مدونة استكمال مصنفات الإمامين ابن حزم والوكاني

الأحد، 20 مارس 2022

كتاب إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي الإمام الشوكاني + كتاب {التحف في مذاهب السلف له}

إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي الإمام الشوكاني إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي
المؤلف: الشوكاني
محتويات الكتاب
1 [ تقدمة ]
2 إجماع أهل البيت على تحريم سب الصحابة
3 [ نصيحة ونداء إلى كل من أفسد دينه ]
4 [ الروافض ]
5 [ حرمة لعن المسلمين أحياءاً وأمواتاً ]
6 [ السب من المسائل التي لا يجوز فيها التقليد ]
7 خاتمة
8 [ النواصب ، تعريفهم ، حكمهم ، أماكن وجودهم والأحاديث الواردة فيهم ]
9 عجيبة
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله الذي أرشدنا إلى الدعاء للسلف الصالح بقوله : { والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذبن سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } [1] .
والصلاة والسلام على حبيبه المصطفى ، الذي قال : ( لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهبا ، ما بلغ مدَّ أحدهـم ولا نصفيه ) [2] وعلى آله الذين صحَّ إجماعهم من طرق كثيرةٍ على تعظيم الصحابة . وبعــد :
[ تقدمة ]
فإنها لما خفيت على غالب أهل الزمان مذاهب أئمة الآل ، وجهلت مصنفاتهم تقطع في الرحلة إلى مثلها أكباد الإبل ، فلم يبق بأيدي أهل عصرنا من أتباعهم إلا القيل والقال ، فلا تكاد ترى إلا رجلا قد رغب من جميع أصناف العلوم وهجر بخسَّة همته ودناءة نفسه الاشتغال بمنطوقها والمفهوم ، أو آخر قد هجر من علوم العترة المطهرة الحديث والقديم ، واشتغل بعض الاشتغال بعلوم غيرهم ، فلم يفرق بين الصحيح والسقيم ، أو رجلا ينتحل أتباعهم والانتساب إلى مذاهبهم ، ولكنه قد قنع من البحر المتدفق بقطرة ، وقصر همه على بالاشتغال بمختصرٍ من مختصرات لديهم ، فلم يحظ من غيره بنظرة ، فحصل بسبب ذلك الخبط والخلط من الجم الغفير ، ونسب إلى أهل البيت من المسائل ما يخالفه قول كبيرهِم والصغير .
وكان من جملة ذلك تعظيم القرابة للصحابة ، فإن كثيرا من العاطلين عن العلوم ، يتجارى على ثلب أعراض جماعة من أكابر خير القرون ، فإذا عوتب في ذلك قال : هذا مذهب أهل البيت ! . وذلك فرية عليهم ، صانهم الله عنها ، فإنهم عند من له أدنى إلمام بمذاهبهم مبرؤون عن هذه الخصلة الشنيعة .
فأحببت بيان مذاهبهم في هذه المسألة بخصوصها ، لأنها هي التي ورد فيها السؤال من بعض أهل العلم ، ليستدل بذلك على صحة ما ذكرنا من اندراس معاهد علومهم الشريفة في هذه الأزمنة .
وقد اختصرت على مقدار يسير من نصوصهم ، لأن الإكثار من دواعي الإملال ، ولم أشتغل بإخراج الأدلة ، لأن غرض السائل ليس إلا بيان ما يذهبون إليه من ذلك ، فأقول :
إجماع أهل البيت على تحريم سب الصحابة
وسرده من اثني عشر طريقا
قد ثبت إجماع الأئمة من أهل البيت على تحريم سب الصحابة ، وتحريم التكفير والتفسيق لأحد منهم ، إلا من اشتهر بمخالفته الدين ، ليست بموجبة لعصمة من اتصف بها ، بل على ما ذهب إليه الجمهور ، بل هو إجماع كما حققنا ذلك في الرسالة المسماة بـ( القول المقبول في رد رواية المجهول من غير صحابة الرسول ) .
وهذا الإجماع الذي قدمنا ذكره عن أهل البيت يروى من طرق ثابتة عن جماعة من أكابرهم :
الأولى : عن الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني ، فإنه روى عن جميع أبائه من أئمة الآل تحـريم سب الصحابـة ، حكى ذلك عنه صـاحب ( حواشي الفصول ) .
الثانية : قال المنصور بالله عبدالله بن حمزة في رسالته في جواب المسألة التهامية بعد أن ذكر تحريم سب الصحابة ما لفظه : وهذا ما يقضي به علم آبائنا إلى علي عليه السلام .
ثم قال فيها ما لفظه : وفي هذه الجهة من يرى محض الولاء سب الصحابة رضي الله عنهم والبراءة منهم ، فتبرأ من محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حيث لا يعلم :
فإن كنت لا أرمي وترمي كنانتي
تصيب جانحات النبل كشحي ومنكبي
قال في ( الترجمان ) عند شرح قوله في الصحابة :
ورضِّ عنهم كما رضَّى أبو الحسن
أو قف عن السب إن ما كنت ذا حذر
ما لفظه : قال المنصور بالله عبدالله بن حمزة : ولا يمكن أحد أن يصحح دعواه على أحد من سلفنا الصالح أنهم نالوا من المشايخ أو سبوهم ، بل يعتقدون فيهم أنهم خير الخلق بعد محمد وعلي وفاطمة صلوات الله عليهم وسلامه ، ويقولون : قد أخطؤوا في التقدم ، وعصوا معصية لا يعلم قدرها إلا الله سبحانه ، والخطأ لا يبرأ منه إلا الله وحده { وعصى آدم ربه فغوى } [3] فإن حاسبهم فبذنب فعلوه وإن عفى عنهم فهو أهل العفو وهم يستحقونه بحميد سوابقهم اهـ .
الثالثة : قال المؤيد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام في آخر التصفية ما لفظه : تنبيه : إعلم أن القول في الصحابة على فريقين :
القول الأول : مصرحون بالترحم عليهم والترضية ، وهذا هو المشهور عن أمير المؤمنين ، وعن زيد بن علي ، وجعفر الصادق ، والناصر للحق ، والمؤيد بالله ، فهؤلاء مصرحون بالترضية والترحم والموالاة ، وهذا هو المختار عندنا ، ردا للفاعلية ، وذكرنا أن الإسلام مقطوع به لا محالة ، وعروض ما عرض من الخطأ في مخالفة النصوص ليس فيه إلا الخطأ لا غير ، وأما كونه كفرا أو فسقا ، فلم تدل عليه دلالة شرعية ، فلهذا أبطل القول به ، فهذا هو الذي نختاره ونرتضيه مذهبا ، ونحب أن نلقى الله به ونحن عليه .
الفريق الثاني : متوقفون عن الترضية والترحم ، وعن القول بالتكفير والتفسيق ، وهذا دل عليه كلام القاسم والهادي وأولادهما ، وإليه أشار كلام المنصور بالله ، فهؤلاء يحكمون بالخطأ ويقطعون به ويتوقفون في حكمه .
فأما القول بالتكفير والتفسيق في حق الصحابة ، فلم يؤثر عن أحد من أكابر البيت وأفاضلهم ، كما حكيناه وقررناه ، وهو مردود على ناقله اهـ .
وقال الإمام يحيى بن حمزة أيضا في رسالته ( الوازعة للمعتدين عن سب أصحاب سيد المرسلين ) بعد أن حكى عن أهل البيت أنهم لم يكفروا ولم يفسقوا من لم يقل بإمامة أمير المؤمنين ، أو تخلف عنه أو تقدمه ما لفظه : ثم إن لهم بعد القطع بعدم التكفير والتفسيق مذهبين :
الأول : مذهب من صـرح بالترحم والترضية ، وهذا هو المشهور عن علي ، وزيد بن علي ، وجعفر الصادق ، والباقر ، والناصر ، والمؤيد بالله ، وغيرهم وهو المختار عندنا .
ثم قال :
الثاني : من توقف عن الترضية والترحم والإكفار والتفسيق ، وإلى هذا يشير كلام القاسم ، والهادي وأولادهما ، والمنصور بالله ، لأنهم لما قطعوا على الخطأ ولم يدل دليل على عصمتهم ، فيكون الخطأ صغيرة في حقهم ، جاز إن لم يكن خطؤهم كبيرة ، فلذلك توقفوا عن الترضية .
قال : ونقابله على أنا قاطعون على إيمانهم قبل هذه المعصية فنستصحب الأصل ولا ننتزع عنه إلا لدلالة قاطعة على كفر أو فسق .
قال : وما روي عن المنصور بالله أنه قال : من رضي عنهم ، فلا تصلوا خلفه ، ومن سبهم ، فاسألوه : ما الدليل ؟ .
الرواية المشهورة : من سبهم ، فلا تصلوا خلفه ، ومن رضي فاسألوه ما الدليل ؟.
انتهى كـلام الإمـام يحـيى عليه السلام ، وقد بالغ في كتابه المسمى بـ( التحقيق في الإكفار والتفسيق ) في الاستدلال على جواز الترضية ، وكذلك في سائر كتبه الكلامية .
قال الإمام يحيى بن الحسين بن القاسم في ( الإيضاح ) : واعلم أن القائلين بالترضية من أهل البيت هم : أمير المؤمنين والحسن والحسين وزين العابدين علي بن الحسين والباقر والصادق وعبدالله بن الحسن ومحمد بن الحسن ومحمد بن عبدالله النفس الزكية وإدريس بن عبدالله وزيد بن عبدالله وزيد بن علي وكافة القدماء من أهل البيت .
زمن المتأخرين : سادة الجيد : المؤيد بالله وصنوه بن طالب والناصر الحسن بن علي الأطروش والإمام الموفق بالله وولده السيد المرشد بالله والإمام يحيى بن حمزة .
ومن المتأخرين باليمن : الإمام المهدي : أحمد بن يحيى والسيد محمد بن إبراهيم وصنوه الهادي والإمام أحمد بن الحسين والإمام عز الدين بن الحسن والإمام شرف الدين وغيرهم .
وسائر الأئمة يتوقف : كالهادي والقاسم ، مـع أن في رواية الهادي الترضية .
والمنصور بالله عبدالله بن حمزة له قولان : التوقف كما في الشافي والترضية كما في الجوابات التهامية .
وكثير منهم لا حاجة لنا إلى تعداد أعيانهم ، لأنه يكفي القول الجملي بأن أئمة أهل البيت كافة بين متوقف ومترضٍّ ، ولا يرى أحد منهم السب للصحابة أصلا ، يعرف ذلك من عرف انتهى بلفظه .
الرابعة : حكى السيد الهادي بن إبراهيم الوزير في كتابه المعروف بـ( تلقيح الألباب ) : أنه سأل الإمام ناصر محمد بن علي المعروف بصلاح الدين عن المتقدمين لأمير المؤمنين وسائر من خالفه ؟ فأجاب بأن مذهب أئمة الزيدية القول بالتخطئة لمن تقدم أمير المؤمنين .
قال : وهؤلاء فرقتان : فرقة تقول باحتمال الخطأ ، ويتوقفون في أمرهم ، وفرقة يتولونهم ويقولون : إن خطأهم مغفرة في جنب مناقبهم وأعمالهم وجهادهم وصلاحهم .
وقال : وهذا القول الثاني هو الذي نراه إذ هم وجوه الإسلام وبدور الظلام .
وحكى السيد الهادي في ذلك الكتاب عن الإمام المهدي علي بن محمد بن علي والد صلاح الدين : أنه سئل عمن تقدم على أمير المؤمنين أو خالفه ؟ . فأجاب بأن مذهب جمهور الزيدية أن النص وقع على وجه يحتاج في معرفة المراد به نظر وتأمل ، ولا يكفِّرون من دافعه ، ولا يفسقونه ... إلى آخر كلامه في ذلك .
ولا يخفى أن حكاية ذلك عن جمهور الزيدية لا تنافي حكاية غيره عن له جميعهم ، لأن الحاكي عن الجميع ناقل للزيادة ، وقبولها متحتم ، وغاية ما عند ما حكي عن البعض أو الأكثر أنه لم يعلم بأن ذلك قول الجميع ، وعدم العلم ليس علما بالمعدوم ، وقد علم غيره ذلك ومن علم حجة على من لم يعلم .
الخامسة : قال يحيى بن الحسين بن القاسم بن محمد في كتابه الإيضاح لما خفي من الإتفاق على تعظيم الصحابة ، بعد حكاية مذهب أهل البيت ما لفظه : وإذا تقرر ما ذكرنا ، وعرف أقوال أئمة العلم الهداة ، علم من ذلك بالضرورة التي لا تنتفي بشك ولا بشبهة : إجماع أئمة الزيدية على تحريم سب الصحابة ، لتواتر ذلك عنهم والعلم به ، فما خالف ما علم ضرورة لا يعمل به .. إلخ .
السادسة : حكاها السيد إدريس في كتابه المعروف بـ( كنز الأخيار ) .
السابعة : حكاها الديلمي من كتاب ( إعتقاد آل محمد ) .
الثامنة : حكـاها حميد بن أحمد المحلي في كتابـه ( عقيدة أهل البيت ) .
التاسعـة : حكـاها السيد صـارم الدين إبراهيم بن محمد في ( المسائل التي اتفق عليها الزيدية ) .
العاشرة : حكاها الكنّي في كتاب ( كشف الغلطات ) له .
الحادية عشر : حكاها الإمام شرف الدين في مقدمة ( الأثمار ) .
الثانية عشر : حكاها القاضي عبدالله الدواري في كتاب ( السير ) من آخر الديباج اهـ .
فهذه طرق متضمنة لإجماع أهل البيت من أئمة الزيدية ومن غيرهم ، كما في بعض هذه الطرق ، والناقل لهذا الإجماع ممن أسلفنا ذكره من أكابر أئمتهم .
[ نصيحة ونداء إلى كل من أفسد دينه ]
فيا من أفسد دينه بذم خير القدوة ! أقتديت بالكتاب العزيز كذلك في هذه الدعوى ؟ من كان له في معرفة القرآن أدنى تبريز ، فإنه مصرح بأن الله جل جلاله قد رضي عنهم ، ومشحون بمناقبهم ومحاسن أفعالهم ، ومرشد إلى الدعاء لهم .
وإن قلت : اقتديت بسنة رسول الله المطهرة ، قام في وجه دعواك الباطلة العاطلة ما في كتب السنة الصحيحة من مؤلفات أهل البيت وغيرهم ، من النصوص المصرحة بالنهي عن سبهم ، وعن أذية رسول الله ﷺ بذلك ، وأنهم خير القرون ، وأنهم من أهل الجنة ، وأن رسول الله ﷺ مات وهو راضٍ عنهم ، وما في طي تلك الدفاتر الحديثية من ذكر مناقبهم الجمة ، كجهادهم بين يدي رسول الله ﷺ ، وبيعهم نفوسهم وأموالهم من الله ، ومفارقتهم للأهل والأوطان والأحباب والأخدان ، طلبا للدين وفرارا من مساكنة الجاحدين ، وكم يعدُّ العادُّ من هذه المناقب التي لا يتسع لها سجلات ، ومن نظر في كتب السير والحديث ، عرف من ذلك ما لا يحيط به الحصر .
وإن قلت أيها السَّاب لخيرة هذه الأمة من الأصحاب : إنك اقتديت بأئمة أهل البيت في هذه القضية الفظيعة ، فقد حكينا لك في هذه الرسالة إجماعهم على خلاف ما أنت عليه من تلك الطرق .
وإن قلت إنك اقتديت بعلماء الحديث ، أو علماء المذاهب الأربعة ، أو سائر المذاهب ، فلتأتنا بواحد يقول بمثل مقالتك ! فهذ كتبهم قد ملأت الأرض ، وأتباعهم على ظهر البسيطة أحياء ، وقد اتفقت كلمة متقدميهم ومتأخريهم على أن من سب الصحابة مبتدع ، وذهب بعضهم إلى فسقه ، وبعضهم إلى كفره ، كما حكى ذلك جماعة من علمائهم ، منهم ابن حجر الهيتمي ، فإنه ذكر في كتابه المعروف ( بالصواعق المحرقة ) أن كثيرا من الأئمة كفَّروا من سب الصحابة .
وإن قلت أيها الساب : إنك قد اقتديت بفرقة من غلاة الإمامية ، فنقول :
[ الروافض ]
صدقت ، فإن فيهم فرقة مخذولة تصرح بسب أكابر الصحابة ، وقد أجمع على تضليلهم جميع علماء الإسلام من أهل البيت وغيرهم ، وهم الرافضة ، الذين رويت الأحاديث في ذمهم .
فمن جملة من روى ذلك : الإمام الأعظم الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام ، فإنه روى في كتابه ( الأحكام ) في كتاب الطلاق منه بسنده المتصل بآبائه الأئمة الأعلام إلى أمـير المؤمنين علي عليه السلام : أن النبي ﷺ قال له : ( يا علي ! يكون في آخر الزمان فرقةٌ لهم نبزٌ يعرفون به ، يقال لهم الرافضة ، فإذا لقيتهم ، فاقتلهم ، قتلهم الله ، فإنهم كافرون ) أو كما قال .
فهذا الإمام الأعظم يروي هذا الحديث عن آبائه الأئمة حتى قيل أنه لم يكن في كتابه الأحكـام حديث مسلسل من أول إسناده إلى آخره إلاَّ هذا الحديث ، ذكر ذلك العلامة محمد بن إبراهيم الوزير وغيره ، وفيه التصريح بكفرهم .
فكيف اقتديت أيها المغرور في مثل هذه المسألة التي هي مزلة الأقدام بمثل هذه الفرقة ؟! .
فكيف تزعم أنك متبع لأهل البيت وهم مخالفون للإمامية ، ومصرحون بشتمهم ، ومتوجعون من اعتقاداتهم الفاسدة ؟! .
ولقد بالغ المؤيد بالله في ذلك ، حتى صـرح في كتابه المعروف بـ( الإفادة ) ، وكذلك في ( شرح التجريد ) ، صرح في مواضع بعدم قبول رواية الإمامية اهـ .
فإنها لا تقبل الأخبار المروية من طريقهم ، لأنهم يعتقدون أن كل ما يروى عن كل من يشار إليه من أئمتهم يجوز أن يـروي عن رسول الله ﷺ .
وقد بالغ الإمام الهادي في التوجع منهم في كتبه .
فإن قلت : ومن أين لك أنهم الرافضة ؟ .
فأقول : قال في ( القاموس ) : الرافضة فرقة من الشيعة ، بايعوا زيـد بن علي ، ثم قالوا تبرأ من الشيخين ، فأبى ، وقال : كانا وزيري جدي ، فتركوه ، ورفضوه ، وارفَضُّوا عنه ، والنسبة رافضي .. اهـ .
فتقرر بهذا أن الرافضي من رفض ذلك الإمام لتركه لسب الشيخين ، والإمامية يسبون الشيخين وجمهور الصحابة ، بل وسائر المسلمين ، ما عدا من كان على مثل اعتقادهم ، ويسبون أيضا زيد بن علي ، وينتقصونه ، كما يعرف ذلك من له إلمام بكتبهم .
وقال النووي في شرح مسلم في مباحث المقدمة ما لفظه : وسموا رافضة من الرفض ، وهو الترك . قال الأصمعي وغيره : لأنهم رفضوا زيد بن علي وتركوه .
وهكذا صرح جماعة من العلماء بأن الرافضة هم هؤلاء ، وصرح جماعة أيضا بأن الرافضة هم الذين يسبون الصحابة من غير تقييد .
ويا لله العجب من هذه الفرقة ! كيف تبلغ بهم محبة أمير المؤمنين إلى ما لا يرضاه ؟! بل إلى ما هو على خلافه ، كما أسلفناه عن الإمام يحيى : أن مذهب أمير المؤمنين جواز الترضية .
وقد حكى الإمام عبدالله بن حمزة في كتابه ( الكاشف للإشكال الفارق بين التشيع والإعتزال ) ما لفظه : والمسلك الثاني : أن أمير المؤمنين هو القدوة ، ولم يعلم من حاله عليه السلام لعن القوم ، ولا التبرؤ منهم ، ولا تفسيقهم ، يعني المشايخ .
قال : وهو قدوتنا ، فلا نزيد على حده الذي وصل إليه ، ولا ننقص شيئا من ذلك ، لأنه إمامنا وإمام المتقين ، وعلى المأمور إتباع آثار إمامه ، واحتذاء أمثاله ، فإن تعدى ، خالف وظلم اهـ .
وقد حكى هذا الكلام بألفاظه السيد الهادي ، وحكى في الصحابة أن عليا عليه السلام كان يرضى عنهم ، فقـال :
ورضِّ عنهم كما رضَّى أبو الحسن
أو قف عن السب إن ما كنت ذا حذر
وروى الإمام المهدي في ( يواقيت السير) : أنه حين مات أبو بكر ، قال عليه السلام : رضي الله عنك ، والله لقد كنت بالناس رؤوفا رحيما اهـ .
وقد روى أئمة الحديث والسير عن أمير المؤمنين : أنه كان يرضى عن الصحابة ، ويترحم عليهم ، وكان يمدحهم ويبالغ في الثناء عليهم ، وذلك أمر معروف عند أهل العلم ، ولكنا اقتصـرنا على نقل كلام أولئك الأئمة من أولاده ، لأن روايتهم أقطع لعرق الشك ، وأصم لداء اللجاج من رواية غيرهم .
فهل يليق لمن يعد نفسه من شيعة أمير المؤمنين أن يخالفه هذه المخالفة ، فيلعن من كان يرضى عنه ويترحم عليه ؟! .
وهل هذا إلا من المعاندة والمخالفة لهديه القويم ، والخروج عن الصراط المستقيم ؟! .
فأي خير في تشيُّع يفضي إلى مثل هذا ويوقع في الهلكة كما ورد : أنه يهلك فيه عليه السلام فرقتان : محب غال ، ومبغض غال .
وفرقة الإمامية هي الفرقة التي غلت في المحبة فهلكت ، فمن اقتدى بهم ، فهو من جملة الهالكيـن ، بنصوص الأحاديـث الصـحيحة ، وتصريح علماء الدين .
فيا من يدعي أنه من أتباع الإمام زيد بن علي ! كيف لا تقتدي به ذلك المنهج الجلي ؟!
ألا ترى كيف رضي بمفارقة تلك الجيوش التي قامت تنصره على منابذة سلاطين الجور ، ولم يسمح بالتبري من الشيخين أبي بكرٍ وعمر ؟!
بل احتج على الرافضة بأنهما كانا وزيري جده رسول الله ﷺ ، ولا شك أنه يؤلم الرجل ما يؤلم وزيره ، ومن أهان الوزير فقد أهان السلطان .
ولهذا قال المنصور بالله في كلامه السابق : من تبرأ من الصحابة . فقد تبرأ من محمد .
ولقد قال الإمـام المهدي في ( القلائد ) : إن قضاء أبي بكر في فدك صحيح .
وروى في هذا الكتاب عن زيد بن علي : أنه قال : لو كنت أبا بكر لما قضيت إلا بما قضى به أبو بكر .
فتصحيح الإمام المهدي لقضاء أبو بكر ، وقول زيد بن علي هذه المقالة ، يدل على أنه عدلٌ مرضي ، ولو كان عندهما على خلاف ذلك ، لما كان حكمه صحيحا .
وقال الإمام يحيى بن حمزة في كتابه الموسوم بـ( الشامل في علم الكلام ) عند تكلمه على ما نقم على أبي بكر في إغضاب فاطمة : إنما طلب منها إقامة البينة ، وقد جاءت بعلي وأم أيمن ، فقال امرأة مع الإمرأة ، والرجل مع الرجل . قال : فغضبت فاطمة لذلك ، وغنما طلب أبو بكر الحق ، فإذا غضبت لذلك ، فالحق أغضبها .
هذا كلام الإمام يحيى بن حمزة في ذلك الكتاب ، وقد حكاه أيضا السيد الهادي في كتابه المعروف بـ( نهاية التنويه في إزهاق التمويه ) .
فانظر كيف صوَّب هذا الإمام أبا بكر في حكمه ، ولو كان غير عدل عنده ، لكان حكمه باطلا ً سواء وافق الحق أو خالفه ، لأن العدالة شرط في الصحة .
وقال محمد بن المنصور بالله من قصيدة يفتخر بها على قحطان :
ومنا أبو بكر وصاحبه الذي
على السنن الغر الكريمة يغضب
ولو كان أبو بكـر وعمر عند هذا السيد الجليل من الظلمة المتغلبين ، لما افتخر بهما ، والوصف بالغضب على السنن الغر الكريمة من آداب المتقين الماضين والمتأخرين لها .
ويا من يدعي أنه من أتباع الإمام الهادي يحيى بن الحسين ! هلا سلكت مسلكه ، ومشيت سنن مذهبه ، فتوقف كما صح عنه التوقف بما أسلفناه من حكاية الإمام يحيى بن حمزة عنه !.
وهلا عملت بكلامه الذي صرح به عليه السلام في كتابه الذي كتبه من المدينة جوابا على أهل صنعاء ، فإنه فيه ما لفظه : ولا أبغض أحدا من الصحابة رضي الله عنهم الصادقين ، والتابعين لهم بإحسان المؤمنات منهم والمؤمنين ، أتولى جميع من هاجر ، ومن آوى منهم ومن نصر ، فمن سب مؤمنا عندي إستحلالا ، فقد كفر ، ومن سبه إستمراءا ، فقد ضل عندي وفسق ، ولا أسب إلا من نقض العهد والعزيمة ، وفي كل وقت له هزيمة ، ومن الذين بالنفاق تفردوا ، وعلى الرسول مرة بعد مرة تمردوا ، وعلى أهل بيته إجترؤوا وطعنوا ، وإني لأستغفر الله لأمهات المؤمنين ، اللاتي خرجن من الدنيا على يقين ، وأجعل لعنة الله على من تناولهن بما لا يستحققن من سائر الناس أجمعين هـ .
فأثبت أيها الساب المدعي أنك من أتباع هذا الإمام ، إما كافر أو ضال فاسق ، وهذا الذي صـرح به عليه السلام هو مذهب أتباعه من الهادوية إلى الآن .
قال ابن المظفر في (البيان ) ما لفظه : مسألة : قال الإمام يحيى : ولا يصح الإئتمام بفاسق التأويل ، ولا بمن يفسق الصحابة الذين تقدموا عليا اهـ .
قال في ( البستان ) : قال عليه السلام – يعني الإمام يحيى ـ : من يفسق الصحابة ، فهو فاسق تأويل ، لأنه اعتقد ذلك لشبهة طرأت عليه وهو تقدمهم على أمير المؤمنين ، فلا تصح الصلاة خلف من سبهم ، لأنه جرأة على الله ، واعتداء عليهم ، مع القطع بتقدم إيمانهم ، واختصاصهم بالصحبة لرسـول الله ﷺ ، والفضائل الجمة ، وكثرة الثناء عليهم من الله سبحانـه ، ومن رسول الله ﷺ ، وأكثر الأئمة وعلماء الأمة ، ولا دليل قاطع على كفرهم ولا فسقهم ، فأما مطلق الخطأ ، فهو – وإن قطع به – لا يكون كفرا ولا فسقا ، إذ لابد فيهما من دليل قطعي شرعي ، وقال ﷺ : ( لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه ) وأي جرأة أعظم من اعتقاد هلاك من له الفضل والسبق إلى الإسلام والهجرة ، وإحراز الفضل والمراتب العلية ، والإنفاق في الجهاد ، وبذل النفوس والأموال لله ولرسوله ، وقد قال ﷺ : ( لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) فنعوذ بالله من الجهل والخذلان اهـ بلفظه .
وقال المنصور بالله في كتابه ( الكاشف للإشكال الفارق بين التشيع والاعتزال ) ما لفظه : إن القوم – يعني الصحابة – لهم حسنات عظيمة ، بمشايعة النبي ﷺ ونصرته ، والقيام دونه ، والرمي من وراء حوزته ، ومعاداة الأهل والأقارب في نصرة الدين ، وسبقهم إلى الحق ، وحضور المشاهد التي تزيغ فيها الأبصار ، وتبلغ القلوب الحناجر ... الخ .
وعلى الجملة : إنه إذا لم يقنع المتبع لآل البيت ما سقناه من إجماعاتهم ومذاهبهم ونصوصهم ، فهو إما جاهل لا يفهم ما يخاطب به ولا يدري ما هو العلم ، وإما مكابر قد أعمى التعصب بصر بصيرته ، واستحوذ عليه شيطان ، فقاده بزمام الغي والطغيان ، إلى هذه المصيبة التي هي مهلكة الأديان ، بإجماع حملة السنة والقرآن ، وكلا الرجلين لا ينفعه التطويل والاستكثار ، من نقل نصوص الأئمة ، ومن صرائح الأدلـة ، فلنقتصر على هذا المقدار ، فإن لم ينتفع به ، لم ينتفع بأكثر به منه .
فالعاقل المراعي لحفظ دينه ، إذا لم يعمل بما ورد في الصحابة الراشدين من نصوص القرآن والسنة القاضية بأنهم أفضل من غيرهم من جميع الوجوه ، وأن بين طبقتهم وطبقة من بعدهم من الأئمة كما بين السماء والأرض ، فأقل الأحوال أن ينزلهم منزلة سائر المسلمين .
[ حرمة لعن المسلمين أحياءاً وأمواتاً ]
وقد ثبت عنه ﷺ في الصحيح أن : ( قتال المسلم كفر ، وسبابه فسوق ) .
وثبت عنه في الصحيحين أن : ( لعن المؤمن كقتله ) .
وثبت أنه ﷺ في صحيح مسلم أنه : ( لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة ) .
وفي سنن أبي داود : أنه قال ﷺ : ( إن العبد إذا لعن شيئا ، صعدت اللعنة إلى السماء ، فتغلق أبوابها دونها ، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها ، ثم تأخذ يمينا وشمالا ، فإذا لم تجد مساغا ، رجعت إلى الذي لعن ، فإن كان أهلا لذلك ، وإلا رجعت إلى قائلها ) .
وفي مسند أحمد وصحيح البخاري وسنن النسائي : أن النبي ﷺ قال : ( لا تسبوا الأموات ، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا ) .
وفي حديث آخـر رواه أحمد والنسائي : ( لا تسبوا أمواتنا ، فتأذوا أحياءنا ) .
وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي : أن رسول الله ﷺ قال : ( أتدرون ما الغيبة ؟ ) قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : ذكرك أخاك بما يكره ) قال : أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ . قال : ( إن كان في أخيك ما تقول ، فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ، فقد بهته ) قال الترمذي حديث صحيح حسن .
وفي سنن أبي داود والترمذي : أن عائشة ذكرت صفية ، فقالت : إنها قصيرة . فقال عليه الصلاة والسلام : ( كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ) .
وفي سنن أبي داود : أن النبي ﷺ قال : ( لما عرج بي ، مررت على أقوام لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم ، فقلت : من هؤلاء يا جـبريل ؟! قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ) .
والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، وهي متناولة للأموات تناولا أوليا ، وبعضها نص في الأموات .
تنبيه : ربما قال من يطلع على ما سقناه من الروايات القاضية بإجماع أهل البيت على عدم سب الصحابة : أنه قد وجد في مؤلف لفرد من أفرادهم ما يشعر بالسب .
فنقول له ـ إن كان ممن يعقل الخطاب ـ : هذا الفردي الذي يدعي أنه وجد في مؤلفه ما يشعر بالسب ، إن كان عصره متقدما على عصر الأئمة الذين روينا عنهم إجماع أهل البيت ، فمن البعيد أن يحكوا الإجماع عن جميعهم ، وثم فرد يخالفهم ، للقطع بأنهم أخبر من غيرهم بعلم بعضهم بعضا ، فدعواهم للإجماع من دون استثناء مشعر بعدم صحة ما وجد من ذلك الفرد ، فالمتوجب عليك وعلينا اعتقاد أن ذلك الموجود مدسوس في ذلك المؤلف من بعض أهل الرفض ، لأن إثبات كونه من كلام المؤلف له يخالف ما حكاه الأئمة من أهله ، المختبرين بمذهبه .
وإن كان ذلك الفرد عصره متأخر عن عصر الأئمة الذين حكوا الإجماع عن أهل البيت ، فكلامه مردود لأنه خالف إجماع آبائه ، وشذ عن طريقهم ، ومشى في غير منهجهم القويم ، وسلك في غير صراطهم المستقيم ، وما كان بهذه المثابة ، فلا ينبغي لأحد أن يعمل به ، ولا يحل لمؤمن أن يتمسك به في معارضة إجماع المتقدمين والمتأخرين من العترة المطهرة .
[ السب من المسائل التي لا يجوز فيها التقليد ]
ومع هذا فمسألة السب وما يترتب عليها من التكفير والتفسيق من المسائل التي لا يجوز التقليد فيها عند أهل البيت ، كما صرح بذلك مطولات كتبهم ومختصراتها ، فعلى فرض أنه قد صرح فرد من أفراد العلماء من أهل البيت أو من غيرهم بجواز السب ، لا يجوز لأحد أن يقلد في ذلك ، لأن التقليد في المسائل الفرعية العملية ، لا في المسائل العلمية ، ولا فيما يترتب عليها ، فمن رام إتباع الشيطان في سب أهل الإيمان ، فليقف حتى يجتهد في المسألة ، ثم يعمل بما رجح له ، ولا يخالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين من أهل البيت وغيرهم ، وهو موثق بربقة التقليد ، قاصر الباع حقير الإطلاع ، لا يعقل الأدلة ولا يعرف الحجج .
خاتمة
ربما يجاوز بعض جهال الشيعة من أهل عصرنا سب الصحابة ، ويحكموا على من لا يسب أنه ناصبي !! .
وهذه قضية أشد من قضية السب ، لأن ذلك الجاهل حكم على أهل رسول الله أجمع وعلى جميع العلماء من السلف والخلف بالنصب ، والناصبي كافر ، فيستلزم هذا الحكم تكفير جميع المسلمين ، وليس بعد هذا الخذلان ولا أشنع من هذه الخصلة التي تبكي لها عيون الإسلام ، ويضحك لها ثغر الكفران ! وما درى هذا المخذول أن من كفر مسلما واحدا ، صار كافرا ، بنصوص السنة المطهرة ، فكيف بمن كفر جميع المسلمين ؟! .
فيا لله من رجل بلغ به جهله الفظيع إلى الكفر المضاعف ، نسأل الله السلامة !! .
[ النواصب ، تعريفهم ، حكمهم ، أماكن وجودهم والأحاديث الواردة فيهم ]
وإنما قلنا : إن الناصبي كافر [4] ، لما يعرف في كتب اللغة وغيرها : أن النصب بغض أمير المؤمنين عليه السلام .
ففي ( القاموس ) ما لفظه : النواصب والناصبية وأهل النصب : المتدينون ببغضة علي ، رضي الله عنه لأنهم نصبوا له ، أي : عادوه اهـ .
فإذا ثبت أن الناصبي من يبغض عليا عليه السلام ، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة الصريحة في كتب الحديث المعتمدة أن بغضه كرم الله وجهه في الجنة نفاقٌ وكفرٌ : فمن ذلك مـا رواه مسلم في صحيحه ، وابن أبي شيبة ، والحميدي ، وأحمد ، والترمذي والنسائي ، وابن ماجة ، وابن حبان ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن أبي عاصم ، عن علي عليه السلام أنه قال : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إليَّ : أن لا يحبني إلا مؤمن ، ولا يبغضني إلا منافق .
وأخرج نحوه : الترمذي ، وعبدالله بن أحمد في ( زيادات المسند ) عن أم سلمة ، والديلمي عن ابن عباس ، والخطيب في ( تاريخه ) عن أنس .
وثبت أن : ( من أبغض عليا فقد أبغض الله ورسوله ) وبغض الله ورسوله كفر بلا ريب .
فمن ذلك ما رواه الطبراني وابن عساكر عن عمار بن ياسر .
والدارقطني والحاكم في مستدركه والخطيب عن علي كرم الله وجهه والطبراني عن أبي رافع .
وأخرج ابن عساكر عن عمرو وقال : رجال إسناده مشاهير غير أبي القاسم عيسى ابن الأزهر المعروف ببلبل ، فإنه غير مشهور .
وأخرجه أيضا ابن النجار عن ابن عباس .
وفي الباب أحاديث كثيرة من طرق عن جماعة من الصحابة .
وفي هذا القدر كفاية ، فإنه يثبت أن الناصبي كافر ، وأن من قال لرجل : يا ناصبي ! فكأنه قال : يا كافر ! . ومن كفر مسلما كفر ، كما تقدم .
وقد أحسن من قال :
عليٌ يظنون بي بغضه
فهلا سوى الكفر ظنوه بي
وقد أراح الله سبحانه وتعالى من النواصب ـ وهم الخوارج ومن سلك مسلكهم ـ فلم يبق منهم أحد ، إلا شرذمـة بعمان ، وطائفة حقيرة بأطراف الهند ، يقال لهم ( الإباضية ) .
فليحذر المتحفظ من إطلاق مثل هذه اللفظة على أحد من أهل الإسلام غير هؤلاء ، فإنه بمجرد ذكر الإطلاق ، يخرج عن الإسلام ، وهذا ما لا يفعله عاقل بنفسه .
وما يبلغ الأعداء من جاهل
ما يبلغ الجاهل من نفسه
عجيبة
ومن العجائب أنا سمعنا من جهال عصرنا من يطلق اسم الناصبي على من قرأ في كتب الحديث ، بل على من قرأ في سائر علوم الاجتهاد ! ويطلقونه أيضا على أئمة الحديث ! وأهل المذاهب الأربعة ! .
وهذه مصيبة مهلكة لدين من تساهل في ذلك ، ولا يكـون إلا أحد رجلين : إما جاهل لا يدري ما هو النصب ؟ ولا ما هو الناصبي ؟ أو غير مبال بهلاك دينه ، ومن كان بهذه المنزلة ، لا ينتفع بمثل هذا النصح الذي أودعناه هذه الرسالة ، وليس علينا إلا القيام بعهدة البيان الذي أوجبه الله ورسوله ، ليهلك من هلك عن بينة .
اللهم وفقنا إلى مرضاتك ، وأرشد الخاص من عبادك والعام ، واسلك بنا سبل السلام إلى دار السلام .
انتهى من خط مؤلفه إمام المحققين القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني رحمه الله ورضي عنه آمين .
تم على يد صالح التلبوي العباسي الفقيري الشافعي سنة 1322هـ . تمت مقابلتها نفع الله بها المسلمين آمين .
=======================
هامش
[هذا فيه نظر فمطلق الغمز أو الطعن بـ( علي رضي الله عنه ) لا يعد من نواقض الإيمان وإلا لقلنا بكفر بعض الصحابة ، فبعضهم خالف عليا وجـرى بينهم كلام !! . أما من كفره أو قال بلعنه فلا شك بكفره ، وإن كان هذا معتقد كل النواصب فهم على هذا كفار ]
[سورة الحشر : 10]
[متفق عليه]
[سورة طه : 121]
=======
التحف في مذاهب السلف
============
الإمام المجتهد العلامة الرباني رئيس قضاة اليمن في وقته محمد بن علي بن محمد الشوكاني اليمني الصنعاني المتوفى سنة 1255هـ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الأنام وآله الكرام ورضي الله عن صحبه الأعلام. وبعد، فإنه وصل سؤال من بعض الأعلام الساكنين ببلد الله الحرام، وهذا لفظه:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين.
(ما يقول فقهاء الدين وعلماء المحدثين وجماعة الموحدين في آيات الصفات وأخبارها اللاتي نطق بها الكتاب العظيم، وأفصحت عنها سنة الهادي إلى صراط مستقيم، هل إقرارها وإمرارها وإجراؤها على الظاهر بغير تكييف ولا تمثيل ولا تأويل ولا تعطيل عقيدة الموحدين وتصديق بالكتاب المبين واتباع للسلف الصالحين؟ أو هذا مذهب المجسمين؟ وما حكم من أول الصفات ونفى ما وصف الله به نفسه ووصفه به نبيه وتأيد بالنصوص واتفق عليه الخصوص من أن الله سبحانه في سمائه مستوي على عرشه بائن من خلقه وعلمه في كل مكان؟ والدليل آيات الاستواء والصعود والرفع وقوله تعالى (ءأمنتم من في السماء) ومن السنة حديث الجارية والنزول وعمران ابن حصين وقوله ﷺ (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟) وغير ذلك من الآيات المتوترة والأحاديث المتكاثرة، وأولَ الآيات وجعل الاستواء استيلاءً وأول النزول بالرحمة، وهكذا جعل التآويل عليه مطردة في سائر نصوص الصفات وعاش في ظلام العقل في الجهل والشبهات، وإذا قيل له أين الله؟ أجاب بأنه لا يقال أين الله؟ الله لم يكن له مكان، كما هو جواب فريقي المضلين، فهل هذا جواب الجهميين والمريسيين وأضلاء المتكلمين، أم اختيار علماء السنيين؟ أفيدونا بجواب رجاء الثواب، يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) فإن هذا المقام طال فيه النزاع وحارت فيه الأفهام وزلت الأقدام وكل يدعي الصواب بزخرف الجواب، فأبينوا المدعى بالدليل وبينوا طريق الحق بالتفصيل والتطويل، ضاعف الله لكم الأجر ووقاكم الشرور. والسلام عليكم ورحمة الله.)
وأقول اعلم أن الكلام في الآيات والأحاديث الواردة في الصفات قد طالت ذيوله، وتشعبت أطرافه وتناسبت فيه المذاهب وتفاوتت فيه الطرائق وتخالفت فيه النحل وسبب هذا عدم وقوف المنتسبين إلى العلم حيث أوقفهم الله ودخولهم في أبواب لم يأذن الله لهم بدخولها ومحاولتهم لعلم شيء استأثر الله بعلمه حتى تفرقوا فرقا وتشعبوا شعبا، وصاروا أحزابا وكانوا في البداية ومحاولة الوصول إلى ما يتصورونه من العامة مختلفي المقاصد متبايني المطالب، فطائفة وهي أخف هذه الطوائف، المتكلفة علم ما لم يكلفها الله سبحانه بعلمه إثما وأقلها عقوبة وجرما وهي التي أرادت الوصول إلى الحق والوقوف على الصواب، لكن سلكت في طريقة متوعرة وصعدت في الكشف عنه إلى عقبة كؤود لا يرجع من سلكها سالما فضلا عن أن يظفر فيها بمطلوب صحيح ومع هذا أصلوا أصولا ظنوها حقا فدفعوا بها آيات قرآنية وأحاديث صحيحة نبوية، واعتلوا في ذلك الدفع بشبه واهية وخيالات مختلفة وهؤلاء طائفتان: الطائفة الأولى وهي الطائفة التي غلت في التنزيه فوصلت إلى حد يقشعر عنده الجلد ويضطرب له القلب من تعطيل الصفات الثابتة بالكتاب والسنة ثبوتا أوضح من شمس النهار وأظهر من فلق الصباح وظنوا هذا من صنيعهم موافقا للحق مطابقا لما يريده الله سبحانه فظلوا الطريق المستقيم وأضلوا من رام سلوكها، والطائفة الأخرى هي غلت في إثبات القدرة غلوا بلغ إلى حد أنه لا تأثير لغيرها ولا اعتبار بما سواها، وأفضى ذلك إلى الجبر المحض والقسر الخالص، فلم يبق لبعث الرسل وإنزال الكتب كثير فائدة ولا يعود ذلك على عباده بعائد، وجاءوا بتأويلات الآيات البينات ومحاولات لحجج الله الواضحات فكانوا كالطائفة الأولى في الضلال والإضلال، مع أن كلا المقصدين صحيح، ووجه كل منهما صبيح لولا ما شانه من الغلو القبيح.
وطائفة توسطت ورامت الجمع بين الضب والنون وظنت أنها وقفت بمكان بين الإفراط والتفريط، ثم أخذت كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث تجادل وتناضل وتحقق وتدقق في زعمها وتجول على الأخرى وتصول بما ظفرت مما يوافق ما ذهبت إليه (وكل حزب بما لديهم فرحون) وعند الله تلتقي الخصوم. ومع هذه فهم متفقون فيما بينهم على أن طريق السلف أسلم ولكن زعموا أن طريق الخلف أعلم، فكان غاية ما ظفروا به من هذه الأعلمية بطريق الخلف أن تمنى محققوهم وأذكياؤهم في آخر أمرهم دين العجائز وقالوا هنيئا للعامة، فتدبر هذه الأعلمية التي حاصلها أن يهني من ظفر بها للجاهل الجهل البسيط ويتمنى أنه في عدادهم وممن يدين بدينهم ويمشي على طريقهم، فإن هذا ينادي بأعلى صوت ويدل بأوضح دلالة على أن هذه الأعلمبة التي طلبوها الجهل خير منها بكثير، فما ظنك بعلم يقر صاحبه على نفسه أن الجهل خير منه وينتهي عند البلوغ إلى غايته والوصول إلى نهايته أن يكون جاهلا به عاطلا عنه.
ففي هذا عبرة للمعتبيرين وآية بينة للناظرين، فهلا عملوا على جهل هذه المعارف التي دخلوا فيها بادئ بدئ وسلموا من تبعاتها وأراحوا أنفسهم من تعبها وقالوا كما قال القائل:
أرى الأمر يفضي إلى
آخر يصيّر آخره أولا
وربحوا الخلوص من هذا التمني والسلامة من هذه التهنئة للعامة، فإن العاقل لا يتمنى رتبة أرفع من رتبة مثل رتبته أو دونها ولا يهنى لمن هو دونه أو مثله، ولا يكون ذلك إلا لمن رتبته أرفع من رتبته ومكانه أعلى من مكانه.
فيا لله العجب! من علم يكون الجهل البسيط أعلى رتبة منه وأفضل مقدارا بالنسبة إليه، وهل سمع السامعون مثل هذه الغريبة أو نقل الناقلون ما يماثلها أو يشابهها؟! وإذا كان حال هذه الطائفة التي قد عرفناك أخف هذه الطوائف تكلفا وأقلها تبعة، فما ظنك بما عداها من الطوائف التي قد ظهر فساد مقاصدها وتبين بطلان مواردها ومصادرها؟ كالطوائف التي أرادت بالمظاهر التي تظاهرت به كيد الإسلام وأهله والسعي في التشكيك فيه بإيراد الشبه وتقرير الأمور المفضية إلى القدح في الدين وتنفير أهله عنه. وعند هذا تعلم أن:
خير الأمور السالفات على الهدى
وشر الأمور المحدثات البدائع
وأن الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة هو ما كان عليه خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. وقد كانوا ـ رحمهم الله وأرشدنا إلى الاقتداء بهم والاهتداء بهديهم ـ يمرون أدلة الصفات على ظاهرها ولا يتكلفون ما لا يعلمون ولا يتأولون.
وهذا المعلوم من أقوالهم وأفعالهم المتقرر من مذاهبهم، لا يشك فيه شاك ولا ينكره منكر ولا يجادل فيه مجادل، وإن نزغ بينهم نازغ أو نجم في عصرهم ناجم أوضحوا للناس أمره وبينوا لهم أنه على ضلالة وصرحوا بذلك في المجامع والمحافل، وحذروا الناس من بدعته، كما كان منهم لما ظهر معبد الجهني وأصحابه وقالوا إن الأمر أنف، وبينوا ضلالته وبطلان مقالته للناس فحذرون إلا من ختم الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة.
وهكذا كان من بعدهم يوضح للناس بطلان أقوال أهل الضلال ويحذر منها، كما فعله التابعون رحمهم الله بالجعد بن درهم ومن قال بقوله وانتحل نحلته الباطلة.
ثم مازالوا هكذا لا يستطيع المبتدع في الصفات أن يتظاهر ببدعته بل يكتمونها كما تتكتم الزنادقة بكفرهم، وهكذا سائر الميتدعين في الدين على اختلاف البدع وتفاوت المقالات الباطلة، ولكننا نقتصر ههنا على الكلام في هذه المسألة التي ورد السؤال عنها وهي مسالة الصفات وما كان من المتكلمين فيها بغير الحق المتكلفين علم ما لم يأذن الله بأن يعلموه، وبيان أن إمرار أدلة الصفات على ظاهرها هو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وأن كل من أراد من نزاع المتكلفين وشذاذ المحدثين والمتأولين أن يظهر ما يخالف المرور على ذلك الظاهر قاموا عليه وحذروا الناس منه وبينوا لهم أنه على خلاف ما عليه أهل الإسلام.
وسائر المبتدعين في الصفات القائلون بأقوال تخالف ما عليه السواد الأعظم من الصحابة والتالبعين وتابعيهم في خبايا وزوايا لا يتصل بهم إلا مغرور ولا ينخدع بزخارف أقوالهم إلا مخدوع. وهم مع ذلك على تخوف من أهل الإسلام وترقب لنزول مكروه بهم من حماة الدين من العلماء الهادين والرؤساء والسلاطين، حتى نجم ناجم المحنة وبرق بارق الشر من جهة العباسية ومن لهم في الأمر والنهي والإصدار والإيراد أعظم صولة، وذلك في الدولة العباسية بسبب قاضيها أحمد بن دؤاد، فعند ذلك أطلع المنكسون في تلك الزوايا رؤوسهم وانطلق ما كان قد خرس من ألسنتهم، وأعلنوا بمذاهبهم الزائفة وبدعهم المضلة ودعوا الناس إليها وجادلوا عنها وناضلوا المخالفين لها، حتى اختلط المعروف بالمنكر واشتبه على العامة الحق والباطل والسنة والبدعة.
ولما كان الله قد تكفل بإظهار دينه على الدين كله وبحفظه عن التحريف والتغيير والتبديل، أوجد من علماء الكتاب والسنة في كل عصر من العصور من يبين للناس دينهم وينكر على أهل البدع بدعهم. فكان لهم ولله الحمد المقامات المحمودة والمواقف المشهودة في نصر الدين وهتك (أستار) المبتدعين.
وبهذا الكلام القليل الذي ذكرنا تعرف أن مذهب السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وتابعيهم هم إيراد أدلة الصفات على ظاهرها من دون تحريف لها ولا تأويل متعسف لشيء منها، ولا جبر ولا تشبيه ولا تعطيل يفضي إليه كثير من التأويل.
وكانزا إذا سال سائل عن شيء من الصفات تلوا عليه الدليل وأمسكوا عن القال والقيل، وقالوا: قال الله هكذا، ولا ندري بما سوى ذلك، ولا نتكلف ولا نتكلم بما لا نعلمه ولا أذن الله لنا بمجاوزته.
فان أراد السائل أن يظفر منهم بزيادة على الظاهر زجروه عن الخوض فيما لا يعنيه ونهوه عن طلب ما لايمكن الزصول إليه إلا بالوقوع في بدعة من البدع التي هي غير ما هم عليه وما حفظوه عن رسول الله صلى الله هليه وسلم وحفظه التابعون عن الصحابة وحفظه من بعد التابعين عن التابعين وكان في هذه القرون الفاضلة الكلمة في الصفات متحدة والطريقة لهم جميعا متفقة وكان اشتغالهم بما أمرهم الله بالاشتغال به وكلفهم القيام بفرائضه من الإيمان بالله وإقام الصلاةوإيتاء الزكاة والصيام والحج والجهاد وإنفاق الأموال في أنواع البر وطلب العلم النافع وإرشاد الناس إلى الخير على اختلاف أنواعه والمحافظة على موجبات الفوز بالجنةوالنجاة من النار والقيام بالأمر بالمعروف والني عن المنكر والأخذ على يد الظالم بحسب الاستطاعة وبما تبلغ إليه القدرة، ولم يشتغلوا بغير ذلك مما لم يكلفهم الله بعلمه ولا تعبدهم بالوقوف على حقيقته فكان الدين إذ ذاك صافيا عن كدر البدع خالصا عن شوب قذر التمذهب، فعلى هذا النمط كان الصحابة رضي الله عنهم والتابعون وتابعوهم، وبهدي رسول الله ﷺ اهتدوا وبأفعاله وأقواله اقتدوا.
فمن فال إنهم تلبسوا بشيء من هذه المذاهب الناشئة في الصفات أو في غيرها فقد أعظم عليهم الفرية وليس بمقبول في ذلك، فإن أقوال الأئمة المطلعين على أحوالهم العارفين بها الآخذين لها عن الثقاة الأثبات يرد عليه ويدفع في وجهه، يعلم ذلك كل من له علم ويعرفه كل عارف. فاشدد يدك على هذا.
واعلم أنه مذهب خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. ودع عنك ما حدث من تلك التمذهبات في الصفات، وأرح نفسك من تلك العبارات التي جاء بها المتكلمون واصطلحوا عليها وجعلوها أصلا يرد كتاب الله وسنة رسوله ﷺ فإن وافقها فقد وافق الأصول المتقررة في زعمهم، وإن خالفها فقد خالف الأصول المتقررة في زعمهم ويجعلون الموافق لها من قسم المقبول والمحكم والمخالف لها من قسم المردود والمتشابه، ولو جئت بألف آية واضحة الدلالة ظاهرة المعنى أو ألف حديث مما ثبت في الصحيح لم يبالوا به ولا رفعوا إليه رؤوسهم ولا عدوه شيئا، ومن كان منكرا لهذا فعليه بكتب هذه الطوائف المصنفة في علم الكلام، فأنه سيقف على الحقيقة وسيلم هذه الجملة ولا يتردد فيها.
ومن العجب العجيب والنبأ الغريب أن تلك العبارات الصادرة عن جماعة من أهل الكلام التي جعلها من بعدهم أصولا لا مستند لها إلا مجرد الدعوى على العقل والفرية على الفطرة وكل فيد من أفرادها قد تنازعت فيه عقولهم وتخالفت عنده إدراكاتهم، فهذا يقول حكم العقل في هذا الكلام كذا، وهذا يقول حكم العقل في هذا كذا، ثم يأتي بعدهم من يجعل ذلك الذي يعقله من يقلده ويقتدي به اصلا يرجع إليه ومعيارا لكلام الله تعالى وكلام رسوله ﷺ، يقبل منهما ما وافقه ويرد ما خالفه.
فيالله وللمسلمين، ويالعلماء الدين من هذه الفواقر الموحشة التي لم يصب الإسلام وأهله بمثلها. وأغرب من هذا وأعجب وأشنع وأفضع أنهم بعد أن جعلوا هذه التعقلات التي تعقلوها على اختلافهم فيها وتناقضهم في معقولاتهما أصولا ترد غليها أدلة الكتاب والسنة جعلوها معيارا لصفات الرب تعالى، فما تعقله هذا من صفات الله قال به جزما، وما تعقله خصمه منها قطع به، فأثبتوا لله تعالى الشيء ونقيضه استدلالا بما حكمت به عقولهم الفاسدة وتناقضت في شانهن ولم يلتفتوا إلى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله ﷺ. بل إن وجدوا ذلك موافقا لما تعقلوه جعلوه مؤيدا له ومقويا، وقالوا قد ورد دليل السمع مطابقا لدليل العقل، وإن وجدوه مخالفا لما تعقلوه جعلوه واردا على خلاف الأصل ومتشابها وغير معقول المعنى ولا ظاهر الدلالة، ثم قابلهم المخالف لهم بنقيض قولهم فافترى على عقله بأنه قد تعقل خلاف ما تعقله خصمه وجعل ذلك أصلا يرد إليه أدلة الكتاب والسنة، وجعل المتشابه عند أولئك محكما عنده والمخالف لدليل عندهم موافقا له عنده، فكان حاصل هؤلاء أنهم يعلمون من صفات الله مالا يعلمه، وكفاك هذا وليس بعده شيء، وعنده يتعثر القلم حياء من الله سبحانه وتعالى وربما استبعد هذا مستبعد واستنكره مستنكر وقال إن في كلامي هذا مبالغة وتهويلا وتشنيعا وتطويلا وإن الأمر أيسر من أن يكون حاصله هذا الحاصل وثمرته مثل هذه الثمرة التي أشرت إليها.
فأقول خذ جملة البلوى ودع تفصيلها واسمع ما يصك سمعك، ولولا هذا الإلحاح منك ما سمعته ولا جرى القلم بمثله. هذا أبو علي وهو رأس من رؤوسهم وركن من أركانهم واسطوانة من اسطواناتهم، قد حكى عنه الكبار ـ وأخر من حكى عنه ذلك صاحب شرح القلائد (والله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلم هو) فخذ هذا التصريح حيث لم تكتف بذلك التلويح وانظر هذه الجرأة على الله سبحانه وتعالى التي ليس بعدها جرأة.
فيا لأم أبي علي الويل! أنهيق مثل هذه النهيق؟ ويدخل نفسه في هذا المضيق، وهل سمع السامعون بيمين افجر من هذه اليمين الملعونة أو نقل الناقلون كلمة تقارب معنى هذه الكلمة المفتونة أو بلغ مفتخر إلى ما بلغ هذا المختال الفخور؟ أوَصل من يفجر في أيمانه إلى ما يقارب هذا الفجور؟ وكل عاقل يعلم أن أحدنا لو حلف أن ابنه أو أباه لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو لكان كاذبا في يمينه فاجرا فيها، لأن كل فرد من الناس ينطوي على صفات وغرائز لا يحب أن يطلع عليها غيره ويكره على أن يقف على شيء منها سواه. ومن ذا الذي يدري ما يجول في خاطر غيره ويستكن في ضميره؟
ومن ادعى علم ذلك وأنه يعلم من غيره من بني آدم ما يعلمه ذلك الغير من نفسه ولا يعلم ذلك الغير من نفسه إلا ما يعلمه هذا المدعي فهو إما مصاب العقل يهذي بما لا يدري ويتكلم بما لا يفهم، أو كاذب شديد الكذب عظيم الافتراء. فإن هذا أمر لا يعلمه غير الله سبحان فهو الذي يحول بين المرء وقلبه و(يعلم) ما توسوس به نفسه وما يسر عباده وما يعلنون، وما يظهرون وما يكتمون، كما أخبرنا بذلك في كتابه العزيز في غير موضع.
فقد خاب وخسر من أثبت لنفسه من العلم مالا يعلمه إلا الله من عباده. فما ظنك بمن تجاوز هذا وتعداه وأقسم بالله سبحانه وأن اله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو؟ ولا يصح لنا أن نحمله على اختلال العقل، فلو كان مجنونا لم يكن رأسا يقتدي بقوله جماعات من أهل عصره ومن جاء بعده وينقلون كلامه في الدفاتر ويحكون عنه في مقامات الاختلاف. ولعل أتباع هذا ومن يقتدي بمذهبه لو قال لهم قائل وأرد عليهم مورد قول الله عز وجل ( ولا يحيطون له علما) وقوله (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) وقال لهم هذا يرد ما قال صاحبكم ويدل على أن يمينه هذه فاجرة مفتراة.
لقالوا هذه ونحوه مما يدل دلالة ويفيد مفاده من المتشابه الوارد على خلاف دليل العقل، المدفوع بالأصول المقررة.
وبالجملة فإطالة ذيول الكلام في مثل هذا المقام إضاعة للأوقات واشتغال بحكاية الخرافات المبكيات لا المضحكات.
وليس مقصودنا ههنا إلا إرشاد السائل إلى أن المذهب الحق في الصفات هو إمرارها على ظاهرها من غير تأويل ولا تحريف ولا تكلف ولا تعسف ولا جبر ولا تشبيه ولا تعطيل، وإن ذلك هو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم.
فإن قلت: وماذا تريد بالتعطيل في مثل هذه العبارات التي تكررها؟ فإن أهل المذاهب الإسلامية يتنزهون عن ذلك ويتحاشون عنه، ولا نصدق معناه ولا يوجد مدلوله إلا في طائفة من طوائف الكفار، وهم المنكرون للصانع.
قلتُ: يا هذا! إن كنت ممن له إلمام بعلم الكلام الذي اصطلح عليه طوائف من أهل الإسلام، فإنه لا محالة قد رأيت ما يقوله كثير منهم ويذكرونه في مؤلفاتهم ويحكونه عن أكابرهم إن الله سبحانه وتعالى وتنزه وتقدس "لا هو جسم ولا جوهر ولا عرض ولا داخل العالم ولا خارجه" فأنشدك الله، أي عبارة تبلغ مبلغ هذه العبارة في النفي؟ وأي مبالغة في الدلالة على هذا النفي تقوم مقام هذه المبالغة؟ فكان هؤلاء القوم في فرارهم من شبه التشبيه إلى هذا التعطيل كما قال القائل:
فكنت كالساعي إلى مثعب
موائلا في سبل الراعد
أو كالمستجير من
الرمضاء بالنار
والهارب من لسعة الزنبور إلى لدغة الحية، ومن قرصة النملة إلى قضمة الأسد!
وقد يغني هؤلاء وأمثالهم من المتكلمين المتكلفين كلمتان من كتاب الله تعالى وصف بهما نفسه وأنزلهما على رسوله وهما (ولا يحيطون به علما) و (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) فإن هاتين الكلمتين قد اشتملتا على فصل الخطاب وتضمنتا بما يعين أولي الألباب السالكين في تلك الشعاب، فالكلمة منها دلت دلالة بينة على أن كل ما تكلم به البشر في ذات الله وصفاته على وجه التدقيق ودعاوي التحقيق فهو مشوب بشعبة من شعب الجهل مخلوط بخلوط هي منافية للعلم ومباينة له. فإن الله سبحانه قد أخبرنا أنهم لا يحيطون به علما، فمن زعم أن ذاته كذا أو صفته كذا فلا شك أن صحة ذلك متوقفة على الإحاطة، وقد نفيت عن كل فرد من الأفراد علما، فكل قول من أقول المتكلمين صادر عن جهل، إما من كل وجه أو من بعض الوجوه، وما صدر عن جهل فهو مضاف إلى جهل، ولا سيما إذا كان في ذات الله وصفاته، فإن ذلك من المخاطرة في الدين ما لم يكن في غيره من المسائل. وهذا يعلمه كل ذي علم ويعرفه كل عارف. ولم يحط بفائدة هذه الآية ويقف عندها ويقتطف من ثمراتها إلا الممرون الصفات على ظاهرها المريحون أنفسهم من التلكلفات والتعسفات والتأويلات والتحريفات، زهم السلف الصالح كما عرفت. فهم الذين اعترفوا بـ(عدم) الإحاطة وأوقفوا أنفسهم حيث أوقفها الله، وقالوا: الله أعلم بكيفية ذاته وماهية صفاتهن بل العلم كله له، وقالوا كما قال من قال ممن اشتغل بطلب هذا المحال فلم يظفر بغير القيل والقال:
العلم للرحمن جل وجلاله
وسواه في جهلاته يتغمغم
ما للتراب وللعلوم وإنما
يسعى ليعلم أنه لا يعلم
بل اعترف كثير من هؤلاء المتكلفين بأنه لم يستفد من تكلفه وعدم قنوعه بما قنع به السلف الصالح إلا مجرد الحيرة التي وجد عليها غيره من المتكلفين، فقال:
وسرحت طرفي بين تلك المعالمفلم أر
إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم
وها أنا أخبرك عن نفسي وأوضح لك ما وقعت فيه في أمسي، فإني في أيام الطلب وعنفوان الشباب شغلت بهذا العلم الذي سموه تارة علم الكلام وتارة علم التوحيد وتارة علم أصول الدين، وأكببت على مؤلفات الطوائف المختلفة منهم ورمت الرجوع بفائدة والعود بعائدة، فلم أضفر من ذلك بغير الخيبة والحيرة وكان ذلك من الأسباب التي حببت إلي مذهب السلف، على أني كنت قبل ذلك عليه، ولكن أردت أن أزداد منه بصيرة وبه شغفا، وقلت عند ذلك في تلك المذاهب:
وغاية ما حصلته من مباحثي
ومن نظري من بعد طول التدبر
هو الوقف ما بين الطريقين حيرة
فما علم من لم يلق غير التحير
على أنني قد خصت منه غماره
وما قنعت نفسي بغير التبحر
وأما الكلمة وهي (ليس كمثله شيء) فبها يستفاد نفي المماثلة في كل شيء، فيدفع بهذه الآية في وجه المجسمة وتعرف به الكلام عند وصفه سبحانه بالسميع البصير، وعند ذكر السمع والبصر واليد والاستواء ونحو ذلك مما اشتمل عليه الكتاب والسنة فتقرر بذلك الإثبات لتلك الصفات، لا على وجه المماثلة والمشابهة للمخلوقات فيدفع به جانبي الإفراط والتفريط، وهما المبالغة في الإثبات المفضية إلى التجسيم والمبالغة في النفي المفضية إلى التعطيل. فيخرج من بين الجانبين وغلو الطرفين حقيقة مذهب السلف الصالح، وهو قولهم بإثبات ما أثبته لنفسه من الصفات على وجه لا يعلمه إلا هو، فإنه القائل (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).
ومن جملة الصفات التي أمرها السلف على ظاهرها وأجروها على ما جاء به القران والسنة من دون تكلف ولا تأويل صفة الاستواء التي ذكرها السائل.
يقولون نحن نثبت ما أثبته الله لنفسه من استوائه على عرشه على هيئة لا يعلمها إلا هو وكيفية لا يدري بها سواه، ولا نكلف أنفسنا غير هذا.
فليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا يحيط عباده به علما.
وهكذا يقولون في مسألة الجهة التي ذكرها السائل وأشار إلى بعض ما فيه دليل عليها. والأدلة في ذلك طويلة كثيرة في الكتاب والسنة.
وقد جمع أهل العلم منها، لا سيما أهل الحديث، مباحث كتبوها بذكر آيات قرآنية وأحاديث صحيحة وقد وقفت من ذلك على مؤلف بسيط في مجلد جمعه مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي رحمه الله استوفى فيه كل ما فيه دلالة على الجعة من كتاب أو سنة أو قول صاحب مذهب.
والمسالة أوضح من أن تلتبس على عارف وأبين من أن يحتاج فيها إلى التطويل، ولكنها لما وقعت تلك القلاقل والزلازل الكائنة بين بعض الطوائف الإسلامية كثر الكلام فيها وفي مسالة الاستواء وطال، سيما بين الحنابلة وغيرهم من أهل المذاهب، فلهم في ذلك الفتن الكبرى والملاحم العظمى، ومازالوا هكذا في عصر بعد عصر.
والحق هو ما عرفناك من مذهب السلف الصالح.
= فالاستواء على العرش والكون في تلك الجهة قد صرح به القران الكريم في مواطن يكثر حصرها ويطول نشرها وكذلك صرح به رسول الله ﷺ في غير حديث.
بل هذا مما يجده كل فرد من أفراد الناس في نفسه وتحسه في فطرته وتجذبه إليه طبيعته، كما نراه في كل من استغاث بالله سبحانه وتعالى والتجأ إليه ووجه أدعيته إلى جنابه الرفيع وعزه المنيع، فإنه يشير عند ذلك بكفه أو يرمي إلى السماء بطرفه.
ويستوي في ذلك عند عروض أسباب الدعاء وحدوث بواعث الاستغاثة ووجود مقتضيات الإزعاج وظهور دواعي الالتجاء، عالم الناس وجاهلهم والماشي على طريقة السلف والمقتدي بأهل التأويل القائلين بأن الاستواء هو الاستيلاء، كما قال جمهور المتأولين والأقيال كما قاله أحمد بن يحيى وثعلب والزجاج والفراء غيرهم، أو كناية عن الملك والسلطان، كما قاله آخرون.
فالسلامة والنجاة في إمرار ذلك على الظاهر والإذعان بأن الاستواء والكون على ما نطق به الكتاب والسنة من دون تكييف ولا تكلف ولا قيل ولا قال ولا قصور في شيء من المقال.
فمن جاوز هذا المقدار بإفراط أو تفريط فهو غير مقتد بالسلف ولا واقف في طريق النجاة ولا معتصم عن الخطأ ولا سلك في طريق السلامة والاستقامة.
وكما نقول هكذا في الاستواء والكون في تلك الجهة فكذا نقول في مثل قوله سبحانه (وهو معكم أينما كنتم) وقوله (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم) وفي نحو (إن الله مع الصابرين) (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) إلى ما يشبه ذلك ويماثله ويقاربه ويضارعه، فنقول في مثل هذه الآيات: هكذا جاء القران، إن الله سبحانه وتعالى مع هؤلاء، ولا نتكلف تأويل ذلك كما يتكلف غيرنا بأن المراد بهذا الكون وهذه المعية هو كون العلم ومعيته، فإن هذه شعبة من شعب التأويل تخالف مذاهب السلف وتباين ما كان عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم.
وإذا انتهيت إلى السلامة في مداك فلا تجاوزه
وهذا الحق ليس به خفاء فدعني من بنيات الطريق
وقد هلك المتنطعون ولا يهلك على الله
إلا هالك وعلى نفسها براقش تجني
وفي هذه الجملة، وإن كانت قليلة، ما يغني من شح بدينه وحرص عليه من تطويل المقال وتكثير ذيوله وتوسيع دائرة فروعه وأصوله، والهداية من الله والله أعلم.
انتهت الرسالة المفيدة كما وجدت، ولله الحمد أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، وأصلي واسلم على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
======
==========
=============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مكتبات الكتاب الاسلامي

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أ...