيان وزفر والشافعي وداود : إن مسح بأصبع واحدة أجزأه ، قال زفر : إذا مسح على أكثر الخفين . قال أبو محمد : تحديد الثلاث أصابع وأكثر الخفين كلام فاسد وشرع في الدين بارد لم يأذن به الله تعالى . واحتج بعضهم بأنهم قد اتفقوا على أنه إن مسح بثلاث أصابع أجزأه ، وإن مسح بأقل فقد اختلفوا . قال علي : وهذا يهدم عليهم أكثر مذاهبهم ، ويقال لهم مثل هذا في فور الوضوء وفي الاستنشاق والاستنثار وفي الوضوء بالنبيذ وغير ذلك ، فكيف ولا تحل مراعاة إجماع إذا وجد النص يشهد لقول بعض العلماء ، وقد جاء النص بالمسح دون تحديد ثلاثة أصابع أو أقل { وما كان ربك نسيا } بل هذا الذي قالوا هو إيجاب الفرائض بالدعوى المختلف فيها بلا نص ، وهذا الباطل المجمع على أنه باطل . ويعارضون بأن يقال لهم : قد صح إجماعهم على وجوب المسح بأصبع واحدة واختلفوا في وجوب المسح بما زاد ، فلا يجب ما اختلف فيه ، وإنما الواجب ما اتفق عليه ، وهذا أصح في الاستدلال إذا لم يوجد لفظ مروي . وقال الشافعي : يستحب مسح ظاهر الخفين وباطنهما ، فإن اقتصر على ظاهرهما دون الباطن أجزأه ، وإن اقتصر على الباطن دون الظاهر لم يجزه . قال علي : وهذا لا معنى له ، لأنه إذا كان مسح الأسفل ليس فرضا ولا جاء ندب إليه : فلا معنى له . وقال مالك : يمسح ظاهرهما وباطنهما ، قال ابن القاسم صاحبه : إن مسح الظاهر دون الباطن أعاد في الوقت ، وإن مسح الباطن دون الظاهر أعاد أبدا . وقد روينا مسح ظاهر الخفين وباطنهما عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر وعن معمر عن الزهري . قال علي : الإعادة في الوقت على أصول هؤلاء القوم لا معنى لها ، لأنه إن كان أدى فرض طهارته وصلاته فلا معنى للإعادة ، وإن كان لم يؤدهما فيلزمه عندهم أن يصلي أبدا . واحتج من رأي مسح باطن الخفين مع ظاهرهما بحديث رويناه من طريق الوليد بن مسلم عن ثور بن يزيد عن رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة { أن رسول الله ﷺ مسح أعلى الخفين وأسفلهما } وحديث آخر رويناه عن بن وهب عن سليمان بن يزيد الكعبي عن عبد الله بن عامر الأسلمي عن ابن شهاب عن المغيرة بن شعبة { أنه رأى رسول الله ﷺ يمسح أعلى الخفين وأسفلهما } وآخر رويناه من طريق بن وهب : حدثني رجل عن رجل من أعين عن أشياخ لهم عن أبي أمامة الباهلي وعبادة بن الصامت { أنهم رأوا رسول الله ﷺ يمسح أعلى الخفين وأسفلهما . } قال علي : هذا كله لا شيء ، أما حديث أبي أمامة وعبادة فأسقط من أن يخفى على ذي لب ؛ لأنه عمن لا يسمى عمن لا يدرى من هو عمن لا يعرف ، وهذا فضيحة . وأما حديثا المغيرة فأحدهما عن ابن شهاب عن المغيرة ، ولم يولد ابن شهاب إلا بعد موت المغيرة بدهر طويل ، والثاني مدلس أخطأ فيه الوليد بن مسلم في موضعين ، وهذا خبر حدثناه حمام قال ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي قال : قال عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الله بن المبارك عن ثور بن يزيد قال : حدثت عن رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة { أن رسول الله ﷺ مسح أعلى الخفين وأسفلهما } فصح أن ثورا لم يسمعه من رجاء بن حيوة ، وأنه مرسل لم يذكر فيه المغيرة ، وعلة ثالثة وهي أنه لم يسم فيه كاتب المغيرة ، فسقط كل ما في هذا الباب ، وبالله تعالى التوفيق .

223 - مسألة : ومن لبس على رجليه شيئا مما يجوز المسح عليه على غير طهارة ثم أحدث ، فلما أراد الوضوء وتوضأ ولم يبق له غير رجليه فجاءه خوف شديد لم يدرك معه غسل رجليه بعد نزع خفيه ، فإنه ينهض ولا يمسح عليهما ، ويصلي كما هو ، وصلاته تامة ، فإذا أمكنه نزع خفيه ووجد الماء بعد تمام صلاته فقد قال قوم : يلزمه نزعهما وغسل رجليه فرضا ولا يعيد ما صلى ، فإن قدر على ذلك قبل أن يسلم بطلت صلاته ونزع ما على رجليه وغسلهما وابتدأ الصلاة ، وقال آخرون : قد تم وضوءه ويصلي بذلك الوضوء ما لم ينتقض بحدث لا بوجود الماء ، وهذا أصح . برهان ذلك قول رسول الله ﷺ - وقد ذكرناه بإسناده فيما مضى من كتابنا هذا { إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم } وقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فلما عجز هذا عن غسل رجليه سقط حكمهما ، وبقي عليه ما قدر عليه من وضوء سائر أعضائه ، وإذا كان كذلك فقد توضأ كما أمره الله عز وجل ، ومن توضأ كما أمر الله فصلاته تامة . وأما من قال : إنه إذا قدر على الماء لزمه إتمام وضوئه فرضا وقد تمت صلاته ، فلو قدر على ذلك في صلاته فقد لزمه فرضا أن لا يتم ما بقي من صلاته إلا بوضوء تام ، والصلاة لا يحل أن يفرق بين أعمالها بما ليس منها ، فقول غير صحيح ودعوى بلا برهان ، بل قد قام البرهان من النص من القرآن والسنة على أنه قد توضأ كما أمر ، وقد تمت طهارته وأن له أن يصلي ، فمن الباطل أن يعود عليه حكم الحدث من غير أن يحدث ، إلا أن يوجب ذلك نص فيوقف عنده ، ولا نص في هذه المسألة يوجب عليه إعادة الوضوء ، فلا يلزمه إعادته ولا غسل رجليه ، لأنه على طهارة تامة ، لكن يصلي بذلك الوضوء ما لم يحدث لما ذكرناه . فإن قيل : قسنا ذلك على التيمم . قلنا : القياس باطل كله ، ومن أين لكم إذا وجب ذلك في التيمم أن يجب في العاجز عن بعض أعضائه ؟ فليس بأيديكم غير دعواكم أن هذا وجب في العاجز كما وجب في التيمم ، وهذه دعوى مفتقرة إلى برهان ، ومن أراد أن يعطي بدعواه فقد أراد الباطل ، ثم لو كان القياس حقا لكان هذا منه باطلا ، لأنهم موافقون لنا على أن العاجز عن بعض أعضائه - كمن ذهبت رجلاه أو نحو ذلك - لا يجوز له التيمم ، وأن حكمه إنما هو غسل ما بقي من وجهه وذراعيه ومسح رأسه فقط ، وأن وضوءه بذلك تام وصلاته جائزة ، فلما لم يجعلوا له أن يتيمم لم يجز أن يجعل له حكم التيمم ، وهذا أصح من قياسهم . والحمد لله رب العالمين .
========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مكتبات الكتاب الاسلامي

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أ...